Unconfigured Ad Widget

Collapse

السيرة النبوية

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • علي الدوسي
    عضو مميز
    • Jun 2002
    • 1078

    السيرة النبوية

    هذا الموضوع سوف يخصص لسيرة محمد صلى الله علية وسلم
    ونبدا بنشأتة صلى الله علية وسلم


    اسمه ونسبه:

    هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وفهر هذا هو قريش فكل قرشي فهري وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم مضري أي يرجع نسبه إلى مضر ثمّ إلى عدنان من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفي قريشاً من كنانة واصطفي من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم، رواه الإمام مسلم في صحيحه. وجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخامس عبد مناف،كان على المشهور له أربعة من الولد وهم هاشم، والمطلب، وعبد شمس ونوفل فرسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرجع نسبه إلى هاشم هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهاشم هذا اسمه عمرو ولقب بهاشم لأنه كان يهشم الخبز أي يكسره ويقطعه ويقدمه للحجاج. وهو أول من أطعم الثريد للحجاج، والثريد هو الخبز مع اللحم، وهو كذلك أول من سنّ الرحلتين لقريش رحلة الشتاء والصيف ولذلك قال الشاعر:



    عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

    سُنتْْ إليه الرحلتان كلاهما سفر الشتاء ورحلة الأصياف



    وكان لهاشم ولدان أحدهما عبد المطلب والثاني أسد وعبد المطلب لقب (بفتح اللام والقاف) كذلك واسمه شيبة الحمد وإنما لقب بعبد المطلب لأنه كان عند أخواله بني النجار في المدينة لما توفي والده وذلك أن هاشماً كان متزوجاً من بني النجار من أهل المدينة وترك ولده شيبة الحمد عند أخواله ومات هاشم وشيبة الحمد ولده عند أخواله وبعد موته ذهب المطلب أخو هاشم وعم شيبة الحمد إلى المدينة وأتى بابن أخيه ليكون عند أعمامه فلما دخل به مكة ظن أهل مكة أنه عبد اشتراه المطلب فقالوا: هذا عبد المطلب فقال لهم المطلب: لا، إنما هو ابن أخي هاشم ولكن غلب عليه ذلك اللقب وصار لا يسمى إلا بعبد المطلب.


    وعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقعت في زمنه واقعتان لم يغفلهما التاريخ.


    الأولى: حفر زمزم، وذلك كما هو معلوم أن الله تبارك وتعالى قد امتن على هاجر أم إسماعيل وولدها إسماعيل عليه الصلاة والسلام بأن أوجد لهما زمزم، ثم مرت السنون تلو السنين حتى خفيت معالم زمزم، وقد ذكر أن عبد المطلب كان نائماً يوماً ما فرأى في المنام أنه يؤمر بحفر زمزم ودلّ على مكانها في النوم فقام إلى المكان الذي أمر في المنام بحفره فحفره ووجد الماء، ثمّ أقام بعد ذلك سقاية الحاج.


    الثانية: مجيء أبرهة الحبشي لهدم الكعبة، و قصة أبرهة كما ذكرها أهل العلم هي: وذلك أن أبرهة الحبشي بنى كنيسة عظيمة بصنعاء، لم ير في زمانها مثلها، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبْن (بضم الياء) مثلها لملك قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب، (يعني يريد أن يضاهي بها مكة) فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجل من كنانة فخرج حتى دخل الكنيسة في وقت لم يره فيه أحد، فجاء وقعد وأحدث في الكنيسة، تبرز داخل هذه الكنيسة، فلما أخبر (بضم الألف) أبرهة بذلك، قال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة، لما سمع بقولك إنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا فغضب غضباً شديداً. وهنا لابد من التنبيه على نقطة مهمة: لاشك أن هذا الرجل سمع بمنكر وهو أن أبرهة أراد أن يصرف حج العرب من مكة إلى هذه الكنيسة فغضب لأجل هذا الأمر فأنكر ذلك المنكر بأن لطخ الكنيسة بالعذرة. وهذا في مقابله أوجد عند أبرهة غضباً شديداً وهو أنه عزم بعد ذلك على هدم الكعبة. وهذا الذي نص عليه أهل العلم وهو أنه لا يجوز إنكار المنكر بإيقاع منكر أعظم منه، بل لابد أن يكون إنكار المنكر بحيث أن لا يقع بعد ذلك أو على إثره منكر أعظم منه. غضب أبرهة لهذا الفعل وحلف ليسيرنّ إلى البيت حتى يهدمه، ثمّ أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت. ثمّ سار بستين ألف وأخرج معه الفيلة والعرب لا تعرف الفيلة في ذلك الوقت. فخرج بالفيلة ويذكر أن رئيس الفيلة فيل يسمونه محموداً. فلما تجهز وسار سمع العرب بذلك فأعظموه وفظعوا به ورأوا جهاده حقاً عليهم، وذلك أنهم وإن كانوا على الشرك ولكنهم كانوا يعظمون بيت الله تبارك وتعالى. فكان ممن قابله رجل من أهل اليمن يقال له ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من العرب إلى حرب أبرهة ولكن أبرهة هزم ذا نفر وأصحابه وأسره معه ثمّ مرّ بالطائف فخرج إليه مسعود بن معتّب الثقفي فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد (يعنون اللات) إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه رجلاً يقال له أبو رغال يدله على الطريق، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال (بضم الراء أو بكسرها) حتى نزل بالمغمّس مكان قريب من مكة فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فبعد ذلك رجم العرب قبر أبي رغال وذلك أنهم يرون أن هذا الرجل كان رجل سوء لأنه كان دليلاً لأبرهة إلى هدم بيت الله الحرام، ولذلك يقول جرير عن الفرزدق لأنهما كانا دائماً يتهاجيان وبينهما نفرة (بضم النون) يقول جرير:



    إذا مات الفرزدق فارجموه كرجمكم لقبر أبي رغال


    قال ابن إسحاق: فلما نزل أبرهة بالمغمّس بعث رجلاً من الحبشة يقال له الأسود على خيل له حتى أتى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها فهمّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم لقتاله ثمّ عرفوا لا طاقة لهم لقتال أبرهة، وبعث أبرهة رجلاً يقال له حناطة إلى مكة وقال: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ثمّ قل له إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم وإنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فجاء حناطة وكلّم قريشاً بما قال أبرهة وخرج معه عبد المطلب لأنه سيد قريش في ذلك الزمن فلما دخل عبد المطلب على أبرهة احتار أبرهة ماذا يفعل؟ وذلك أنه أراد أن يكرم عبد المطلب، قال: إن أجلسته معي على عرشي كان في هذا منقصة لي، وإن تركته وأنا على العرش كان في ذلك منقصة له. فنزل عن عرشه وجلس مع عبد المطلب على الأرض. فأول ما كلمه قال لعبد المطلب: ماذا تريد؟ قال: لقد أخذتم مائتين من الإبل لي فأعيدوها، فغضب أبرهة وقال: لقد ظننتك أكبر من هذا وأعظم من هذا ثمّ جئتني تسألني عن إبلك ولا تطلب مني أن أرجع عن البيت وألاّ أهدمه. فقال عبد المطلب قولة كانت في وقتها حساسة جداً وصارت بعد ذلك مضرباً للأمثال قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه. فقال أبرهة: ما كان ليمتنع منّي. قال: أنت وذاك. فقال أبرهة: ردوا عليه إبله. فلما رجع عبد المطلب إلى قريش أخبرهم الخبر وقال لهم: اخرجوا من مكة فلا طاقة لكم لقتال أبرهة. وخرجوا إلى الجبال، ثمّ قام عبد المطلب وأخذ بحلقة الباب (باب الكعبة) وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرونه على أبرهة وجنده وقال عبد المطلب:


    لا همّ إن العبد يمنع رحله ،،،،، فامنع رحالك

    لا يغلبنّ صليبهم ومحالهم ،،،،، غدواً محالك

    إن كنت تاركهم وقبلتنا ،،،،، فأمر ما بدا لك


    ثمّ أرسل عبد المطلب حلقة الباب وانطلق ومن معه إلى الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ماذا يفعل أبرهة. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يمش معهم فقال بعضهم: ما منع الفيل؟ قالوا: لا ندري. قال: اضربوه، فضربوا الفيل فأبى فوجهوه إلى اليمن فقام، ووجهوه إلى الشام فقام، ووجهوه إلى المشرق فقام، فلما وجهوه إلى مكة برك، ثمّ بعد ذلك فوجئوا بأن أرسل الله تبارك وتعالى عليهم الطير الأبابيل كما قال الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. نعم هكذا أرسل الله تبارك وتعالى الطير الأبابيل، ورمت أبرهة ومن معه بحجارة من سجيل فأهلكهم الله تبارك وتعالى جميعاً. وقيل إنه بقي بعضهم حتى يخبروا قومهم بما فعل الله تبارك وتعالى بهم. هذه هي الحادثة الثانية التي كانت في زمن عبد المطلب.


    أعمامه :


    يذكر أن عبد المطلب كان له عشرة من الولد وهم: حمزة والعباس وهذان أسلما رضي الله عنهما وكان له كذلك من الولد أبو طالب و أبو لهب وهذان لم يسلما، وعنده من الولد كذلك الحارث والزبير والغيداق والمقوّم وصفّار وعبد الله وهو والد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهؤلاء لم يدركوا بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأولاد عبد المطلب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم أدرك الإسلام ودخل فيه، وهما حمزة والعباس. وقسم أدرك الإسلام ولم يدخل فيه، وهما أبو طالب و أبو لهب، وقسم لم يدرك الإسلام وهم بقية أولاد عبد المطلب.


    عماته:


    البيضاء ويقال لها أم حكيم، وصفية وعاتكة وبرة وأروى وأميمة.


    وعلى المشهور أن عبد المطلب كان قد نذر لإن رزقه الله تبارك وتعالى عشرة من الولد ليذبحنّ أحدهم، قربى لله تعالى وذلك انه لما حفر زمزم منعته قريش من أخذها له فلم يكن له ولد يمنعه، فغضب لأجل هذا وقال: لإن رزقني الله عشرة من الولد لأذبحنّ أحدهم، فرزقه الله تبارك وتعالى أولئك الأولاد فأراد أن يوفي بنذره فعمل قرعة فوقعت القرعة على ولده عبدالله والد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما أراد ذبحه قامت إليه قريش ومنعته، فقال عبد المطلب: فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه بأن يأتي العرافة فيسألها فجاءها وسألها فأمرته أن يقرع بين ولده عبدالله وعشرة من الإبل فقرع فوقعت القرعة على عبد الله فقالت له: زد عشرة، فزاد عشرة من الإبل فوقعت القرعة على عبد الله فقالت له: زد عشرة، وهكذا كلما زاد عشرة من الإبل كانت تقع القرعة على ولده عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، فعمل القرعة فوقعت القرعة على الإبل. عند ذلك قام عبد المطلب فنحر الإبل ثمّ تركها لا يرد عنها أحداً من البشر أو السباع. وكانت الدية عند العرب في ذلك الوقت عشراً من الإبل فبعد هذه الحادثة صارت الدية عند العرب مائة من الإبل، والإسلام أقرها. فالدية الآن في دين الله تبارك وتعالى مائة من الإبل.

    ولادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ثبت عن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنه قال: يوم الاثنين يوم ولدت فيه. في شهر ربيع الأول على المشهور امتن الله تبارك وتعالى على البشرية بولادة سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجّلين، وذلك بعد حادثة الفيل بأشهر في مكة المكرمة، وولد يتيم الأب وذلك أن أباه مات وأمه حامل به، وكانت ولادته صلوات الله وسلامه عليه ولادة معتادة لم يتمكن المؤرخون كما يذكر أهل العلم من تحديد يوم مولده وشهره على وجه الدقة، أما يوم المولد من أيام الأسبوع فهو يوم الاثنين كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ولكن في أي اثنين الله أعلم. قيل في التاسع من ربيع الأول، وقيل في الثاني عشر وقيل غير ذلك وقيل في رمضان ولكن المشهور أنه في الثاني عشر من ربيع الأول. وتحديد يوم ميلاده صلوات الله وسلامه عليه لا يرتبط فيه شيء من الناحية الشرعية وأما ما يقوم به كثير من الناس في كثير من بلاد المسلمين من الاحتفال بيوم مولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه عمل غير صالح، وذلك لأمور منها:


    أولاً: إنه لا يعرف مولده على الدقة صلوات الله وسلامه عليه.


    ثانياً: لم يحتفل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيوم مولده في حياته أبداً مع أنه عاش ثلاثاً وستين سنة صلوات الله وسلامه عليه.


    ثالثاً: لم يحتفل الصحابة ولا التابعون ولا الأئمة المتبوعون وغيرهم من العلماء بيوم مولده ولو كان خيراً لسبقونا إليه.


    رابعاً: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأمرنا بذلك مع أنه قال: ما تركت خيراً يقربكم إلى الله والجنة إلا وقد أمرتكم به. فما لم يأمرنا به صلوات الله وسلامه عليه فليس بخير فالخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد أي مردود على صاحبه.


    مرضعته:


    لما ولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أرضعته أول ما أرضعته ثويبة وهي مولاة عمه أبي لهب وكانت قد أرضعت قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عمه حمزة ولذلك حمزة رضي الله عنه يكون أخاً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الرضاعة أمهما جميعاً ثويبة مولاة أبي لهب. ولم يدم هذا الأمر طويلاً وذلك أنه كان من عادة العرب أنهم يلتمسون المراضع لأولادهم أي المرضعات فكان العرب يحبون أن تأتي المرضعة من خارج مكة فتأخذ الوليد فترضعه لمدة سنتين ثمّ تفطمه وتعيده إلى أمه. ونترك حليمة السعدية تذكر لنا قصتها مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تقول حليمة السعدية إنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء، وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً، (والشهباء يعني لا زرع ولا ماء)، فخرجت على أتان لي قمراء، (الأتان هو الحمار والقمراء يعني بيضاء)، معنا شارف لنا، (والشارف هي الناقة) والله ما تبض بقطرة، (يعني ما فيها حليب أبداً)، وما ننام ليلنا أجمع من صبيّنا الذي معنا من بكائه من الجوع، والله ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منّا امرأة إلاّ وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتأباه وذلك إذا قيل لها إنه يتيم وذلك أن كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنّا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجدّه فكنّا نكرهه لذلك. فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري فلمّا أجمعنا الانطلاق (يعني عزمنا على الرجوع) قلت لصاحبي أي زوجها والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً والله لأذهبنّ إلى ذلك اليتيم فلآخذنه قال: لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل فيه بركة. سبحان الله، (هذه المسكينة حليمة السعدية لا تدري أن الخير والبركة كلها عند هذا اليتيم صلوات الله وسلامه عليه ). فرجعت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره فلمّا أخذته رجعت به إلى رحلي فلمّا وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه (أي ولدها) حتى روي ثمّ ناما، وما كنّا ننام معه قبل ذلك من بكاء الولد، وقام زوجي إلى شارفنا تلك (أي الناقة) فإذا هي حافل أي مملوءة لبنا، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، فقال لي صاحبي (أي زوجها) حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة. فقلت: والله إني لأرجو ذلك. ثمّ خرجنا وركبت أنا أتاني وحملته عليها معي، (أي حملت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم (أي سبقتهم في المسير) حتى إن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيب ويحك أربعي علينا، (أي لا تسرعي)، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن بلى والله إنها لهي هي فيقلن والله إن لها شأناً، ثمّ قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، (يعني قاحلة ليس فيها زرع ولا ماء)، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا بها معنا شباعاً لبنا، فنحلب ونشرب وما يحلب إنساناً قطرة لبن لأن الأرض جدباء ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعاً لبنا، فلم نزل نتعرف من الله زيادة والخير حتى مضت سنة وفصلته، (أي فطمته)، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً ، (يعني قوياً)، فقدمنا به على أمه (لأن بينهم وبين أمه وعداً بعد سنتين يعيدان إليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه وقلت لها لو تركت ابني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة، فلم نزل بها حتى ردته معنا. (فهي لا تخشى عليه الوباء ولكنها تريده لما رأت من الخير عند مجيئه صلوات الله وسلامه عليه)، فما زلت بها حتى ردته معنا.

    طفولته:

    وهكذا بقي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بني سعد حتى إذا كانت السنة الرابعة من عمره أو الخامسة وقع حادث عجيب. وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب واستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثمّ غسله أي القلب في طست من ذهب بماء زمزم ثمّ لأمه (أي أعاده إلى مكانه) وجاء الغلمان يسعون إلى أمّه ، أي حليمة، فقالوا إن محمداً قد قتل، لأنهم رأوا الملك جاء إليه وشق صدره وأخرج قلبه، فخرجت حليمة مع زوجها ينظرون إلى مقتل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوجدوه قائماً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكنه ممتقع اللون لأن هذا الأمر غريب بالنسبة إليه صلوات الله وسلامه عليه، وهذه آية من آيات الله تبارك وتعالى، والله جلّ وعلا على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، عند ذلك خافت حليمة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فردته إلى أمه.


    وفاة أمّه:


    لما بلغ السادسة من عمره خرجت أمه به لتزور قبر والده في طريق المدينة فزارت قبر أبيه وكان معها في سفرها هذا جده عبد المطلب وخادمتها أم أيمن فبعد أن زارت قبر والده ورجعت إلى مكة وهم في الطريق إلى مكة ماتت أمّه صلوات الله وسلامه عليه في مكان بين مكة والمدينة يقال له الأبواء. فبعد أن كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتيم الأب صار صلوات الله وسلامه عليه في السادسة من عمره يتيم الأب والأم بأبي هو وأمي.

    وفاة جدّه:


    كفله جدّه ورباه ولما بلغ الثامنة من عمره مات جدّه عبد المطلب.


    احتضان عمّه له:


    عند ذلك احتضنه عمه أبو طالب ورباه بعد ذلك حتى بلغ سن الرجال صلوات الله وسلامه عليه وقد قام أبو طالب بحق سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير قيام، وكان ربما قدّمه على ولده.


    حادثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الراهب بحيرى:


    ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في التجارة ووقعت له هناك حادثة غريبة وهذه الحادثة تتمثل في أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرّ على راهب يقال له بحيرى في مكان يقال له بصرى وهذا الراهب اسمه جرجيس ولما نزل به أبو طالب ومن معه أكرم ضيافتهم ثمّ قال: من معكم؟ قالوا: نحن قال: ما معكم أحد آخر؟ قالوا: معنا صبي عند متاعنا قال: ائتوني به فلما جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورآه بحيرى الراهب نظر في وجهه وكان يعرف أن هذا الوقت وقت خروج نبي ثمّ بحث فوجد خاتم النبوة. وخاتم النبوة هذا عبارة عن ورمة في كتف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من خلف في قدر البيضة فقال بحيرى لأبي طالب: إنكم حينما أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخرّ ساجداً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا تسجد هذه إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه، مثل التفاحة إن وجدناه في كتبنا ارجع به فإني أخاف عليه اليهود (أي في الشام)، فرجع به إلى مكة.


    حلف الفضول:


    وحضر صلوات الله وسلامه عليه حلف الفضول وذلك حين بلغ الخامسة عشرة من عمره. وهذا الحلف تداعت إليه بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، اجتمعوا في دار عبدالله بن جدعان التيمي وذلك لسنه وشرفه وتعاقدوا على ألاّ يجدوا مظلوماً بمكة سواءً كان من أهلها أو من غيرهم إلا نصروه وأخذوا له حقه. وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقول بعد ذلك حضرت حلف الفضول ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وما أحب أن لي به حمر النعم، (هي الإبل الحمراء التي تشتاق إليها نفوس العرب وتحبها).

    قبل البعثة:

    كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تلك الفترة يرعى الغنم مقابل قراريط أي أموال قليلة لأهل مكة عن جابر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمر الظهران، مكان قريب من مكة، ونحن نجني الكباث، (الكباث ثمر الأراك وهو السواك)، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: عليكم بالأسود منه قال: فقلنا يا رسول الله كأنك رعيت الغنم، قال: نعم، رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم فقال أصحابه: وأنت قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة، رواه الإمام البخاري في صحيحه. قال أهل العلم لعل الحكمة من إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يتلقونه من القيام بأمر أمتهم في مخالطتها ، (أي الغنم)، ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ودفع عدوها عنها ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وخصّ الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر. وبعد رعي الغنم اشتغل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالتجارة.

    زواجه:

    بلغ خديجة بنت خويلد ما وصف به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كريم الأخلاق والأمانة فبعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام. وخديجة من أشراف قومها من بني مخزوم وأرسلت معه غلاماً لها يقال له ميسرة فوافق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخرج بمالها وتاجر لها ولما رجع إلى مكة أخبرها ميسرة بما وقع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كريم خلقه وحسن تعامله وما كانت من بركة وقعت له صلوات الله وسلامه عليه كل هذا جعلها تعجب به فتحدثت عن إعجابها به مع صديقاتها وكان ممن تحدثت معها صديقة لها يقال لها نفيسة فذهبت نفيسة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعرضت عليه أن يتزوج خديجة فقبل صلوات الله وسلامه عليه وذهب مع أعمامه إلى عم خديجة وتمّ الزواج. وكانت سنها على المشهور أربعين سنة وكان سن النبي صلوات الله وسلامه عليه الخامسة والعشرين. وقد أحبها النبي صلوات الله وسلامه عليه حباً شديداً ولم يتزوج عليها في حياتها أبداً.

    أولاده من خديجة:

    رزقه الله تبارك وتعالى من خديجة الولد فولدت له عبدالله والقاسم وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.

    إعادة بناء الكعبة:

    لما بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخامسة والثلاثين من عمره وقع أمر مهم وهو أن قريشاً قررت إعادة بناء الكعبة وذلك أن الكعبة قد تساقطت بعض حجارتها وكان قد جاءها سيل شديد أثر في بنيانها كثيراً، واختلفوا هل يرممون البيت أو يهدمونه من جديد؟ فمن قائل يهدم ويبنى من جديد ومن قائل بل يرمم وذلك أنهم خشوا إذا هدموا البيت أن يصابوا بأذى وذلك أن ما حدث لأبرهة قريب جداً وكثير منهم قد عاصروا ونظروا ما وقع لأبرهة وجيشه حين أردوا ذلك البيت المقدس عند الله تبارك وتعالى. فقام الوليد بن المغيرة وقال: والله لنهدمنّه ولنبنينّه من جديد فقالوا: إنّا نخاف أن نصاب بأذى فقال: وأي أذى وأنتم إنما أردتم الخير قالوا: فابدأ أنت قال: نعم فجاء الوليد إلى الكعبة ورفع الفأس وقال: اللهم لن ترع (يعني لا تخف يا رب لا نريـد إيذاءك وإنما نريد الخير وهذا لا شك يدل على جهلهم بالله تبارك وتعالى). فضرب ثمّ انتظر فلم يصب بأذى فقال: أيها الناس اهدموا فقالوا: لا، حتى تصبح وأنت سليم. قال: نعم فلما أصبح وإذ لم يصب بأذى فقاموا جميعاً فهدموا بيت الله الحرام. ولكنهم لما هدموا البيت وأرادوا إعادة بنائه قالوا: لا يدخل في بنائه إلا مال طيب فلا يقبل مال ربا ولا ميسر ولا مهر بغي ولا مال مسروق وهذا شيء عجيب هم على كفرهم يعرفون المال الحلال من المال الحرام . وقدّر الله أن المال الحلال الذي جمعوه كان قليلاً لم يكف لبناء الكعبة فبنوا الكعبة على ما هي عليه الآن ثمّ جعلوا هذا السور أو هذا القوس الذي نراه والذي يسميه كثير من الناس حجر (بكسر الحاء وتسكين الجيم) إسماعيل وليس لإسماعيل عليه الصلاة والسلام حجر. بل هو الحجر أو الجدر (بفتح الجيم وتسكين الدال) كما كان يسميه أهل مكة، وهذا الحجر ستة أذرع منه تعتبر من الكعبة (يعني نصفه تقريباً) ولذلك إذا أردنا أن نطوف حول الكعبة لا يجوز لنا أن نطوف من داخل الحجر لأننا مطالبون أن نطوف من حول الكعبة لا أن نطوف في الكعبة. وكان للكعبة بابان فجعلوا لها باباً واحداً وكان الباب ملاصقاً للأرض فرفعوه حتى يدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: نعم. قالت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إنّ قومك قصّرت بهم النفقة، قالت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما. وذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عين الحكمة إذ أن قريشاً ستقول انظروا إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدّعي أنه مرسل من الله أول ما فتح مكة هدم بيت الله ولذا رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحكمة أن يؤخر هذا الأمر.

    ولكن هل تأخر هذا الأمر كثيراً؟ إنه لم يتأخر كثيرا وذلك أنهم في خلافة أمير المؤمنين عبدالله بن الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنه سنة خمس وستين من هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو سنة أربع وستين قام عبدالله بن الزبير فأدخل الحجر في الكعبة ووسع الكعبة وأطال بنيانها وأنزل الباب إلى الأرض وجعل للكعبة بابين كل ذلك كما أراده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رواه الإمام مسلم في صحيحه. قال عطاء: إن عبدالله بن الزبير جمع الناس فقال: يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثمّ ابني بناءها أو أصلح ما وهي (بفتح الواو وكسر الهاء) منها فقال ابن عباس: فإني قد فرق ( بضم الفاء) لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه وأحجاراً أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فابن عباس كان رأيه أن تترك الكعبة ولا يدخل الحجر فيها وأن ترمم فقط فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدّه أي يجدده من جديد فكيف بيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثاً ثمّ عازم على أمري فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد إليها أمر من السماء أيضاً خشوا أن يقع أمر من السماء إذا أراد أحد أن يهدم الكعبة. فصعد رجل وألقى من البيت حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوا البيت حتى بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت لها باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه قال عبدالله بن الزبير: فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال: فزاد فيه خمسة أذرع كما أراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحجر حتى أبدى أسّاً (بضم الألف) نظر الناس إليه (يعني الأساس) أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني عشر ذراعاً فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع فابن الزبير زادها طولاً وعرضاً رضي الله عنه وأرضاه وجعل للكعبة بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل (بضم القاف) ابن الزبير وذلك سنة ثلاث وسبعين من الهجرة على يد الحجاج بن يوسف الثقفي كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك (أي بما فعل ابن الزبير ببيت الله تبارك وتعالى) ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس (أي على أساس) نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك إنّا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء أما ما زاد من طوله فأقره (أي من ارتفاع الكعبة) وأما ما زاد فيه من الحجر فردّه إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه. وهذا أمر عجيب عبدالله بن الزبير رضي الله عنه نفذ وصية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. عبدالملك بن مروان لما استخلف ظن أن عبدالله بن الزبير إنما زاد هذا من عند نفسه فأمر بنقضه وأعاد الكعبة كما كانت زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
    [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]
  • علي الدوسي
    عضو مميز
    • Jun 2002
    • 1078

    #2
    الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، (أي قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، من الطعام والشراب وما شابه ذلك)، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها وهكذا حتى جاءه الحق، (والحق هنا يحتمل أن يكون جبريل ويحتمل أن يكون الأمر الحق أي وهو البعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فقال: اقرأ ،فقال صلوات الله وسلامه عليه: ما أنا بقارئ، (أي لا أعرف القراءة وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمّي لا يستطيع القراءة ولا يعرفها صلوات الله وسلامه عليه وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه في قوله الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن نفسه فقال: إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب، رواه البخاري ومسلم). فقال له: اقرأ ،فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطنّي (أي ضمّني ضمّاً شديداً) حتى بلغ منّي الجهد (بفتح الجيم) (أي التعب) ثمّ أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطنّي الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطنّي الثالثة ثمّ أرسلني فقال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم". فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرجف فؤاده (أي من الخوف) صلوات الله وسلامه عليه. أمر غريب يأتيه الملك في هذا المكان الموحش المظلم في الليل ويضمّه هذا الضم الشديد فأوقع هذا في قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخوف وهذا خوف فطري لا يضره شيئاً. فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني، زملوني، وذلك أن الخائف يشعر بالبرد والرعشة فيحتاج إلى أن يتلحّف ويتغطى حتى يذهب عنه ما يجد من الرجفة فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة بعد أن أخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي قالت خديجة: وهي المثبّتة وهي التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلا والله ما يخزيك الله أبداً. هذا الكلام من خديجة تبدأه بالنفي ثمّ بالقسم والله ما يخزيك الله أبداً وتؤكده بقولها أبداً كل هذا دليل على ثقة هذه المرأة بربها تبارك وتعالى ومعرفتها الحقّة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم والسبب الذي من أجله بنت هذا الكلام هو ما ذكرته بعد ذلك. قالت: إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، والكل هو الذي لا يستطيع أن يستقل بأمره (يعني يساعده)، وتكسب (بضم التاء) المعدوم، (أي الذي ما عنده شيء تعطيه)، وتقري الضيف، (أي تكرم الضيف)، وتعين على نوائب الحق، (أي على مصائب الدنيا)، كأنها تقول للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كانت هذه صفاته لا يمكن أن يقع الخزي من الله عليه أبداً لأن هذه الصفات صفات كمال، ثمّ انطلقت به حتى أتت به ورقة بن نوفل وهو ابن عم لها وقيل هو عمها وكان قد تنصّر في الجاهلية، (يعني اتخذ النصرانية ديناً)، وذلك أن قريشاً كانت على الشرك والوثنية، وكان هناك بعض النصارى وهم أقرب الناس إلى الحق في ذلك الوقت، قالت: وكان يكتب الكتاب العبراني، (يعني التوراة والإنجيل، وسميت اللغة باللغة العبرانية نسبة إلى عبورهم النهر)، ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى (أي هذا الشيء هو الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى صلوات الله وسلامه عليه) يا ليتني فيها جذعاً (أي شاباً قوياً)، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، عندها استبعد الرسول أن يخرجه قومه وذلك أنه يرى أن قومه يحبونه حباً شديداً ولا يسمونه إلا الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه قال: أو (بفتح الواو) مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. (وهذه قاعدة مهمة وأصل عظيم بنى عليه ورقة بن نوفل رأيه وذلك أن كل الأنبياء أوذوا وعودوا فمنهم من قتل ومن من طرد ومنهم من أوذي ومنهم من خوّف وهذا كثير) وأن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا ثمّ لم ينشب ورقة أن توفي. وفتر الوحي بعد ذلك (أي انقطع الوحي) مدة طويلة. وهذه المدة قدرها أهل العلم بستة أشهر وقال بعضهم: إنها بلغت ثلاث سنين. وورقة بن نوفل رحمه الله تبارك وتعالى ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه بشره بالجنة أو أخبر أنه من أهل الجنة. ولكن هل كان صحابياً؟ الصحيح أنه لم يكن صحابياً وذلك أنه لم يدرك الرسالة لأنه مات بعد مبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقبل تبليغه صلوات الله وسلامه عليه.



    أنواع الوحي:



    أنواع الوحي ستة كما قال أهل العلم:

    أولاً: الرؤيا الصادقة، وهي كانت مبدأ الوحي للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يذكر.

    ثانياً: ما كان يلقيه الملك في روع النبي وقلبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. كقوله صلوات الله وسلامه عليه إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب.

    ثالثاً: أنه كان يتمثل الملك رجلاً فيخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى يعي عنه كما في حديث جبريل لما جاء للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو بين أصحابه.

    رابعاً: أنه كان يأتيه كمثل صلصلة الجرس وكان هذا أشده عليه حتى إن جبين الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليتفصّد عرقاً في اليوم الشديد البرد.

    خامساً: أن يرى الملك في صورته التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها فيوحي إليه ما شاء.

    سادساً: ما يوحيه الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مباشرة بدون واسطة ملك.



    كيف وصل الشرك إلى مكة؟



    كانت خزاعة هم ولاة البيت الحرام قبل قريش وكانوا يتوارثون الولاية على البيت كابراً عن كابر واستمرت على ولاية البيت (أي خزاعة) ثلاثمائة سنة وقيل خمسمائة سنة وفي زمانهم جلبت الأوثان إلى مكة على يد زعيمهم عمرو بن لحي (بضم اللام) وكان قوله فيهم كالشرع المتبع لمكانته عندهم وكان عمرو بن لحي هذا قد خرج إلى الشام فرأى أهل الشام يعبدون الأصنام فقال: ما هذه الأصنام التي تعبدون قالوا: هذه أصنام نعبدها نستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا فقال: ألا تعطوني منها صنماً أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنماً يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته فأطاعوه قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار أي يجر أمعاءه في النار، رواه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما. وقد كانت العرب على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ولكن لطول العهد نسوا كثيراً من تفاصيل الشرع واستمر هذا الأمر وهو رئاسة خزاعة على البيت الحرام حتى قام قصي بن كلاب بالزواج من ابنة رئيس خزاعة ثمّ بعد ذلك استعان بالعرب على قتال خزاعة فهزمهم وأجلاهم عن مكة وتسلم قصي الرئاسة وقصي كما هو معلوم من قريش. وكان مما بقي عند العرب من العبادات التي كانت على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحج فكانوا يطوفون ويسعون ويقفون في عرفات ومزدلفة ويهدون البدن ولكنهم صاروا يقولون في تلبيتهم بعد بعد (بضم الباء وكسر الدال) العهد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ملكته وما ملك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام قال تعالى: "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراءاً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين" قال ابن كثير: من ذلك ما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مفتر في ذلك ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام قال الله تبارك وتعالى: "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" والبحيرة هي التي كانوا يبحرون أذنها أي يشقونها ويجعلون لبنها للطواغيت ويمنعون الناس منها، وأما السائبة فهي البعير يسيب فلا يحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبه أحد ويكون للآلهة، وأما الوصيلة فهي الناقة إذا ولدت أنثى بعد أنثى فتكون لها وإن ولدت ذكراً فهي للآلهة، وأما الحام فهو الفحل إذا انتج من ظهره عشرة ترك فلا يركب (بضم الياء) ولا يمنع (بضم الياء) من رعي، وتابعه أهل مكة على ذلك وزيادة، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى: بل قد تابعوه في ما هو أطمّ من ذلك وأعظم بكثير وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وتحريم الشرك وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من أمم المشركين. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وهم الخدم وحجّاب يذبح لها ويطاف حولها ومع هذا كله يعرفون فضل الكعبة. أمّا تلك الآلهة فكانت لقريش العزى وهبل وكانت اللات لثقيف وكانت مناة للأوس والخزرج، وكان ذو الخلصة (بضم الخاء واللام) لدوس.



    بدء الدعوة:



    بعد أن أوحي (بضم الألف) للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبشر (بضم الباء) صلوات الله وسلامه عليه وبعد انقطاع الوحي الفترة التي ذكرناها، عاد إليه مرة ثانية وصار صلوات الله وسلامه عليه يدعو المقربين إلى دين الله تبارك وتعالى فكان أول من اسلم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من النساء خديجة ومن الموالي زيد بن حارثة ومن الغلمان علي بن أبي طالب ومن الرجال الأحرار أبو بكر الصديق ومن العبيد بلال بن رباح. جاء في صحيح البخاري من حديث همّام بن الحارث عن عمّار بن ياسر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر وأسلم على يدي أبي بكر الصديق الزبير بن العوام وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي الوقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين. وجاء كذلك في صحيح مسلم حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أول ما بعث وهو في مكة وهو حينئذ مستخف فقلت: ما أنت قال: أنا نبي قلت: وما النبي قال: رسول الله قلت: آ الله أرسلك قال: نعم قلت: بم أرسلك قال: بأن تعبد الله وحده لا شريك له وتكسر الأصنام وتصل الأرحام قال: قلت: نعم (بكسر النون) ما أرسلك به فمن اتبعك على هذا قال: حر وعبد يعني أبا بكر وبلالاً قال: فكان عمرو بعد ذلك يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام قال: فأسلمت قلت: فأتبعك يا رسول الله قال: لا ولكن الحق بقومك فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني. وروى أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين فقالا: عندك يا غلام لبن تسقينا قلت إني مؤتمن ولست بساقيكما فقال: هل عندك من جذعه (بفتح الجيم والذال) لم ينز عليها الفحل بعد (أي لم يجامعها الفحل) بعد قلت نعم فأتيتهما بها (يعني ائتنا بجذعه ليس فيها لبن) فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الضرع ودعا فحفل الضرع وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها ثمّ شرب هو وأبو بكر ثمّ سقياني ثمّ قال: للضرع أقلص فقلص (أي رجع) كما كان فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت علمني من هذا القول الطيب (يعني القرآن) فقال: إنك غلام معلّم (بفتح اللام) فأخذت من فيه (أي من فمه) سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.



    إسلام أبي ذر الغفاري :



    وكذلك ممن أسلم في أول الأمر أبو ذر الغفاري وقصته كما يأتي: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري قال: خرجنا من قومنا غفار وهم يحلون (بضم الياء) الشهر الحرام وخرجت أنا وأخي أنيس (بضم الألف وفتح النون) وأمنا فنزلنا على خال لنا فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس (يعني أنه يخونه في أهله) فجاء خالنا فنثى علينا الذي قيل له (يعني قال لنا وذكر لنا ما قيل له) فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته (أي بتصديقك هذه الأخبار) ولا جماع لك فيما بعد فقربنا صرمتنا (بكسر الصاد) (أي ناقتنا) فاحتملنا عليها فتركنا خالنا وسرنا فتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة (أي قريباً من مكة) فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهنة فخيّر أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها (يعني أن أنيساً كان شاعراً فجاء إلى قريب من مكة ففاخر الناس بالشعر ثمّ احتكموا على ناقة مقابل ناقة ثمّ احتكموا إلى الكاهن فحكم لأنيس أنه أشعر فأخذ الصرمة الثانية أي الناقة الثانية) قال أبو ذر للراوي عنه عبدالله بن الصامت: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بثلاث سنين قلت (يعني عبدالله بن الصامت) لمن؟ قلت: لله. قلت: فأين توجهت؟ (أي إلى أي قبلة) قلت: أتوجه حيث يوجهني ربي أصلي عشاءاً حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس (يعني كأني كساء أو ثوب من ضعفي وتعبي سقطت ونمت لا حركة في)، قال أبو ذر: فقال لنا أخي أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني (أي ابق) مع أمي حتى اذهب وأرجع فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي (أي تأخر) ثمّ جاء فقلت ما صنعت قال: لقيت بمكة رجلاً على دينك يزعم أن الله أرسله قال أبو ذر: فقلت: فما يقول الناس قال: يقولون شاعر كاهن ساحر وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر (أي على أنواع الشعر وأوزانه) فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر (أي ليس بشعر) والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون قال أبو ذر: قلت لأنيس: فاكفني حتى أذهب فأنظر فأتيت مكة فتضعّفت رجلاً منهم (أي ذهبت إلى رجل أرى إنه ضعيف فيهم) فقلت: أين هذا الذي تدعونه الصابئ (يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فأشار إليّ وقال: الصابئ، الصابئ (يعني يشير عليّ بأني أنا الصابئ) فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم، (المدرة هي حجارة من الطين)، حتى خررت مغشياً عليّ من الضرب فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، (أي عندما وعيت من هذا الضرب وقفت كأني علامة حمراء من كثرة الدماء التي على جسدي) فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها ولقد لبثت يا ابن أخي (يقول لعبد الله بن الصامت) ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعام إلا ماء زمزم (ما كانوا يطعمونه لأنهم يتهمونه بأنه صابئ)، فسمنت حتى تكسرت عكن (بضم العين وفتح الكاف) بطني (يعني لحم البطن صار على بعضه)، وما وجدت على كبدي سخفة (بضم السين) جوع (أي ما شعرت بالضعف بسبب الجوع لأنه جلس شهراً كاملاً ما يشرب إلا ماء زمزم)، فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان (يعني مضيئة) إذ ضرب (بضم الضاد) على أصمختهم (أي آذانهم)، فما يطوف بالبيت أحد (يعني الناس كلهم نيام) و امرأتين تدعوان إسافاً ونائلة (أي رأيت امرأتان تدعوان إسافاً ونائلة)، (وإساف صنم وكذلك نائلة)، فأتتا عليّ وهما في طوافهما فقلت أنكحا أحدهما الآخر (يعني يستهزأ بآلهتهما) فما تناهتا عن قولهما ثمّ انطلقتا تولولان وتقولان لو كان هاهنا أحد من أنفارنا (أي لو كان أحد هنا يقوم فيدافع عنّا) فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر وهما هابطان قال: ما لكما؟ قالتا الصابئ بين الكعبة وأستارها قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما قال لكما؟ قالا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم (أي عظيمة) فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه ثمّ صلى فلما قضى صلاته صلوات الله وسلامه عليه فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام فقلت له السلام عليك يا رسول الله فقال: وعليك ورحمة الله ثمّ قال: من أنت؟ قلت من غفار قال فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته فقلت: في نفسي كره أن انتميت إلى غفار فذهبت آخذ بيده (أي أرفع يده) عن جبهته فقدعني صاحبه (أي منعني ودفعني صاحبه) وكان أعلم به مني ثمّ رفع رأسه (أي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ثمّ قال: متى كنت هاهنا؟ قلت قد كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال: فمن كان يطعمك؟ قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن (بضم العين وفتح الكاف) بطني وما أجد على كبدي سخفة (يضم السين) جوع فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنها مباركة إنها طعام طعم (بضم الطاء) فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي في إطعامه الليلة فانطلق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر وانطلقت معهما ففتح أبو بكر باباً فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف (والزبيب هو العنب) وكان ذلك أول طعام أكلته بها ثمّ غبرت (بفتح الغين والباء وتسكين الراء) (أي بقيت ما بقيت) ثمّ أتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إني قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب (أي أني أسافر إلى يثرب) أهاجر إليها صلوات الله وسلامه عليه فهل أنت مبلّغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم فأتيت أنيساً فقال لي: ما صنعت قلت صنعت أني قد أسلمت وصدقت قال: ما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتيت أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت فاحتملنا (أي ارتحلنا) حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وكان يؤمهم إماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم وقال: نصفهم إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة أسلمنا فقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي (أي أسلمت غفار) كلّها يقول وجاءت أسلم (أي قبيلة أسلم) فقالوا: يا رسول الله إخوتنا نسلم على الذي أسلموا عليه فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله.
    [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]

    تعليق

    • علي الدوسي
      عضو مميز
      • Jun 2002
      • 1078

      #3
      وا ثكل(بضم الثاء) أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته وإن كان قبيحاً تركته فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى بيته فدخلت عليه وقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا فوالله ما برحوا بي يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثمّ أبى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعت قولاً حسناً فاعرض عليّ أمرك فعرض عليّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه قال فقال اللهم اجعل له آية قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر (أي مكان مرتفع) وقع بين عيني نور مثل المصباح فقلت اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظن (بضم الياء) بها مثلة (بضم الميم وتسكين الثاء) (يعني أخاف أن يقولوا دعوة الآلهة عليك) فتحول فوقع في رأس سوطي (أي النور) فجعل الحاضرون يتراءون ذلك النور من رأس سوطي كالقنديل يضيء، وأنا أتهبط عليهم من الثنية (أي أنـزل عليهم من مكان مرتفع) حتى جئتهم فأصبحت فيهم فلما نـزلت أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً فقلت إليك عني يا أبة فلست منك ولست مني قال: لم يا بني؟ قلت أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أي بني فدينك ديني قلت فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثمّ ائتني حتى أعلمك مما علّمت (بضم العين) فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثمّ جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم أتتني صاحبتي (أي زوجته) فقلت إليك عني فلست منك ولست مني قالت: ولم بأبي أنت وأمي؟ قلت فرّق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قالت: فديني دينك فقلت فاذهبي إلى حمى ذي الشرا ، وتطهري منه، (ذو الشرا

      هذا صنم لدوس وكان الحمى الذي حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل، أي نقاط من ماء تهبط من جبل) قالت: بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرا شيئاً؟ قلت: لا، أنا ضامن لذلك قال فذهبت فاغتسلت ثمّ جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت. ثمّ دعوت دوساً (أي قبيلته) إلى الإسلام فأبطأوا عليه (أي تأخروا في القبول وذلك أنه ليس كل الناس سواء فأبو ذر أسلم قومه وتابعوه والطفيل بن عمرو لم يسلم قومه مباشرة ولكن تمنعوا عليه) قال: ثمّ جئت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة فقلت يا رسول الله أبطأوا عليّ فادع عليهم فقال صلوات الله وسلامه عليه اللهم اهد دوساً ارجع إلى قومك وادعهم وارفق بهم قال فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ثمّ قدمت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بخبير فأسهم لنا مع المسلمين صلوات الله وسلامه عليه.

      الجهر بالدعوة:

      لما نـزل قول الله تبارك وتعالى "يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر" جهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك أن الله تبارك وتعالى انتزعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة فقال " يا أيها المدثر قم فأنذر " كأنه قيل له إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً وأما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم وما لك والراحة وما لك والفراش الدافئ قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء الثقيل المهيأ لك قم للجهد (بفتح الجيم) والنصب (بفتح النون والصاد) والكد والتعب قد مضى وقت النوم والراحة وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاق قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . هكذا أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقوم ويجهر بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى. وقد روى لنا أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه بداية دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجهره بها صلوات الله وسلامه عليه قال أبو هريرة لما أنـزلت هذه الآية "وأنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قريشاً فاجتمعوا فعمّ وخصّ فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلّها ببلاها، رواه الإمام مسلم في صحيحه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لمّا نـزلت هذه الآية "وأنذر عشيرتك الأقربين"خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى صعد الصفا (جبل الصفا) فهتف يا صباحاه (وهذه جملة كان يستعملها الناس في ذلك الوقت للمناداة ينادون الناس اجتمعوا الأمر مهم) فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاجتمعوا إليه فقال يا بني فلان يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي وفي رواية لو حدثتكم أن خلف هذا الوادي جيش مصبّحكم (أي سيدخل عليكم صباحاً) أكنتم مصدقي؟ (والله لو قالوا له نصدقك لكفى ولكن أبى الله تبارك وتعالى إلا أن يشهدوا بالحق وإلا أن يقولوا الكلمة التي تكون شاهدة عليهم وعلى تكبرهم وعنادهم وإعراضهم عن الحق الذي عرفوه، ماذا قالوا؟) قالوا ما جرّبنا عليك كذباً قط، (هكذا يشهد أهل مكة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المشهور بعد ثلاث وأربعين سنة بأنهم ما جرّبوا عليه الكذب أبداً ولذلك سيأتينا من قصة أبي سفيان لمّا يسأله هرقل وذلك في بداية السنة السابعة من الهجرة بعد صلح الحديبية هل كان يكذب قبل أن يقول ما قال فقال لا وهكذا هي صفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يكذب أبداً صلوات الله وسلامه عليه) قالوا ما جربنا عليك كذباً قط فقال إنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقام عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبو لهب فقال تباً لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثمّ قام فأنـزل الله تبارك وتعالى آيات يدافع فيها عن نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال سبحانه وتعالى "تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد". ثمّ كانت بعد ذلك الدعوة الجهرية قال ابن إسحاق ثمّ أمر الله تبارك وتعالى رسوله بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر (بضم الألف) وأن يصبر على أذى المشركين وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب استخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون في شعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم (أي أنكروا عليهم وعابوا عليهم ما يصنعون) حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحى جمل (أي عظم جمل) فشجّه فكان أول دم أهريق في الإسلام. وبدأ الناس يدخلون في دين الله تبارك وتعالى وكان قد أسلم أبو بكر وعلي وزيد وبلال وخديجة ثمّ أسلم عمّار بن ياسر وأسلم كذلك عثمان والزبير وابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله ثمّ أسلم أبو عبيدة وأبو سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم وعثمان بن مظعون وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت و عبد الله بن مسعود وفاطمة بنت الخطاب وكل هؤلاء كان إسلامهم سراً (أي كانوا يسرون بإسلامهم خوفاً من أهل مكة). فبعد أن أنـزل الله قوله جلّ وعلا " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" قام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينكر خرافات الشرك وترّهاته ويذكر حقائق الأصنام وحقائق عبدتها وأنها لا تستحق العبادة ولا تستحق أن يسجد لها وأن تعبد من دون الله تبارك وتعالى وبدأ يسفّه الأحلام ويبين الضلال صلوات الله وسلامه عليه. عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال كنت رجلاً قيناً (أي عبداً) وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثمّ تبعث قال فإني إذا مت ثمّ بعثت (بضم الباء) جئتني ولي ثمّ (بفتح الثاء) مال وولد فأعطيك فأنـزل الله تبارك وتعالى " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا … إلى قوله تعالى ويأتينا فردا " أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وعن خباب قال أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة أي مستند على برده (وهي العباءة) وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدّة فقلت ألا تدعو الله فقعد وهو محمر الوجه فقال قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد. ولما بدأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى مشى رجال من أشراف مكة إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وسفّه أحلامنا وعاب ديننا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه ومضى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يكلمه وينصحه واستمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما هو عليه صلوات الله وسلامه عليه. ولما قرب موسم الحج والحجاج سيأتون إلى بيت الله تبارك وتعالى ولا شك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيجدها فرصة سانحة للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، اجتمع كفار مكة وكبراؤها إلى الوليد بن المغيرة وقالوا ما نقول إذا جاء الناس فقال لهم الوليد اجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ويرد قولكم بعضه بعضاً (يعني لا ينبغي أن يقول أحدكم ساحر والآخر يقول كاهن والثالث يقول مجنون والرابع يقول كذاب وهكذا يكذبكم الناس جميعاً أجمعوا قولاً واحداً فيصدقكم الناس على ما تقولون) فقالوا له بل أنت قل ونسمع قال لا قولوا أنتم وأنا أسمع قالوا نقول كاهن قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه قالوا نقول مجنون قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم قالوا فما نقول فقال لهم والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناة وما أنتم بقائلين شيئاً إلا عرف (بضم العين) أنه باطل وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، سبحان الله هو يقول لهم ما هو بساحر وهم يعرفون انه ليس بساحر ولكنه الكبر (بكسر الكاف) والعياذ بالله قال قولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك ولكن هل بقي الأمر هكذا؟ لا لقد دافع الله تبارك وتعالى عن نبيه فقال عن الوليد بن المغيرة ومن معه ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا … إلى قوله فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر". واتبعت قريش أساليب عدة في محاربة دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فمن هذه الأساليب التي استخدموها مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :

      أولاً: السخرية والاحتقار: رمي (بضم الراء) النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته بتهم وشتائم وتألفت جماعات للاستهزاء بالإسلام ورجاله فرسولهم ينادى بالجنون قال تعالى" وقالوا يا أيها الذي نـزل عليه الذكر إنك لمجنون" ووصم بالسحر والكذب قال تعالى " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب " وكذلك صاروا ينظرون إليه نظراً يريدون بهذا النظر أن يزلقوه بأبصارهم أي يوقعوه في مهلكة من حسدهم قال الله تعالى "وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون" وسخروا أيضاً من أصحابه قال الله تعالى " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضآلون وما أرسلوا عليهم حافظين". وقالوا عن القرآن الكريم أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا وقالوا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون وأرادوا لجهلهم أن يعارضوا القرآن الكريم بأساطير الأولين وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حدّث الناس ودعاهم إلى الله تبارك وتعالى وقرأ عليهم القرآن ثمّ قام جاء النضر بن الحارث فجلس مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ يقول والله ما محمد بأحسن حديثاً منّي ثمّ يحدثهم عن ملوك فارس ثمّ يقول بماذا محمد أحسن حديثاً منّي وحاولوا المساومة كما قال الله تبارك وتعالى " فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون".

      ثانياً: الإيذاء: وهو نوعان:

      النوع الأول: الإيذاء النفسي: فأول هذا الإيذاء ما وقع من أبي لهب قبّحه الله وذلك أنه قد زوّج ولديه عتبة وعتيبة من بنتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة فلما بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعا إلى الله تبارك وتعالى وجهر بالدعوة أمر أبو لهب ولديه أن يطلقا بنتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فطلقاهما. وكانت امرأة أبي لهب أم جميل (أروى بنت حرب) لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى بابه ليلاً وكانت امرأة سليطة اللسان ولما سمعت ما نـزل فيها وفي زوجها من القرآن (أي قول الله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب …إلى آخر السورة) أتت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر وفي يدها حجارة فوقفت عليهما فأخذ الله بصرها فلم تر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم تر إلا أبا بكر فقالت يا أبا بكر أين صاحبك ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جالس جنبها مع أبي بكر فقالت قد بلغني أنه يهجوني والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه (أي الحجر) أما والله إني لشاعرة ثمّ قالت:

      مذمماً عصينا ،،،، ودينه قلينا
      ثمّ انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك فقال ما رأتني فقد أخذ الله ببصرها عني. وازداد الأمر وذلك أن عقبة بن أبى معيط كما حدّث عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

      النوع الثاني: الإيذاء الجسدي: عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يأتي بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، (سلا الجزور هو بيت الولد أي المكان الذي يكون فيه الولد وهي المشيمة بالنسبة للإنسان ويقصدون بذلك سلا ناقة ميتة) فانبعث أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط فجاء به فنظر (أي انتظر) حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه يقول عبدالله وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كانت لي منعة (لأنه ليس من قريش) قال فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض (أي يتمايلون على بعضهم) ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة (أي بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) فطرحته عن ظهره فرفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ قال اللهم عليك بقريش ثلاث مرات يدعو عليهم فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، كيف وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صادق وأنه نبي حقاً صلوات الله وسلامه عليه كما قال الله تبارك وتعالى "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" قال اللهم عليك بأبي جهل اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعد السابع يقول عبد الله ولم أحفظه والذي نفسي بيده لقد رأيت الذي عدّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صرعى في القليب قليب بدر (أي في معركة بدر كلهم قد صرعوا)، أخرجه مسلم. وكذلك أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ (يعني يسجد بين أظهركم وأنتم سكوت) قالوا نعم قال واللات والعزى لإن رأيته لأطأنّ على رقبته ولأعفرنّ وجهه (أي لأجعلنّ وجهه في التراب) فأتى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقيه بيديه. (أي أدار ظهره وصار يجري ويرفع يديه ليتقي ليدفع عن نفسه) فقال له الناس ما لك يا أبا الحكم؟ ما الذي حدث؟ (أبو جهل كان يكنى بأبي الحكم لما يرونه من رجاحة عقله) قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهؤلاء أجنحة. يقول أبو هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضوا. وروى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير قال سألت عبدالله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال عبدالله بينما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه (أي بمنكبي عقبة) ودفعه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.

      هذا ما وقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأما ما وقع لأصحابه:

      عثمان بن عفان: كان عمّه يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته،

      مصعب بن عمير: لما علمت أمه بإسلامه طردته من بيتها وأجاعته وكان من أنعم الناس عيشاً في قري،

      بلال بن رباح: فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة (أي في أرض مكة ثمّ يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثمّ يقول لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعبد اللات والعزى فيقول بلال أحد، أحد. هذا عذاب أمية لبلال وأمّا أمية فكان ينال عذاباً أكثر من هذا العذاب وهو بقول بلال أحد، أحد فكانت أشد على أمية من عذاب بلال رضي الله عنه وأرضاه فمر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه رضي الله عنه وأرضاه وقيل أن أبا بكر لما جاء ليشتريه قال بكم تبيعونه؟ قالوا قل أنت، قال: تبيعونه بخمسمائة، قال أمية: بعتك فاشتراه أبو بكر فقال أمية لو دفعت أقل من هذا لأعطيناكاه يعني بعناك بلال بأقل من هذا السعر فقال أبو بكر يظهر قيمة بلال عند الله تبارك وتعالى لو طلبت أكثر من هذا لدفعت،

      عمار بن ياسر وأمه وأبيه: كذلك وقع العذاب عليهم، فكانوا يخرجونهم إلى البطحاء ويعذبونهم فكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمر بهم ويقول صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة فمات ياسر وماتت سمية أم عمار في العذاب وهي كما يقال أول شهيدة في الإسلام . وبلغ الاضطهاد أشدّه حتى إن خباب بن الأرت يقول أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة (أي مستند على عباءة) وقد لقينا من المشركين أشده فقلت ألا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه وقال قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعظم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه يشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون، رواه الإمام البخاري في صحيحه. ومع هذه الاضطهادات كلها كان الله تبارك وتعالى مع أوليائه سبحانه وتعالى كما قال " إن الله يدافع عن الذين آمنوا".

      عودة إلى الدعوة السرية:

      ولما اشتدت الدعوة وزاد الإيذاء رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الدعوة السرية صلوات الله وسلامه عليه وذلك في دار الأرقم بن أبي الأرقم. وكانت دار الأرقم على الصفا وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم فاختارها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتكون مكاناً لاجتماعه باتباعه صلوات الله وسلامه عليه وقد كانت هذه الاضطهادات في بداية السنة الرابعة من دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

      الهجرة إلى الحبشة:

      وكان من حرص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أصحابه أنه لما رأى كثرة الاضطهاد أمرهم بالهجرة إلى الحبشة وكان ملك الحبشة حينئذ رجلاً يقال له أصحمة وقد ذكر بالعدل فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لبعض المسلمين اذهبوا إلى أصحمة فإنه ملك عادل لا يظلم (بضم الياء وتسكين الظاء) عنده أحد. وكانت الهجرة الأولى وذلك سنة خمس من النبوة فهاجر اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة إلى الحبشة وكان رئيسهم عثمان بن عفان رضي الله تبارك وتعالى عنه ومعه بنت النبي رقية رضي الله تبارك وتعالى عنها. ووقعت حادثة غريبة في تلك السنة في رمضان وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج إلى الحرم وهناك جمع كبير من قريش في نواديهم كما هي عادتهم فقام فيهم وأخذ يتلو سورة النجم "والنجم إذا هوى …هذه السورة بما احتوته من معان وألفاظ عجيبة لم يسمعوا مثلها أبداً فلما وصل صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى هذه الآية "فاسجدوا لله واعبدوا" سجد صلوات الله وسلامه عليه فلم يتمالك أحد منهم حتى خرّ ساجداً فسجدت كل مكة وذلك أن روعة هذه الآيات أخذت بألبابهم وجعلتهم يسجدون مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولما بلغ هذا الخبر وهو سجود أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظن بعض الناس أنهم آمنوا وأنهم تابعوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووصل هذا الخبر إلى أهل الحبشة ظنوا أن قريشاً كلها دخلت في الإسلام فرجعوا إلى مكة مرة ثانية في السنة نفسها في شوال فلما وصلوا إلى مكة تبين لهم أن الأمر ليس كذلك وأن ذلك السجود إنما وقع منهم اعترافاً وإقراراً من داخل نفوسهم بصحة نسبة هذا القرآن إلى الله تبارك وتعالى.

      قصة الغرانيق:

      جاء في بعض الروايات قصة يقال لها قصة الغرانيق وهذه القصة مجملها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قرأ سورة النجم بلغ قول الله تبارك وتعالى" أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنـزل الله بها من سلطان " تذكر بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قرأ "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" سمعت قريش قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك يقول تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فتكون هكذا أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى سجد أهل مكة الكفار منهم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه مدح أصنامهم وأثنى عليها. وهذه القصة باطلة ليس لها سند صحيح وإن ذكرها بعض أهل العلم والدليل على بطلانها:

      أولاً: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يمكن أبداً أن يقول مثل هذا الكلام وذلك أن هذا الكلام كفر كيف يثني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على اللات والعزى.

      ثانياً: هذه الرواية تخالف رواية صحيحة في البخاري والتي ذكرناها قبل قليل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما قرأ سورة النجم كاملة فسجدت قريش لهذه السورة لا لأجل ما ذكر أنهم سمعوه وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.

      ثالثاً: ذكر بعض الرواة أن الشيطان ألقاها أي هذه الكلمات على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يشعر وهذا باطل إذ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يمكن أبداً أن يخلط بين قول الله وقول الشيطان،

      رابعاً: سند هذه القصة ضعيف، فلا شك إن هذه الدلائل كلها تدل على بطلان هذه القصة. وعلى فرض صحتها وأنها وقعت كذلك فإنما يكون الشيطان هو الذي قال هذا لكفار مكة ولم يسمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما قرأ أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فقام الشيطان وقال تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، فظن أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي مدح آلهتهم وليس الأمر كذلك. وذلك أن الشيطان قلد صوت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

      الهجرة الثانية إلى الحبشة:

      لما رجع المهاجرون من الحبشة إلى مكة ورأوا حقيقة الأمر وجليته وهو أن كفار مكة ما دخلوا في الإسلام وأن تلك كانت إشاعة فهاجروا مرة ثانية إلى الحبشة ولم يهاجر الجميع وإنما بعضهم بقي كعثمان رضي الله عنه وبعضهم هاجر مرة ثانية وتبعهم آخرون فكانت الهجرة الثانية وكان فيها ثلاث وثمانون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وثماني عشرة أو تسع عشرة. عند ذلك ذهب سادات قريش إلى أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا له يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنـزلة فينا وإنّا قد استنهيناك من ابن أخيك ولم تنهه، (أي طلبنا منك أن تنهاه فلم تنهه) وإنّا والله لا نصبر على هذا يأتي ويقرأ القرآن بين أظهرنا هذا ما لا نتحمله أبداً ومن شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين وهذا تهديد قوي من قريش إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما رأى أبو طالب هذا الأمر قد اشتد بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني وقالوا لي كذا وكذا وذكر له ما قالوا فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق فظن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن عمه سيخذله وأنه ضعف عن نصرته فقال صلوات الله وسلامه عليه يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته ثمّ استعبر صلوات الله وسلامه عليه وبكى وقام وترك أبا طالب عمه واجماً من هذا الكلام الذي قاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهذه الرواية وإن كانت لا تصح سنداً وهي قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته لكن كما ذكر أهل العلم أن السيرة يتسامح بها ولا بأس بذكرها لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثبت أنه لم يتنازل ولكن هل قال هذه الكلمة بذاتها أو قال غيرها العلم عند الله تبارك وتعالى. فلما مشى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وترك أبا طالب واجماً انتبه أبو طالب ثمّ نادى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرجع إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له أبو طالب اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت والله لا أسلمك لشيء أبدا وذكر أبياتاً طيبة يبين فيها صدقه مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ناصره وإنه لن يسلمه إلى كفار مكة أبداً قال:

      والله لن يصلوا إليك بجمعهم ،،،،،،،،،، حتى أٌوَسّد في التراب دفينا

      فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ،،،، وابشر وقَرّ بذاك منك عيونا

      ودعوتني وزعمت إنك ناصحي ،،،،، فلقد صدقت وكنت قبل أمينا

      وعرضت ديناً قد عرفتُ بأنه ،،،،،،،،،،، من خير أديان البرية دينا

      لولا الملامة أو حذاري سبة ،،،،،،،،، لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
      قال هذه الأبيات فانصرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرحاً بما سمع من أبيات ومن كلام أثلج صدره من عمه أبي طالب فلما رأت قريش أن أبا طالب قد أبى أن يخذل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه مجمع على فراقهم ذهبوا إلى عمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له يا عمارة نعطيك أبا طالب فتكون ولداً له ونأخذ محمدا بدلك ثم نقتله وجاؤا أبا طالب وقالوا يا أبا طالب إن هذا الفتى (أي عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه لك عقله ونصره، (والعقل يعني ما تتحمله العاقلة في القتل وما شابه ذلك وهم الأقارب)، واتخذه ولداً فهو لك وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل فقال أبو طالب والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم اغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدا. والملاحظ من موقف أبي طالب من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن كفار مكة يستغرب كيف أن أبا طالب لم يسلم ولم يتابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولو وقفنا مع قول أبي طالب لولا الملامة أو حذاري (بضم الحاء) سبة (بضم السين) لوجدتني سمحاً بذاك مبينا هذا الذي منع أبا طالب من اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حق ولذلك قال الله تبارك وتعالى "قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون" فهم يعلمون الحق ويعلمون أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حق وإنه رسول من عند الله وأن الذي يتلوه ليس شعراً ولا سحراً ولا كهانة ولكنه الكبر والعياذ بالله تعالى.

      إسلام حمزة :

      ثمّ جاء بعد ذلك النصر من الله تبارك وتعالى بإسلام رجلين أما الأول فهو حمزة عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخوه من الرضاعة (أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب) وسبب إسلامه أن أبا جهل عدو الله مرّ برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو عند الصفا فآذاه وسبه ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساكت لا يكلمه ثمّ قام أبو جهل فحمل حجراً فضرب به رأس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فشجه حتى نـزف منه الدم ثمّ انصرف عنه إلى نادي قريش يعني مكان جلوسهم فجلس معهم وكانت مولاة (أي أمة) لعبد الله بن جدعان رأت ذلك فلما أقبل حمزة من القنص (أي صيد الطيور) متوشحاً قوسه جاءته هذه الأمة فأخبرته بما رأت وماذا فعل أبو جهل بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فغضب حمزة رضي الله عنه وأرضاه وكان رجلاً شديداً وكان في عنفوان شبابه وكان من أشجع قريش في ذلك الوقت رضي الله عنه وأرضاه ومحمد ابن أخيه فخرج يسعى ثمّ جاء لأبي جهل فلما دخل قام على رأسه وقال له تشتم ابن أخي وأنا على دينه ثمّ قام وسبه ثمّ ضربه بالقوس وشجّ وجهه شجة منكرة فثار رجال من بني مخزوم (يعني من قوم أبي جهل) وثار رجال من بني هاشم لحمزة حتى كادت أن تكون معركة بين الحيين فقال أبو جهل دعوا أبو عمارة فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحا. قال حمزة رضي الله عنه: فلما خرجت فكرت في الأمر فقلت كيف قلت أنا على دينه وأنا لم أسلم بعد فما هو إلا أن شرح الله تبارك وتعالى صدري للإسلام وذلك أنه ذهب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا ابن أخي إني قلت كذا وكذا فماذا أصنع فدعا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يشرح الله تبارك وتعالى صدره للإسلام فشرح الله جل وعلا صدره للإسلام وأسلم وكان إسلامه نصراً للمؤمنين.

      إسلام عمر:

      وأما إسلام عمر وهو النصر الثاني فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد ثبت عنه أنه قال اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام . وقصة إسلامه فيها أكثر من رواية ولكن أقرب الروايات إلى الصحة هي أن عمر رضي الله عنه قال: خرجت يوماً إلى البيت (البيت الحرام) فدخلت في ستر الكعبة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة الحاقة فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ وأنا استمع وأعجب من تأليفه (أي من تأليف هذا القرآن) فقلت في نفسي هذا والله شاعر كما قالت قريش فكانت قراءة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد وصلت إلى هذا الموضع "إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون" فقلت في نفسي كاهن فقرأ "ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنـزيل من رب العالمين" فوقع الإسلام في قلبي. ولما أسلم عمر جاء إلى رجل يقال له جميل بن معمر وهذا الرجل نقالة للحديث لا يستطيع أن يسكت أبداً فقال له أريد أن أخبرك شيئاً قال وما هو؟ فقال له: أسلمت فقام هذا الرجل (جميل بن معمر) فنادى بأعلى صوته إن ابن الخطاب قد صبأ إن ابن الخطاب قد صبأ ويسير فيها إن ابن الخطاب قد صبأ وعمر بن الخطاب يجري خلفه ويقول كذب ولكني أسلمت فقاموا إلى عمر رضي الله عنه فصاروا يقاتلونه (أي يضربونه وهو يضربهم ويضربونه هكذا حتى ارتفعت الشمس وذكرت بعض الروايات أنهم ضربوه حتى سقط مغشياً عليه من شدة ضربهم. عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر وقال كذلك مازلنا أعزة منذ أسلم عمر.

      عتبة بن ربيعة يحاول مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

      كان عتبة بن ربيعة في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد وحده فقال عتبة يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد وأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنّا؟ وذلك بعد إسلام حمزة وعمر ورأت قريش أن أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزيدون فقالوا له بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه فقام إليه عتبة فجلس إليه فقال يا ابن أخي إنك منّا حيث قد علمت (يعني المنـزلة والمكانة) وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفّرت من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً فانظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يا أبا الوليد قل أسمع قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا (أي جعلناك سيداً) فينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً (بكسر الراء) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك (أي مرضاً) طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل (يعني الجني فيكون فيك صرع وجنون) حتى يداوى منه فصار يتكلم أبو الوليد والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع أنت مني، قال: أفعل، فقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنـزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنّة مما تدعوننا إليه" فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ وعتبة يسمع فلما وصل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى موضع السجدة في سورة فصلت سجد صلوات الله وسلامه عليه ثمّ رفع رأسه فقال قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. هذا الذي عندي ما تكلم صلوات الله وسلامه عليه من كلام البشر أبداً وإنما قرأ عليه كلام رب البشر سبحانه وتعالى وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما بلغ "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فقام عتبة ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال أنشدك الله والرحم يعني لا تفعل لا تدع الله علينا أن يأتينا بصاعقة. فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض وهم يرونه قادماً نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها فيّ وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم (أي تقتله العرب فليس لكم ذنب) وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه قال هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم .

      المقاطعة:

      بعد أن خرج عتبة بن ربيعة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال ما قال رأت قريش أنه لا بد من حل لهذه المشكلة التي وقعت لهم فرأوا أن تكون المقاطعة التامة لبني هاشم وذلك انهم اجتمعوا فتحالفوا على بني هاشم وعلى بني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا (بضم الياء وسكون السين) إليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقتلوه وتمّ هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة فانحاز بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقي أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعض بني المطلب أمّا باقي أهل مكة فكلهم بقوا على تلك المعاهدة الظالمة الجائرة فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الشعب (بكسر الشين) يقال له شعب أبي طالب فخرج إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجميع من أسلم معه وجميع بني هاشم عدا أبى لهب وجميع بني المطلب عدا ثلاثة أو أربعة فقط واستمرت هذه المقاطعة ثلاثة أعوام اشتد الحصار على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن معه حتى بلغهم الجهد (بفتح الجيم) والتجئوا إلى أكل الأوراق والجلود والغريب في هذه المقاطعة أن كفار بني هاشم وكفار بني المطلب خرجوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا يبين لنا أن الحمية العربية كانت قوية ومؤثرة ولو قال قائل خرج بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهم من أبناء عمومته فما بال بنو المطلب ولم لم يخرج بنو عبد شمس وبنو نوفل لأن عبد شمس ونوفلاً وهاشماً والمطلب كل هؤلاء أخوة فلماذا خرج بنو المطلب وبنو هاشم دون بني نوفل وبني عبد شمس ؟ إن الأمر الذي يبين هذا هو أن بني المطلب وبني هاشم علاقتهما مع بعضهما أقوى من علاقة بني هاشم مع بني عبد شمس أو بني نوفل وكذلك من علاقة بني المطلب مع عبد شمس أو نوفل وهذا من قديم ولذلك جاءت رواية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه و جبير بن مطعم (بضم الميم) قال جبير بن مطعم لما كان يوم خيبر وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس فأتيت أنا وعثمان بن عفان لأن جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان من بني عبد شمس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم بالموضع الذي وضعك الله به منهم فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنّا (أي بنو هاشم وبنو المطلب) لم نفترق في جاهلية ولا إسلام إنما نحن وهم شيء واحد و شبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه. ولذلك كانت العرب في السابق في الجاهلية قبل الإسلام بل وقبل مولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا يقولون عن هاشم والمطلب البدران ويقولون عن عبد شمس ونوفل الأبهران فعلاقة بني المطلب مع بني هاشم أقوى من علاقة غيرهم بهم. وكان أبو طالب خلال هذه السنوات الثلاث يخاف على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الاغتيال فكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن ينام تركه أبو طالب فترة ثمّ أيقظه وغير مكانه لينام غيره مكانه.

      قصة نقض الصحيفة:

      وبعد ثلاث سنوات نقضت (بضم النون) هذه الصحيفة وجميلة جداً قصة نقض الصحيفة والذي أشعل فتيل نقضها رجل يقال له هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي وكان هذا الرجل يصل بني هاشم في الشعب (يوصل إليهم بعض الأطعمة) فذهب إلى زهير بن أبي أمية وزهير هذا أمه عاتكة بنت عبد المطلب يعني أن بني هاشم أخواله وعاتكة عمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك فما اصنع وأنا رجل واحد قال أما والله لو كان معي رجل آخر. قال: قد وجدت لك رجلاً آخر، قال: فمن؟ قال: أنا قال له زهير أبغنا رجلاً ثالثاً (أي حتى يتقويا) فذهب هشام بن عمرو إلى المطعم بن عدي والمطعم هذا من بني المطلب فجاءه وذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع إنما أنا رجل واحد؟ قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثاً، قال: فعلت، قال: من؟ قال: زهير بن أبي أمية قال: أبغنا رابعاً، فذهب هشام بن عمرو إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحواً مما قاله للمطعم فقال: فهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك قال أبغنا خامساً، وهذا يبين لنا أن الكثيرين ما كانوا يرضون بهذا ولكنها سلطة الكبار اتخذ القرار أبو جهل وعتبة وأبو سفيان وأبو لهب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وغيرهم اتخذوا هذا القرار وكان على الجميع السمع والطاعة، فذهب هشام بن عمرو إلى زمعة بن الأسود بن المطلب وهذا زمعة يقال أنه والد سودة بنت زمعة أم المؤمنين ويقال إنه أخوها والظاهر أنه أبوها لأنها هي سودة بنت زمعة بن الأسود وهو زمعة بن الأسود فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، قال: من؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي و أبو البختري بن هشام وأنا، فقال زمعة بن الأسود: وأنا معكم فاجتمعوا وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة ولكن كيف؟ وكبار قريش هم الذين كتبوها وهم الذين اتفقوا عليها، كيف يستطيع هؤلاء الخمسة أن ينقضوا تلك الصحيفة؟ قال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم فوافقوا على ذلك فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم (أي إلى أماكن اجتماعاتهم) حول الكعبة وغدا زهير فطاف بالبيت سبعاً ثمّ أقبل على الناس وقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاعون منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقام أبو جهل وقال: كذبت والله لا تشق. هنا قام زمعة بن الأسود فقال لأبي جهل: أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت فقام أبو البختري فقال: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به فقام المطعم بن عدي فقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها فقام هشام بن عمرو فقال: صدقتم وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها، عندما تكلم هؤلاء الخمسة بهذه الصورة أمام الناس جميعاً وكما قلت كثير من الناس لا يرضون بهذا ولكن الكبار هم الذين قرروا وسطروا واجتمعوا على تلك الصحيفة فقام أبو جهل فقال هذا أمر قضي بليل تشوور (بضم التاء والشين) فيه بغير هذا المكان يعني أن أبا جهل فهم القضية وعرف أن هؤلاء الخمسة ما قاموا حمية بمجرد أن قام زهير وإنما قضية متفق عليها وكان أبو طالب موجوداً في ذلك الوقت فقام وقال: إن الله قد أخبر رسوله على أمر الصحيفة وقد أخبرني ابن أخي أن الله أرسل عليها الأرضة (وهي الدود التي تأكل الورق وغيره) فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ما فيه حق (يعني كل شيء باطل في هذه الصحيفة أكل (بضم الألف)) وما بقي في هذه الصحيفة إلا الحق فإن كان ابن أخي صادقاً فتنهوا هذه المقاطعة وإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه (أي افعلوا ما شيء تم به قالوا أنصفت فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فوجدها قد أكلت (بضم الألف) ما بقي فيها إلا قولهم باسمك اللهم وما كان فيه اسم الله تبارك وتعالى فإنها لم تأكله وما كان غير ذلك قد أكل كله فرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورجع من معه إلى مكة مرة ثانية. ورجع مرة أخرى إلى الدعوة إلى الله تبارك وتعالى فقام أهل مكة إلى أبي طالب مرة ثانية وقالوا له ليكف عنا ابن أخيك لسانه الصحيفة ونقضناها ورجعتم كما كنتم ليترك الدعوة إذاً فجاء أبو طالب وجاء معه بعض نفر من قريش فكلموا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقالوا له: ماذا تريد منا؟ قال: أريد كلمة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم، قالوا: كلمة، قال: كلمة فقام أبو جهل وقال: وأبيك أعطيك مائة كلمة (إذا كانت القضية مجرد كلمة أعطيك مائة كلمة) فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: قولوا لا إله إلا الله فقال أبو جهل: أما هذه فلا. هذه الكلمة لا نعطيكها أبداً، أتريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً يا محمد؟ فأنـزل الله تبارك وتعالى " بسم الله الرحمن الرحيم، ص، والقرآن ذي الذكر، بل الذين كفروا في عزة وشقاق، كم أهلكنا من قبلهم من قرن ونادوا ولات حين مناص، وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب، وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق". نرى أن كفار مكة امتنعوا عن قول لا إله إلا الله فلم لم يقولوا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا إله إلا الله ثمّ بعد ذلك يبقون على دينهم الذي هم عليه؟ لماذا؟ لأن أبا جهل وعتبة و عقبة بن أبي معيط والوليد بن مغيرة وأبا لهب وغيرهم كثير كل هؤلاء يعلمون علم اليقين معنى لا إله إلا الله وملايين المسلمين الآن في زماننا هذا لا يعرفون معنى هذا الكلمة أبو جهل يعلم أنه إذا قال لا إله إلا الله إنه سيلتزم بهذه الكلمة وأنه سيترك جميع الأصنام وإنه لن يدعو إلا الله ولن يذبح إلا لله ولن ينذر إلا لله ولن يخاف إلا من الله يعني الخوف الشرعي ولن يستغيث إلا بالله ولن يصلي إلا لله ولن يطوف إلا لله ويطيع رسول الله يعلم ما يترتب على هذه الكلمة ولكن الكثير من المسلمين الآن يقولون لا إله إلا الله ولكنهم يذبحون لغير الله وينذرون لغير الله ويخافون من غير الله ويستغيثون بغير الله ويسألون غير الله تبارك وتعالى وهذا كله بسبب الجهل .

      وفاة أبو طالب:

      بعد هذا الكلام سكتت قريش عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فترة من الزمن ثمّ كانت وفاة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك سنة عشر من النبوة (أي بعد خروجهم من الشعب بستة أشهر). عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن أبيه المسيب رضي الله عنه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعنده أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية (أخو أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية) فقال نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمه أبي طالب أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب فعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه وهم يعيدان والنبي يعيد وهم يعيدان فلم يزالا به حتى قال آخر كلمة هو على ملة عبد المطلب ثمّ مات بعد ذلك فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لاستغفرن لك ما لم أنه (بسكون النون والهاء) عنك فنـزل قول الله تبارك وتعالى " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم" ونـزل كذلك قول الله تبارك وتعالى "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" سبحانه وتعالى.

      وفي هذه القصة من الفوائد الشيء الكثير منها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان حريصاً على إسلام أبي طالب، ووالله لو قال أبو طالب تلك الكلمة لنفعته وذلك انه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البخاري وغيره أنه دخل على غلام يهودي وهو على فراش الموت فقال له قل لا إله إلا الله فالتفت الغلام إلى أبيه فقال له أبوه أطع أبا القاسم فقال الغلام أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثمّ مات فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول الحمد لله الذي نجاه من النار فوالله لو قالها أبو طالب لنجاه الله من النار ووالله لتمنينا جميعاً أن يكون أبو طالب قالها والله ما حزنا أبداً ولن نحزن أبداً لو آمن أبو طالب بل نتمنى ذلك، ونتمنى أن يؤمن جميع الناس ولكننا مع النصوص وهو أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يسلم ولم يتابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. مع أنه ناصره و دافع عنه وحماه وخرج معه إلى الشعب بل ورباه في صغره ومع هذا كله يموت على الشرك. قال ابن كثير رحمه الله تعالى كان أبو طالب يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال ونفس ومال ولكن مع هذا لم يقدر الله تبارك وتعالى له الإيمان لما له تعالى من الحكمة العظيمة والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طلب وترحمنا عليه.

      والغريب في هذه القضية أن عبدالله بن أبي أمية الذي شارك أبا جهل في منع أبي طالب من الاستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسلم عام الفتح وذكروا أنه استشهد في حنين وقد ثبت أن العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أغنيت عن عمك (أي أبا طالب) فإنه كان يحوطك ويغضب لك فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل في النار نسأل الله تبارك وتعالى الهداية والعافية.

      وفاة خديجة رضي الله عنها:

      بعد أن حزن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على موت عمه أبي طالب جاءته الصدمة الثانية بخبر موت خديجة أم المؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها فتوفيت بعد عمه أبي طالب بأشهر وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال أتى جبريل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت (يعني قبل موتها) معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

      الدعوة إلى الطائف:

      بعد وفاة أبي طالب وفاة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى الطائف يدعو إلى الله تبارك وتعالى وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جلس تلك السنوات العشر في مكة يدعو إلى الله تبارك وتعالى ثمّ رأى صلوات الله وسلامه عليه أن يخرج من مكة ويبدأ بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى خارج نطاق مكة فأول ما فكر صلوات الله وسلامه عليه بالطائف فخرج مشياً على قدميه إلى الطائف معه زيد بن حارثة مولاه وخادمه وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد تبناه في أول الأمر فكان يسمى بزيد بن محمد حتى نـزل قول الله تبارك وتعالى "ادعوهم لآبائهم" فصار ينادى بعد ذلك بزيد بن حارثة.

      لما وصل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الطائف عمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء ثقيف وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبنا عمرو بن عمير الثقفي ودعاهم إلى الله وإلى نصرة دينه فقال أحدهم عن نفسه إنه يمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسل محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال الآخر لنبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أما وجد الله أحداً غيرك، وقال الثالث والله لا أكلمك أبداً إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك، هكذا عامل هؤلاء الثلاثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتلك القسوة وذلك الاستهزاء وهو قد خرج من بلده ودخل إلى بلد هو غريب فيها يدعو إلى الله تبارك وتعالى ولكنه ووجه بهذه الكلمات التي ملؤها الاستهزاء والسخرية . وليت الأمر بقي على ذلك ولكن الأمر زاد وذلك أنهم جاؤوا فقالوا له أخرج من بلادنا ثمّ أغروا به سفهاءهم فلما أراد الخروج تبعه السفهاء والعبيد والصبيان يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس أي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوقفوا صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة وبكلمات من السفه. ورموه حتى أصابوا عراقيبه (أي قدميه) صلوات الله وسلامه عليه حتى اختضب النعال بالدم وكان زيد رضي الله عنه يقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه فصار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمشي وهؤلاء يضربونه صلوات الله وسلامه عليه حتى التجأ إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة في الطائف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الحائط فجاء إلى حبلة من عنب (يعني شجرة صغيرة) فجلس تحت ظلها إلى جدار فلما جلس واطمأن دعا بدعاء ملؤه اللجوء والرغبة بما عند الله تبارك وتعالى والذي من خلاله يظهر للمؤمن كيف أنه يجب عليه دائماً أن يصدق مع الله وأن يلتجأ إلى الله وأن يرجع إليه في كل أمره فقال صلوات الله وسلامه عليه:&
      [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]

      تعليق

      • علي الدوسي
        عضو مميز
        • Jun 2002
        • 1078

        #4
        أن الله تبارك وتعالى يأمره بالهجرة فذهب النبي في الهاجرة (أي قبيل الظهر) إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة تقول عائشة بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم متقنعاً وذلك في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر (أي إلا أمر مهم) فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر أخرج من عندك (يعني أريد أن أخبرك بأمر مهم سري لا يجوز أن يطلع عليه كل أحد) فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ذلك إني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحبة بأبي أنت يا رسول الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نعم فبقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى عتمة الليل وإذا كفار مكة عند باب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ساهرون يريدون قتله وفيه أنزل الله تبارك وتعالى "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" هذا مكرهم وهو أن اجتمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن يقتله شباب أقوياء فيتفرق دم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القبائل فيقبل بنو عبد مناف الدية ولننظر إلى مكر الله تبارك وتعالى كيف صنع الله بهم كما قال جل وعلا "ويكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسجّى ببردي فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وهذا تطمين من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعلي رضي الله عنه وقد أبقى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم علياً في مكة حتى يرد الأمانات التي عنده لأهل مكة. ونريد أن ننبه إلى أمرين اثنين نرى إنهما من أهم الأمور:

        أولهما: هو أن كفار مكة كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاذب ساحر شاعر مجنون وغير ذلك من الصفات التي اتهموه بها وهم في هذا كاذبون فهم لا يصدقون ما يقولون ولذلك كانوا يضعون أماناتهم عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهل يجوز أن يعطي عاقل الأمانة إلى رجل يرى أنه كذاب أو مجنون وأنه ساحر أو شاعر هذا لا يمكن أبدا فدل هذا على أنهم لا يكذبونه كما قال الله تبارك وتعالى "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " وأما الأمر الثاني فهو أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان أميناً لما أرادوا قتله ما قال أنا آخذ أموالهم لأنهم يريدون قتلي فأنا استحقها أبداً ولذلك قال صلوات الله وسلامه عليه أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك (أي وإن خان هو فأنت لا تخون المؤمن لا يخون أبداً) فتبقى أخلاق المؤمن شامخة عالية ظاهرة وإن غدر من غدر من الكافرين. إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما عزم على الخروج من مكة أو لنقل من بيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأولئك الشبان الأقوياء المسلحون ينتظرون عند باب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يريدون خروجه ليقتلوه ألقى الله تبارك وتعالى عليهم

        النوم جميعاً وخرج إليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ حفنة من البطحاء (يعني من الرمال) فجعل يذره على رؤوسهم وكان الله قد أخذ أبصارهم فلا يرونه والنبي صلوات الله وسلامه عليه يتلو" وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " فلم يبق منهم رجل إلا وضع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على رأسه تراباً ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً (والخوخة الباب الصغير) حتى لحقا بغار ثور اتجاه اليمن، هم مكروا وكيف الله جل وعلا مكر لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبقوا هكذا واقفين حتى جاءهم رجل ممن لم يكن معهم ورآهم واقفين عند الباب فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: محمداً قال: خبتم وخسرتم قد والله مرّ بكم وذرّ على رؤوسكم التراب وانطلق لحاجته فوضعوا أيديهم على رؤوسهم فوجدوا التراب فقاموا ينفضونه وقالوا: والله ما أبصرناه ثمّ نظروا داخل البيت فرأوا علياً قالوا: هذا والله محمد إنه نائم فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا وقام علي عن الفراش فسُقط في أيديهم وقالوا له: أين محمد؟ قال: لا علم لي ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم أن قريشاً ستجد في الطلب وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو المدينة كان من ذكائه صلوات الله وسلامه عليه أن سلك طريقاً آخر يضاده تماماً وهو طريق اليمن مشى خمسة أميال في اتجاه اليمن والأنظار كلها والعقول كلها تقول إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيهاجر إلى المدينة وهكذا كان صلاة الله وسلمه عليه ولكنه أراد أن يعمّي عليهم الأمر فذهب إلى جهة اليمن ومكث في مكان يقال له جبل ثور ثلاثة أيام صلوات الله وسلامه عليه وكان يمشي متجهاً إلى غار ثور على أطراف قدميه وذلك أن الطريق كان وعراً فحفيت قدماه صلوات الله وسلامه عليه وطفق يشتد به الأمر حتى انتهى إلى الغار في قمة الجبل وهو يسمى الآن بغار ثور معروف في جهة مكة من جهة اليمن خلف منطقة العزيزية هناك ولما انتهيا إلى الغار قال: أبو بكر والله ما تدخله يا رسول الله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخل أبو بكر فكسحه (أي نظفه) ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسده به وبقي ثقبان آخران فألقمهما رجليه ثمّ قال لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر فلم يتحرك مخافة أن ينتبه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسقطت دموعه من شدة الألم على وجه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال رسول الله: له ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت فداك أبي وأمي فتفل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مكان اللدغة فذهب ما يجده من ألم. وهذا أيضاً يبين لنا أمرين اثنين:

        الأول: شدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إنه يلدغ فلا يتحرك حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو نائم.

        الثاني: بركة دعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكيف أنه مجرد تفل في جرحه أذهب الله جل وعلا عنه ما يجده.

        النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر في غار ثور: وظلا في الغار ثلاث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وكان عبدالله بن أبي بكر يبيت عندهما قالت عائشة وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحَر (أي في آخر الليل) فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام يعني عبدالله بن أبي بكر الصديق كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر إلى السحَر أي قريب الفجر ثمّ يرجع إلى مكة فإذا أصبح فأصبح مع الناس فيسمع كلام الناس ماذا يقولون لأن ما عندهم حديث إلا خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم إذا صار الليل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر وأخبرهما الخبر وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل (يعني أن عامر بن فهيرة يأتيهما باللبن قبل أن يناما) وكان يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي وكان يأتي إلى أثر عبدالله بن أبي بكر وهو راجع وهو ذاهب فيمشي بالغنم حتى يذهب أثره وأما قريش فقد جنّ جنونها حينما تأكد لديها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أفلت في صبيحة الليلة التي قد عزموا فيها على قتله وحاولوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه و آذوه حتى يعلمهم مكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يعلمهم بشيء حتى إذا يأسوا منه ذهب أبو جهل إلى بيت أبي بكر الصديق فخرجت إليه أسماء بنت أبي بكر فقال لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي فرفع أبو جهل يده فلطم خدّها لطمة طرح منها قرطها أي ما يكون في الأذن مما تتزين به النساء وجعلت قريش مكافأة قدرها مائة ناقة لكل من يدلها على مكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سواء كان حياً أو ميتاً وَجدّت الفرسان والمشاة وقصّاص الأثر في الطلب لأن مائة ناقة شيء عظيم وانتشروا في الجبال والوديان يبحثون عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن دون فائدة. روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما وفي لفظ ما ظنّك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ولما هدأت قريش في الطلب تهيأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للخروج من الغار واتجه إلى المدينة وذلك أن عبدالله بن أبي بكر كما قلنا كان يأتيهما بالأخبار وكان مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل أجير وهو عبدالله بن أريقط وهذا كان دليلاً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر يدلهما الطريق إلى المدينة وكان كافراً ومع هذا استعان به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولذلك قال أهل العلم تجوز الاستعانة بالكافر عند الحاجة إليه وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أعطى عبدالله بن أريقط الراحلتين وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استأمنه وهو كافر وكان من الممكن أن يخبر قريشاً بمكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر ويأخذ المائة ناقة ولكنه ما استأمنه إلا إنه كان أميناً فلما كانت ليلة الاثنين جاءهما عبدالله بن أريقط بالراحلتين وكانتا لأبي بكر فقال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله خذ إحدى راحلتي هاتين يعني لك وقرّب إليه أفضلهما فقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالثمن وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسُفرتهما (يعني الطعام) ونسيت أن تجعل لها عصاماً (يعني شيئاً تربط به) فلما ارتحلا ذهبت تعلق السُفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها قسمين فعلقت السُفرة بأحد هذين القسمين وانتطقت بالآخر ولذلك سميت بذات النطاقين (والنطاق هو ما يُربط على البطن). روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلى الطريق لا يمر فيه أحد فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأتِ عليها الشمس فنـزلنا عندها وسويت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكاناً بيدي ينام عليه وبسطت عليه فروة وقلت: نم يا رسول الله وأنا انفض لك ما حولك فنام وخرجت أنفض ما حوله (أي ينظر إلى الطريق) فإذا أنا براعٍ مقبل إلى الصخرة يريد منها مثل الذي أردنا (يعني يريد أن ينام تحتها) فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت أفتحلب؟ قال: نعم، فأخذ شاة فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقذى فحلب في كعب كثبة من لبن (يعني إناءً صغيراً) ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرتوي منها يشرب ويتوضأ فأتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكرهت أن أوقظه فوافقت حين استيقظ (يعني انتظرت حتى استيقظ) فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله فقلت اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثمّ قال: ألم يئن الرحيل؟ قلت: بلى قال: فارتحلنا.

        سُراقة بن مالك يبحث عن مكافأة:

        وتابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر رجل يقال له سُراقة بن مالك بن جعشم قال سراقة: بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إنّي رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراهما محمداً وأصحابه قال سراقة: وعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا يعني غبى عليه الأمر ثمّ لبثت في المجلس ساعة ثمّ قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي وهي من وراءِ أكمة فتحبسها عليّ (يعني حتى لا يراها الناس) فأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي (يعني اختبأ حتى لا يراه أحد) فخررت عليها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا (وهذا من جهلهم) فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام حتى إذا اقتربت من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر سمعت قراءة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات أي خوفاً على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أن يأتيه أحد فساخت يدا فرسي في الأرض (أي غرقت في الأرض) حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثمّ زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام مرة ثانية فخرج الذي أكره أي تقول لا تتبعهما فناديتهم بالأمان يعني ناديت أبا بكر والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمان الأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم كيف أن فرسي امتنعت أن سيظهر أمر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وعرضت عليه الزاد والمتاع فلم يرزآني (أي فلم يقبلا مني) ولم يسألاني إلى أن قال: اخفِ عنّا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورجع سراقة بن مالك ووجد الناس في الطلب فجعل يقول لهم قد استبرأت لكم الخبر قد كفيتكم ما هاهنا، سبحان الله في أول الأمر يريد قتلهما ويريد مسكهما يريد الدية أو الثمن الذي جعله أهل مكة لهما وفي آخر النهار جعل يدافع عنهما ويخفي أمرهما فهذا من الله تبارك وتعالى كيف أنه يحفظ نبيه صلوات الله وسلامه عليه.

        خيمة أم معبد:

        ومرّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسيره ذلك حتى أتى خيمة امرأة يقال لها أم معبد فسألها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر هل عندك شيء؟ قالت: والله ما عندنا شيء ما أعوزكم وكانت سنة شهباء فنظر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى شاة في كسر الخيمة (يعني في مؤخرة الخيمة) فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم يعني (ضعيفة ما تصلح حتى أن تسير مع الغنم) فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك فقال: أتأذنين أن أحلبها قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها فمسح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيده ضرعها وسمى الله ودعا فتفاجت عليه ودرّت فدعى بإناء لها فحلب فيه حتى علته الرغوة (أي كثر اللبن) فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه أبا بكر وعامر وعبدالله بن أريقط حتى رووا ثمّ شرب وحلب ثانية حتى ملأ الإناء ثمّ أعطاه إياها وغادر صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك جاء زوج أم معبد يسوق أعنزاً عجافاً ما فيها لبن فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا والشاة عازب ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: والله إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت ومن حاله كذا وكذا فذكرت له ما وقع فقال زوجها: إني والله أرى أنه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد فوصفته بصفات فقال لها: هذا والله من يبحث عنه أهل مكة وسمعت أشعار يقال إنها للجن:

        جزى الله رب العرش خير جزائه ،،،،،،،،،، رفيقين حلا خيمتي أم معبد

        هما نـزلا بالبر وارتحلا به ،،،،،،،،،،،،،،،،،،، وأفلح من أمسى رفيق محمد

        فيا لقصي مازوا الله عنكم ،،،،،،،،،،،،،،،،، به من فعال لا يجازى وسؤدد

        ليهنا بنو كعب مكان فتاتهم ،،،،،،،،،،،،،،، ومقعدها للمؤمنين بمرصد

        سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ،،،،،،،،،،،،، فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

        الوصول إلى المدينة:

        وفي يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة من مبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصل إلى قباء وقال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرة (وهي مكان بين مكة والمدينة) فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم (وهو المكان المرتفع) فبصر بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب (يعني يراهم من بعيد) فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعدل بهم ذات اليمين حتى نـزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صامتاً فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجيئوا أبا بكر يظنون أنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل على نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بردائه فعرف الناس أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبقي علي بن أبي طالب ثلاثة أيام حتى أدى الأمانات عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ هاجر ماشياً على قدميه حتى أدرك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة أقام الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقباء أربعة أيام على المشهور الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وصلى فيه وهو أول مسجد أسس على التقوى ولما كان اليوم الخامس وهو يوم الجمعة ركب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأمر الله له وأردف أبا بكر وأرسل إلى بني النجار وهم أخوال جده عبد المطلب فجاؤا متقلدين سيوفهم فسار جهة المدينة فأدركته الجمعة في قرية لبني سالم بن عوف فجمّع بهم في المسجد الذي في بطن الوادي وهذه أول جمعة صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة وبعد أن صلى الجمعة انطلق إلى داخل المدينة فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته هلمّ إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة فكان يقول لهم خلّوا سبيلها فإنها مأمورة فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي فبركت فلم ينـزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً ثمّ التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنـزل عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بني النجار وكان من توفيق الله لها فإنه أحب أن ينـزل على أخواله وذلك ليكرمهم بذلك وهذه من صلة الرحم. فجعل الناس يكلمون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النزول إليهم فكل واحد منهم يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقول يا رسول الله انـزل عندي، اسكن عندي، فقام أبو أيوب الأنصاري وأخذ رحل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم دخل به إلى بيته فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال المرء مع رحله فجاء أسعد بن زرارة لما رأى هذا الأمر من أبي أيوب الأنصاري فأخذ بزمام راحلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال والراحلة عندي يعني أخدمها لك فكانت عنده. وبعد أيام وصلت زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوْدة وابنتاه فاطمة وأم كلثوم وكذلك أسامة بن زيد وأم أيمن وكل أولئك خرج معهم عبدالله بن أبي بكر ومعه كذلك أولاد أبي بكر الصديق وبقيت زينب بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أبي العاص بن الربيع لم تستطع أن تهاجر معه وذلك أنه كان على دين قومه. بعد أن استقر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المقام قام ببناء المسجد النبوي في المكان الذي بركت فيه الناقة وكان المكان لغلامين يتيمين فاشتراه وبناه المسلمون وشارك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البناء بيديه الكريمتين صلوات الله وسلامه عليه وكان يقول وهو يبني معهم اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة. فكان الأنصار يعملون مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقولون: لإن قعدنا والنبي يعمل،،،،، لذاك منا العمل المضلل. وكانت في ذلك المكان (أي الذي أراد أن يبني فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسجد) قبور للمشركين وكان فيه خِرب ونخل فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالقبور فنبشت والخِرب فسويت وبالنخل فقطعت وصفت في قبلة المسجد وكانت القبلة في ذلك الوقت إلى الآن إلى بيت المقدس لم يؤمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالتوجه إلى مكة وبنى بجانب هذا المسجد بيوتاً وهي الحُجر أي بيوت أزواجه صلوات الله وسلامه عليه وبعد أن تكامل البنيان انتقل صلوات الله وسلامه عليه إلى تلك البيوت ثمّ آخى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين المهاجرين والأنصار وذلك في دار أنس بن مالك وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار آخى بينهم على المواساة وأنهم يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام وذلك إلى أن أنـزل الله تبارك وتعالى بعد بدر "وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " فرجع التوارث إلى الأقارب. ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن فالقضية قضية تقوى واتباع. روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قدم المدينة آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال سعد لعبد الرحمن بن عوف إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لأطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجها فقال عبد الرحمن بن عوف بارك الله في أهلك ومالك أين سوقكم فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من إقط وسمن ثم تابع الغدو (أي من غد) ثمّ جاء يوماً وبه أثر صُفرة فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مهيم؟ (أي ما حدث) قال: تزوجت قال: كم سُقت إليها؟ قال: نواة من ذهب. وروى أيضاً البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل فقال: لا فقالوا: فتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا نعم سمعنا وأطعنا وهذا يدلنا على أمرين اثنين أيضاً:

        أولاً: سخاء الأنصار كما قال الله تبارك وتعالى " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ".

        ثانياً: يظهر لنا كذلك موقف المهاجرين وذلك أنهم لم يستغلوا طيبة الأنصار ولذلك لم يقبل عبد الرحمن بن عوف عرض سعد بن الربيع ولم يقبل المهاجرون عرض الأنصار أن يقاسموهم نخيلهم.

        وبعد ذلك عقد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المعاهدات مع اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة وهم لم يدخلوا في الإسلام فعقد معهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد من المدينة بل تركهم فيها صلوات الله وسلامه عليه. في هذه الفترة أرسلت قريش إلى المسلمين تقول لا يغرنكم أنكم أفلتم منّا إلى يثرب فسنأتيكم ونستأصلكم ونبيد خُضْراءكم في عقر داركم. وذلك أنه روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سهر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح (أي صوت سلاح) فقال: من هذا؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال النبي: ما جاء بك؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ نام وهذا من توفيق الله تبارك وتعالى له.

        بدء السرايا:

        وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحرس (بضم الياء) ليلاً حتى أنـزل الله تبارك وتعالى "والله يعصمك من الناس " فأخرج الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأسه من القبة فقال يا أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل وهذا يبين شدّة اليقين بالله جل وعلا حتى أذن الله تبارك وتعالى بالقتال والدفاع بقوله جل وعلا " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير". بعد هذا الإذن من الله تبارك وتعالى بالقتال بدأت السرايا وكان من هذه السرايا سرية نخلة وذلك في السنة الثانية من الهجرة بعث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبدالله بن جحش الأسدي إلى مكان يقال له نخلة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين كل اثنين يعتقبان على بعير (للفقر) وكان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتب له كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فسار عبدالله بن جحش ثمّ قرأ الكتاب بعد يومين إذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنـزل نخلة بين مكة والطـائف فترصد بها عـير قريـش (العير هي القافلة المحملة) وتعلم لنا من أخبارهم فقال عبدالله بن جحش عندما قرأ الكتاب: سمعاً وطاعة (يحدّث نفسه بذلك) ثمّ أخبر أصحابه في ذلك أنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع وأما أنا فناهض فنهضوا كلهم ولكن في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه وسار عبدالله بن جحش حتى نـزل بنخلة فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وهو العنب وأدماً (وهو الطعام) وتجارة وفيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبدالله بن المغيرة والحكم بن كيسان فتشاور المسلمون وقالوا نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام وإن تركناهم دخلوا الحرم والأشهر الحرم أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد والثلاثة السرد هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم والواحد الفرد رجب هذه أشهر محرمة منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى يومنا هذا وهناك عندنا أماكن محرمة في السابق كانت مكة والآن يعني بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة فحرم المدينة كما حرّم الله تبارك وتعالى مكة فعندنا حرمان مكة والمدينة المهم أنهم وقعوا في مشكلة وذلك أنهم أدركوا هذه العير في آخر يوم من رجب ورجب من أشهر الحرم إذا أتوا إلى العير وقتلوهم وأخذوا ما عندهم من مال فقد قاتلوا في الشهر الحرام وإن تركوهم دخلوا إلى البلد الحرام (مكة) فوقعوا في مشكلة يعني هم بين ثلاث حالات:

        الحالة الأولى: أن يقاتلوهم في الشهر الحرام.

        الحالة الثانية: أن يتركوهم حتى يدخلوا مكة ويقاتلونهم غداً في الأشهر الحلال ولكن في المكان الحرام.

        الحالة الثالثة: وهي أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام ولا يقاتلوهم في البلد الحرام ولكن تفلت العير وتدخل إلى مكة وتنجو. وكانت مكة كما هو معلوم قد أخذت أموال المسلمين بل وأخذت كما ذكرنا نساءهم وأخذت دورهم وأخذت أبناءهم وآذت من آذت وقتلت من قتلت فكان أخذ العير نوع من رد بعض الحقوق وللإنسان أن يرد حقه ممن ظلمه ولو وصل الأمر إلى القتال. فتشاور المسلمون ثمّ اجتمعوا على اللقاء (يعني القتال) فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله وأسروا عثمان والحكم بن كيسان وأفلت منهم نوفل وقدموا بالعير والأسيرين إلى مدينة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد عزلوا من ذلك الخمس وذلك كان أول خمس (يعني في الغنيمة) وهذان كانا أول أسيرين وذاك كان أول قتيل في الإسلام. فلما وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخبروه بما حدث أنكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما فعلوه وقال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ثمّ أوقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي تصرف في العير والأسيرين أما قريش فوجدت في هذه فرصة فبدأوا يتكلمون في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه وقالوا إنه أحل ما حرم الله وأكثروا في القيل والقال حتى أنـزل الله تبارك وتعالى الوحي يدافع به عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه قال الله تبارك وتعالى (( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير (أي من الكبائر) وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل…… )) الله أكبر، يقول الله تبارك وتعالى للمشركين أنتم تنكرون على المسلمين أن قتلوا رجلاً في الشهر الحرام ونحن نوافقكم هذا العمل لا يجوز ولكن أنتم يا من تعيبونهم في هذا انظروا ماذا تفعلون يقول لله تبارك وتعالى "وصد عن سبيل الله" أي الذي تفعلونه "وكفر به " أي الذي تفعلونه يا كفار مكة "والمسجد الحرام" أي وصد عن المسجد الحرام "وإخراج أهله منه " وهو طرد المسلمين من مكة وإخراجهم بالتهديد وبالتعذيب "أكبر عند الله والفتنة" أي فتنة الناس عن دينهم أكبر من قتلهم فكانت هذه الآية مما طيب الله تبارك وتعالى بها قلوب المؤمنين فكأن الله جل وعلا يقول لهم ليس هؤلاء من لهم أن يعيبوا عليكم ذلك لأن فعلهم أكبر من فعلكم بكثير. عند ذلك أطلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سراح الأسيرين وأدى الدية عن المقتول إلى أوليائه. وفي السنة الثانية من الهجرة في شهر شعبان أمر الله تبارك وتعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام بقوله "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره" فحولت القبلة والمشهور أنه حوّلت القبلة في صلاة الظهر أو في صلاة العصر والأكثر على أنها في صلاة العصر. يُذكر أنه أول من صلى إلى مكة البراء بن معرور لما خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيعة العقبة الثانية وذلك أنهم خرجوا إلى مكة فلما وصلوا إليها أو قبل ذلك أدركتهم الصلاة فأرادوا أن يصلوا والمدينة معلوم موقعها بين مكة وبيت المقدس فمن أراد أن يصلي إلى بيت المقدس فلابد أن يعطي مكة ظهره ومن أراد أن يصلي إلى مكة لابد أن يعطي بيت المقدس ظهره فصلوا إلى بيت المقدس أما البراء بن معرور رضي الله عنه فصلى إلى مكة فاستغرب أصحابه منه فلما قضى من الصلاة قالوا: ويحك ماذا فعلت؟ قال: والله إني كرهت أن أجعل هذه البُنية في ظهري فقالوا: ويحك إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي إلى بيت المقدس قال لا أدري فتركوه فلما وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبروه فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال قد كنت على قبلة لو صبرت يعني كان المفروض أن تصلي إلى بيت المقدس لو صبرت قليلاً وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتمنى أن تكون مكة هي القبلة وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي إليها فيصلي خلف الكعبة باتجاه بيت المقدس صلوات الله وسلامه عليه.

        معركة بدر الكبرى :

        بعد تحويل القبلة كانت معركة بدر الكبرى وذلك أن عيراً لقريش جاءت من الشام بقيادة أبي سفيان ولما قرب رجوعها بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ليقوما باكتشاف خبرها فوصلا إلى مكان يقال له الحوراء فمكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير فأسرعا إلى المدينة وأخبرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر بأن العير فعلاً قادمة بقيادة أبي سفيان وأخبراه بالعدد وأخبراه بما في هذه العير من خير عند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين قائلاً هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها (أي يعطيكم الله تبارك وتعالى تلك الأموال) ولم يعزم على أحد (أي ما أمر أحداً بالخروج) واستعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للخروج وخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ولم يتخذوا أهبة كاملة (أي لم يستعدوا استعداداً كاملاً) ولكنهم خرج معهم فارسان بفرسين هما الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وكان معهم سبعون بعيراً كل اثنين أو ثلاثة على بعير وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد على بعير واحد كل فترة يركب أحدهم وينـزل اثنان وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواء القيادة لمصعب بن عمير القرشي رضي الله تبارك وتعالى عنه وأعطى كتيبة المهاجرين أعطى علمها لعلي بن أبي طالب وأعطى كتيبة الأنصار لسعد بن معاذ وجعل قيادة الميمنة للزبير وعلى الميسرة المقداد بن عمرو والقيادة العامة بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أبو سفيان كان يتحسس الأخبار ويخاف بعد وقعة ابن الحضرمي وأخذ الأسيرين فعلم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج لملاقاة العير فاستأجر رجلاً يقال له ضمضم بن عمرو مستصرخاً لقريش بالنفير ليمنعوه من محمد وأصحابه فخرج ضمضم إلى مكة سريعاً فصرخ ببطن الوادي وجدع أنف البعير (وهذه كانت من عاداتهم) وحوّل رحله وشق قميصه (أي كل هذه الأشياء للإثارة كانت تستخدمها العرب في السابق لكي يبين أن الأمر جلل ولذلك كانت العرب تقول أنا النذير العريان يعني أن المسألة وصلت إلى حد لا يحتمل التسامح أو لا يحتمل التراخي بل لابد من السرعة ولابد من التجهز وغير ذلك من الأمور) وقال يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث فتحفّز الناس سراعاً وقالوا أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمنّ غير ذلك فكانوا بين رجلين أي أهل مكة كلهم إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً وأوعبوا في الخروج (أي استعدوا) فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى برجل عليه دين فقال أسقط عنك ديني واخرج بدلي وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ولم يتخلف من بطون قريش إلا بنو عدي فإنهم لم يخرجوا معهم وكان هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل معهم ستمائة فرس ولو عملنا مقارنة لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه ثلاثمائة وبضعة عشر (يعني سبعة عشر أو خمسة عشر أو ستة عشر) والمشركون ألف وثلاثمائة المسلمون معهم فرسان بقائدين المشركون ستمائة فرس فهذا عدد المسلمين وعدتهم وذاك عدد المشركين وعدتهم المسلمون خرجوا للعير الكفار خرجوا للقتال حتى الاستعداد النفسي. إذاً الآن المشركون متفوقون في ثلاثة أمور:

        أولاً: العدد

        ثانياً: العدة

        ثالثاً: الاستعداد النفسي

        وكانت قيادة المشركين لأبي جهل (عمرو بن هشام) وخرجوا من ديارهم كما قال تبارك وتعالى بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله واستطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير وذلك أنه لما سمع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج غير طريقه عن الشام وقصة تغيير طريقه تدل على ذكائه وذلك أن أبا سفيان كان يسير على الطريق الرئيسي المعروف من الشام إلى مكة ولكنه كان حذراً متيقظاً ولما اقترب من بدر تقدم أبو سفيان حتى لقي مجدي بن عمرو وسأله عن جيش المدينة لأن هذا الرجل يعيش في ذاك المكان قال له: هل مرّ بك جيش؟ فقال مجدي بن عمرو: ما رأيت أحداً أنكره إلا إني رأيت راكبَين أناخا على هذا التل ثمّ استقيا في شن لهما (أي ماءاً) ثمّ انطلـقا فـذهب أبو سفيان إلى مكان الراحلتين وأخذ من أبعار بعيرهما (والبعر هو خروج البعير) ففته فإذا فيه النواة فقال: هذه والله علائف يثرب (يعنى النواة من تمر يثرب) فرجع وغير طريقه ونجى بالعير فأرسل إلى أهل مكة أن ارجعوا فقد نجت العير وإنكم إنما خرجتم لتحرزوا أموالكم وعيركم فإنها قد نجت فقام طاغية قريش أبو جهل فقال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فقام الأخنس بن شريق فأمر بالرجـوع فعصـوه فقـال: أما أنا فراجع فرجع الأخنس بن شريق ورجع معه بنو زهرة وكانوا قريباً من ثلاثمائة فبقي كفار مكة بألف رجل واجتمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع بخروج أهل مكة بأصحابه يستشيرهم صلوات الله وسلامه عليه فقال هؤلاء أهل مكة قد خرجوا فماذا ترون فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن رضي الله عنه فقام عمر فقال وأحسن ثمّ قام المقداد فقال وأحسن وكان من مقولة المقداد بن عمرو رضي الله عنه يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إن معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (أي مكاناً في الجزيرة) لجالدنا معك مَنْ دونه حتى تبلغه فقال له الرسول: خيراً ودعا له بخير قال عبدالله بن مسعود: والله لتمنيت أن لي موقف المقداد هذا لما رأى من فرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الكلمات ولكن ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد غيرها وذلك أن أبا بكر وعمر والمقداد كل هؤلاء من المهاجرين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد كلمة من الأنصار لماذا؟ لأن الأنصار إنما بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنهم يدافعون عنه في المدينة وينصرونه في المدينة ولم يبايعوه على القتال خارج المدينة فأراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منهم كلمة هل هم موافقون وراضون؟ أو إنهم مصرون على ما هم عليه وهو أنهم يدافعون عنه في المدينة فقط؟ فقال: أشيروا علي أيها الناس فتكلم سعد بن معاذ وكان قائد الأنصار في هذه المعركة وهو صاحب اللواء فقال: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أجل أريدكم أن تتكلموا ولا أريد أن أجبركم على قتال ولا أريد أن أكرهكم عـليه فقـال سعد بن معاذ مقولة أفرحت وأثلجت صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا إنّا لصُبر في الحرب صُدُق في اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله. وفي رواية أن سعد بن معاذ قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك فوالله لأن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك فوالله لأن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسُرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشط لذلك ثمّ قال سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم ثمّ ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونـزل قريباً من بدر. وهذه قصة طريفة وبعـث النـبي صـلى الله علـيه وآله وسلم علي بن أبى طالب والزبير بن عوام وسعد بن أبي وقاص في نفر إلى ماء بدر فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة فقبضوا عليهما وجاؤا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فسألوا الرجلين: من أنتم؟ قالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقي لهم من الماء فكَرِه القوم ذلك ورجـوا أن يكـونا لأبي سفيان (يعني هم خرجوا للعير) وسمعوا بخروج قريش ثمّ وجدوا رجلين أخذوهما لمن أنتما؟ قالا: من أهل مكة وهم يتمنون أن يكونا لأبي سفيان حتى ينالوا العير فضربوهما حتى يعترفا أنهما لأبي سفيان ولما زاد الضرب قال الغلامان: نحن لأبي سفيان فتركوهما فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة التفت إلى أصحابه وقال: إذا صداقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش ثمّ التفت إلى الغلامين وقال: أخبراني عن قريش؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب وأشارا إلى مكان فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كم القوم؟ (أي كم عددهم) قالا: كثير قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري قال: كم ينحرون كل يوم؟ قال:ا يوماً تسعاً ويوماً عشراً (يعني من الإبل) فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف ثمّ قال لهم: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: فيهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وفيهم أبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر وزمعة وأبو جهل وأمية بن خلف وسموا له رجالاً من مكة فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الناس وقال هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ثمّ اقترح سعد بن معاذ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون في عريش بعيداً عن المعركة حتى يكون هذا أحفظ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعدّ عندك ركائبك ثمّ نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى أي انتصرت قريش علينا جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فإنه قد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك فأثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأيه خيراً وكان في العريش صلوات الله وسلامه عليه ثم عبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشه ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده صلوات الله وسلامه عليه هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان يشير إلى الأماكن التي سيقتلون فيها وبات المسلمون تلك الليلة هادئي الأنفس. قال الله تبارك وتعالى "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماءاً ليطهركم به ويذهب عنكم رجس الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام" الأرض التي نـزل بها المسلمون كانت قاسية فأنـزل الله تبارك وتعالى عليها المطر فصارت لينة والأرض التي نـزل فيها المشركون كانت لينة فأنـزل الله عليها المطر فأصبحت قيلة (أي لا يستطيعون الوقوف عليها من الزلق) وكان ذلك في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة. واستعدت قريش للقتال واستعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وأرسلت قريش عمير بن وهب يتجسس للتعرف على مدى قوة المسلمين فدار عمير بفرسه حول عسكر المسلمين ثمّ رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً ولكن أمهلوني حتى أنظر هل للقوم كمين أو مدد فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال ما وجدت شيئاً يعني ولكن يا معشر قريش لقد رأيت البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا لهم ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يُقتل رجل منهم حتى يُقتل رجل منكم أبداً فإذا أصابوا أعدادكم (يعني إذا قتلوا منكم ثلاثمائة كما أن عددهم ثلاثمائة) فما خير العيش بعد ذلك. وقامت معارضة بقيادة أبي جهل فأنكر عليه قوله وأمر الناس بالقتال والجَلَد والصبر فأطاعوا أبوجهل. وعدّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفوف وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب فقد كان في يده قدح يعدل به الصفوف صلى الله عليه وآله وسلم وكان السواد بن الغزية متقدماً على الصف فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضربه بالقدح على بطنه يقول له: ارجع استوِ يا سواد فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني فأقدني (يعني النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن والأنف بالأنف والجروح قصاص أي ضربتني أضربك) فكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه حتى يستقيد فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: استقد فقام سواد واعتنق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبّل بطنه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسول الله فقد حضر ما ترى (يعني الموت) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واصطف المسلمون واصطف المشركون ثلاثمائة وبضعة عشر مقابل ألف من المشركين فخرج من أهل مكة ثلاثة عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة فانفصلوا من صف المشركين وطلبوا المبارزة قالوا: من يبارزنا؟ وهذا نوع من الإحماء للقتال كانت تستخدمه العرب فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار عوف ومعوّذ ابنا الحارث وعبدالله بن رواحة فلما التقوا قال المشركون عتبة وشيبة والوليد للمسلمين: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار فقالوا لهم: أكفاء كرام ما لنا بكم حاجة إنما نريد بني عمنا ثمّ نادى مناديهم يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عبد مناف هو من أبناء المطلب بن عبد مناف والنبي من أبناء هاشم بن عبد مناف قم يا حمزة وقم يا علي فأختار أقاربه صلوات الله وسلامه عليه فلما قاموا ودنوا منهم قالوا لهم: من أنتم فأخبروهم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث فقالوا: أنتم أكفاء كرام فتبارز عبيدة بن الحـارث مـع عتبة بن ربيعة وحمزة تبارز مع شيبة وعلي تبارز مع الوليد بن عتبة فأما حمزة فقتل صاحبه وأما علي فقتل صاحبه وأما عبيدة فاختلف هو وقرنه في ضربتين فكل واحد ضرب الثاني ضربة ثمّ كرّ علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة بن الحارث وهو مصاب وقد قطعت رجله ومات بعد ذلك بثلاثة أيام رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه وانتهت هذه المبارزة فغضبت قريش عند ذلك وكرّوا على المسلمين كرة رجل واحد فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناشد ربه تعالى فقال: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد، اللهم إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبدا وبالغ في الابتهال ورفع يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فردّه عليه أبو بكر الصديق وقال حسبك يا رسول الله ألححت على ربك عند ذلك أوحى الله تبارك وتعالى إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وأوحى الله تبارك وتعالى إلى رسوله أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين أي أنهم ردف لكم يساعدونكم فأغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إغفاءة واحدة فقال أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) ثمّ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر ثمّ أخذ حفنة من الحصباء (أي الحصى) فاستقبل بها قريشاً فقال شاهت الوجوه ورمى بها صلوات الله وسلامه عليه فما من أحد إلا وأصابه ما رماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذا قول الله تبارك وتعالى "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وشدّ المسلمون على الكفار فكان النصر. ولا بأس أن نذكر هنا بعض الحكايات منها ما وقع لعمير بن الحمام رضي الله عنه وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة وكان يقول قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فقام عمير بن الحمام فقال: يا رسول الله بخ، بخ (أي كأنه يقول طيب، طيب أو شيء جيد) فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ما يحملك على قولك بخ، بخ؟ فقال: لا والله يا رسول الله إلا رجائي أن أكون من أهلها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبشراً له: فإنك من أهلها فأخرج تمرات رضي الله عنه وأرضاه فجعل يأكل منها ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى التمرات ودخل وقاتل حتى قُتل رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه. قال ابن عباس رضي الله عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في اثر رجل من المشركين أمامه (يعني يجري خلفه) إذ سمع ضربة في السوط فوقه وصوت الفارس أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه(أي خر صريعاً) فجاء الأنصاري فحدّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة وقال أبو داود المازني رضي الله عنه إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيراً والعباس خرج مع المشركين وكان كارهاً فأسر قال: يا رسول الله أسرت العباس فقال العباس: لا والله ما هذا أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق (أي أبيض) وما أراه في القوم فقال الأنصاري أنا أسرته يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم وفي نهاية المعركة وهزيمة المشركين أخذ المشركون يفرون وقتل منهم من قتل وكان ممن قتل أبو جهل. قال عبد الرحمن بن عوف إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قالا لي: يا عم أرنا أبا جهل فقال: فما تصنعان به؟ قالا: أخبرنا أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انظروا إلى الغيرة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شابان صغيران يغاران على عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عبد الرحمن بن عوف: والذي نفسي بيده لئن رأيته لأخبرنكما فقال أحدهما: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا فتعجبت لذلك فلم أنشب أن رأيت أبا جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا فنظر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى السيفين فقال: كلاكما قتله. فلما سقط أبو جهل جاءه عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه فقال له: قد أخزاك الله يا عدو الله قال أبو جهل: (على ما كان من كفره وعناده إلا إنه كان من شجعان العرب)قال: هل فوق رجل قتلتموه ثمّ قال أبو جهل لعبد الله بن مسعود: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ولرسوله فقام عبدالله بن مسعود ووضع رجله على عنق أبي جهل فقال أبو جهل لعبد الله بن مسعود: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم (يعني أنت تضع قدمك علي)قال ابن مسعود فاحتززت رأسه عند ذلك ثمّ ذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أي لما رأى الرأس) قال هذا فرعون هذه الأمة. وكان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تبارك وتعالى عنه صديقاً لأمية بن خلف في مكة فلما كان يوم بدر مرّ عبد الرحمن بن عوف بأمية بن خلف وهو واقف مع ابنه آخذاً بيده ومع عبد الرحمن بن عوف أدراع قد استلبها وهو يحملها فلما رآها قال: هل لك في؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك أي خذني أسيراً معك ما رأيتك اليـوم قط أمـا لكم حاجـة في اللبن (يريد أن من أسره يفتدي هو عن نفسه بـإبل كثـيرة) فطـرح عبد الرحمن بن عوف الأدراع وأخذهما يمشي بهما وقال أمية لعبد الرحمن: من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلالاً معي وكان أمية هو الذي يعذب بلال في مكة فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا فقـال عبد الرحمن بن عوف: أي بلال أسيري قال: لا نجوت إن نجا ثمّ صرخ بأعلى صوته يا أنصـار الله رأس الكفـر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا قال عبد الرحمن بن عوف فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فقلت انجُ بنفسك ولا نجاء لك فوالله ما أغني عنك شيئاً قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما فكان عبد الرحمن بن عوف يقول يرحم الله بلالاً ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري وله ذلك وقد استشهد من المسلمين من هذه المعركة أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار أما كفار مكة فقتل منهم سبعون وأسر مثلهم وعامتهم من القادة والزعماء وعن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في بئر يقال لها بدر ثم مشى صلوات الله وسلامه عليه في اليوم الثالث وجاء إلى بدر حتى قام على شفّة الركا (أي على وجه البئر) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون وهذا الحديث متفق عليه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحيا الله له أولئك القوم وأسمعهم كلامه وإلا فالمشهور عند أهل العلم أن الميت لا يسمع كلام الحي إلا كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله إنه ليسمع قرع نعالهم أما بعد ذلك فإنه مشغول بنفسه. قال ابن إسحاق وكان أول من قدم بمصاب قريش رجل يقـال له الحيسمان بن عبدالله الخزاعي فقـالوا له: مـا وراءك؟ فقـال: قتـل عتبـة بن ربيعـة وشيبـة بن ربيعـة وأبو الحكم بن هشام (أي أبا جهل) وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سمّاهم فلما أخذ يعدّ أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو عند الحِجر: والله إن يعقل هذا فاسألوه عني قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هاهو ذا جالس في الحجر قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وهكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر ومن الطرائف أن رجلا يقال له الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر وكان يحب أن يبكي عليهم وكان ضرير البصر فسمع ليلاً صوت نائحة فبعث غلامه وقال: انظر هل أحل النحيب؟ (يريد أن يبكي وكان عندهم ممنوع هذا الأمر حتى لا يذكّر الناس بهذه المصيبة) لَعَلّي أبكي على أبي حكيمة (يعني ابنه) فإن جوفي قد احترق فرجع الغلام فقال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته فقال الأسود بن المطلب:

        أتبكي أن يضل لها بعير،،،،،،،،، ويمنعها من النوم السهود

        فلا تبكي على بكر ولكن،،،،،،، على بدر تقاصرت الجدود

        على بدر سرات بني هصيص،،،،، ومخزوم ورهط أبي الوليد

        وبكّي إن بكيت على عقيل،،،،، وبكّي حارثاً أسد الأسود

        وبكّيهم ولا تسمي جميعاً،،،،،،، وما لأبي حكيمة من نديد

        ألا قد ساد بعدهم رجال،،،،،،،، ولولا يوم بدر لم يسودوا

        قال أسامة بن زيد أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان النبي خلفني عليها مع عثمان (يعني خبر انتصار المسلمين في بدر) رضي الله عنهما من دفن رقية بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوجة عثمان. ولما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة استشار أصحابه في الأسرى فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا فقال رسول الله صلى الله علـيه وآله وسـلم: ما تـرى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان ذكر قريباً له فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان فيضرب عنقه حتى يعلم الله تبارك وتعالى أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم فهوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أي اختار) ما قال أبو بكر وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر: غدوت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر فإذا هما يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءاً بكيت وإن لم أجد بكاءاً تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للذي عُرض علي من أصحابك من أخذ الفداء لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة وأشار إلى شجرة قريبة وأنـزل الله جل وعلا "ما كان للنبي أي يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" أي لكي يثخن في الأرض وأما الكتاب الذي سبق من الله تبارك وتعالى فهو قول الله جل وعلا "فإما منّاً بعد وإما فداءا ".

        وذلك أن قائد الجيش إذا أسر المشركين فهو مخير بين أربعة أمور:

        أولا: إما أن يقتلهم

        ثانياً: وإما أن يفاديهم أي بمال أو مقابل أسرى أو ما شابه ذلك

        ثالثاً: وإما أن يعفو عنهم يمن عليهم بدون مقابل

        رابعاً: وإما أن يسترقهم أي يصيرون عبيداً عند المسلمين

        فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الفداء من بعضهم ومنّ على بعضهم صلوات الله وسلامه عليه. وفي هذه السنة أي الثانية من الهجرة فرض الله تبارك وتعالى صيام رمضان في قول الله جل وعلا "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خير فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون، شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه " ففرض الله تبارك وتعالى الصيام في هذه السنة.
        [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]

        تعليق

        • علي الدوسي
          عضو مميز
          • Jun 2002
          • 1078

          #5
          ;يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا "



          أي لن يستطيعوا فقول صفوان والله إن في العيش بعدهم خير أي ليس في العيش بعدهم خير فقال له عمير صدقت والله أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي قبلهم علة ابني أسير في أيديهم فقال له صفوان (وقد استغل هذه الكلمات) دينك عليّ أنا اقضيه عنك وعيالك مع عيالي ولا يسعني شيء ويعجز عنهم قال له عمير وقد أُلزم (بضم الألف) بما قال فاكتم عني شأني وشأنك قال أفعل ثم أخذ عمير سيفه ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما هو على باب المسجد ينيخ راحلته (يعني في المديـنة) رآه عمر بن الخطاب وهو في نفر من المسلمين فقال عمر: هذا عدو الله عمير ما جاء إلا لشر ثمّ دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فأدخله علي فأقبل عمير فلببه في حمالة سيفه (أي ضمه ضماً بحيث أنه لا يستطيع أن يمسك سيفه) وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون (أي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: أرسله يا عمر ادنُ يا عمير فقال عمير: انعموا صباحاً فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة (إذاً لا ينبغي لنا إذا دخل علينا أحد أو دخلنا على أحد أن نقول مرحبا أو مساء الخير أو غير هذه من الكلمات وإن كانت هي في أصلها جميلة ولكن بعد السلام فالأول يبدأ بالسلام فيقول السلام عليكم ثمّ إن شاء قال مرحباً أو مساء الخير أو ما شاء من هذه الكلمات) ثمّ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي بين أيديكم فأحسنوا فيه فقال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنّا شيئاً؟! قال: أصدقني مالذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك قال بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثمّ قلت أنت لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمّل صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني والله حائل بينك وبين ذلك استغرب عمير كيف عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر فقال عمير: أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينـزل عليك من الوحي هذا الأمر لم يحضره إلا أنا وصفوان فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله الحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق ثمّ تشهد شهادة الحق (أي قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فقّهوا أخاكم في دينه واقرؤه القرآن واطلقوا له أسيره. أما صفوان في مكة فكان ينتظر خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يقول لأهل مكة ابشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر وكلما جاء ركب قال لهم: ما حال عمير؟ حتى جاء ركب فقال لهم: ما حال عمير؟ فقالوا: أسلم فحلف صفوان ألاّ يكلمه أبداً ورجع عمير إلى مكة وأقام بها يدعو إلى الإسلام فأسلم على يديه أناس كثير ، سبحان الله خرج كي يقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ رجع داعية إلى الله جلّ وعلا.

          يهود بنو قينقاع:

          مرّ بنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقد معاهدات مع اليهود في المدينة وكان ممن عقد معهم المعاهدات بنو قينقاع كانوا شر الطوائف وأشجعهم وكانوا يسكنون داخل المدينة في حي باسمهم (أي حي بني قينقاع) وكانوا صاغة للذهب وحدادين وصنّاعاً للأواني وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة وهم أو من نكث العهد والميثاق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. روى داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أصاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً يوم بدر وقدم إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال لهم: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً قالوا: يا محمد لا يغرّنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال إنك لو قاتلتنا لعرفت أن نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنـزل الله تبارك وتعالى مدافعاً عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال "قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم أية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار". وقد روى ابن هشام في سيرته عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت إلى السوق بجلب لها (أي بضاعة) فباعته في سوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تعلم فلما قامت انكشفت سوأتها فضحك عليها اليهود فصاحت فوثب رجل من المسلمين فقتل الصائغ فقام اليهود وقتلوا المسلم فاستصرخ أهل المسلم على اليهود فوقع بينهم شر (أي قتال) داخل السوق عند ذلك قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبدالمنذر وأعطى لواء المسلمين حمزة بن عبد المطلب وسار بجنود الله إلى بني قينقاع ولما رأوه تحصنوا في الحصون فحاصرهم أشد الحصار صلوات الله وسلامه عليه وذلك في شوال في السنة الثانية من الهجرة واستمر الحصار خمس عشرة ليلة وقذف الله في قلوبهم الرعب فنـزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رقابهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم فأمر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتفوا وعند ذلك قام الخبيث عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين فألح على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عنهم قال: يا محمد أحسن إلى موالي وكانوا حلفاء الخزرج وهو سيد الخزرج ومن كبار ساداتهم فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكرر مقالته فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمسك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أرسلني ثمّ قال: ويحك أرسلني فقال المنافق: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليي أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود أي لما كانوا مواليي تحصدهم في غداة واحدة إني والله امرء أخشى الدوائر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هم لك فوهبهم له ولكن أمرهم أن يخرجوا من المدينة وأن لا يجاوروه فيها فخرجوا إلى الشام وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل رجل يقال له كعب بن الأشرف من اليهود وكان من أشد اليهود أذى وحقداً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن هذا اليهودي صار يهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ويمدح أعداء النبي ويحرضهم عليه حتى سافر إلى قريش فنـزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي وجعل ينشد الأشعار يبكي فيها على أصحاب القليب من قتلى المشركين يريد أن يهيج أهل مكة للانتقام وهناك سأله أهل مكة أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأي الفريقين أهدى سبيلا؟ فقال: أنتم أهدى سبيلا وقام وسجد لأصنامهم فأنـزل الله جل وعلا " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا " حينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله وورسوله فانتدب له محمد بن مسلمة وعباد بن بشر ورجل يقال له أبو نائلة فذهبوا إليه وقتلوه في قصة طويلة.

          غزوة أحد:

          بعد هذه الأحداث وانتهاء هذه السنة الا وهي السنة الثانية من الهجرة اجتمع أهل مكة وجمعوا ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش والأحابيش هم النّزع من القبائل يعيشون في مكة وليسوا من أهلها وأخذوا حتى النساء وجهزوا هذا الجيش للانتقام وكانت القيادة لأبي سفيان بن حرب بعد مقتل أبي جهل وقيادة الفرسان لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وخرج هذا الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام إلى المدينة يريدون الإنتقام لقتلاهم في بدر وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأمر ألا وهو خروج أبو سفيان من مكة يريدون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستنفر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الناس وحمل الناس سلاحهم لا يتركون السلاح حتى في صلاتهم يخشون من دخول أهل مكة عليهم وكان أهل المدينة من الأنصار كسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة يقومون بحراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كبار أصحابه وأخبرهم برؤية رآها صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت والله خيراً رأيت بقراً يُذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فتأول البقر بنفر من أصحابه يُقتلون وتأول الثلمة في سيفه في رجل يصاب من أهل بيته وتأول الدرع بالمدينة ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: أرى أن نقاتلهم من المدينة نتحصن في المدينة ونقاتلهم فإن أقاموا بمعسكرهم أقاموا بشر مقام وإن دخلوا المدينة قاتلناهم من الأزقة (أي الطرق الضيقة) ومن فوق البيوت وافقه على هذا كبار الصحابة وممن وافقهم على ذلك عبدالله بن أبي بن سلول الذي كان الأوس والخزرج قد اتفقوا أن يجعلوه ملكاً عليهم وقام جماعة من شباب الصحابة الذين فاتهم القتال في بدر وقالوا: يا رسول الله إنّا كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله تبارك وتعالى أن يبلغنا إياه نخشى أن يظن أنّا جبنّا عنك فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا بأس ثمّ دخل إلى بيته ولبس أدراعه أي أدراع القتال صلوات الله وسلامه عليه وهذا من بذل السبب وكان الناس ينتظرونه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يخرج إليهم فقال لهم سعد بن معاذ: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه فندموا على ما صنعوا فقالوا له: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت إنما هو رأي رأيناه إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ينبغي لنبي إذا لبس لئمته (يعني لباس الحرب) حتى يحكم الله بينه وبين عدوه فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتال وهم في الطريق رجع المنافق عبدالله بن أبي بن سلول بثلث الجيش وأنـزل الله تبارك وتعالى في المنافقين "وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون" ونجح هذا المنافق باستدراج ثلاثمائة رجل من منافق وضعيف الإيمان ولكن أكثرهم كانوا من المنافقين وهمّت طائفتان من المسـلمين من الأنصـار وهم بنـو حـارثة من الأوس وبنو سـلمة من الخزرج هموا أن يرجعوا كذلك مع عبدالله بن أبي بن سلول ولكن الله ثبتهما وأنـزل الله جلً وعلا "إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا (أي بالرجوع) والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون" بعد أن وصل جيش المؤمنين إلى أحد ووصل جيش الكفار كذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس عن القتال حتى يأمرهم ولبس صلوات الله وسلامه عليه الدرعين وحرّض أصحابه على القتال وحضّهم على الصبر في اللقاء وبثّ فيهم روح الحماسة صلوات الله وسلامه عليه ثمّ رفع سيفه وقال: من يأخذ هذا السيف بحقّه؟ فقام إليه رجال فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي دجانة: خذه فقال يا رسول الله وما حقّه؟ قال: أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني قال: أنا آخذه بحقّه يا رسول الله فأعطاه إياه فلمّا أخذ السيف عصب على رأسه عصابة (أي خرقة ربطها على رأسه) وجعل يتبختر بين الصفين (أي يمشي بفخر) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن لأنه يغيض الأعداء وتقارب الجمعان وتدانت الفئتان وبدأ القتال وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة العبدري وكان من فرسان قريش يسميه المسلمون كبش الكتيبة من شجاعته خرج على جمل يدعو إلى المبارزة فتقدّم إليه الزبير بن العوام ووثب إليه وثبة الليث حتى صار معه على جمله ثم اقتحم به الأرض (أي ألقاه إلى الأرض) وقام وذبحه رضي الله عنه وأرضاه فكبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبّر المسلمون ثمّ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للزبير لكل نبي حواري وحواري الزبير .

          استشهاد حمزة بن عبد المطلب:

          واشتد القتال بين المسلمين وأهل مكة وقتلوا من أهل مكة كثيراً وقتل في هذه المعركة عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه قتله رجل يقال له وحشي بن حرب ويحدثنا وحشي بن حرب عن قتله لحمزة قال: كنت غلاماً لجبير بن مطعم وكان عم جبير بن مطعم هو طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنّك إن قتلت حمزة عم محمد بعمّي فأنت عتيق قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قلّما أخطأ (بضم الخاء) بها شيئاً فلما ألتقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبعه ببصري حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل يهدّ الناس هداً ما يقوم له شيء فوالله إني لأتهيأ له أريـده فأستـتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مـني إذ تقدمـني إلـيه سباع بن عبد العزّى فلمّا رآه حمزة قال له: هلمّ إلي يا ابن مقطّعة وذلك أن أمه كانت تختن النساء فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه (يعني أصابه إصابة واحدة قطع رأسه بها) هنا هززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في أحشائه حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي (أي يأتيني) فغُلب (بضم الغين) فتركته وإياها حتى مات ثمّ أتيت بعد ذلك فأخذت حربتي ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة (يعني ما جئت لأقاتل جئت لأعتق نفسي بقتل حمـزة) وإنمـا قتـلته لأعتـق فلما قدمت مكة عتقت. والعجيب أن وحشي بن حرب هذا بعد ذلك أسلم وتاب فكان أن وفقه الله تبارك وتعالى إلى قتل مسيلمة الكذّاب فيقول قتلت ولي الله وقتلت عدو الله. اشتد القتال في هذه المعركة العظيمة أي معركة أحد وأنـزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده سبحانه وتعالى فكشف المسلمون الكافرين عن المعسكر وكانت الهزيمة قال الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات والخدَم (هي سيقانها) ما دون أخذهن قليل ولا كثير (يعني يستطيع أن يمسك بهن). وفي حديث البراء عند البخاري فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهنّ فتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، نصر الله المسلمين في هذه المعركة أي في أولها عند ذلك قام الرماة بترك أماكنهم وذلك أنهم أخطأوا في هذه المسألة وكان النبي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أمرهم أن لا يتركوا مكانهم أبدا ولكنهم لما رأوا الهزيمة ورأوا النساء تفر ورأوا الرجال يفرون ظنوا أن المعركة قد انتهت فنـزلوا عن أماكنهم وكان عبدالله بن جبير بن مطعم قائد الرماة فأمرهم أن لا يتحركوا وأن يبقوا في أماكنهم كما أمر النبي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وردّوا عليه بأن القتال قد انتهى ونـزلوا عن أماكنهم وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل كانا قائدي الفرسان ولم يشاركا في هذه المعركـة لأنه ما كان لهما دور لأن المسلمـين كانـوا قد أخذوا الأماكن الصحيحة في هذه المعركة فلما رأى خالد بن الوليد الناس قد تركوا مكانهم أي الرماة قام خالد والتف خلف الجبل وأخذ مكان الرماة فصار المسلمون الآن يتبعون كفار قريش فجاء خالد وعكرمة من خلف المسلمين ثمّ صاح في كفار قريش يناديهم وصار يرمي هو ومن معه المسلمين في ظهورهم ووقع المسلمون بين فكي الكماشة فرجع كفار مكة فصار المسلمون في الوسط فوقع فيهم القتل وفرّ من فرّ من المسلمين بعد هذه الفوضى التي رأوها وأن الكفار صاروا يقتلون منهم قتلاً ذريعاً لا يتركون أحداً إلا قتلوه ممن طالوه بأيديهم أو بسهامهم فمرّ أنس بن النضر رضي الله عنه بالمسلمين فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه أشيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قُتِل فيمن قُتِل من المسلمين فقال لهم أنس: ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين و أبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثمّ تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: أين يا أبا عمر؟ فقال أنس: واه لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد ثمّ مضى وقاتل القوم حتى قتل فلم يعرفه أحد إلا أخته ببنانه وذلك أنه وجد به بضع وثمانون طعنة أو ضربة سيف. قال أنس بن مالك: أفرد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه (أي يريدون قتله) فقال: من يردهم عنّا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثمّ قام الثاني فقاتل حتى قتل حتى قتل السبعة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسرت رباعيته أي أسنانه وشج في رأسه فجعل يمسح الدم صلوات الله وسلامه عليه ويقول كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وأنـزل الله عز وجل "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون" وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

          بطولات في أحد:

          1) طلحـة بن عبيـد الله رضي الله عنـه: دافـع عـن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى شلّت يمينه وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يد طلحة شّلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طلحة: من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحـة بن عبيد الله وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد ذاك اليوم كله لطلحة.

          2) أبو عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه: وقد رُمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجنته و دخل المغفر (أي غطاء الرأس من الحديد) في خده فجاء أبو بكر مع طلحة بن عبيد الله فأراد أبو بكر أن ينـزع المغفر عن وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو عبيدة: ناشدتك بالله إلا تركتني فأخذ بفيه (أي بفمه) فجعل ينضضه (أي يحركه) يسيراً كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ استله بفمه فسقطت ثنيته (أي أسنانه) رضي الله تعالى عنه و لما سقطت أسنان أبي عبيدة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دونكم أخاكم فقد أوجب (أي الجنة) بما فعل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

          3) أبو طلحة رضي الله عنه: قال أنس: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو طلحة بين يديه مجوه عليه بحجفة له (أي مترّس) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النـزع (يعني يصيب إذا رمى) فكان يمر عليه الرجل ومعه الجعبة (يعني التي فيها السهام) فيقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: انثرها لأبي طلحة ويشرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو طلحة يرمي ثمّ يصد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله بأبي أنت وأمي.

          4) أبو دجانة رضي الله عنه: ولما قصد المشركون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام أبو دجانة فترّس على النبي بظهره أي احتضن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعل ظهره للرمي.

          وقد أنـزل الله تبارك وتعالى في هذه المعركة آيات في سورة آل عمران "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثمّ صرفكم عنهم ليبتليكم لقد عفى عنكم".

          هل قتَل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً؟

          لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل يقال له أُبيْ بن خلف من كفار مكة وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجى فقالوا: يا رسول الله أيعطف عليه رجل منّا (أي يقتله)؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: دعوه فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحربة من الحارث بن الصمّة فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطاير عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير ثمّ استقبله فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً فحُمل وأخذ إلى أهل مكة فقالوا له؟ ما لك؟ فقال: قتلني والله محمد فقالوا له: ذهب والله فؤادك والله إن بك من بأس (أي ما بك بأس) فقال: إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك فوالله قتلني فمات في الطريق لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أتاه أُبيْ بن خلف وقال له: يا محمد عندي فرس أعلفه كل يوم أقتلك عليه فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: بل أنا قاتلك فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتل صلوات الله وسلامه عليه عدو الله أُبيْ بن خلف. ثمّ تراجع المسلمون وتراجع الكفار كما قلنا بعد إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم توقف المشركون عن القتال وتوقف المسلمون عن القتال.

          ونستطيع أن نلخص ما دار في هذه المعركة في نقاط منها:

          (1) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد القتال من المدينة في البداية ولكن لما أصر شبان الصحابة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد وتمّ القتال هناك.

          (2) أن عبدالله بن أبي بن سلول رجع بثلث الجيش فصار عدد المسلمين سبعمائة وكان عدد المشركين ثلاثة آلاف.

          (3) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الرماة أن لا يتركوا مكانهم .

          (4) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرض سيفه وأخذه أبو دجانة وتبختر به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه مشية لا يحبها الله تبارك وتتعالى إلا في هذا الموقف.

          (5) من الأمور التي تذكر أن المشركين هزموا في أول المعركة ثمّ كانت مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصارت الدائرة بعد ذلك على المسلمين.

          (6) استشهاد حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنس بن النضر وعمرو بن الجموح وعبدالله بن عمرو بن حرام وغيرهم.

          (7) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصيب في هذه المعركة حتى سقطت رباعيته وشج وجهه صلوات الله وسلامه عليه.

          (8) محاولة أُبيْ بن خلف قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الرجل الوحيد الذي قتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

          (9) جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبويه لسعد بن أبي الوقاص وقال له ارمِ فداك أبي وأمي.

          (10) إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

          (11) لما اشتد القتال ووقع في المسلمين القتل وأراد المشركون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ممن دافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم امرأة يقال لها أم عمارة نسيبة بنت كعب.

          (12) وقعت الهزيمة بالمسلمين في آخر المعركة وقتل منهم عدد كثير. وقاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل يقال له مخيريق يهودي أسلم وقاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مخيريق خير يهود.

          جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشهداء (شهداء أحد) والمشهور عند أهل العلم بل شبه متواتر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على شهداء أحد صلوات الله وسلامه عليه وكفنهم في ثيابهم إلا من لم يوجد له ثوب فكفن بغيره كمصعب بن عمير وحمزة فالقصد أنهم كفنوا في ثيابهم وفي دمائهم حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يأتون يوم القيامة الجرح يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك فلم يصل عليهم صلوات الله وسلامه عليه والصحيح في الشهداء أن الصلاة عليهم جائزة ليست ببدعة يجوز أن يصلى على الشهداء ويجوز أن تترك الصلاة عليهم وهكذا كان فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً يصلي على بعض الشهداء وأحياناً يترك صلوات الله وسلامه عليه. قال عبد الرحمن بن عوف: قُتِل مصعب بن عمير وهو خير منّي وكُفّن في بُردَ فإن غُطي رأسه بدت رجلاه وإن غُطّيَت رجلاه بدا رأسه وأنـزل رأسه وصار يبكي (أي عبد الرحمن بن عوف رضي الله تبارك عنه وأرضاه).

          بطولات النساء:

          انتهت هذه المعركة ورجع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقعت بطولات لبعض النساء بعد هذه المعركة بطولات في الصبر لأن الرجال بطولاتهم داخل المعركة.

          (1) وقد حصلت بعض البطولات داخل المعركة لنسيبة بنت كعب رضي الله تبارك وتعالى عنها ولكن في الأصل أن بطولات الرجال تكون داخل المعارك وبطولات النساء تكون خارج المعارك بالصبر والثبات والرضا بقضاء الله وقدره .

          (2) امرأة من بني دينار أصيب في أحد زوجها وأخوها وأبوها فلما قالوا لها: مات أبوك قالت: ولكن ما فعل رسول الله؟ قالوا: وأعظم الله أجرك في أخيك قالت: وما فعل رسول الله؟ قالوا: وقد استشهد زوجك قالت: وما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت: أرونيه حتى أنظر إليه فأشير إليها أي هناك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى لما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (أي ضعيفة)، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليتذكر مصيبته في فإنها أعظم المصائب. أعظم مصيبة أصيب بها الناس كلهم هي مصيبة وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك هذه الصحابية رضي الله عنها حققته واقعاً مات أبوها وأخوها وزوجها وتقول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. مرّ بنا لما ضُرب أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما كان يدعو إلى الله تبارك وتعالى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون سليم أي لا بأس عليك وهو يكاد يموت فيقول لهم: وما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما نحن بما أننا لم نرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإظهار حبنا له صلوات الله وسلامه عليه إنما يكون باتباعه واتباع سنته والسير على هديه والدفاع عن سيرته ونشرها بين الناس فهذا هو الواجب علينا جميعاً.

          قتل من المسلمين كما قلنا سبعون وقتل من المشركون ثمانية وثلاثون أو سبعة وثلاثون على خلاف في الروايات ومن أراد أن يعرف ما دار في هذه المعركة بصورة عامة فعليه أن يقرأ سورة آل عمران فإنها تكلمت عن هذه المعركة بشبه تفصيل وذكرت بعض الحوادث.

          حادثة غريبة:

          رجل يقال له قزمان قاتل مع المسلمين قتالاً شديداً وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره ما فعل قزمان فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هو من أهل النار فاستغرب الناس يقاتل هذا القتال ويكون من أهل النار فقال رجل من الصحابة: لأتبعنّه فتبعه فلما أصيب قزمان وضع نصل السيف في الأرض ثمّ نام عليه حتى قتل نفسه وجاؤا هذا الرجل قبل أن يقتل نفسه فقالوا له: هنيئاً لك الجنة قاتلت في سبيل الله فقال: لا والله إنما قاتلت عن أحساب قومي (أي ما أراد وجه الله تبارك وتعالى) وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أول من تسعّر فيهم النار ثلاثة وذكر منهم صلوات الله وسلامه عليه الرجل فيقول الله له: أعطيتك من القوة فماذا صنعت؟ قال: قاتلت فيك حتى قُتِلت فيقول له: كذبت إنما فعلت هذا ليقال جريء وقد قيل خذوه إلى النار. فرجع الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقول له ما وقع لقزمان من قتله لنفسه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله: أكبر لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة هو من أهل النار.

          ولذلك لا ينبغي لنا أن نحكم على الناس إذا قاتلوا بأنهم شهداء الله أعلم بما في قلوبهم ولكن أيضاً لا ينبغي أن نسيء بهم الظن بل نحسن فيهم الظن وإنهم إنما قاتلوا في سبيل الله وهذا هو الأصل ولذلك الأولى أن نقول نحسبهم شهداء، نظنهم شهداء نسأل الله لهم أن يكونوا من الشهداء أو ما شابه ذلك من الكلمات .

          وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى الحكم والغايات والفوائد من تلك المعركة منها:

          أولاً: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ألا يبرحوه.

          ثانياً: أن عادة الرسل أن تُبْتَلَى وتكون لها العاقبة في النهاية والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم ولم يتميز الصادق من غيره ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين لتمييز الصادق من الكاذب. وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفياً عن المسلمين فلما جرت هذه القصة أظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول وعاد التلويح تصريحاً وعرف المسلمون أن لهم عدواً في دورهم واستعدوا لهم وتحرزوا منهم. قال تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" فلو كان دائماً هزيمة ما ظهر هذا الدين ولو كان دائماً نصر لم تتميز الصفوف فهزيمة ونصر حتى يظهر الله تبارك وتعالى الدين كله على الأرض كلها.

          ثالثاً: إن في تأخير النصر في بعض المواطن هضماً للنفس وكسراً لشماختها فلما ابتلي المؤمنون صبروا وجزع المنافقون حتى الإنسان لا يصيبه الكبر (بكسر الكاف وسكون الباء) والعجب بنفسه فيهزم أحياناً وينتصر أحياناً حتى يعرف أن الأمر كله بيد الله تبارك وتعالى.

          رابعاً: أن الله تبارك وتعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته أي الجنة لا تبلغها أعمالهم فقيظ لهم أسباب المحن والابتلاء ليصلوا إليها. يعني لو لم يكن هناك جهاد ما نال المسلمون الفردوس الأعلى عند الله تبارك وتعالى ولا شفع الشهيد لسبعين من أهله ولا غفر له مع أول قطرة دم تخرج ولا عصم من فتنة القبر ولكن الله يريد أن يرفع درجاتهم فكان الجهاد وكان القتل الذي يقع على المسلمين.

          خامساً: إن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقها الله سبحانه وتعالى إليهم سوقا.

          سادساً: أنه أراد سبحانه وتعالى إهلاك أعدائه فقيظ لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه فمحّص بذلك ذنوب المؤمنين ومحق بذلك الكافرين. ولاشك أن هناك فوائد أخرى ولكن هذه بعض الفوائد التي ذكرها الإمام ابن القيّم رحمه الله تبارك وتعالى.

          بعث الرجيع:

          في السنة الرابعة من الهجرة قدم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوم من والقارة وذكروا أن فيهم إسلاماً وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ويُقرؤهم القرآن فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم عشرة من أصحابه وأمّر عليهم عاصم بن ثابت وقيل أمّر مرثد بن أبي مرثد ولكن المشهور أنه أمّر عليهم عاصم بن ثابت فذهبوا معهم فلما وصلوا إلى مكان يقال له الرجيع استصرخوا عليهم (أي طلبوا مساعدتهم) حياً من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقرب من مائة رام من بني لحيان فلحقوهم وأحاطوا بهم ثم لجأوا إلى مكان يصدهم عن الأعداء فقال لهم أعداؤهم لكم العهد والميثاق إن نـزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فأبى عاصم أن ينـزل وقاتلهم مع أصحابه فقتل منهم سبعة وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق مرة أخرى فنـزلوا إليهم لأنهم أكثر من مائة مقابل خمسة وليس معهم سلاح ولكنهم غدروا بهم فربطوهم بأوتار قسيّهم (بأحبال النبل) فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر صالحتمونا ثمّ تربطوننا فأبى أن يستسلم لهم فقاتلوه وقتلوه وأخذوا خبيب بن عدي وزيد بن دثنة فباعوهما بمكة وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر فأما خبيب فمكث عندهم مسجوناً ثم أجمعوا على قتله وخبيب رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لما أسر وقعت له حادثتان:

          الحادثة الأولى: ذكروا أن لديه طعام ولم يعطه أحد.

          الحادثة الثانية: أنه طلب الموسى حتى يحلق الشعر الذي في جسده فأرسلت امرأة الموس مع ولدها فلما أتاه الولد بالموس تذكرت المرأة فكيف ترسل الموس مع ولدها وهذا الرجل مقتول قد يقتل ولدها مقابل نفسه لينتقم فجاءت مسرعة فلما رأى خبيب المرأة والولد عنده والموس معه قال لها: أخشيت أن أقتله؟! ثم أخذ خبيب رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى التنعيم خارج مكة أي إلى الحِل لأنهم كانوا يستحرمون القتل داخل الحرم وهنا غدر ولكن يستبيحونه فتحريمهم وتحليلهم هوى وليس تبع دين وإنما أهواء يحرمون أحياناً ويحللون أحياناً فلما أجمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين فتركوه فصلاهما فلما قضى قال: والله لولا أن تقولوا إنما بي جزع لزدته (أي خشيت أن تقولوا جزع من الموت فأطال في الصلاة حتى هذه ما أعطاهم إياها وإنه في نيته أن يصلي لله سبحانه وتعالى ويريد أن يطيل لله تبارك وتعالى ولكن خشي أن يفهموا أنه إذا أطال في الصلاة أنه خائف من الموت فقال حتى هذه لا أعطيهم إياه فصلى صلاة قصيرة وهي ركعتان وقال أهل العلم سنة القتل سنهما خبيب رضي الله تبارك وتعالى عنه). ثم قال خبيب: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبقِ منهم أحدا ثم قال أبياتاً من الشعر:

          لقد أجمع الأحزاب حولي وألّبوا ،،،،،،،،، قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

          وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ،،،،،،،،،،،، وقربت من جذع طويل ممنّع

          إلى الله اشكو غربتي بعد كربتي ،،،،،،،،، وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي

          فذا العرش صبرني على ما يراد بي ،،،،،،، فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطمع

          وقد خيروني الكفر والموت دونه ،،،،،،،، فقد ذرفت عيناي من غير مدمع

          ولست أبالي حين أقتل مسلما ،،،،،،،،،، على أي شق كان في الله مضجع

          وذلك في ذات الإله وإن يشأ ،،،،،،،،،، يبارك على أوصال شلوٍ ممزع

          فالتفت إليه أبو سفيان وقال له: يا خبيب أيسرك أن محمداً عندنا تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فماذا كان جواب المؤمن المحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكانه الذي هو فيه يصاب بشوكة تؤذيه كانوا صادقين في حبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم صلبوه رضي الله عنه ووكّلوا به من يحرس جثته فجاء عمرو بن أمية الضمري فاحتمله بالليل خديعة دون أن يراه أحد فذهب به ودفنه ويقال أن الذي قتل أو باشر قتل خبيب بن عدي هو عقبة بن الحارث . قال معاوية رضي الله تبارك وتعالى عنه قبل أن يسلم وكان موجوداً في مكة في هذا الوقت قال: كنت فيمن حضـر قتل خبـيب فلقد رأيت أبا سفيان (يعني والده) يلقيني إلى الأرض فرقاً (أي خوفاً) من دعوة خبيب وكانوا يقولون إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع زلت عنه الدعوة (يعني لم تصبه) فكانوا يعتقدون أنه مظلوم وأن دعوته حق وكان كذلك ممن حضر قتل خبيب بن عدي سعيد بن عامر. وسعيد بن عامر قصته عجيبة وذلك أن عمر قد جعله والياً على الشام بعد إسلامه فسأل عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه الناس في الشام وقال: كيف حال واليكم؟ فقالوا: لا ننقم عليه إلا ثلاثة أشياء قال عمر: وما هي؟ قالوا: في يوم من الأسبوع لا يخرج إلينا والثانية أنه كل ليلة لا يخرج إلينا وقال: والثالثة قالوا: أحياناً وهو جالس معنا تصيبه غشية ويقع فناداه عمر فقال: يا سعيد ما هذا الذي يحدث الناس؟ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين قال: يقولون إنك في يوم من الأسبوع لا تخرج إليهم قال: يا أمير المؤمنين هذا اليوم أغسل فيه ثوبي وليس عندي ثوب غيره هل أخرج لهم بدون ثوب؟! فإني أبقى حتى يجف الثوب ثم أخرج إليهم قال: إنهم يقولون إنك لا تخرج إليهم في الليل دائماً قال يا أمير المؤمنين النهار لهم والليل لربي قال: وما هذه الغشية التي تصيبك فبكى وقال: يا أمير المؤمنين إني حضرت قتل خبيب بن عدي وإني كلما تذكرت دعوته وقتله أغمي علي من الخوف من الله تبارك وتعالى. وأما عاصم بن ثابت رضي الله تبارك وتعالى عنه فإنه امتنع عن النزول إليهم ولم يستسلم فقاتلهم حتى قتلوه ولكن سبحان الله البغض والحقد الذي في قلوب المشركين عظيم وذلك أن قريشاً بعثت لمن يأتي لهم بجسد عاصم حتى يتأكدوا أن عاصماً قد قتل وتشفى قلوبهم من الغل الذي فيها فبعث الله تبارك وتعالى مثل الظُلة من الدُبُر نوع من الحشرات كالبعوض فحمته من الرسل فلم تستطع أن تصل إليه وكان عاصماً قد أعطى الله تبارك وتعالى عهداً أن لا يمسه مشرك وذلك لبغضه للمشركين فوفاه الله تبارك وتعالى عهده حتى بعد موته. ولذلك لما قيل لعمر ذلك قال: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته. هذه مأساة آذت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

          بئر معونة: وتبعتها في نفس الشهر هذه المأساة، قدم عامر بن مالك ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أسلم تسلم فأظهر ليناً وأظهر نوع استجابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يسلم ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني أخاف عليهم أهل نجد أخاف أن يُقتَلوا فقال أبو البراء: أنا جار لهـم فبعث النبـي صـلى الله عليه وآله وسلم معه سبعين رجلاً وأمّر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة وكان هؤلاء السبعون من خيار المسلمين ذهبوا ينشرون دين الله تبارك وتعالى في أهل نجد فساروا يتدارسون القرآن ويصلون بالليل حتى نـزلوا مكاناً يقال له بئر معونة ثم بعثوا حرام بن ملحان خال أنس بن مالك رضي الله عنه بكتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل فقال له: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرمى بالكتاب قبل أن يقرأه ثم أمر رجلاً فطعن حرام بن ملحان بظهره رضي الله عنه فلما نفذ السيف أو الرمح (بحسب ما طعن به) في ظهره قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة (هكذا يرون أن هذا نصر وفوز لأنه نال الشهادة في سبيل الله). ثم قام عامر بن الطفيل واستنفر الناس وقال: القتال القتال فامتنع عنه كثير من الناس لجوار أبي البراء ملاعب الأسنة لأنه قال أنهـم في جـواري ولكن هذا الخبيث عامر بن الطفيل خان جوار أبي البراء وصار يستنفر الناس ويقول قوموا نقتلهم فرصة مهيأة وغنيمة باردة وقام معه رجال من عصية ورعل وذكوان قبائل عربية فجاؤا وأحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم فلم ينجُ منهم إلا ثلاثة كعب بن زيد وذلك أنه سقط مع القتلى ولكنه لم يمت فبقيت فيه الروح قتركوه ومشوا ثم هرب رضي الله عنه وعمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة وهما كانا بعيدين عن القتال لأنهما كانا مع خيل وأغراض المسلمين فلم يكونا معهم ولكنهما رأيا الطير تحوم من بعيد فلما اقتربا وجدا المشركين قد قتلوا أصحابهم فقام المنذر وصار يقاتل المشركين فقتلوه رضي الله عنه أمـا عمـرو بن أمية فأُسِـر ثم تركه عامر بن الطفيل لأن على أمه عتق رقبة فهذه رقبة أعتقها فرجع عمرو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بهذه النكبة وبقتـل هـؤلاء السـبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الطريق وقعت حادثة صغيرة لعمرو بن أمية رضي الله عنه وذلك أنه في الطريق نـزل في ظل شجرة فجاءه رجلان من بني كلاب فنـزلا معه فلما ناما أخذ السيف وقتلهما كان يظن أنهما ممن شارك في قتل أصحابه رضي الله عنه فلما قتلهما وجد معهما كتاباً فيه عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقدم وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد قتلت قتيلين لأدينّهما (أي أدفع الدية من مالي) وانشغل بجمع ديّاتهما صلوات الله وسلامه عليه فجمع من أصحابه وطلب من بني النضير وذلك في صلب المعاهدة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يشاركون في الديات القتل الخطأ فكانت بعد ذلك سبباً لغزوة بني النضير. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تألم جداً لهذه المأساة والتي قبلها الرجيع وصار يدعو على أولئك القوم في الصلاة شهراً كاملاً يقنت ويدعو عليهم اللهم عليك برعل وذكوان وعصية فإنها عصت ربها وكان يلعنهم صلوات الله وسلامه عليه في صلاته حتى أنـزل الله تبارك وتعالى "ليس لك من الأمر شيئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون" فترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم القنوت عليهم وقال عن القتلى أنهم قالوا: بلّغوا قومنا أنا لقِينا ربنا فرضيَ عنّا ورضينا عنه وترك الدعاء عليهم.

          غزوة بني النضير:

          اليهود وإن كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلح ومعاهدات إلا أنهم كما هو معلوم أهل غدر وكما ذكرنا من غدر بني قينقاع والآن نذكر غدر بني النضير وبعدهم نذكر غدر بني قريظة حتى يُعلم أنهم من عادتهم الغدر وإنهم لا يوفون بوعودهم. خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه إلى اليهود وكلمهم أن يعينوه في دية الكلابيين الذين قتلهما عمرو بن أمية فقالوا: نفعل يا أبا القاسم اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك فجلس صلوات الله وسلامه عليه إلى جانب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم ومعه بعض أصحابه منهم أبو بكر وعمر فاجتمع اليهود وقالوا: اقتلوه هذه فرصتكم فاتفقوا على أن يصعد أحدهم إلى أعلى البيت الذي بجانبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويلقي عليه حجراً فيقتله فقام رجل يقال له عمرو بن جحاّش فقال: أنا أفعلها فقال سلاّم بن مشكم: فوالله ليخبرنّه بما هممتم به، (سبحان الله يعلمون أنه صادق)، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه فقالوا: دعنا عنك فنـزل جبريل من عند رب العالمين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمه بما هموا به فقام صلوات الله وسلامه عليه مسرعاً من مكانه وذهب إلى المدينة ولحقه أصحابه وقالوا له: يا رسول الله نهضت بدون أن تعلمنا السبب فأخبرهم أن اليهود قد عزموا على قتله صلوات الله وسلامه عليه فأرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة إلى بني النضير لهم اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشراً (أي عشرة أيام) فمن وجدت بعد ذلك بها ضربت عنقه ولم يجد اليهود مناصاً من الخروج فقاموا أياماً يتجهزون للرحيل ولكن عبدالله بن أبي بن سلول بعث إليهم وقال لماذا تخرجون؟ اثبتوا وتمنعوا ولا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وينصركم حلفاؤكم من غطفان فلماذا تخافون من محمد؟! اثبتوا فأعاد إليهم ثقتهم بأنفسهم فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن نخرج فاصنع ما شئت فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جواب سيدهم حيي بن أخطب كبّر صلوات الله وسلامه عليه وكبّر أصحابه ثمّ نهض صلـوات الله وسـلامه عليه لمنـاجزة القـوم وجـعل على المدينة عبدالله بن أم مكتوم وجعل اللواء مع على بن أبي طالب وفرض عليهم الحصار ثم أمر بقطع النخيل فقالوا محمد يفسد في الأرض فقال الله تبارك وتعالى:" ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " فهذا ليس بفساد فلما رأوا حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتزلتهم قريظة وقالوا لا شأن لنا نحن بيننا وبين محمد عهد واعتزلهم عبدالله بن أبي بن سلول وخانتهم غطفان وظلوا وحدهم، قال عبدالله بن عباس: إن سورة الحشر نـزلت فيهم وفيها قصة عبدالله بن أبي بن سلول "ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون" فامتنعوا عن نصرهم وخذلوهم وخذلتهم غطفان فقال الله تبارك وتعالى:" كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" ولم يطل الحصار بقي ست ليال وقيل أكثر من ذلك فقذف الله تبارك وتعالى في قلوبهم الرعب فقالوا: يا محمد نخرج عن المدينة بشرط أن يخرج معنا ذرارينا وما حملت إبلنا من السلاح فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا إلا السلاح لكم ما حملت الإبل إلا السلاح فنـزلوا على رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا يخربون بيوتهم حتى لا يسكنها المسلمون وأخذ بعضهم حتى الشبابيك والأوتاد وغيرها معهم وحملوا النساء والصبيان على ستمائة بعير ورحل أكثرهم كحيي وسلاّم بن أبي الحقيق كلهم ذهبوا إلى خيبر فخرجوا من مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وقبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاحهم واستولى على أرضهم فوجد من السلاح خمسين درعاً وثلاثمائة وأربعين سيفاً.

          غزوة الأحزاب:

          غزوة الأحزاب في آخر السنة الرابعة وقيل في بداية السنة الخامسة وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن طرد بني النضير وكان قد طرد قبلهم بني قينقاع لم يبق في المدينة إلا بنو قريظة والمنافقون طبعاً موجودون في المدينة وسبب الغزوة أنه خرج عشرون رجلاً من بني قريظة ومعهم آخرون من بني النضير إلى مكة وأخذوا يحرضون أهل مكة على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون نحن معكم ننصركم من الداخل ومن الخارج وذهبوا إلى غطفان وقالوا انصروا قريشاً على محمد وذهبوا إلى قبائل العرب يحرضونهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرجت قريش وكنانة وخرج غطفان واليهود وتجمعوا حول مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعشرة آلاف واتفقوا على قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علِم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قريشاً مع غطفان وكنانة واليهود تحالفوا عليه فاستشار أصحابه فأشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه أن يحفر خندقاً وقال هكذا كان يفعل الفرس إذا تضايقوا فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندق حول المدينة من جهة الشمال لأن الجهات الأخرى كلها محصورة بالجبال فلا يستطيع أحد أن يأتي منها فصاروا يحفرون بجد ونشاط والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يشاركهم قال صحابي: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخندق وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على ظهورنا فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار، وفي رواية فاغفر للأنصار والمهاجرة وعن أنس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرين والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال صلوات الله وسلامه عليه: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا له:

          نحن الذين بايعوا محمدا ،،،على الجهاد ما بقينا أبدا

          وُدّ متبادل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعن البراء قال: رأيته صلوات الله وسلامه عليه ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه (أي من كثرة الغبار ما أرى بطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فسمعته يرتجز بكلمات عبدالله بن رواحه وهي:

          اللهم لولا أنت ما اهتدينا ،،،،،،، ولاتصدقنا وما صلينا

          فأنـزلن سكينة علينا ،،،،،،،،،،،، وثبت الأقدام إن لاقينا

          إن الأُلى قد بغوا علينا ،،،،،،،،، وإن أرادوا فتنة أبينا

          ويعيدها إن الأُلى قد بغوا علينا ،،،،،،،،، وإن أرادوا فتنة أبينا

          قال أبو طلحة: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجوع ومن شدة الشكوى رفعنا القمص عن بطوننا نري النبي صلى الله عليه وآله وسلم أننا نربط الحجر على بطوننا من شدة الجوع فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه وإذا هو قد ربط حجرين أي أن جوعه أشد من جوعهم صلوات الله وسلامه عليه فاطمئنوا وهكذا يطمئن الناس إذا كان قائدهم مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشعر بشعورهم يجوع كما يجوعون ويعطش كما يعطشون ويعمل كما يعملون ويهتم كما يهتمون ما يكون في برج عاجي بعيد عن الناس وإنما يشاركهم ويخالطهم فإذا رأوا ذلك علموا أنهم ليسوا فقط الذين يعملون حتى قائدهم معهم بشاركهم بل أكثر منهم صلوات الله وسلامه عليه. وهذه كرامة أعطاها الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم وأرضاهم قال جابر: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة (يعني صخرة عظيمة) ما استطعنا تكسيرها فجئنا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله هذه كدية عرضت في الخندق ما نستطيع عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا نازل لها ثم قام وبطنه معصوب بحجر صلوات الله وسلامه عليه وكنا قد مضت علينا ثلاثة أيام لم نذق طعاماً فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعول فضربه فعاد كثيباً أهيل (بفتح الهاء) أو أهيم (بفتح الهاء) أي لما ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجر صار كالرمل تفتت من قوة ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
          [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]

          تعليق

          • علي الدوسي
            عضو مميز
            • Jun 2002
            • 1078

            #6
            قال ابن القيّم رحمه الله تعالى: ولم يكن بينهم قتال وإنما أغار عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الماء بعد أن فرّ أكثر مقاتليهم فسبى ذراريهم وأموالهم كما جاء عنه قال: أغار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بني المصطلق وهم غارّون وهذا في صحيح البخاري وكان من جملة السبي في هذه الغزوة جويرية بنت الحارث سيد قومه وكانت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها والمكاتبة هي أن يقول لها لك حريتك على أن تعطيني شيئاً من المال مثل مائة دينار أو مائتين حسب ما يتفق وإياها عليه فلما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أدى عنها ثمّ تزوجها صلوات الله وسلامه عليه وهي حرة ولما سمع المسلمون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج بجويرية اعتقوا من كان معهم من ذراري وسبي بني خزاعة وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد مرَّ أن المنافقين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول.

            ووقعت حادثتان من هذا المنافق في تلك الغزوة، أما الحادثة الأولى: فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان معه أجير يقال له جهجاه الغفاري ازدحم هو وسنان بن وبر الجهني (بضم الجيم) على الماء (يعني تخاصما على الماء) فاقتتلا فصرخ الجهني فقال: يا معشر الأنصار ثم صرخ جهجاه وقال: يا معشر المهاجرين. عند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَبِدَعوة الجاهلية وأنا بين أظهركم (وهذا يدل على أن الناس إلى الآن فيهم من لم يدخل الإيمان قلبه تماماً ففيه بعض أمور الجاهلية وذلك أنه دعا بدعوة الجاهلية وقال يا معشر الأنصار والآخر يا معشر المهاجرين فهذا يريد أن يقوم معه الأنصار والآخر يريد أن يقوم معه المهاجرون بغض النظر عن الحق مع من يكون) ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبدعوة الجاهلية فسماها جاهلية صلوات الله وسلامه عليه دعوها فإنها منتنة فلما سمع عبد الله بن أبي بن سلول بذلك الحدث وهو أن هذا المهاجري قال: يا معشر المهاجرين أمام الأنصاري وهم في بلادهم يعني في المدينة والأنصار كما تعلمون قد آووا المهاجرين وأسكنوهم في منازلهم وزوجوهم من نسائهم وأعطوهم من أموالهم فغضب عبد الله بن أبي بن سلول عند ذلك ثمّ قال أَوَقَد فعلوها؟! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحول إلى غير دياري.

            وسمع زيد بن أرقم وكان شاباً صغيراً فذهب إلى عمه فأخبره فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عند رسول الله عمر فقال عمر: يا رسول الله مر عباّد بن بشر فليقتله لأن قوله سمّن كلبك يأكلك وقوله ليخرجنّ الأعز منها الأذل عن المهاجرين وشمل معهم سيدهم ورسولهم صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس إنّ محمداً يقتل أصحابه؟ ثم سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما ارتحل الناس جاء أسيد بن حضير رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أما بلغك ما قال صاحبكم؟ أي عبد الله بن أبي بن سلول لأن أسيد بن حضير من رؤوس الأنصار كان سيدا من سادات الأوس. فقال: وما قال؟ فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل. فقال أسيد بن حضير: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت والله العزيز. ثمّ قال: يا رسول الله ارفق به والله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه يرى أنك استلبته ملكه. ثمّ مشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس أي في رجوعه غزوة بني المصطلق حتى أصبح وصدر يومه ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس ووقعوا نياماً (أي ناموا من شدة التعب وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريدهم أن يتكلموا بهذا الأمر أتعبهم في المشي حتى مجرد أن يصلوا ينامون ولا يتكلمون بهذا الأمر ألا وهو كلام عبد الله بن أبي بن سلول في النبي صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه أما عبد الله بن أبي فلما علم أن زيداً بلّغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخبر ذهب إلى النبي وحلف وقال: والله يا رسول الله ما قلت وإنما كذب علي زيد وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل فصدقه قال زيد بن أرقم: فأصابني هم لم يصبني مثله قط لأنه كأنه يتهم بالكذب أو بعدم الفهم والأولى أقوى يقول: فجلست في بيتي من الحزن ويقصد في بيته إما أن يقصد المدينة عندما رجع وإما أن يقصد بيته في حال نزولهم في السفر يقول فأنزل الله جلّ وعلا "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" إلى قوله تعالى "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يعلمون يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون".

            هنا بين الله تبارك وتعالى أن زيداً لم يخطئ رضي الله تبارك وتعالى عنه وإنما أصاب بما قال وأن عبد الله بن أبي بن سلول كاذب في مدعاه عند ذلك أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيد فقرأها عليه ثم قال له: إن الله قد صدقك أي فيما قلت. وهذا المنافق كان له ولد اسمه عبد الله كاسم أبيه فهو عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وكان رجلاً صالحاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما بلغه أن والده قال هذا الكلام عن رسول الله وأصحابه وقف في مدخل والده إلى المدينة وقال له أأنت الذي تقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل تريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فوالله لرسول الله هو الأعز وأنت الأذل. فحمية العقيدة طغت على حمية الولادة وقدم حمية عقيدته على حمية ولادته ثم قال: والله لا تدخل إلى المدينة إلا وأنا قاتلك أو يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. عند ذلك أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركه ودخل إلى المدينة.

            حادثة الإفك:

            الحادثة الثانية العظيمة التي وقعت في هذه الغزوة ألا وهي حادثة الإفك. والإفك عظيم الكذب والافتراء وهذه الحادثة من كتاب صحيح الإمام البخاري رحمه الله تبارك وتعالى قال رحمه الله تبارك وتعالى: حدثنا يحي بن بكير قال: حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا وكل حدثني طائفة من الحديث وبعض حديثهم يصدق بعضا وإن كان بعضهم أوعى لهم من بعض. هذه الحادثة في الحقيقة فيها عبر عظيمة جداً ولعل الواحد منا عندما يقرأ هذه الحادثة أن تهمل عيناه بالدموع وأن يستشعر القصة ويحاول أن يكون حاضراً بقلبه على الأقل وأن يستخرج منها الدروس والعبر.

            قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: الذي حدثني عروة عن عائشة رضي الله عنها أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه قالت: فأقرع بيننا في غزوة غزاها (أي هذه الغزوة) فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.<1> فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما نزل الحجاب (تقصد بعدما نزلت آية الحجاب) فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه<2> فسرنا حتى إذا فرغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من غزوته تلك (أي غزوة بني المصطلق) وقفل (أي رجع) ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل<3> فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت على راحلتي فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع (والجزع هو الخرز فيه شيء من الطيب كانت تلبسه النساء في ذلك الوقت) فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحّلون لي راحلتي فاحتملوا هودجي فرحلوه على البعير الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهنّ اللحم وإنما يأكلن العُلَقة (بضم العين وفتح اللام) من الطعام (أي القليل) فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن (كان لها من العمر ثلاث عشرة سنة) فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب. (فلتحاول كل امرأة أن تضع نفسها أو ابنتها مكان عائشة رضي الله عنها فتاة صغيرة في ليل مظلم وحدها في مكان مقفر والناس كلهم قد ذهبوا رضي الله عنها وأرضاها).

            تقول عائشة رضي الله عنها فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني ويرجعون إليَّ (وهذا من فطنتها وذكائها رضي الله عنها ولو كان غيرها من النساء لصاحت وصارت تركض يميناً ويساراً شرقاً وغرباً تبحث عن أهلها ولكن عائشة رضي الله عنها لكمال عقلها جلست في مكانها لأنها علمت أنها لو خرجت خلفهم ستضيع). تقول فبينا أنا جالسة في منزل (أي في مكان) غلبتني عيني فنمت (وهذا يدل على أمرين اثنين أما الأمر الأول فهو شجاعة عائشة رضي الله عنها أما الأمر الثاني فهو رعاية الله لها وذلك أن الله تبارك وتعالى ألقى عليها النوم حتى لا تبدأ تفكر في القوم وفيما سيأتي إليها من حيوانات أو أناس أو غير ذلك). تقول: وكان صفوان بن المعطّل السلمي (بضم السين) ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج (أي مشى في الليل) فأصبح عند منـزلي (والغريب في هذا الرجل رضي الله عنه أنه كان هو وقبيلته كلهم كانوا معروفين بكثرة النوم حتى إنه جاء حديث أن زوجته جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفوان بن المعطّل وتقول: يا رسول الله إن صفوان لا يصلي الفجر فناداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأله؟ قال: يا رسول الله إننا قوم قد عرفنا بالنوم ننام حتى تطلع الشمس).

            فالقصد أن صفوان بن المعطّل كان متأخراً عن الجيش ولعله بسبب النوم وأنه سار على طريقهم فوجد عائشة رضي الله عنها نائمة في مكانها تقول عائشة: فرأى سواد إنسان نائم من بعيد فأتاني فعرفني حين رآني (لأنها لما كانت نائمة كانت وجهها مكشوفاً تقول وكان يراني قبل الحجاب) فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني (أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون) فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطأ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة (أي يمسك بلجامها ويمشي على رجله) حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فوصلنا إليهم فهلك من هلك (تقصد أن الناس تكلموا في عرضها لما رأوها قادمة مع صفوان لوحدها فتكلم فيها من تكلم من المنافقين حتى إنه نقل فيما نقل من كلامهم كلام عبد الله بن أبي بن سلول أنه قال: والله ما جاءا إلا بعد أن فجر بها وفجرت به. والعياذ بالله فلعنة الله عليه) وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللطف الذي كنت أراه منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسلم ويقول كيف تيكم؟ (أي كيف حالك؟) ثمّ ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر وذاك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرضت عائشة كان يلاطفها ويسليها كما في الحديث المعروف للبخاري لما قالت عائشة رضي الله عنها: وارأساه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل أنا وارأساه وما ضرك يا عائشة لو مت لغسلتك وكفنتك وصليت عليك وأنزلتك في قبرك وهي أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سأله عمرو بن العاص: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قال: ومن الرجال؟ قال: أبوها.

            حتى خرجت بعدما نقهت (أي تعافيت) معي أم مِسطح (بكسر الميم) قبل المناصع (أي مكاناً لقضاء الحاجة قرب المدينة) وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن تُتخذ (بضم التاء) الكُنُف (وهي الحمامات) قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول بالتبـرز قُبِل (بكسر القاف وفتح الباء) الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح (وهي ابنة أبي رُهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق أي أن أم مسطح ابنة خالة أبي بكر وابنها مسطح بن أثاثة) فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مِرطها (أي في ثوبها) فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه (وتقال للبنت المغفلة وهنا اتهمت عائشة بالغفلة) فقالت: أولم تسمعي ما قال؟ قالت عائشة: وما قال؟ قالت عائشة: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي. (لك أخيتي أنت أن تتصوري نفسك وقد اتهمت في عرضك كيف تكون حياتك وكيف تنعمين بالحياة وأعز ما عند المرأة عرضها قد تتهم بكذب أو بسرقة أو بغيبة أو بربا أو بتبرج لكن أن يصل الأمر إلى العرض فهذا أخطر شيء تصاب به المرأة)، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلّم ثم قال: كيف تيكم؟ أي (لم يتغير من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شيء ولكن الذي تغير أن عائشة علمت السبب الآن عرفت لماذا تغير حال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم معها) فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم. قالت عائشة: وأنا حينئذ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما (لأنها تستحي أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ (وأمها أم رومان بنت عامر الكنانية) فقالت: يا بنيه هوني عليك فوالله لقل ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قالت: فقلت: سبحان الله! أو لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع (أي لا ينقطع) ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.

            فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي، (هذه الفترة يذكر أنها استمرت أكثر من شهر والناس يتكلمون في عائشة ويخوضون فيها والوحي منقطع، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يدري ما وقع وهذا يبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم الغيب)، يستأمرهما في فراق أهله، (أما علي رضي الله عنه فهو زوج ابنته وابن عمه وأقرب الناس إليه من حيث النسب وأما أسامة فهو تربى في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو حب (بكسر الحاء) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن حبه فلذلك استشارهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقربهما من بيته ولمعرفتهما بعائشة رضي الله عنهم أجمعين)، أما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك (علي كأنه يميل إلى طلاقها من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأسامة رضي الله عنه نظر في صالح عائشة ولذلك برأها وأما علي فنظر إلى صالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهم الذي ركبه من هذه القضية) فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها (أي أعيبه)، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله (أي ثم أقول لعائشة: انتبهي للعجين حتى أذهب وآتي فتنام وتترك العجين فتأتي الداجن (وهي الحيوانات التي تعيش في البيت كالغنم والدجاج) فتأتي وتأكل العجين وذلك لأن عائشة جارية صغيرة).

            فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي بن سلول (أي طلب العذر في قتله لأنه هو الذي أشاع هذا الكلام عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا (يريد صفوان بن المعطل) ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ الأنصاري وهو سيد الأوس رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت عائشة: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية (وكيف ذلك؟ عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج بل من كبار الخزرج بل كانوا سيتوجونه على الأوس والخزرج ملكاً فلما قال سعد بن معاذ إن كان من الأوس قتلناه وإن كان من الخزرج أمرتنا بأمرك غضب سعد بن عبادة وأخذته حمية الجاهلية هنا في هذه القضية) فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ وهو من الأوس فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنّه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، (أي هذا التصرف منك تصرف المنافقين وهذا يبين لنا أنه يجوز إطلاق كلمة المنافق على من تصرف تصرفات المنافقين أي في هذه الصفة وهذا يسمى النفاق العملي وليس النفاق الاعتقادي، تقول عائشة: فتساور الحيان (وفي رواية أخرى فتثاور الحيان، أي كاد يكون قتال)، الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفّضهم (بضم الياء) حتى سكتوا وسكت، (وترك أمر عبد الله بن أبي بن سلول وذلك للمصلحة الراجحة).

            فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد كنت بكيت ليلتين ويوماً يظنان، أن البكاء فالق كبدي فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فجلست تبكي معي وهذا مما يهوّن على صاحب المصيبة أي إذا أصابت امرأة مصيبة فجاءت امرأة أخرى تبكي معها تهوّن عليها المصيبة بمشاركتها إياها ولذلك قالت الخنساء لما مات أخوها صخر:

            ولولا كثرة الباكين حولي،،،، على إخوانهم لقتلت نفسي
            وما يبكين مثل أخي ولكن،،،، أعزي النفس عنه بالتأسي

            فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلّم ثمّ جلس قالت ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين جلس قال: أما بعد، ثم قال: يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت أمها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، (موقف عجيب وابتلاء من الله تبارك وتعالى لعائشة رضي الله عنها)

            فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن، إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقنّي، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون" ثم تحولت، (أي أعطتهم ظهرها)، فأضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النوم، لأن رؤيا الأنبياء حق، رؤيا يبرئني الله فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان( بضم الجيم) من العرق (أي كاللؤلؤ) وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي ينزل عليه قال تعالى" إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا" قالت فلما سري (بضم السين) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك فقالت أمي: قومي إليه (يعني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل فأنزل الله تبارك وتعالى "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" (عشر آيات أنزلها الله تبارك وتعالى في براءة عائشة رضي الله عنها) فلما أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبدا فأنزل الله جل وعلا "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يأتوا أولوا القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" قال أبو بكر بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى النفقة.

            فوائد قصة الإفك كثيرة فمنها:

            قول الله تبارك وتعالى في براءة عائشة " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم" تتهم عائشة في عرضها والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتهم في عرضه ويحزن صلوات الله وسلامه عليه ويبقون شهراً كاملاً ويتكلم الناس فيها ويفرح المنافقون بهذا فأين الخير هنا؟ ذكر أهل العلم أموراً كثيرة ظهرت فيها الخيرية في هذه القضية منها:

            1- الابتلاء، حيث ابتلى اللهُ رسولَه صلى الله عليه وآله وسلم كما ابتلى عائشة وابتلى صفوان بن المعطل فخرجوا من البلاء كالذهب الخالص. والابتلاء خير لأن فيه رفع درجات.

            2- تنقية الصفوف، لو لم تحدث هذه الحادثة لما تميز المؤمنون من المنافقين فمثل هذه الحوادث يظهر فيها المنافقون رؤوسهم ويتكلمون ويظهرون تبجحهم وهزأهم وسخريتهم بالمؤمنين.

            3- فضل عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، ومحبة الله لها حيث أنزل فيها قرآناً يتلى.

            4- في هذه الحادثة بيان أن الله تبارك وتعالى يدافع عن عباده المؤمنين. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، فظهر من هذه القصة أن عائشة رضي الله عنها من أولياء الله تبارك وتعالى فلذلك دافع الله عنها سبحانه وتعالى وهذا يعطي الولي التقي اطمئناناً أن الله سبحانه وتعالى سيدافع عنه ولذلك قالت عائشة "صبر جميل والله المستعان" فلجأت إلى الله فما خيبها ربها سبحانه وتعالى.

            5- أن الله تبارك وتعالى أظهر لنا حُكماً شرعياً في قوله جل وعلا" لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون" وما كان سيظهر هذا الحكم لولا أن وقعت هذه الحادثة فإذا حدثت حوادث أخرى نعرف كيف نتعامل معها.

            6- وضعت قواعد عامة لمثل هذه القضايا مثل أن الأصل في المسلم العدالة والأصل فيه أنه برئ حتى تثبت التهمة ومن قذف مؤمناً فإنه يجلد وهكذا. فهذه القواعد العامة ما كنّا لنعرفها لولا أن وقعت هذه الحادثة.

            7- أن الله تبارك وتعالى فضح المنافقين وعراهم أمام المؤمنين.

            8- بيان فضل صفوان بن المعطّل رضي الله عنه وأن الله تبارك وتعالى دافع عنه كما دافع عن عائشة رضي الله عنها.



            وهنا مسألة ذكرها ابن القيّم رحمه الله تبارك وتعالى وهي عبارة عن فوائد طيبة جداً ذكرها في الزاد نذكرها لعل الله تبارك وتعالى ينفعنا بها:

            أولاً: فإن قيل فما بال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توقف في أمرها وسأل عنها وبحث واستشار وهو أعرف بالله وبمنزلته عنده وبما يليق به وهلّ قال سبحانك الله إن هذا بهتان عظيم كما قاله فضلاء الصحابة. يعني لم (بكسر اللام) لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال غيره من الصحابة سبحانك الله إن هذا بهتان عظيم. يقول ابن قيم والجواب أن هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل هذه القصة سبباً لها وامتحاناً وابتلاءً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولجميع الأمّة إلى يوم القيامة ليرفع بهذه القصة أقواماً ويضع بها آخرين ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيماناً ولا يزيد الظالمين إلا خسارة، واقتضى تمام الامتحان والابتلاء أن حبس (بضم الحاء) الوحي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شهراً في شأنها لا يوحى إليه في ذلك شيء لتمم حكمته التي قدّرها وقضاها وتظهر على أكمل الوجوه ويزداد المؤمنون الصادقون إيماناً وثباتاً على العدل والصدق وحسن الظن بالله ورسوله وأهل بيته والصديقين من عباده ويزداد المنافقون إفكاً ونفاقاً ويظهر لرسوله وللمؤمنين سرائرهم ولتتم العبودية المرادة من الصدّيقة وأبويها لما قالت "أشكو بثي وحزني إلى الله" والافتقار إلى الله والذل إليه وحسن الظن به والرجاء له ولينقطع رجاءها من المخلوقين وتيئس من حصول النصرة والفرج على يد أحد من الخلق ولهذا وفّت هذا المقام حقه لما قالا لها أبواها قومي إليه وقد أنزل الله عليه براءتها فقالت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي وأيضا" فكان من حكمة حبس الوحي شهراً أن القضية محّصت (بضم الميم) وتمحّضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحي لله إلى رسوله فيها، يعني صار المؤمنون عن ذلك ينتظرون الفرج من الله في هذه القضية وتطلّعت إلى ذلك غاية التطلّع فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه والمؤمنون فورد الوحي عليهم ورود الغيث على الأرض أحوج ما كانت عليه فوقع منهم أعظم موقع وألطفه وسرّوا به أتم السرور وحصل لهم غاية الهناء بهذا الوحي فلو أطلع الله رسوله على حقيقة الحال من أول وهلة وأنزل الوحي على الفور بذلك لفاتت هذه الحكم وأضعافها بل أضعاف أضعافها.

            ثانيا": وأيضاً فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه وأن يخرج رسوله عن هذه القضية ويتولى هو بنفسه جل وعلا الدفاع والمنافحة عنه والرد على أعداءه وذمهم وعيبهم وبأمر لا يكون له فيه عمل، أي ليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يدافع عن زوجه بل الله يدافع عن رسوله وعن أهل بيته يقول ولا ينسب (بضم الياء) إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل يكون هو وحده أي الله جل وعلا المتولي لذلك، الثائرة لرسوله وأهل بيته بل يكون الله تبارك وتعالى هو وحده المتولي لذلك الثائرة لرسوله وأهل بيته.

            ثالثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المقصود بالأذى والتي رميت (بضم الراء) زوجته فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه فهذا لا يكفي أو ظنّه الظن المقارب للعلم ببراءتها ولا يظن بها سوءاً قط وحاشاه وحاشاها ولذلك لما استعذر من أهل الإفك قال من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت في أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما كان يدخل على أهلي إلا معي فكان عنده صلوات الله وسلامه عليه من القرائن التي تشهد ببراءة الصديّقة أكثر مما عند المؤمنين ولكن لكمال صبره وثباته ورفقه وحسن ظنه بربه وثقته به وفّى مقام الصبر والثبات وحسن الظن بالله حقه حتى جاءه الوحي بما أقر عينه وسرّ قلبه وعظّم قدره وظهر لأمته احتفال ربه به واعتناءه بشأنه.

            رابعاً: ومن تأمل قول الصدّيقة فقال لها أبواها قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله يقول ابن القيم من نظر إلى قولها ذلك وتأمله علم معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة بربها وإفراده بالحمد في ذلك المقام وتجريدها التوحيد وقوة جأشها وإذلالها ببراءة ساحتها وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له وثقتها بمحبة رسول الله لها قالت ما قالت إذلالاً لحبيب على حبيبه ولاسيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإذلال فوضعته موضعه ولله ما كان أحبّها إليه حين قالت لا أحمد إلا الله فإنه هو الذي أنزل براءتي ولله ذلك الثبات والرزانة منها وهو أحب شيء إليها أي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا صبر لها عنه وقد تنكر قلب حبيبها لها شهراً ثم صادفت منه الرضا والإقبال فلم تبادر إلى القيام إليه والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له وهذا غاية الثبات والقوة.

            بقي أن نعرف أن بعض المؤمنين كأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه لما قالت له امرأته وهذا يبين موقف المؤمنين الثابت "لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا" بعد أن أشيع (بضم الألف) الخبر عن عائشة قالت زوجته فقالت يا أبا أيوب هل سمعت ما قال الناس في عائشة ما رأيك في هذا الذي قيل فانظرن إلى جواب أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه التفت إليها وقال يا أم أيوب أوتفعلينه أنت أي هل تزنين أنت.؟ قالت لا ما أفعله قال والله لعائشة خير منك. انتهى كلامه، فهي أم المؤمنين وزوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات" اختارها الله للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أتفعله لا والله ما تفعله أبدا وبعد هذا كله من تكلم في عائشة الآن بعد أن برئها الله تبارك وتعالى واتهمها بالزنى فلاشك أنه كافر خارج من ملة الإسلام لأنه مكذب لله جل وعلا بل على الصحيح لأقوال أهل العلم أن كل من اتهم أي زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزنى فإنه كافر لأنه مكذب لقول الله تبارك وتعالى "الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات". هذا ما وقع لزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها في حادثة الإفك التي نرجو الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما فيها من فوائد عظيمة وقد تركت ذكر الفوائد من هذه القصة فمن أراد الرجوع منكم فليرجع إلى كتب أهل العلم ليرى هذه الفوائد من تلك الغزوة.


            --------------------------------------------------------------------------------

            <1> هذا فيه طبعاً مشروعية القرعة بين الزوجات أي إذا كان للرجل أكثر من زوجة وأراد أن يسافر فلا بأس أن يعمل قرعة بين زوجاته ومن خرجت لها القرعة خرجت معه.

            الهودج هو مثل الغرفة الصغيرة التي تجلس فيها المرأة وتوضع فوق الجمل وتكون فيها المرأة حتى لا يراها أحد وكان حجاب زوجات النبي صلى الله عليه وآله<2> وسلم هو أن يستر كل ما فيها من مفرق الرأس إلى أخمص القدم كله يستر وهذا بلا خلاف بين أهل العلم أن زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن يغطين وجوههنّ وأما الخلاف الذي وقع بين أهل العلم في تغطية وجه غير زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان لاشك الأولى بالنساء المؤمنات أن يغطين وجوههن.

            لأنهم في رحلتهم هذه ولعددهم الكبير وللمسافات الطويلة فهم يسيرون ثم يجلسون ويسيرون ثم يجلسون وهكذا يكون مسيرهم في الليل لأنه أبرد وأريح للإبل <3> فإذا طلع الفجر توقفوا صلوا الفجر وجلسوا وارتاحوا حتى يأتي الليل يسيرون وهكذا ففي ليلة من الليالي تقول عائشة رضي الله عنها آذن ليلة بالرحيل أي بعد أن ارتاحوا وجلسوا وغربت الشمس آذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل أي بالمسير لإكمال الطريق.
            [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]

            تعليق

            • حنان
              عضو مشارك
              • Jun 2004
              • 276

              #7
              [ ]السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
              اخي الكريم علي ارجو منك التاكدمن صحة المعلومات لانك تتكلم عن موضوع مهم ومن الافضل ان يستند الكاتب الى مراجع مؤثؤق منه كذالك ان تذكر المراجع التي ا خذت منه المعلومات كذالك ملاحظه مهمة عبدالله بن الزبير ليس من الخلفاء وليس امير للمؤمنين كذالك انا لم اقرأ الموضوع كامل لاحساسي بوجود بعض الاخطاء التمنى اخي الفاضل ان تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم <من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار> ارجو منك اخي ان تتقبل الملاحظات بصدر رحب

              تعليق

              • ناصر بن جروض
                عضو مشارك
                • Jul 2003
                • 260

                #8
                أولاً : شكراً ثم شكراً ثم شكراً للأخ علي الدوسي الذي قدم لنا هذا الموضوع في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم...
                ثانياً: الأخت : حنان....
                عبدالله بن الزبير بويع بالخلافة في الحجاز ..... وقد كان يلقب بأمير المؤمنين... وكانت له حرب مع الأمويين الذين بعثوا إليه الحجاج بن يوسف الثقفي.... فقتل عبدالله بن الزبير وصلب بمكة.....
                رضي الله عن ابن الزبير فقد كان أسداً....
                وأما إحساسك بأن الموضوع فيه أخطاء ...فلا أدري هل يحكم على وجود الأخطاء بالإحساس..... هذه معلومة جديدة....
                على العموم أحيلك إلى المصدر الرئيس للموضوع والذي أحسب انا أخانا علي الدوسي قد نسي أن يكتب كلمة ( منقول ) وهو من موقع أسد السنة وعدو الرافضة الشيخ / عثمان الخميس .... وإليك الرابط :
                http://almanhaj.net/article.php?ID=132
                [align=justify][align=center]*****

                سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لاإله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
                [/align][/align]

                تعليق

                Working...