سأتحدثُ عن رمضان الذي يسكن ذاكرتي وكأنه غير هذا الذي أعيشه ، أعني به رمضان في قريتي ، فأقول :
حينما أتذكر رمضان الماضي أخشى بأنه ذاك الذي وعد الله صائمه بدخول الجنة من باب الريان وأن صائم رمضاننا هذا لا يدخل في وعد الرحمن جل شأنه فشتان بين حالتي الصائمينِ..
لم يمنع صيام رمضان فيما أذكر المزارع عن مزرعته ولا الراعي عن رعيته ، ولا الصانع عن صناعته ، بل كانوا يؤدون أعمالهم المعتادة التي يمارسونها قبل رمضان كما هي ، ولا يتضجرون ..!
عناءٌ وتعبٌ ونصبٌ تنالُ الصائمَ في أيام الحرِّ الشديد وهو متمسك بصومه متشبثٌ به ، فلا مكيفات تخفف ، ولا نوم في النهار معه ينسى عطشه وجوعه ..!
إذًا ، برنامج أهل قريتي في نهار رمضان كان هو نفسه برنامجهم في أيام الأشهر العادية ..
أما برنامجهم في لياليه فقد تحدثتُ عنه يومـًا ، وقلت :
ما أجمل تلك الأيام الخوالي وما أطيب أهلها ، وما أنقى سرائرهم ..
لا أزال اذكر ذلك المكان الواقع وسط القرية الذي يُمدُّ فيه البساط قبل ساعةٍ من حلول موعد الإفطار ، ولا تزال صورة أبي ، وأعمامي وجارنا أبي ساعد وأخيه أبي حامد راسخةً في الذاكرة ..!
كأني أنظر الآن إلى ذلك البساط و( أنا وسعد ) نحرسه من عبث ( المواشي ) حتى يحضر الكبار وعلى رأس كلٍّ منهم ( مائدة ) مصغرة فيها ما تيسّر مما عملته أيدي أمي وعمّاتي ..!
ما أروع ذلك المنظر ونحن نتحلّق حول ( السفرة ) المتواضعة ننتظر الأذان ..!
وجوهٌ مشرقةٌ ، وابتساماتٌ متبادلة ، وأرواحٌ اختلطت فيها البساطة بالنقاء ، وألسنة تلهج بالدعاء ..
نفطر ، ويأتي موعد الاستماع إلى المائدة اليومية للشيخ على الطنطاوي رحمه الله ، فلا ترى وقت حديثه إلا مصغيـًا ..!
ثم يكون لنا مع ( الكوميديا ) النقية التي تهدي الابتسامة ، وتعالج قضية من قضايا المجتمع ، ليس فيها تصنُّعٌ ، تخلو من لعن ( فائز المالكي ) ، ومن سب وشتم ( حسن عسيري )، ومن سذاجة وبلاهة ( السدحان والقصبي ) ، أعني بذلك برنامج ( يوميات أم حديجان ) الذي كان يقدمه الممثل المبدع ( عبدالعزيز الهزاع ) ..!
بعد يوميات أم حديجان يغلق المذياع ، وتبدأ ( السوالف ) الشيقة التي لا تخلو من حكمةٍ أو عظةٍ أو طرفةٍ ، يستمر السمر إلى أن يؤذن للعشاء فنصلي ويحمل كل متاعه وإلى بيته ينطلق ، فقد حان موعد النوم ، هو تطبيقٌ – بالفطرة - لقوله تعالى : ( وجعلنا الليل لباسـًا وجعلنا النهار معاشـًا ) ..!
هكذا كان برنامج رمضان في قريتي ، سردته لكم باختصار ، فجعلته بين أيديكم مقرونـًا بالعذر ..
تعليق