المهتمون بشأن الثقافة السعودية وقضاياها يتابعون بعناية سمات التغيير التي دأبت الوزارة على احداثها من أجل النهوض بالمشهد الثقافي، وتحريك مياهه الراكدة، وبذر مستقبل أنيق في دفاتره التي فقد كثيرون الأمل فيها واضرب البعض عن متابعة شيء من تفاصيلها بعد أن استبدت بها النمطية وسيطر على إدارة مشهدها مجموعة من الأسماء لسنوات طويلة حتى غدا قريباً جداً من الشكل البيروقراطي الرسمي ومعه فر مثقفون ومبدعون إلى نوافذ كثيرة بحثاً عن الهواء الطلق والميادين التي تتسع لصهيل خطواتهم، وصوت أغنياتهم، ومشاغبة أسئلتهم - أحياناً - فاحتفلت بهم جهات كثيرة واستغلهم البعض لقمة صائغة كما فعل بهم ناشرون ومستثمرون باسم الثقافة في بعض الجهات.

ومع قدوم إياد بن أمين مدني الوزير المثقف إلى سُدة الوزارة استبشر كثيرون وعادت إلى سماواتهم فلول العصافير المهاجرة، وتحركت موسيقى الحلم القديم فالرجل يأتي في ظرف وطني شامل يشهد تحولات مهمة إضافة إلى كونه واحداً من المثقفين والصحافيين المحترفين وهو من قبل ومن بعد صديق حميم لكثير من المشتغلين بالحقل الثقافي والإبداعي ويتمتع بخلق رفيع، ودماثة علاقات، وصدق رأي، وقد بادر حين وصوله إلى الوزارة باختيار نخبة من المثقفين الحقيقيين ليعملوا معه على صياغة الخرائط الجديدة للعالم الثقافي المشاكس صعب التقاسيم فاختار الدكتور بكر باقادر والدكتور عبد العزيز السبيّل والأستاذ حسين بافقيه ضمن فريق متجانس يتولى الشأن الثقافي الداخلي والخارجي لتحقيق تناغم مثالي لم يكن يتوقعه كثيرون ممن يعلم تفاصيل ومعوقات العمل المؤسساتي وعناءه.

جاء الوزير المثقف مع الصياغة الجديدة للوزارة حيث اندمج الإعلام مع الثقافة ليتأسس أول كيان متكامل للثقافة في البلاد، وبحكمة وروية أخذ يتأمل التفاصيل ويزور الأقاليم البعيدة من الشمال إلى الجنوب يدخل الأندية الأدبية ويتحدث إلى الصغير والكبير، ويسمع جدل المثقفين، ويستقصي متطلباتهم وأحلامهم وكيفية العمل على بناء مفردات المسقبل بشكل راسخ دون تسرع ومجازفة قد تذهب مع الريح سريعاً إلا أن البعض توقع - متشائماً- أن الغد قد لا يختلف كثيراً عن الأمس!! غير أن الحراك الحقيقي داخل أروقة الوزارة والمرافق الثقافية كان يؤكد غير ذلك حيث بدأ فسحة جميلة تدب في أوصال المؤسسات الإعلامية وصفحات الجرائد والمجلات، وشهد المثقفون نموذجاً مميزاً للتعامل مع المعرفة ومصادرها في معرض الرياض للكتاب الذي نُظم أخيراً، ثم بدأ النظام الجديد لإحلال مجالس الإدارة في الأندية الأدبية ليعيد إلى المشهد التناغم في اختيار الأفراد العاملين مع الحرص على تقريب الأندية من المجتمع، والتأكيد على تفعيل أدوارها لتعم الناس بدلاً من حصرها في أربعين أو خمسين شخصاً لا يخرجون عن صيغة الشلة المغلقة ذات الهواجس المحدودة التي لا تنشغل بكل الأصوات التي تناديها لتوزيع الضوء بشكل متوازن.

ولا يزال ثمة متسع للحلم في سياق إحياء جمعيات الثقافة والفنون، وتفعيل بيوت الفنون الجميلة مثل بيت التشكيليين والفوتوغرافيين، والمسرح، ثم الملف الأكثر أهمية وهو المتعلق بالمكتبات العامة وتحسين صورتها وتفعيل أدوارها الحضارية لخدمة المدن وساكنيها من كل الفئات، وقد سعد منسوبو المكتبات العامة في بعض المدن بزيارة معالي الوزير الذي اكتشف واقعها وصرّح عن ضعف مستواها، وقلة تحقيق أهدافها، وعزلتها عن الجماهير.. وقبل أيام زار وكيل الوزارة الدكتور السبيّل مكتبة جدة العامة وشدَّ على يد العاملين فيها ودفعهم إلى بذل الجهد، وانتقد عدم تفعيل المرافق الثقافية فيها. وهذه الزيارة تاريخية في مسيرة هذه المكتبة التي عانت الاهمال لسنوات طويلة رغم ضياع الأموال الكبيرة من أجل صيانتها وتزويدها بالمصادر إضافة إلى كادرها الفني الذي يذهب جهده دون نتائج.
هذه المرافق تعيش الآن فرحة بما ينتظرها وما يصل إليها ويبث فيها روح الحياة من جديد أو ما يسميه الوزير إياد مدني بالربيع - على حد قوله- وكما هو منظور فعلياً.

وقد كان للمدينة الصحيفة الأم التي تصدر هذا الملحق الفرحة بزيارته التي قام بها مطلع هذا الأسبوع متحدثاً عن واقع الصحافة السعودية، وأبرز اشتراطات نجاحها، وأدبيات نجاح المهنة ابتداءً من المصداقية في التعامل مع المفردات الصحفية في الميدان وانتهاء بمراكز المعلومات وترقية مستوى العاملين وتدريبهم، وشمولية التعامل مع الأحداث التي تعيشها البلاد في كل أرجائها..

زيارة الوزير وأنماط العمل التي يشهدها الوطن تدل على فصل ربيعي حقيقي ينبغي الاستئناس به، واستثماره على الوجه الأكمل على الصعيدين الثقافي والإعلامي بقيادة رجل يعرف التفاصيل بدقة، ويتحرك بوعي وحكمة تقع ضمن أولى خصائص الإعلامي والمثقف المعاصر.