صادف في إحدى رحلاتي إلى أمريكا، أن كان فيلم " الرقص مع الذئاب " ، في أيام عرضه الأولى . حرصت على أن أكون من أول الحاضرين، لما صاحبه من دعاية ضخمة وإعلان كثيف.
دخلت في إحدى صالات العرض الضخمة، وعلى عادة الأمريكان، لم يبدأ الفيلم إلا بعد أن سئمت من الدعايات للأفلام التي " ستأتي بعد صيف "!
ما أن بدأ الفيلم حتى سرح خيالي بعيدا إلى حيث كنت التقي مع العم" بخيت " الذي كنا نتقابل معه في قمة الجبل الذي نصعد إلى قمته كل يوم من الشرق ويقابلنا هو من الغرب، حيث يسكن هو في غرب الجبل ونحن في الشرق منه .
نتسابق مع أغنامنا إلى قمته التي تغازل السحاب بارتفاع يصل إلى حوالي ثمانية الآف قدم ، ونحن حفاة تماما مثل أغنامنا ، تتفوق علينا هي بأظلافها القاسية ، فأرجلنا وإن كانت قد فقدت بعض إحساسها من التشقق والجفاف ، إلا أنها ليست بقساوة أظلافها !
نتقابل في نقطة شبه معروفة في قمته، ونجلس في مكان مناسب - يعتمد اختيار كل منا لمجلسه على موقعه الاستراتيجي- بحيث يتمكن كل منا من رؤية أغنامه ، نحن نبحث عن الظل وهو يبحث عن الشمس؛" كل يبحث عما ينقصه !"
غالبا ما يبدأ هو في الحديث بحكم السن والخبرة، له خبرة في المدينة حيث كان موظفا لعدة سنوات، لذلك فإنه لا يكاد يسمع صوت سيارة أو ما شابهها إلا ويؤمي إلينا تارة بالإشارة وتارة بالكلام طالبا منا الإنصات للصوت الذي لا يكاد يظهر إلا ويختفي!
"تسمعون صوت المكينة ؟ هذه سيارة (العريكة) طالعة من
الجنش ، مسافرين الطايف، الله .. الله .. ليتني معهم وارتاح من هذا الغنم الذي أسرح به كل يوم، ما يريّحني حتى نهار العيد " !
يردد بصوته المبحوح : " مع العريكة في الطلعة وبهواها". ويتلوها بزفرة تجعلنا نشاركه الهم الذي نراه واضحا عليه ولا نستطيع إدراك سببه !
يكاد الحديث الذي يتحفنا به العم " بخيت " يلهينا عن مهمتنا الأساسية؛ رعي الغنم. لولا خبرته والأحاديث التي ما يفتأ يذكرنا بها عن الذئب من حين إلى حين. وخاصة قصة " مسك الذئب " التي يرويها لنا العم " بخيت " ولا يمل من تكرارها : " زمان قطّب مرزوق الذيب " !
يلتفت كل منا إلى غنمه ونتسابق في السؤال : كيف قطّب مرزوق الذيب ياعم بخيت؟! فيتبسم ويبدأ سرد الحكاية :" مرزوق هذا ياعيالي رجال شجاع ، ويش أقول لكم عن مرزوق ويش أخلي ، الله يرحمه ، الموت ما يأخذ إلا أمثال مرزوق !
الله يرحمه ، نردد بهدوء ، ونسكت لحظة ثم نطلب من عمنا "بخيت" أن يستمر : ايوه .. بالله كمل يا عم بخيت ، علمنا كيف مسك الذيب ، مسك الذيب .. يعني مسكه بيده .. يعني كيف بالله ؟!
ايو الله يا عيالي أنه مسكه بيده ، يوم من الأيام فتح الباب وإلا وهو يشوف الذيب قريب من باب "المراح " الذي فيه الغنم ، فانطلق وراءه حتى مسك في لحيه ، حتى أنها خرجت أسنانه في كف مرزوق من قوته !
كنت أتخيل أسنان الذئب الناصعة البياض في يد مرزوق الحالكة السواد ، فأراها متباينة ، فبضدها تتميز الأشياء كما هو معروف ، وإذا بهدوء تعقبه موسيقى تصويرية مختلفة تنذر بتغيير في سيرة الفيلم ، عدت من خيالي لأركز على احداث الفيلم بعد مرور مدة لا أعلمها ، فالخيال كالحلم لا يعترف بالوقت !
يظهر الذئب إلى جوار بطل الفيلم لأول مرة، ولكنني لم أرَه يرقص كما جاء في العنوان الذي من أجله صممت على حضور الفيلم.
من " سواليف " العم " بخيت " ومما تلاها من "سواليف " لم أسمع بأن الذئب يرقص ، ولم يكن الواقع الذي عشته أنا أيضا فيه شيء من رقص الذئاب ، فقد تعامل معي الذئب عدة مرات ، ورغم أنني تمكنت بالصدفة من قتلة في واحدة منها ، إلا انه قتلني عدة مرات !
لم يخوفني احد في حياتي مثل ما خوفني الذئب ، فالعيب والعار يلازمان الراعي الذي يأكل من غنمه ، لذلك فقد كانت حساسيتي مرتفعة من هذه الناحية للدرجة التي أصبح الذئب معها عدوي الأول !
مما كان سائدا آنذاك أن الذئب إذا لم تتمكن من رؤيته قبل أن يراك ، فإنك لا تستطيع الكلام ، وسيأخذ ما يريده من غنمك وأنت "مبهوت" تناظر لا تحرك ساكنا " يرميك بشعرة البهت "[ هذا هو التعبير الذي كان سائدا ] .
******
في يوم من الأيام ، وكنت على وشك الدخول بغنمي إلى سفح الجبل الذي تكثر فيه أشجار العرعر والعتم ( الزيتون) ، وفجأة " يأتي الصوت من جفلة " غنمي ، وكأنه صوت الرعد . أصابني الوحش وتنصب شعر رأسي وبدأت أصيح لا شعوريا. "عاش
شو .. عاش شو .. الحق.. الحق " [ عبارة كنا نقولها لتحريض الكلاب للحاق بالذئب أو السارق].
تركت الغنم تخرج إلى الجهة الأقل أشجارا ، لأتمكن من رؤيتها كلها ، جلست في الجهة المقابلة للغابة ، لعلي أرى ماكان سببا في " جفول" الغنم .
مرت عدة دقائق في هدوء ساعدني على التقاط أنفاسي ، جاءني " الصخل" الذي كنت قد "دجّنته" حتى لا يكاد يفارقني ، اقترب مني وبدأت أمسح علي ظهره وهو ينظر إليّ وكأنه يسألني ويستفسر مني عما جرى من ناحية ، ويساندني ويشد عضدي ويقف إلى جانبي من ناحية أخرى !
تحرك من عندي " الصخل " ببطء وتثاقل ، وكأنه يودعني للمرة الأخيرة ، مستشعرا ما ماهو مخبأ له ، وما أن أبتعد عني عدة أمتار ، وتسلق شجرة "النيم" التي بجواري حتى سمعت ثغاؤه !
كان الذئب قد خالفني تماما، وغير جهة تحركاته التي ناورني فيها (180) درجة ، كنت أرقبه من ناحية الغرب فجاءني من ناحية الشرق ، وأقترب مني جدا ، أخذا بالمثل القديم : " أقرب من الخوف تأمن "!
انطلقت كالريح في أثره ، كان ممسكا بالصخل في فمه ، يحذفه تارة إلى اليمين على ظهره وتارة أخرى إلى اليسار ، كدت أمسك به عدة مرات ، لا أدري مالذي يجعلني أحجم عن الإمساك به كل مرة أقترب منه ، حذفته بالعطيف الذي معي ، فأخطأته وضرب "العطيف " في مسافة بعيدة عنه ، رغم قربه مني ! أصيح ولا اسمع صوتي ، ويصيح نفر من الناس كانوا يشاهدون المطاردة من المزارع المقابلة التي كانوا يحصدونها ،فزادني إرباكا حيث لم أعد أميز إذا ماكان صياحهم لي أم عليّ !
*****
تداخلت أشياء كثيرة عندي ؛ صوت " البوب كورن" (الفشار)الذي قضيت على سطل منه قبل أن تأتي اللقطة التي كنت أنتظر (رقصة الذئب) ، مع صوت الموسيقى التي تزداد حدة في كل مرة يقترب فيها الذئب من بطل الفيلم ، فلم أعد أدري أي ذئب أتصور ، هذا الذي في الفيلم ، أم الذئب الذي كسّر أسنانه " مرزوق " ، أم ذئبي الذي رقصني ولم يرقص معي !
ذات صيف ، هربت من نفسي ، ومن الروتين الممل ، عازم ومعزوم وبينهما عزيمة ، فخرجت بعد صلاة الفجر ومعي ناظوري وبندقيتي التي أهجرها من الصيف إلى الصيف ، وصلت إلى حيث لا يوجد أحد ، فالقرى وأهلها يصبحون في فصل الصيف وكأنهم في بيات شتوي ، حيث لا تكاد ترى أحدا من الناس قبل الساعة التاسعة صباحا .
الهدوء التام ، نسمات الهواء العليل ،انسياب أشعة الشمس الذهبية من بين أغصان الشجرة التي اختبئ في وسطها ، وتغريد العصافير ، عوامل تساعد على خلق جوا رومانسيا يهيئ خيال المرء ليذهب به إلى ابعد مدى ، تداخلت الأزمنة وتقاربت الأمكنة في ذهني ، من قمة الجبل الذي كنا نلتقي فيه ونسمع عن ذئب مرزوق إلى المكان الذي رقصني فيه الذئب وأخذ مني " الصخل " إلى صالة العرض التي شاهدت فيها فيلم " الرقص مع الذئاب " ، كانت النتيجة أنني تخيلت أنا أحدها سيظهر لي في أي لحظة !
جلست أرقب طيور الحجل ، لعل وعسى أن أظفر بشيء منها ، حتى ولو بالنظر ! لكن لا طيور الحجل ولا الذئب الذي كنت أتوحى لرؤيته ، فالذي ظهر لي هو ثعلب كان يجري ناحيتي ليقف على مقربة مني ، ويبدأ في ممارسة رقصا حقيقا ، أين منه رقص ذئب الأمريكان ورقص ذئبي سالف الذكر ، يحاول أن يصطاد فأرا كان يلاعبه، يهرب عنه من جحر إلى جحر ، والثعلب يطير في الهواء حينا ، ويعود إلى الأرض حينا آخر ، تنهار الأرض من تحته بفعل الأنفاق التي حفرتها الفئران بيوتا لها ، تغوص إحدى أرباعه ، فيبدأ بالدوران حول نفسه محاولا إخراجها ، يقفز عاليا فيطأ على ذيله و" يضبح " ثم يعود إلى الهواء مرة أخرى !
استمر الثعلب في حركاته البهلوانية، وأنا أراقبه مستمتعا ومنسجما، لا أحيد بنظري عنه، وفجأة وعلى غير عادة المخرجين في إنهاء المشهد، يقفز هاربا ويتركني وحيدا في القاعة التي كان قد غادرها جميع المشاهدين، استمتعت برقص الثعالب كما لم استمتع برقص الذئاب التي رأيت، لا ذلك الذي رأيته مع " كيفن كوستنر" في فيلم " الرقص مع الذئاب"، ولا ذلك الذي أخذ مني الصخل، ولا ذاك الذي كان يحكي لنا عنه العم " بخيت " في قمة الجبل الذي كنا نلتقي فيه!
******
خلاصة عن فيلم "الرقص مع الذئاب " لمن لا يعرف قصته ومافيه من رمز ودلالة .
قام كوستنر بدور الملازم "دنبار" في فيلم " الرقص مع الذئاب " ، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأمريكي " مايكل بلاك ". وقصة هذا الملازم الشجاع واللطيف هي أنه قام ببطولة ما، أثناء حرب الشمال والجنوب، وهو لم يقصد ذلك طبعا، فكوفئ بأن نقل إلى حصن للبيض على مشارف أراضي الهنود، حسب طلبه، وعندما انتقل إلى هناك وجد أن الحصن فارغ وأن الحامية قد هربت خوفآ من الهنود. يقوم الملازم دنبار بإقامة علاقة مع قبيلة " السو " الهندية، وهو يحسب أنه يقوم بواجبه الوطني في إرساء حجر التفاهم بين البيض والهنود. لقد أظهر الهنود كبشر عاديين، بل شجعان، يعشقون الحياة ويتمنون أن يتفاهموا يومآ مع البيض القادمين باطراد، لسلبهم أرضهم والقضاء على قطعان البوفالو العزيزة عليهم. الهنود في " الرقص مع الذئاب " يحبون الحياة، يعشقون، ويموتون في الدفاع عن الشرف ويستميتون في الذود عن أرض آبائهم وأجدادهم. بدأت العلاقة بين الملازم دنبار وبين الهنود بحذر شديد، فكلا الطرفان كان يخاف الآخر، تمامآ مثل العلاقة التي قامت بينه وبين ذئب بري، الذي سرعان مااستكان للملازم وبدأ يلتقط الطعام من يده، حتى أن الملازم والذئب أصبحا أصدقاء وصار الذئب، بطريقة ما، ينبه الملازم للأخطار المحدقة به، وبلقطة فنية رائعة، رقص الإثنان معآ فسموه الهنود حينها "بالراقص مع الذئاب ".
كان التشبيه والمقابلة رائعين بين الذئب من جهة، وبين الهنود من جهة أخرى، فقد أقام الملازم دنبار علاقة صداقة وحب مع الهنود ( الذئب ) في حين كانت الدعوات تطلق من أجل القضاء عليهم وإبادتهم بحجة أنهم متوحشون . وعندما وصل البيض إلى الحصن، واكتشفوا ما كان الملازم دنبار يقوم به، اتهموه بالخيانة الوطنية، وأظهرهم الفيلم كمتوحشين أشرار.
دخلت في إحدى صالات العرض الضخمة، وعلى عادة الأمريكان، لم يبدأ الفيلم إلا بعد أن سئمت من الدعايات للأفلام التي " ستأتي بعد صيف "!
ما أن بدأ الفيلم حتى سرح خيالي بعيدا إلى حيث كنت التقي مع العم" بخيت " الذي كنا نتقابل معه في قمة الجبل الذي نصعد إلى قمته كل يوم من الشرق ويقابلنا هو من الغرب، حيث يسكن هو في غرب الجبل ونحن في الشرق منه .
نتسابق مع أغنامنا إلى قمته التي تغازل السحاب بارتفاع يصل إلى حوالي ثمانية الآف قدم ، ونحن حفاة تماما مثل أغنامنا ، تتفوق علينا هي بأظلافها القاسية ، فأرجلنا وإن كانت قد فقدت بعض إحساسها من التشقق والجفاف ، إلا أنها ليست بقساوة أظلافها !
نتقابل في نقطة شبه معروفة في قمته، ونجلس في مكان مناسب - يعتمد اختيار كل منا لمجلسه على موقعه الاستراتيجي- بحيث يتمكن كل منا من رؤية أغنامه ، نحن نبحث عن الظل وهو يبحث عن الشمس؛" كل يبحث عما ينقصه !"
غالبا ما يبدأ هو في الحديث بحكم السن والخبرة، له خبرة في المدينة حيث كان موظفا لعدة سنوات، لذلك فإنه لا يكاد يسمع صوت سيارة أو ما شابهها إلا ويؤمي إلينا تارة بالإشارة وتارة بالكلام طالبا منا الإنصات للصوت الذي لا يكاد يظهر إلا ويختفي!
"تسمعون صوت المكينة ؟ هذه سيارة (العريكة) طالعة من
الجنش ، مسافرين الطايف، الله .. الله .. ليتني معهم وارتاح من هذا الغنم الذي أسرح به كل يوم، ما يريّحني حتى نهار العيد " !
يردد بصوته المبحوح : " مع العريكة في الطلعة وبهواها". ويتلوها بزفرة تجعلنا نشاركه الهم الذي نراه واضحا عليه ولا نستطيع إدراك سببه !
يكاد الحديث الذي يتحفنا به العم " بخيت " يلهينا عن مهمتنا الأساسية؛ رعي الغنم. لولا خبرته والأحاديث التي ما يفتأ يذكرنا بها عن الذئب من حين إلى حين. وخاصة قصة " مسك الذئب " التي يرويها لنا العم " بخيت " ولا يمل من تكرارها : " زمان قطّب مرزوق الذيب " !
يلتفت كل منا إلى غنمه ونتسابق في السؤال : كيف قطّب مرزوق الذيب ياعم بخيت؟! فيتبسم ويبدأ سرد الحكاية :" مرزوق هذا ياعيالي رجال شجاع ، ويش أقول لكم عن مرزوق ويش أخلي ، الله يرحمه ، الموت ما يأخذ إلا أمثال مرزوق !
الله يرحمه ، نردد بهدوء ، ونسكت لحظة ثم نطلب من عمنا "بخيت" أن يستمر : ايوه .. بالله كمل يا عم بخيت ، علمنا كيف مسك الذيب ، مسك الذيب .. يعني مسكه بيده .. يعني كيف بالله ؟!
ايو الله يا عيالي أنه مسكه بيده ، يوم من الأيام فتح الباب وإلا وهو يشوف الذيب قريب من باب "المراح " الذي فيه الغنم ، فانطلق وراءه حتى مسك في لحيه ، حتى أنها خرجت أسنانه في كف مرزوق من قوته !
كنت أتخيل أسنان الذئب الناصعة البياض في يد مرزوق الحالكة السواد ، فأراها متباينة ، فبضدها تتميز الأشياء كما هو معروف ، وإذا بهدوء تعقبه موسيقى تصويرية مختلفة تنذر بتغيير في سيرة الفيلم ، عدت من خيالي لأركز على احداث الفيلم بعد مرور مدة لا أعلمها ، فالخيال كالحلم لا يعترف بالوقت !
يظهر الذئب إلى جوار بطل الفيلم لأول مرة، ولكنني لم أرَه يرقص كما جاء في العنوان الذي من أجله صممت على حضور الفيلم.
من " سواليف " العم " بخيت " ومما تلاها من "سواليف " لم أسمع بأن الذئب يرقص ، ولم يكن الواقع الذي عشته أنا أيضا فيه شيء من رقص الذئاب ، فقد تعامل معي الذئب عدة مرات ، ورغم أنني تمكنت بالصدفة من قتلة في واحدة منها ، إلا انه قتلني عدة مرات !
لم يخوفني احد في حياتي مثل ما خوفني الذئب ، فالعيب والعار يلازمان الراعي الذي يأكل من غنمه ، لذلك فقد كانت حساسيتي مرتفعة من هذه الناحية للدرجة التي أصبح الذئب معها عدوي الأول !
مما كان سائدا آنذاك أن الذئب إذا لم تتمكن من رؤيته قبل أن يراك ، فإنك لا تستطيع الكلام ، وسيأخذ ما يريده من غنمك وأنت "مبهوت" تناظر لا تحرك ساكنا " يرميك بشعرة البهت "[ هذا هو التعبير الذي كان سائدا ] .
******
في يوم من الأيام ، وكنت على وشك الدخول بغنمي إلى سفح الجبل الذي تكثر فيه أشجار العرعر والعتم ( الزيتون) ، وفجأة " يأتي الصوت من جفلة " غنمي ، وكأنه صوت الرعد . أصابني الوحش وتنصب شعر رأسي وبدأت أصيح لا شعوريا. "عاش
شو .. عاش شو .. الحق.. الحق " [ عبارة كنا نقولها لتحريض الكلاب للحاق بالذئب أو السارق].
تركت الغنم تخرج إلى الجهة الأقل أشجارا ، لأتمكن من رؤيتها كلها ، جلست في الجهة المقابلة للغابة ، لعلي أرى ماكان سببا في " جفول" الغنم .
مرت عدة دقائق في هدوء ساعدني على التقاط أنفاسي ، جاءني " الصخل" الذي كنت قد "دجّنته" حتى لا يكاد يفارقني ، اقترب مني وبدأت أمسح علي ظهره وهو ينظر إليّ وكأنه يسألني ويستفسر مني عما جرى من ناحية ، ويساندني ويشد عضدي ويقف إلى جانبي من ناحية أخرى !
تحرك من عندي " الصخل " ببطء وتثاقل ، وكأنه يودعني للمرة الأخيرة ، مستشعرا ما ماهو مخبأ له ، وما أن أبتعد عني عدة أمتار ، وتسلق شجرة "النيم" التي بجواري حتى سمعت ثغاؤه !
كان الذئب قد خالفني تماما، وغير جهة تحركاته التي ناورني فيها (180) درجة ، كنت أرقبه من ناحية الغرب فجاءني من ناحية الشرق ، وأقترب مني جدا ، أخذا بالمثل القديم : " أقرب من الخوف تأمن "!
انطلقت كالريح في أثره ، كان ممسكا بالصخل في فمه ، يحذفه تارة إلى اليمين على ظهره وتارة أخرى إلى اليسار ، كدت أمسك به عدة مرات ، لا أدري مالذي يجعلني أحجم عن الإمساك به كل مرة أقترب منه ، حذفته بالعطيف الذي معي ، فأخطأته وضرب "العطيف " في مسافة بعيدة عنه ، رغم قربه مني ! أصيح ولا اسمع صوتي ، ويصيح نفر من الناس كانوا يشاهدون المطاردة من المزارع المقابلة التي كانوا يحصدونها ،فزادني إرباكا حيث لم أعد أميز إذا ماكان صياحهم لي أم عليّ !
*****
تداخلت أشياء كثيرة عندي ؛ صوت " البوب كورن" (الفشار)الذي قضيت على سطل منه قبل أن تأتي اللقطة التي كنت أنتظر (رقصة الذئب) ، مع صوت الموسيقى التي تزداد حدة في كل مرة يقترب فيها الذئب من بطل الفيلم ، فلم أعد أدري أي ذئب أتصور ، هذا الذي في الفيلم ، أم الذئب الذي كسّر أسنانه " مرزوق " ، أم ذئبي الذي رقصني ولم يرقص معي !
ذات صيف ، هربت من نفسي ، ومن الروتين الممل ، عازم ومعزوم وبينهما عزيمة ، فخرجت بعد صلاة الفجر ومعي ناظوري وبندقيتي التي أهجرها من الصيف إلى الصيف ، وصلت إلى حيث لا يوجد أحد ، فالقرى وأهلها يصبحون في فصل الصيف وكأنهم في بيات شتوي ، حيث لا تكاد ترى أحدا من الناس قبل الساعة التاسعة صباحا .
الهدوء التام ، نسمات الهواء العليل ،انسياب أشعة الشمس الذهبية من بين أغصان الشجرة التي اختبئ في وسطها ، وتغريد العصافير ، عوامل تساعد على خلق جوا رومانسيا يهيئ خيال المرء ليذهب به إلى ابعد مدى ، تداخلت الأزمنة وتقاربت الأمكنة في ذهني ، من قمة الجبل الذي كنا نلتقي فيه ونسمع عن ذئب مرزوق إلى المكان الذي رقصني فيه الذئب وأخذ مني " الصخل " إلى صالة العرض التي شاهدت فيها فيلم " الرقص مع الذئاب " ، كانت النتيجة أنني تخيلت أنا أحدها سيظهر لي في أي لحظة !
جلست أرقب طيور الحجل ، لعل وعسى أن أظفر بشيء منها ، حتى ولو بالنظر ! لكن لا طيور الحجل ولا الذئب الذي كنت أتوحى لرؤيته ، فالذي ظهر لي هو ثعلب كان يجري ناحيتي ليقف على مقربة مني ، ويبدأ في ممارسة رقصا حقيقا ، أين منه رقص ذئب الأمريكان ورقص ذئبي سالف الذكر ، يحاول أن يصطاد فأرا كان يلاعبه، يهرب عنه من جحر إلى جحر ، والثعلب يطير في الهواء حينا ، ويعود إلى الأرض حينا آخر ، تنهار الأرض من تحته بفعل الأنفاق التي حفرتها الفئران بيوتا لها ، تغوص إحدى أرباعه ، فيبدأ بالدوران حول نفسه محاولا إخراجها ، يقفز عاليا فيطأ على ذيله و" يضبح " ثم يعود إلى الهواء مرة أخرى !
استمر الثعلب في حركاته البهلوانية، وأنا أراقبه مستمتعا ومنسجما، لا أحيد بنظري عنه، وفجأة وعلى غير عادة المخرجين في إنهاء المشهد، يقفز هاربا ويتركني وحيدا في القاعة التي كان قد غادرها جميع المشاهدين، استمتعت برقص الثعالب كما لم استمتع برقص الذئاب التي رأيت، لا ذلك الذي رأيته مع " كيفن كوستنر" في فيلم " الرقص مع الذئاب"، ولا ذلك الذي أخذ مني الصخل، ولا ذاك الذي كان يحكي لنا عنه العم " بخيت " في قمة الجبل الذي كنا نلتقي فيه!
******
خلاصة عن فيلم "الرقص مع الذئاب " لمن لا يعرف قصته ومافيه من رمز ودلالة .
قام كوستنر بدور الملازم "دنبار" في فيلم " الرقص مع الذئاب " ، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب الأمريكي " مايكل بلاك ". وقصة هذا الملازم الشجاع واللطيف هي أنه قام ببطولة ما، أثناء حرب الشمال والجنوب، وهو لم يقصد ذلك طبعا، فكوفئ بأن نقل إلى حصن للبيض على مشارف أراضي الهنود، حسب طلبه، وعندما انتقل إلى هناك وجد أن الحصن فارغ وأن الحامية قد هربت خوفآ من الهنود. يقوم الملازم دنبار بإقامة علاقة مع قبيلة " السو " الهندية، وهو يحسب أنه يقوم بواجبه الوطني في إرساء حجر التفاهم بين البيض والهنود. لقد أظهر الهنود كبشر عاديين، بل شجعان، يعشقون الحياة ويتمنون أن يتفاهموا يومآ مع البيض القادمين باطراد، لسلبهم أرضهم والقضاء على قطعان البوفالو العزيزة عليهم. الهنود في " الرقص مع الذئاب " يحبون الحياة، يعشقون، ويموتون في الدفاع عن الشرف ويستميتون في الذود عن أرض آبائهم وأجدادهم. بدأت العلاقة بين الملازم دنبار وبين الهنود بحذر شديد، فكلا الطرفان كان يخاف الآخر، تمامآ مثل العلاقة التي قامت بينه وبين ذئب بري، الذي سرعان مااستكان للملازم وبدأ يلتقط الطعام من يده، حتى أن الملازم والذئب أصبحا أصدقاء وصار الذئب، بطريقة ما، ينبه الملازم للأخطار المحدقة به، وبلقطة فنية رائعة، رقص الإثنان معآ فسموه الهنود حينها "بالراقص مع الذئاب ".
كان التشبيه والمقابلة رائعين بين الذئب من جهة، وبين الهنود من جهة أخرى، فقد أقام الملازم دنبار علاقة صداقة وحب مع الهنود ( الذئب ) في حين كانت الدعوات تطلق من أجل القضاء عليهم وإبادتهم بحجة أنهم متوحشون . وعندما وصل البيض إلى الحصن، واكتشفوا ما كان الملازم دنبار يقوم به، اتهموه بالخيانة الوطنية، وأظهرهم الفيلم كمتوحشين أشرار.
تعليق