بسم الله الرحمن الرحيم
هذا العنوان هو لكتاب قرأته في الثانوية العامة، أهداه إليّ أستاذ مصري فاضل عندما لمس اهتمامي بالبلدان ، وهو؛ أي الكتاب ، لرفاعة الطهطاوي ؛ الأزهري الذي أُرسِل إلى فرنسا ، ليكون أماما للطلبة المبتعثين ، فأعجب بثقافة الفرنسيين وتأثر بها .والحقّ أنني تأثرت بذلك الكتاب للدرجة التي تأسفت معها على عدم إدراكي للوقت الذي كانت تُدَرّس فيه اللغة الفرنسية في مناهج الثانوية العامة .
ولعله من محاسن الصدف أن تتزامن قراءتي لذلك الكتاب مع وجود بعثة فرنسية جاءت إلى مدينة الطائف في مهمة تدريبية، كانت تتجه إلى إعطاء الفرصة للشباب لتعلم اللغة الفرنسية في أوقاتهم الحرة،مما زاد من تعلقي بفرنسا وآدابها وفنونها ناهيك عن العلم الذي كنا نرى دلائله فيما قدموا به من أسلحة متطورة وخاصة في مجال الدروع والبصريات آنذاك .
كادت تلك الفترة أن تغير مساري أنا وغيري من الشباب ، حيث كِدْنا نندمج في ذلك المجتمع الفرنسي الصغير ، الذي سمح لنا بالدخول فيه لأهداف لم نكن ندرك بعضها أو حتى نفكر فيها ، فقد أكتفينا بما نحصل عليه من اطلاع على ما لم نألفه ولم يخطر لنا على بال ..! فالفلل الصغيرة التي بنوها ، والقرميد الذي كسوا به كتلها المائلة ، والأثاث الذي بداخلها ، وطريقة استعمالهم لها ، وطبيعتهم المنفتحة وخروج نساءهم أمامنا ، وسباحتهن ولعبهن معنا كرة الطائرة ، كلها أشياء كانت مدهشة لنا للدرجة التي كانت أعيننا لا تصدق ما تراه ..!
كانت فترة الثانوية العامة قاسية لي ولزملائي الذين عاشوا معي تلك الفترة ، فمع مافيها من تعب ونصب ، وهم وغم ، من ناحية الدراسة والتحصيل ، وتواضع في أساليب المعيشة والحياة فإن دخولنا مع الفرنسيين قد نقلنا من واقع متواضع وبسيط إلى واقع جديد ومختلف ، تمايزت فيه الألوان ، وتباينت فيه الأشكال ، وبدأت الأضداد تؤدي عملها فتظهر الحسن وخلافه ..!
التحقت بكلية الملك فيصل الجوية فانشغلت عن فرنسا والفرنسيين لمدة ثلاث سنوات ، إلا أنني لم أنسها ، فبمجرد ما تخرجت التحقت بمعهد لتعلم اللغة الفرنسية مما زادني علما بها وشغفا وحبا لها . فبدأت أدرس تاريخها وسير مشاهيرها، وخصوصا نابليون ، الذي أعجبت به وبطريقة تنظيمه للجيوش وخوضه للمعارك ؛ من دفاعه عن " طولون" ،إلى كتابته للسيناريو الذي دارت به رحى المعركة في" أولم " كما كان قد تخيل وكتب قبل أن تبدأ المعركة ، مما جعل إعجابي به يصل إلى ذروته ، لولا ماعرفته عنه من عدم اكتراثه للخبر الذي جاء به مراسله ذات يوم عن خيانة زوجته "جوزفين " ..! ، حيث ضرب برجليه على جنب فرسه، ومضى قائلا :" هناك ما هو أهم من خيانة جوزفين "...!
جاء اليوم الذي سأذهب فيه إلى فرنسا بدلا من أن تأتي إليّ، وبدأت أتخيل الأرض التي تنتج أكثر من مائتين وخمسون نوعا من الجبن كما جاء في مقولة" شارل ديغول" الشهيرة :" من يحكم شعب يأكل مائتان وخمسون نوعا من الجبن ...؟!" .
بدأت أتخيل " النورماندي " وعملية الإسقاط التي وقعت فيها من قبل الحلفاء ، وجبال الألب وقمة " المونت بلان " الشهيرة ، نهر السن العظيم الذي يشق مدينة النور ويزيدها نورا على نور بذلك التفاعل الفريد الذي يحدث بين أشعة الشمس ومياهه ومبانيه التي على ضفتيه ، بواجهتها الحجرية التي يطغى عليها اللون الأبيض أو العسلي .
أتخيل "برج أيفل " الذي قرأت أنه من عجائب الدنيا السبع ؛ ذلك البرج النحاسي الذي يختلف عن جميع الآثار الأخرى في العالم ، فإذا كانت النصب والتماثيل قد أقيمت لتمثيل الأبطال، أو لتخليد الانتصارات ، أو لتكريم الملوك والحكام ، فإن برج إيفل لا يمثل ولا يمجد إلا نفسه ، وهو لايزال يعتبر عند أكثر الناس من أروع الأبنية الأثرية على الإطلاق .
كثيرة الأماكن التي بدأت أتخيلها عن فرنسا ، بالإضافة إلى ما خلده في ذهني عنها كاتبها وشاعرها العظيم " فيكتور هيجو" الذي تأثرت بمقولته الشهيرة :" بعض الأشياء لا يمكن تصويرها ، الشمس إحدى هذه الأشياء "، وأصبحت أرددها ولكن بوضع باريس مكان الشمس ، حيث كنت أتخيلها ؛ باريس، كلما مررت بأجوائها، وكأنها حزمة أضواء منبعثة من شمس أرضية معاكسة لشمس السماء ..!
كنت أتخيلها ، لأنني وللأسف الشديد لم أهبط في مطاراتها ، ولم أمر حتى من فوقها فالطريق الذي نسلكه دائما يأتي إلى الجنوب منها ، ومع ماكنا نعانيه من هم الاتصالات، حيث يصعب علينا فهم كلام المسيطرين الجويين الفرنسيين عندما يتكلمون الإنجليزية ، فهم يأكلون بعضها وينطقون بعضها بطريقة يصعب علينا فهمها ، وهم أيضا لا يفهمون علينا بسهولة ، مما يؤدي أحيانا إلى أن يغضبوا منا، فلا يعملوا على مساعدتنا التي نكون في أشد الحاجة إليها ، فالذي في الأرض ليس كمن هو في السماء..!
ومع أنني قد هبطت في مطارات عديدة في فرنسا وعلى الأخص الجنوب كمطاري"نيس "و "مرسيليا" إلا أنني لم أحظَ بزيارة باريس إلا مرتين ؛ الأولى مع أسرتي للسياحة في شتاء عام 1999م ،عندما كانت الأيام الباقية من السنة مكتوبة بالضوء على إحدى واجهات برج إيفل .فكل ما مر يوم نقص العدد .. ومع عدم اتفاقي آنذاك- وإلى اليوم- مع من يقول أن الألفية الثالثة ستدخل مع آخر يوم من عام 1999م، حيث كنت أرى أن الألفية لا تدخل إلا بانتهاء عام 2000م، إلا أن تلك الطريقة كان لها في نفسي أبلغ الأثر...!
أما زيارتي الثانية فقد كانت في شهر شعبان لهذا العام حيث وجهت ليّ مع زميلين آخرين دعوة رسمية من القوات الجوية الفرنسية .فماذا رأيت في باريس ؟!
إذا كان البرد وني قد قال عن صنعاء :
ماذا أُحدّث عن صنعاء يا أبتي = مليحةٌ عشقاها السلّ والجرب .
فماذا استطيع أنا قوله عن باريس وهي المليحة التي لم يعشقها إلا الضوء والفن والجمال ..لاسيما وأنني قلت لكم بأن باريس هي التي لا يمكن تصويرها، إذا كيف أرسم لكم صورة ثابتة عن مدينة كثيرة التغيير !
هل أحدثكم عن رجالها الذين يظهرون التميز وتبدو عليهم الأنفة والكبرياء ، تماما كما هي أبنيتهم التاريخية متميزة وفريدة ، أم أحدثكم عن ظرافة وجاذبية وانفتاح نساءهم اللاتي اشتهرن بجمالهن الأسطوري وتميزن بثقتهن وطريقتهن في اللبس والجلوس والمشي والكلام .....!
هل أُحدثكم عن قوس النصر الذي لا يعرف عنه بعض العرب إلا اسمه ، وهو البناء الذي يمنحك فرصة فريدة للتمتع بمشاهد أخاذة للدائرة التي ينتصب عليها والشوارع الأثني عشر التي تتفرع منها على شكل نجمة تتغير ألوانها وأضوائها مع مايمر منها من سيارات ومشاة ..القوس الذي أنشأه نابليون الأول ليكون رمزا لتكريم جيوشه وتخليدا لانتصاراته ، ثم دفن فيه الجندي المجهول شهيد الحرب العالمية الأولى ، وأضيئت فيه بعد ذلك الشعلة الأبدية ،وكان أول الأماكن التي يريد " أدولف هتلر " رؤيتها عندما دخل باريس ، ثم أصبح منطلقا لمسيرة أنتصارات " شارل ديغول " بعد الأنتصار .
أم أحدثكم عن جادة "الشانزلزيه" التي يتسكع فيها بني يعرب حيث تمتلئ بهم مقاهيها وحوانيتها ، فلا تكاد تمر من مقهى إلا وهناك عربي يتتبعك بنظراته وكأن رأسه رادار يمسح الأجواء حتى يصطاد الهدف ، فيتثبت عليه ، ثم يتتبعه ، حتى يبدو كالمروحة المثبتة في الجدار التي لاتقف عن الدوران في ناحية إلى وتعود لتدور إلى الناحية الأخرى .. هذه الجادة التي تعتبر من أروع جادات العالم ، حيث تنحدر بخط مستقيم من قوس النصر إلى ساحة الكونكورد حيث تقع المسلة المصرية ، تحف بها من الجانبين أشجارالكستناء التي أعيدت زراعتها بشكل لا أروع ولا أجمل ..!
أم ياترى أحدثكم عن متحف "اللوفر" الذي يحتوي على مجموعة من أثمن كنوز العالم عل الإطلاق ، حيث رأيت من المناظر ما ذكرني بربعي الذين يختلفون على قصيدة لشاعر ما ،فينسون القصيدة ويبدأون في الأخذ والعطاء عن فصل الشاعر وأصله ، نسبه ونيّته ، مقصده ومراده ، بينما يقف أولئك الناس عند لوحة "لدا فنشي" وثانية " لبيكاسو"، وثالثة لــ "فان جوخ " ولا يشغلون أنفسهم بخصوصيات الرسام ولا بتفاصيل حياته ، بل بجمال اللوحة وألوانها ومعانيها ..!
أحدثكم عن جامعة السور بون التي أصبحت مركزا للاضطرابات في عام 1968 م لتنطلق منها ثورة الطلاب المعروفة التي عمت جميع أنحاء أوربا ، أم عن تمثال فيكتور هيجو الذي ينتصب عند مدخلها المهيب.
أم ياترى تريدون أن أنقل لكم شيئا مما رأيته من عظمة البناء وروعة التصميم في قصر فرساي الساحر ، والمفعم بالأبهة والخيلاء ، حيث ترجم فيه لويس الرابع عشر ما كان يحس به من جنون العظمة والكبرياء .
كنت أتمنى ذلك إلا أنني تذكرت ما سمعته من حديث من دليلي السياحي عندما كنا في طريقنا إلي القصر ، حيث سئل من سائحين من أمريكا ، عن سر السيارات الفخمة من طراز " البنتلي " و "الماي باخ "و " اللمبرقوني " الرابضات أمام فندق " الكارلتون " الذي يسكنون فيه ، فأجاب بأنها لأهل الخليج ، وأضاف بأن هؤلاء الناس لا يتحركون أثناء النهار ، ولا يخرجون إلا في أواخر الليل ، وما سياراتهم تلك إلا تعبيرا غبيا عن إعلان تواجدهم في ذلك المكان ...!
عندها سكت لأن فمي كان مليئاً بالماء ، وسأسكت هنا لكي لا أطيل عليكم أكثر مما فعلت.....!
هذا العنوان هو لكتاب قرأته في الثانوية العامة، أهداه إليّ أستاذ مصري فاضل عندما لمس اهتمامي بالبلدان ، وهو؛ أي الكتاب ، لرفاعة الطهطاوي ؛ الأزهري الذي أُرسِل إلى فرنسا ، ليكون أماما للطلبة المبتعثين ، فأعجب بثقافة الفرنسيين وتأثر بها .والحقّ أنني تأثرت بذلك الكتاب للدرجة التي تأسفت معها على عدم إدراكي للوقت الذي كانت تُدَرّس فيه اللغة الفرنسية في مناهج الثانوية العامة .
ولعله من محاسن الصدف أن تتزامن قراءتي لذلك الكتاب مع وجود بعثة فرنسية جاءت إلى مدينة الطائف في مهمة تدريبية، كانت تتجه إلى إعطاء الفرصة للشباب لتعلم اللغة الفرنسية في أوقاتهم الحرة،مما زاد من تعلقي بفرنسا وآدابها وفنونها ناهيك عن العلم الذي كنا نرى دلائله فيما قدموا به من أسلحة متطورة وخاصة في مجال الدروع والبصريات آنذاك .
كادت تلك الفترة أن تغير مساري أنا وغيري من الشباب ، حيث كِدْنا نندمج في ذلك المجتمع الفرنسي الصغير ، الذي سمح لنا بالدخول فيه لأهداف لم نكن ندرك بعضها أو حتى نفكر فيها ، فقد أكتفينا بما نحصل عليه من اطلاع على ما لم نألفه ولم يخطر لنا على بال ..! فالفلل الصغيرة التي بنوها ، والقرميد الذي كسوا به كتلها المائلة ، والأثاث الذي بداخلها ، وطريقة استعمالهم لها ، وطبيعتهم المنفتحة وخروج نساءهم أمامنا ، وسباحتهن ولعبهن معنا كرة الطائرة ، كلها أشياء كانت مدهشة لنا للدرجة التي كانت أعيننا لا تصدق ما تراه ..!
كانت فترة الثانوية العامة قاسية لي ولزملائي الذين عاشوا معي تلك الفترة ، فمع مافيها من تعب ونصب ، وهم وغم ، من ناحية الدراسة والتحصيل ، وتواضع في أساليب المعيشة والحياة فإن دخولنا مع الفرنسيين قد نقلنا من واقع متواضع وبسيط إلى واقع جديد ومختلف ، تمايزت فيه الألوان ، وتباينت فيه الأشكال ، وبدأت الأضداد تؤدي عملها فتظهر الحسن وخلافه ..!
التحقت بكلية الملك فيصل الجوية فانشغلت عن فرنسا والفرنسيين لمدة ثلاث سنوات ، إلا أنني لم أنسها ، فبمجرد ما تخرجت التحقت بمعهد لتعلم اللغة الفرنسية مما زادني علما بها وشغفا وحبا لها . فبدأت أدرس تاريخها وسير مشاهيرها، وخصوصا نابليون ، الذي أعجبت به وبطريقة تنظيمه للجيوش وخوضه للمعارك ؛ من دفاعه عن " طولون" ،إلى كتابته للسيناريو الذي دارت به رحى المعركة في" أولم " كما كان قد تخيل وكتب قبل أن تبدأ المعركة ، مما جعل إعجابي به يصل إلى ذروته ، لولا ماعرفته عنه من عدم اكتراثه للخبر الذي جاء به مراسله ذات يوم عن خيانة زوجته "جوزفين " ..! ، حيث ضرب برجليه على جنب فرسه، ومضى قائلا :" هناك ما هو أهم من خيانة جوزفين "...!
جاء اليوم الذي سأذهب فيه إلى فرنسا بدلا من أن تأتي إليّ، وبدأت أتخيل الأرض التي تنتج أكثر من مائتين وخمسون نوعا من الجبن كما جاء في مقولة" شارل ديغول" الشهيرة :" من يحكم شعب يأكل مائتان وخمسون نوعا من الجبن ...؟!" .
بدأت أتخيل " النورماندي " وعملية الإسقاط التي وقعت فيها من قبل الحلفاء ، وجبال الألب وقمة " المونت بلان " الشهيرة ، نهر السن العظيم الذي يشق مدينة النور ويزيدها نورا على نور بذلك التفاعل الفريد الذي يحدث بين أشعة الشمس ومياهه ومبانيه التي على ضفتيه ، بواجهتها الحجرية التي يطغى عليها اللون الأبيض أو العسلي .
أتخيل "برج أيفل " الذي قرأت أنه من عجائب الدنيا السبع ؛ ذلك البرج النحاسي الذي يختلف عن جميع الآثار الأخرى في العالم ، فإذا كانت النصب والتماثيل قد أقيمت لتمثيل الأبطال، أو لتخليد الانتصارات ، أو لتكريم الملوك والحكام ، فإن برج إيفل لا يمثل ولا يمجد إلا نفسه ، وهو لايزال يعتبر عند أكثر الناس من أروع الأبنية الأثرية على الإطلاق .
كثيرة الأماكن التي بدأت أتخيلها عن فرنسا ، بالإضافة إلى ما خلده في ذهني عنها كاتبها وشاعرها العظيم " فيكتور هيجو" الذي تأثرت بمقولته الشهيرة :" بعض الأشياء لا يمكن تصويرها ، الشمس إحدى هذه الأشياء "، وأصبحت أرددها ولكن بوضع باريس مكان الشمس ، حيث كنت أتخيلها ؛ باريس، كلما مررت بأجوائها، وكأنها حزمة أضواء منبعثة من شمس أرضية معاكسة لشمس السماء ..!
كنت أتخيلها ، لأنني وللأسف الشديد لم أهبط في مطاراتها ، ولم أمر حتى من فوقها فالطريق الذي نسلكه دائما يأتي إلى الجنوب منها ، ومع ماكنا نعانيه من هم الاتصالات، حيث يصعب علينا فهم كلام المسيطرين الجويين الفرنسيين عندما يتكلمون الإنجليزية ، فهم يأكلون بعضها وينطقون بعضها بطريقة يصعب علينا فهمها ، وهم أيضا لا يفهمون علينا بسهولة ، مما يؤدي أحيانا إلى أن يغضبوا منا، فلا يعملوا على مساعدتنا التي نكون في أشد الحاجة إليها ، فالذي في الأرض ليس كمن هو في السماء..!
ومع أنني قد هبطت في مطارات عديدة في فرنسا وعلى الأخص الجنوب كمطاري"نيس "و "مرسيليا" إلا أنني لم أحظَ بزيارة باريس إلا مرتين ؛ الأولى مع أسرتي للسياحة في شتاء عام 1999م ،عندما كانت الأيام الباقية من السنة مكتوبة بالضوء على إحدى واجهات برج إيفل .فكل ما مر يوم نقص العدد .. ومع عدم اتفاقي آنذاك- وإلى اليوم- مع من يقول أن الألفية الثالثة ستدخل مع آخر يوم من عام 1999م، حيث كنت أرى أن الألفية لا تدخل إلا بانتهاء عام 2000م، إلا أن تلك الطريقة كان لها في نفسي أبلغ الأثر...!
أما زيارتي الثانية فقد كانت في شهر شعبان لهذا العام حيث وجهت ليّ مع زميلين آخرين دعوة رسمية من القوات الجوية الفرنسية .فماذا رأيت في باريس ؟!
إذا كان البرد وني قد قال عن صنعاء :
ماذا أُحدّث عن صنعاء يا أبتي = مليحةٌ عشقاها السلّ والجرب .
فماذا استطيع أنا قوله عن باريس وهي المليحة التي لم يعشقها إلا الضوء والفن والجمال ..لاسيما وأنني قلت لكم بأن باريس هي التي لا يمكن تصويرها، إذا كيف أرسم لكم صورة ثابتة عن مدينة كثيرة التغيير !
هل أحدثكم عن رجالها الذين يظهرون التميز وتبدو عليهم الأنفة والكبرياء ، تماما كما هي أبنيتهم التاريخية متميزة وفريدة ، أم أحدثكم عن ظرافة وجاذبية وانفتاح نساءهم اللاتي اشتهرن بجمالهن الأسطوري وتميزن بثقتهن وطريقتهن في اللبس والجلوس والمشي والكلام .....!
هل أُحدثكم عن قوس النصر الذي لا يعرف عنه بعض العرب إلا اسمه ، وهو البناء الذي يمنحك فرصة فريدة للتمتع بمشاهد أخاذة للدائرة التي ينتصب عليها والشوارع الأثني عشر التي تتفرع منها على شكل نجمة تتغير ألوانها وأضوائها مع مايمر منها من سيارات ومشاة ..القوس الذي أنشأه نابليون الأول ليكون رمزا لتكريم جيوشه وتخليدا لانتصاراته ، ثم دفن فيه الجندي المجهول شهيد الحرب العالمية الأولى ، وأضيئت فيه بعد ذلك الشعلة الأبدية ،وكان أول الأماكن التي يريد " أدولف هتلر " رؤيتها عندما دخل باريس ، ثم أصبح منطلقا لمسيرة أنتصارات " شارل ديغول " بعد الأنتصار .
أم أحدثكم عن جادة "الشانزلزيه" التي يتسكع فيها بني يعرب حيث تمتلئ بهم مقاهيها وحوانيتها ، فلا تكاد تمر من مقهى إلا وهناك عربي يتتبعك بنظراته وكأن رأسه رادار يمسح الأجواء حتى يصطاد الهدف ، فيتثبت عليه ، ثم يتتبعه ، حتى يبدو كالمروحة المثبتة في الجدار التي لاتقف عن الدوران في ناحية إلى وتعود لتدور إلى الناحية الأخرى .. هذه الجادة التي تعتبر من أروع جادات العالم ، حيث تنحدر بخط مستقيم من قوس النصر إلى ساحة الكونكورد حيث تقع المسلة المصرية ، تحف بها من الجانبين أشجارالكستناء التي أعيدت زراعتها بشكل لا أروع ولا أجمل ..!
أم ياترى أحدثكم عن متحف "اللوفر" الذي يحتوي على مجموعة من أثمن كنوز العالم عل الإطلاق ، حيث رأيت من المناظر ما ذكرني بربعي الذين يختلفون على قصيدة لشاعر ما ،فينسون القصيدة ويبدأون في الأخذ والعطاء عن فصل الشاعر وأصله ، نسبه ونيّته ، مقصده ومراده ، بينما يقف أولئك الناس عند لوحة "لدا فنشي" وثانية " لبيكاسو"، وثالثة لــ "فان جوخ " ولا يشغلون أنفسهم بخصوصيات الرسام ولا بتفاصيل حياته ، بل بجمال اللوحة وألوانها ومعانيها ..!
أحدثكم عن جامعة السور بون التي أصبحت مركزا للاضطرابات في عام 1968 م لتنطلق منها ثورة الطلاب المعروفة التي عمت جميع أنحاء أوربا ، أم عن تمثال فيكتور هيجو الذي ينتصب عند مدخلها المهيب.
أم ياترى تريدون أن أنقل لكم شيئا مما رأيته من عظمة البناء وروعة التصميم في قصر فرساي الساحر ، والمفعم بالأبهة والخيلاء ، حيث ترجم فيه لويس الرابع عشر ما كان يحس به من جنون العظمة والكبرياء .
كنت أتمنى ذلك إلا أنني تذكرت ما سمعته من حديث من دليلي السياحي عندما كنا في طريقنا إلي القصر ، حيث سئل من سائحين من أمريكا ، عن سر السيارات الفخمة من طراز " البنتلي " و "الماي باخ "و " اللمبرقوني " الرابضات أمام فندق " الكارلتون " الذي يسكنون فيه ، فأجاب بأنها لأهل الخليج ، وأضاف بأن هؤلاء الناس لا يتحركون أثناء النهار ، ولا يخرجون إلا في أواخر الليل ، وما سياراتهم تلك إلا تعبيرا غبيا عن إعلان تواجدهم في ذلك المكان ...!
عندها سكت لأن فمي كان مليئاً بالماء ، وسأسكت هنا لكي لا أطيل عليكم أكثر مما فعلت.....!
تعليق