حينما هجم مالك بن عوف بجيشه الجرار في معركة (حُنين)، ولّت خيل المسلمين هاربة فتصدى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه خمسة وثلاثون رجلاً.. ثم التفت إلى يمينه وقال: يامعشر الخزرج، والتفت إلى يساره وقال: يامعشر الخزرج، فتنادى فرسان الأوس والخزرج من جنبات الميدان «لبيك يارسول الله» وما هي إلا ساعة حتى كانوا قد التفوا حوله وأوقفوا زحف جيش مالك بن عوف وما لبثت جموع المسلمين أن أفاقت من الصدمة وعادت إلى ميدان القتال وأنزل الله نصره على المؤمنين.
هذا ـ باختصار ـ ما أجمعت عليه كتب التاريخ عن بدايات معركة حنين، وما يهمنا هنا: لماذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظة الحرجة إلا الخزرج على الرغم من وجود الكثير من القبائل الأخرى معه بعد فروغه من فتح مكة؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود إلى الوراء لأكثر من قرنين.. فبعد انهيار سد مأرب هاجرت من اليمن قبائل الأزد إلى الشمال فلم تجد مكاناً يتسع لبطونها الاثنتي عشرة فتفرقت فيما بين الشام والعراق وشمال الجزيرة العربية ونزل الأوس والخزرج المدينة المنورة بجوار اليهود حيث حفروا الآبار وزرعوا الشعير والرّمان وغرسوا النخيل وبعد ثلاثة أجيال أصبحت لهم السيادة على المدينة فخشي اليهود على أنفسهم فأثاروا الفتنة بين القبيلتين الشقيقتين فنشبت الحرب بينهما وكلما تدخل العقلاء من الفريقين للصلح نشط اليهود لإشعال الفتنة فعادتا إلى التقاتل من جديد وظلتا على هذا الحال إلى ما يقرب من مئة عام إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهما.
والآن.. لنعد إلى سؤالنا الأول: لماذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة الحرجة إلا الخزرج برغم وجود عشرة آلاف مقاتل كانوا معه؟ (ومعروف أن الخزرج هو الجد الأكبر للأوس والخزرج ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعنيهما معا بقوله: يامعشر الخزرج).
قد يقال إن الأوس والخزرج كانوا أكثر العرب إيماناً بالدين الجديد ـ باستثناء المهاجرين ـ وهذا صحيح، لكن لابدّ أنهم كانوا يتميزون بشيء ما لم يتوفر لغيرهم.. فماهو؟
تأملوا معي إجابة سعد بن معاذ ـ زعيم الأوس ـ حينما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم قبيل معركة بدر، حيث إن الاتفاق ـ في بيعة العقبة ـ أن يقاتل الأوس والخزرج معه داخل المدينة وليس خارجها.. قال ضمن ما قال: «والذي بعثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك.. إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، فسر بنا يارسول الله على بركة الله وسوف ترى منا ما يسرّك».
ثم تأملوا إجابة سعد بن عبادة ـ زعيم الخزرج ـ أثناء حصار الأحزاب للمدينة حيث أشفق النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فاستشاره ـ مع بقية زعماء الأوس والخزرج ـ في أن يعطى الأحزاب ثلث ثمار المدينة ليفكوا الحصار ويرحلوا فقال سعد بن عبادة: «لقد كنا يارسول الله ـ ونحن مشركون ـ لا نعطي هؤلاء القوم شيئاً إلا بيعاً أو قِرى، فحين أكرمنا الله بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا».
ثم تأملوا معي اقتراح «الحُباب بن المنذر الخزرجي» حينما أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهض بالناس ـ قبيل الاشتباك في معركة بدر ـ فيحتل بهم جميع الآبار بحيث يُحرم قريشاً من الماء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أشرت بالرأي وتحرك بالناس إلى الأمام ونفذ اقتراحه.
لو حللنا الموقفين الأول والثاني لرأينا أْمامنا قوماً اعتادوا الحرب والقتال لطول ممارستهم لها ـ قبل الإسلام ـ بحيث لم تتوفر هذه الخبرة القتالية لأحد من عرب الجاهلية باستثناء بكر وتغلب (في حرب البسوس التي استمرت لأربعين عاماً) وعبْس وذبيان (في معارك داحس والغبراء التي توالت لعشر سنوات) ولو حللنا الموقف الثالث لرأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ برأي رجل من الخزرج أقل ما يُوصف به ـ إذا استخدمنا مصطلحاتنا المعاصرة ـ هو أنه من أصحاب الخطط العسكرية التي تدرسها الكليات الحربية العالمية في زمننا هذا حيث إن أول ما توصي به هو حرمان العدو من الإمكانات المتاحة في أرض المعركة.
إذن.. نحن أمام أناس جمعوا بين الإيمان العميق، والشجاعة النادرة، و(الخبرة) في ميادين القتال، فلا عجب أن قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما زلزلت الأقدام: يامعشر الخزرج.
منقول
هذا ـ باختصار ـ ما أجمعت عليه كتب التاريخ عن بدايات معركة حنين، وما يهمنا هنا: لماذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظة الحرجة إلا الخزرج على الرغم من وجود الكثير من القبائل الأخرى معه بعد فروغه من فتح مكة؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود إلى الوراء لأكثر من قرنين.. فبعد انهيار سد مأرب هاجرت من اليمن قبائل الأزد إلى الشمال فلم تجد مكاناً يتسع لبطونها الاثنتي عشرة فتفرقت فيما بين الشام والعراق وشمال الجزيرة العربية ونزل الأوس والخزرج المدينة المنورة بجوار اليهود حيث حفروا الآبار وزرعوا الشعير والرّمان وغرسوا النخيل وبعد ثلاثة أجيال أصبحت لهم السيادة على المدينة فخشي اليهود على أنفسهم فأثاروا الفتنة بين القبيلتين الشقيقتين فنشبت الحرب بينهما وكلما تدخل العقلاء من الفريقين للصلح نشط اليهود لإشعال الفتنة فعادتا إلى التقاتل من جديد وظلتا على هذا الحال إلى ما يقرب من مئة عام إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهما.
والآن.. لنعد إلى سؤالنا الأول: لماذا لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة الحرجة إلا الخزرج برغم وجود عشرة آلاف مقاتل كانوا معه؟ (ومعروف أن الخزرج هو الجد الأكبر للأوس والخزرج ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعنيهما معا بقوله: يامعشر الخزرج).
قد يقال إن الأوس والخزرج كانوا أكثر العرب إيماناً بالدين الجديد ـ باستثناء المهاجرين ـ وهذا صحيح، لكن لابدّ أنهم كانوا يتميزون بشيء ما لم يتوفر لغيرهم.. فماهو؟
تأملوا معي إجابة سعد بن معاذ ـ زعيم الأوس ـ حينما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم قبيل معركة بدر، حيث إن الاتفاق ـ في بيعة العقبة ـ أن يقاتل الأوس والخزرج معه داخل المدينة وليس خارجها.. قال ضمن ما قال: «والذي بعثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك.. إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، فسر بنا يارسول الله على بركة الله وسوف ترى منا ما يسرّك».
ثم تأملوا إجابة سعد بن عبادة ـ زعيم الخزرج ـ أثناء حصار الأحزاب للمدينة حيث أشفق النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فاستشاره ـ مع بقية زعماء الأوس والخزرج ـ في أن يعطى الأحزاب ثلث ثمار المدينة ليفكوا الحصار ويرحلوا فقال سعد بن عبادة: «لقد كنا يارسول الله ـ ونحن مشركون ـ لا نعطي هؤلاء القوم شيئاً إلا بيعاً أو قِرى، فحين أكرمنا الله بك نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا».
ثم تأملوا معي اقتراح «الحُباب بن المنذر الخزرجي» حينما أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهض بالناس ـ قبيل الاشتباك في معركة بدر ـ فيحتل بهم جميع الآبار بحيث يُحرم قريشاً من الماء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أشرت بالرأي وتحرك بالناس إلى الأمام ونفذ اقتراحه.
لو حللنا الموقفين الأول والثاني لرأينا أْمامنا قوماً اعتادوا الحرب والقتال لطول ممارستهم لها ـ قبل الإسلام ـ بحيث لم تتوفر هذه الخبرة القتالية لأحد من عرب الجاهلية باستثناء بكر وتغلب (في حرب البسوس التي استمرت لأربعين عاماً) وعبْس وذبيان (في معارك داحس والغبراء التي توالت لعشر سنوات) ولو حللنا الموقف الثالث لرأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ برأي رجل من الخزرج أقل ما يُوصف به ـ إذا استخدمنا مصطلحاتنا المعاصرة ـ هو أنه من أصحاب الخطط العسكرية التي تدرسها الكليات الحربية العالمية في زمننا هذا حيث إن أول ما توصي به هو حرمان العدو من الإمكانات المتاحة في أرض المعركة.
إذن.. نحن أمام أناس جمعوا بين الإيمان العميق، والشجاعة النادرة، و(الخبرة) في ميادين القتال، فلا عجب أن قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما زلزلت الأقدام: يامعشر الخزرج.
منقول
تعليق