كيف حج النبي
فُرض الحج على المسلمين في العام السادس من الهجرة، وكان المسلمون يحجون مع المشركين إلى أن نزل قوله تعالى في العام التاسع: "يَا أَيُّهَا الَّذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم".
وفي يوم مشهود من أيام الله خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العام العاشر من الهجرة ومعه مائة ألف أو يزيدون يؤدون مناسك الحج، بعد أن أصبحت مكة في حمى المسلمين وبعد أن طهرت الكعبة من الأصنام، وبعد أن محيت آثار الجاهلية كلها.
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "خذوا عني مناسككم".
وخطبهم خطبة جامعة حددت ملامح المجتمع الإسلامي، وتوصف هذه الحجة وتلك الخطبة بأوصاف البلاغ والإسلام والوداع.
أما أنها حجة البلاغ؛ فلأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يقول عقب كل أمر أو نهي في خطبته: "ألا هل بلغت؟!" فيقول الجمع الحاشد: بلى. فيقول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "اللهم فاشهد".
وأما أنها حجة الإسلام؛ فلأنها الحجة الوحيدة التي أداها الرسول_ صلى الله عليه وسلم- في الإسلام بعد فرضية الحج. وفي صحيح البخاري: سئل أنس رضي الله عنه : كم حج النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : واحدة.
ولا يمنع من ذلك أن يكون الرسول حج قبل البعثة أو حج قبل الهجرة؛ فإنه- عليه الصلاة والسلام- كان يلقى الناس في مواسم الحج يعرض عليهم الإسلام.
وأما أنها حجة الوداع، فلأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ودع أمته قائلا: "أيها الناس، اسمعوا قولى فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا".وقد انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى بعد عودته إلى المدينة بقليل.
ولكى نقف على وصف تقريبي لتلك الرحلة المباركة فنهاك حديث شريف رواه جابر رضي الله عنه، وانفرد به مسلم، واعتبره العلماء حديثاً عظيماً اشتمل على فوائد ونفائس، وتكلموا على ما فيه من فقه، وصنفوا فيه صحائف طويلة.
وها نحن نسوقه مع مقتطفات من شرح النووى عليه.
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّنَ في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج؛ فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله- صلى الله عليه وسلم –ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شئ عملنا به، فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا منهن، ولزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلبيته.
قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" ، فجعل المقام بينه وبين البيت. كان يقرأ في الركعتين: "قل هو الله أحد" و"قل يا أيها الكافرون". ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" أبدأ بما بدأ الله به. فبدأ الصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألِعَامِنا هذا أم لأَبَد؟ فشبك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد. فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة. حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرُحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا،ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، إن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلتْه هذيل،وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات . ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفراء قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة. كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول- صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرت به ظُعُنٌ يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن؛ فوضع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل؛ فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي.
ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده.ثم أعطى عليا فنحر ما غبر(بقي) وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطُبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا، فشرب منه صلى الله عليه وسلم.
خطب الوداع
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أكثر من خطبة، خطب يوم عرفة، وخطب يوم النحر، وخطب أيام التشريق بمنى.
وقد التقت هذه الخطب على أمور أساسية تحدد ملامح المجتمع الإسلامي، وتؤكد أهمية الأواصر الاجتماعية والترابط الأسري وحرمة الدماء والأعراض.
وقد رويت هذه الخطب بأكثر من رواية، فبعض الصحابة حفظها كلها، وبعضهم حفظ أجزاء مطولة منها، وبعضهم اعتنى بفقرات منها.
ولأهمية هذه الخطب؛ أداها الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا على ناقته.
وفي رواية لأحمد عن أبي أمامة قال (سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو يومئذ على الجدعاء –واضع رجليه في الغرز، يتطاول ليسمع الناس، فقال بأعلى صوته: ألا تسمعون؟ فقال رجل من طوائف الناس: يا رسول الله، ماذا تعهد إلينا؟، فقال: اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا إذا أُمِرتم؛ تدخلوا جنة ربكم).
ومع أن الموقف وسط هذه الصحراء كان حارا؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اهتموا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأحاطوا به؛ حرصا على سماع كل كلمة، والاستجابة لكل إرشاد.
روى ابن إسحاق: عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو واقف بعرفة في حاجة، فبلغْتُه ثم وقفتُ تحت ناقته، وإن لعابها لَيقع على رأسي، فسمعته يقول: (أيها الناس، إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث،والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين، لا يقبل له صرفا ولا عدلا).
وقد كان الرسول الكريم يكرر النداء ثلاثا.
روى النسائي عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: شهدت رسول الله في حجة الوداع يقول: أيها الناس ثلاث مرات، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر … الحديث.
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه- وهو ربيعة بن أمية بن خلف –يردد للناس فقرات بعض خطبه.
وفي رواية لابن إسحق قال: كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة- ربيعة بن أمية بن خلف، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: قل أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟فيقولون: الشهر الحرام.
فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا.
ثم يقول: قل أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي بلد هذا..الحديث.
من كل هذا وعاها الناس حق الوعي، ووصلت إلى الآذان والقلوب حيث كانت.
روى أبو داود عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم_ ونحن بمنى، ففتحتْ أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم…الحديث).
ومما زاد وعي الناس بالخطبة والاهتمام بشأنها، ما أكده الرسول مرارا من أن هذا اللقاء الفريد قد لا يتكرر.ففي الصحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقف عند جمرة العقبة وقال: (خذوا عني مناسككم فلعلّي لا أرجع بعد عامي هذا).
وعندما نزلت الآية الكريمة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً" -وذلك يوم عرفة الذي صادف أن كان يوم الجمعة- استشعر الناس وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".
وفي أوسط أيام التشريق نزلت هذه السورة: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والْفَتْحِ.." فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع، وأدرك فقهاء الصحابة أنه أَجَلُ رسول الله نعي إليه.
وخطب الوداع هذه تكرر فيها بعض الفقرات تأصيلا لمبدئيتها وتأسيسا، وخاصة ما يتعلق بحق الأخوة العامة.
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال: "يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".
قال ابن عباس: فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم قد بلغت.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته: "فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
فشأن مجتمع المسلمين أن يعيشوا عباد الله إخوانا، وأن يأمن الناس فيه على الحرمات، وأن تظل الأمانة- بمعناها العام- عنوانه الشريف وواقعه المعاش.
وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي بكرة -رضي الله عنه- توضح ما جال بخاطر المسلمين عندما سألهم الرسول عن الزمان والمكان قال: (خطبنا رسول الله يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس هذا يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض).
وقد أثبت حديث جابر الذي رواه مسلم عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق للأخوة العامة في خطبة يوم عرفة.
ثم محا رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار الجاهلية وما توارثه الناس من ظلماتها، فقال -كما في حديث جابر في صحيح مسلم-: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا: ربا العباس بن عبد المطلب ؛ فإنه موضوع كله".
وهكذا كان أهل بيت النبي وقرابته أول الناس تطبيقا للقانون، والتزاما به، ووقوفا عند حده.
ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يقظة الضمير، وصحوة العقل، بحيث لا يصر الإنسان على معصية، ولا يقيم على خطيئة، ولا يستصغر ذنبًا، فقال – كما في رواية النسائي - : "ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى".
وفي رواية أحمد: "ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم".
وفي رواية للبزاز: "أيها الناس ، إن الشيطان قد يئس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان ، وقد يرضى عنكم بمحقرات الأعمال، فأحذوره على دينكم بمحقرات الأعمال".
ثم أكد الرسول قيمة الوقت وحرمة الزمان، وخاصة تلك الأشهر الحرم التي أمر الله بتعظيمها، وجعلها واحات أمن وأمان، يفيء إليها الناس حين تشتد عليهم وطأة الحياة المريرة، ورفض الرسول التلاعب بهذه الحرمات أو التحايل عليها بما كان يعرف في الجاهلية بالنسيء، وهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر. فقال- كما في رواية أحمد من أبي بكرة-: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وفي بعض الروايات أن الرسول قرأ هذه الآية: "إِنَّمَا النَّسيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ.. " ( التوبة 37 )
وإنما قال عليه الصلاة والسلام: (رجب مضر) ليبين صحة قول هذه القبيلة في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه قبيلة ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم.
ثم انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قضية اجتماعية هامة، هي قضية العلاقات الأسرية، والحق والواجب في العلاقة الزوجية، فقال – كما في صحيح مسلم عن جابر: "فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمن الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
وأتت بعض الروايات بإرشاد نبوي كريم يتعلق بأمن الدولة واستقرار المجتمع، ألا وهو طاعة ولي الأمر في غير معصية.
ففي صحيح مسلم بسنده عن أم الحصين قالت: "حججت مع رسول الله حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . قالت: فقال رسول الله قولا كثيرًا، ثم سمعته يقول: "إن أُمِّرَ عليكم عبد مجدع – حسبتها قالت أسود – يقودكم بكتاب الله ، فاسمعوا له وأطيعوا".
فالتمرد لا يولد إلا الفتنة، والفتنة لا تبقي ولا تذر، وما لجأ مجتمع إلى حمل السلاح في وجه الحاكم إلا اضطربت الأمور، وسادت الفوضى وتفككت العرى، وتربص الأعداء.
وأخيرًا توجه الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالنصيحة العامة الخالدة التي هي مناط عز المسلمين وسعادتهم إلى الأبد، فقال - كما في صحيح مسلم عن جابر -: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله".
فُرض الحج على المسلمين في العام السادس من الهجرة، وكان المسلمون يحجون مع المشركين إلى أن نزل قوله تعالى في العام التاسع: "يَا أَيُّهَا الَّذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم".
وفي يوم مشهود من أيام الله خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العام العاشر من الهجرة ومعه مائة ألف أو يزيدون يؤدون مناسك الحج، بعد أن أصبحت مكة في حمى المسلمين وبعد أن طهرت الكعبة من الأصنام، وبعد أن محيت آثار الجاهلية كلها.
وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "خذوا عني مناسككم".
وخطبهم خطبة جامعة حددت ملامح المجتمع الإسلامي، وتوصف هذه الحجة وتلك الخطبة بأوصاف البلاغ والإسلام والوداع.
أما أنها حجة البلاغ؛ فلأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يقول عقب كل أمر أو نهي في خطبته: "ألا هل بلغت؟!" فيقول الجمع الحاشد: بلى. فيقول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "اللهم فاشهد".
وأما أنها حجة الإسلام؛ فلأنها الحجة الوحيدة التي أداها الرسول_ صلى الله عليه وسلم- في الإسلام بعد فرضية الحج. وفي صحيح البخاري: سئل أنس رضي الله عنه : كم حج النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : واحدة.
ولا يمنع من ذلك أن يكون الرسول حج قبل البعثة أو حج قبل الهجرة؛ فإنه- عليه الصلاة والسلام- كان يلقى الناس في مواسم الحج يعرض عليهم الإسلام.
وأما أنها حجة الوداع، فلأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ودع أمته قائلا: "أيها الناس، اسمعوا قولى فإني لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا".وقد انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى بعد عودته إلى المدينة بقليل.
ولكى نقف على وصف تقريبي لتلك الرحلة المباركة فنهاك حديث شريف رواه جابر رضي الله عنه، وانفرد به مسلم، واعتبره العلماء حديثاً عظيماً اشتمل على فوائد ونفائس، وتكلموا على ما فيه من فقه، وصنفوا فيه صحائف طويلة.
وها نحن نسوقه مع مقتطفات من شرح النووى عليه.
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّنَ في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج؛ فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله- صلى الله عليه وسلم –ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المسجد ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شئ عملنا به، فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا منهن، ولزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلبيته.
قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" ، فجعل المقام بينه وبين البيت. كان يقرأ في الركعتين: "قل هو الله أحد" و"قل يا أيها الكافرون". ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" أبدأ بما بدأ الله به. فبدأ الصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألِعَامِنا هذا أم لأَبَد؟ فشبك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد. فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضُربت له بنمرة. حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرُحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا،ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، إن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلتْه هذيل،وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات . ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفراء قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة السكينة. كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء، بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول- صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة. ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرت به ظُعُنٌ يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن؛ فوضع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل؛ فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي.
ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده.ثم أعطى عليا فنحر ما غبر(بقي) وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطُبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا، فشرب منه صلى الله عليه وسلم.
خطب الوداع
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أكثر من خطبة، خطب يوم عرفة، وخطب يوم النحر، وخطب أيام التشريق بمنى.
وقد التقت هذه الخطب على أمور أساسية تحدد ملامح المجتمع الإسلامي، وتؤكد أهمية الأواصر الاجتماعية والترابط الأسري وحرمة الدماء والأعراض.
وقد رويت هذه الخطب بأكثر من رواية، فبعض الصحابة حفظها كلها، وبعضهم حفظ أجزاء مطولة منها، وبعضهم اعتنى بفقرات منها.
ولأهمية هذه الخطب؛ أداها الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا على ناقته.
وفي رواية لأحمد عن أبي أمامة قال (سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو يومئذ على الجدعاء –واضع رجليه في الغرز، يتطاول ليسمع الناس، فقال بأعلى صوته: ألا تسمعون؟ فقال رجل من طوائف الناس: يا رسول الله، ماذا تعهد إلينا؟، فقال: اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا إذا أُمِرتم؛ تدخلوا جنة ربكم).
ومع أن الموقف وسط هذه الصحراء كان حارا؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اهتموا برسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأحاطوا به؛ حرصا على سماع كل كلمة، والاستجابة لكل إرشاد.
روى ابن إسحاق: عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو واقف بعرفة في حاجة، فبلغْتُه ثم وقفتُ تحت ناقته، وإن لعابها لَيقع على رأسي، فسمعته يقول: (أيها الناس، إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث،والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعي إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين، لا يقبل له صرفا ولا عدلا).
وقد كان الرسول الكريم يكرر النداء ثلاثا.
روى النسائي عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: شهدت رسول الله في حجة الوداع يقول: أيها الناس ثلاث مرات، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر … الحديث.
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه- وهو ربيعة بن أمية بن خلف –يردد للناس فقرات بعض خطبه.
وفي رواية لابن إسحق قال: كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بعرفة- ربيعة بن أمية بن خلف، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: قل أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟فيقولون: الشهر الحرام.
فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا.
ثم يقول: قل أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي بلد هذا..الحديث.
من كل هذا وعاها الناس حق الوعي، ووصلت إلى الآذان والقلوب حيث كانت.
روى أبو داود عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم_ ونحن بمنى، ففتحتْ أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم…الحديث).
ومما زاد وعي الناس بالخطبة والاهتمام بشأنها، ما أكده الرسول مرارا من أن هذا اللقاء الفريد قد لا يتكرر.ففي الصحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقف عند جمرة العقبة وقال: (خذوا عني مناسككم فلعلّي لا أرجع بعد عامي هذا).
وعندما نزلت الآية الكريمة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً" -وذلك يوم عرفة الذي صادف أن كان يوم الجمعة- استشعر الناس وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان".
وفي أوسط أيام التشريق نزلت هذه السورة: "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والْفَتْحِ.." فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع، وأدرك فقهاء الصحابة أنه أَجَلُ رسول الله نعي إليه.
وخطب الوداع هذه تكرر فيها بعض الفقرات تأصيلا لمبدئيتها وتأسيسا، وخاصة ما يتعلق بحق الأخوة العامة.
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم النحر فقال: "يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".
قال ابن عباس: فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم قد بلغت.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته: "فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".
فشأن مجتمع المسلمين أن يعيشوا عباد الله إخوانا، وأن يأمن الناس فيه على الحرمات، وأن تظل الأمانة- بمعناها العام- عنوانه الشريف وواقعه المعاش.
وفي رواية أخرى للبخاري عن أبي بكرة -رضي الله عنه- توضح ما جال بخاطر المسلمين عندما سألهم الرسول عن الزمان والمكان قال: (خطبنا رسول الله يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس هذا يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض).
وقد أثبت حديث جابر الذي رواه مسلم عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق للأخوة العامة في خطبة يوم عرفة.
ثم محا رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار الجاهلية وما توارثه الناس من ظلماتها، فقال -كما في حديث جابر في صحيح مسلم-: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا: ربا العباس بن عبد المطلب ؛ فإنه موضوع كله".
وهكذا كان أهل بيت النبي وقرابته أول الناس تطبيقا للقانون، والتزاما به، ووقوفا عند حده.
ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يقظة الضمير، وصحوة العقل، بحيث لا يصر الإنسان على معصية، ولا يقيم على خطيئة، ولا يستصغر ذنبًا، فقال – كما في رواية النسائي - : "ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى".
وفي رواية أحمد: "ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم".
وفي رواية للبزاز: "أيها الناس ، إن الشيطان قد يئس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان ، وقد يرضى عنكم بمحقرات الأعمال، فأحذوره على دينكم بمحقرات الأعمال".
ثم أكد الرسول قيمة الوقت وحرمة الزمان، وخاصة تلك الأشهر الحرم التي أمر الله بتعظيمها، وجعلها واحات أمن وأمان، يفيء إليها الناس حين تشتد عليهم وطأة الحياة المريرة، ورفض الرسول التلاعب بهذه الحرمات أو التحايل عليها بما كان يعرف في الجاهلية بالنسيء، وهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر. فقال- كما في رواية أحمد من أبي بكرة-: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
وفي بعض الروايات أن الرسول قرأ هذه الآية: "إِنَّمَا النَّسيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ.. " ( التوبة 37 )
وإنما قال عليه الصلاة والسلام: (رجب مضر) ليبين صحة قول هذه القبيلة في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه قبيلة ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم.
ثم انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قضية اجتماعية هامة، هي قضية العلاقات الأسرية، والحق والواجب في العلاقة الزوجية، فقال – كما في صحيح مسلم عن جابر: "فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمن الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
وأتت بعض الروايات بإرشاد نبوي كريم يتعلق بأمن الدولة واستقرار المجتمع، ألا وهو طاعة ولي الأمر في غير معصية.
ففي صحيح مسلم بسنده عن أم الحصين قالت: "حججت مع رسول الله حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . قالت: فقال رسول الله قولا كثيرًا، ثم سمعته يقول: "إن أُمِّرَ عليكم عبد مجدع – حسبتها قالت أسود – يقودكم بكتاب الله ، فاسمعوا له وأطيعوا".
فالتمرد لا يولد إلا الفتنة، والفتنة لا تبقي ولا تذر، وما لجأ مجتمع إلى حمل السلاح في وجه الحاكم إلا اضطربت الأمور، وسادت الفوضى وتفككت العرى، وتربص الأعداء.
وأخيرًا توجه الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالنصيحة العامة الخالدة التي هي مناط عز المسلمين وسعادتهم إلى الأبد، فقال - كما في صحيح مسلم عن جابر -: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله".
تعليق