القبول بالتقسيم؛ يفضي إلى التسليم"
وللأسف؛ لم أخترع هذه القاعدة إلا لاحقا، بعد أن ذهبت مني فراخ عصفور الدوري الخمسة.
وكما يقول الأصوليون: من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه؛؛ فوداعاً يا فراخ؛ وداعاً لا لقاء بعده.
.
.
يقول اقليدس في مبرهنته الشهيرة: إنه يوجد عدد لا نهائي من الأعداد الأولية.
تماماً كما كنت أؤمن أيام الصبا أنه يوجد عدد لا نهائي من العصافير في قريتي؛ تتقاطع مغردةً مبتهجةً صيفاً وربيعاً، ثم يحل عليها الخريف لتبدأ بالخفوت، وحين يضمها الشتاء والضباب الرطب، تأوي لأعماق الأشجار صامتةً تنفض عن ريشها قطرات الماء، لكنما كانت تغيظني أعداد الأعشاش المنتهية، فما بالكم إذا كان العش الثمين الواحد قابلاً للقسمة على اثنين؟!. اللهم لا اعتراض.
وفي البحث الدؤوب، انتقلت بي قدماي الصغيرتان بأوامر اللاوعي، لتقف بي على منزل ( آل رشيد) القديم المهجور. ثمة حيث عثرت البارحة على كنزٍ جديد، يتمثل في بقايا نافذةٍ صغيرةٍ أقام عصفور ( الدوري) على زاويةٍ منها عشه الذهبي من بقايا حشائش يابسة، وبإطلالةٍ سريعةٍ علمت أن البيض في مرحلة الحضانة، وحتى التفقيس؛؛ ستظل تلافيف دماغي الصغيرة كلما فكرت في العش، بزغت لها عبارة: جاري الانتظار.
ولكن هذا لا يمنع من الجولات اليومية التفقدية، وكانت كارثة جولة اليوم، حين أطللت على المنزل المهجور من خلف الجدار الحجري القريب، لتفاجئني طلة ( ابن جيراننا) غير البهية، وعينيه ترقبان العش في سعادة وتلمظ، فأسرعت بالخروج إليه متحفزاً، وقد علمت أن ضحى هذا اليوم منذورٌ للدفاع عن العرين، وأن كرامتي وكرامة بيضي وفراخي على المحك، أمام مطامع ابن الجيران المنفوخ.
.
.
ابن الجيران، وفي روايةٍ لاحقةٍ ( خالد المنفوخ).. اسمان لشخصٍ واحد، كان يومها يحمل اسم خالد فقط، بدون إضافة المنفوخ اللاحقة، وقد وفد إلى القرية مع أهله من المدينة، واستقروا فيها منذ أشهرٍ قليلة، كانت شحومه المندلقة مقدمة ومؤخرة؛ علامة فارقة بين أبناء القرية الذين تغطي جلودهم عظامهم مباشرة، فهي من جهةٍ دلالة الترفيه، كما أنها دلالة المدنية التي تظهر في ثنايا ألفاظه، لتكسوها ببعض الرقة، وقد تمنحه بعض المكر، يعوض به ضعف قدراته الرياضية في ألعابنا التي نمارسها.
- ابتعد عن عشي، أنا وجدته قبلك، وأزوره كل يوم. ( هكذا صحت به في صرامة)
- من قال انك وجدته قبلي؟ أنا عثرت عليه وهي لازالت تبنيه، قبل حتى أن تضع البيض.
كانت ضربة موفقة منه، فوجدت نفسي أبحث عن تاريخٍ أقدم لأجيبه:
- أنا عثرت عليها وهي تحمل أول عودٍ في منقارها، وتبعتها حتى وجدتها تضعه هنا!.
صمت خالد مبهوتاً أمام هذا التاريخ المغرق في القدم، هي كذبةٌ بينةٌ ولكن الساحة هنا ساحة احتجاج، كنا فيها نطبق دون علم قاعدة الأصوليين: لا مساغ للاجتهاد في مورد النص،، على اعتبار أن كلامنا نصوصاً ثابتة.. ولكن ليس خالد بالذي يستسلم بسهولة، فقد لجأ إلى حيلة المكان بعد أن أعيته ظروف الزمان:
- ابنة خالتي متزوجة من آل رشيد، يعني هم أقاربنا، وكل الذي في بيتهم لنا نحن.
حينها وقفت حجتان متناظرتان من زمانٍ ومكان، وطال الجدل بلا استسلامٍ من أحد، حتى تقرر في الأخير أن يقسم العش بيننا بالتساوي، رغم أنفي وحسرتي لكن رؤيتي ليده المتضخمة، أمام يدي النحيلة المعروقة، دفعني لقبول التسوية، والتنازل عن بيضتين من العش له، مقابل بيضتين لي، ولكن الإشكال في البيضة الخامسة، فعصفور الدوري يضع خمس بيضات، وغالبا ما تفقس كلها، ولم يرض أحد منا أن يتنازل للآخر بها، لنتفق أخيراً أن ندع الفرخ الخامس يطير مع أمه، وكلٌ منا يجد برد الراحة في صدره، فأن يطير الفرخ للسماء أفضل لديه من أن يذهب للغريم الناقم.
___
___
.
المكان: أمام باب المسجد..
الزمان: صلاة المغرب من يوم قسمة العش الشهيرة.
وبينما الإمام يلعلع صوته الأجوف، كنا مجموعة صبيةٍ ملتفين حول بؤرة دائرة، ثمة حيث ابن خالي يحمل غصناً كبيراً تتفرع منه أغصان عدة، ويداعب بأطرافه حرباء ميتة، قضت نحبها على يده فتحول لونها للأسود وتوقف على ذلك، وأنا أحدق فيه يقلبها بغصنه ويحملها، كنت أبعدهم عنه مسافةً بنفسيةٍ تنفر من الحرباء أشد النفور، وقد أجد الثعبان فأطارده وأعبث به، وقد تكون عقرباً فأقطع شوكة ذيلها وأمسك بها، ولكني أقف دون الحرباء مشمئزاً مبغضاً لها، وكم تثير حنفي حين تبزغ لي ونحن نجني ثمار التوت البري، بحركتها البطيئة وملامحها البشعة.
وكانت رميةً موفقة وإن لم يقصدها، فقد طوح بالغصن والحرباء عليه، لتحلق في الهواء بارتفاع مترين، ثم تسقط على وجهي مباشرة!!. واشتعل في داخلي مرجل الغضب مع القرف، لأجد نفسي أحمل الغصن الكبير وأهجم عليه، حتى إذا رأى تضاريس وجهي المنكوبة أيقن بالهلاك، وأسرع للمسجد يحتمي به مما سيأتي، ولكن أنى له ذلك، وأمام صف المصلين مباشرة، ارتفع الغصن العملاق بكل غصيناته وأوراقه، ليهوي على ظهره في ضربةٍ لم تشف الغليل برغم جبروتها، لكن نحنحة المصلين ونظراتهم النارية حملتني حملاً للانسحاب، بينما التحق هو بالصلاة بكل خشوع.
ومضيت للمنزل أتحاشى أن ألعق شفتي، وأشمئز من نفسي ووجهي، وكانت ليلةً ليلاء مع كل أنواع المنظفات وطرق التنقيع والغسيل.
صباحاً؛؛ كانت بشرة وجهي متقشرةً متغيرة الألوان، لتأتي فتوى أخي الأكبر، بأن الحرباء قد نقلت إليك العدوى، وأن جراثيمها سوف تجعل من وجهك متغير الألوان، ليعتمل في داخلي بركان الخوف والغضب والحقد، وأعلنها مدويةً بين بعض صبية القرية، أنني إن عثرت على حرباء أخرى سأحملها لأضعها في فم ابن خالي المعتدي.. وإن كان قانون جراهام لانتشار الغازات يقول بأن سرعة انتشار الغاز تتناسب تناسباً عكسياً مع الجذر التربيعي للكثافة.. فإن قاعدة الصبية تقول: سرعة انتشار التهديدات تتناسب تناسباً طردياً مع الجذر التربيعي لـ اللقافة.
وما كان غريمي خالد ليضيع فرصته وقد وصله الخبر، فقد وافاني إلى المنزل في صفقةٍ سرية، مستغلاً ثورة المشاعر قبل أن تخبو:
- إذا أحضرت لك حرباء قبل صلاة العصر، فهل تعطيني نصيبك من البيضتين؟!.
كنت مع أحداث المغرب قد نسيت أحداث الضحى، وجدت نفسي أوافق مباشرة مدفوعاً بعاطفتي الهائجة، وإن تمسكت بأضعف الإيمان، أن تكون البيضة الخامسة لي، بينما يكون نصيبه الكامل هو أربع بيضات.. وتمت الصفقة. ليأتيني بعد ساعةٍ من الزمان يحمل حرباء كهرمانية اللون، ويضعها بين قدمي، بينما والدتي تنظر إلينا مشدوهة لا تعرف ما الأمر.. وحين سألتني أخبرتها بما فعله ابن أخيها، وعزمي على الانتقام منه، وما حصل في جيناتي الوراثية من تداخل مع الكروموسومات الحربائية..
نظرت أولاً إلى وجهي في تمعن، ثم سألتني: بماذا غسلت وجهك بالأمس؟!.. أخبرتها أنني دلكته بالتايد حتى تعبت يدي، ثم كما أراهم في غسيل الملابس، وضعت ماءً في صحنٍ كبير، وصببت عليه كميةً أكبر من الكلوركس، لأغمس وجهي فيه لمدة دقيقةٍ كاملة، مستعيناً بقدراتي العالية على تحمل انقطاع النفس..... وعند هذا الحد من الحديث انفجرت أختي ضاحكةً بقوة، بينما سحبتني أمي من يدي وهي تكتم ضحكتها، تخبرني أن ما حصل في وجهي كان بتأثير التنقيع الفريد، وهي تدهن وجهي بالكريمات المعالجة، وتتوعدني أن أتعرض لابن خالي؛ فقد جاءه من الغصن الضخم ما يكفي.
خرجت من بين يديها أبحث عن الحرباء، حملتها بكل اشمئزاز الكون عائداً بها إلى غريمي خالد، عله يقيلني فتعود لي البيضتان، وربما أعلل نفسي بقول الأصوليين: إذا بطل شيء بطل ما في ضمنه.. وبعد مسيرةٍ مضنيةٍ مع الحرباء المقرفة، لم يكلف خالد اللئيم نفسه عناء الحديث، فقد اكتفى بهزةٍ من رأسه الضخم يعلن بها الرفض، ويغلق باب منزلهم في وجهي، تاركاً إياي مع الحرباء والبيضة اليتيمة، والغضب.
.
.
أخيراً...
انتهت فترة الحضانة وفقس البيض، وكانت المفاجأة أن إحدى البيضات لم تفقس، حملها خالد متجهاً بها نحوي، مدعياً أنها بيضتي، ومع تعبي من الجدل قبلت بالنتيجة وسلمت له العش بما حوى، وفي أعماقي غيضٌ ما برح يتقد، غيضٌ منه حين استولى على كنزي الثمين، وغيضٌ من نفسي حين قبلت التقسيم من الخطوة الأولى.
___
___
.
ذات يومٍ خريفي..
تربع إمامنا بعد صلاة العصر يلقي درسه، وكنا في سيرة الرسول المصطفى، بينما إمامنا يرفع المفعول وينصب المجرور والمضاف، تضيع الكلمات الفصحى بين شدقيه حتى تخرج مجوفة مضخمة، يخبرنا عن الأعرابي يشد رسولنا الكريم من إزاره حتى يؤثر في عاتقه، فلا يغضب منه ولا يعنفه، ويعطيه مسألته....أتى فجأةً صوت خالد من أقصى الصف، بنغمته المعهودة الأنفية المخرج:
- والله الرسول كان عسل!!..
التفت إليه كهول القرية في استهجان، وحدق فيه الإمام مغضباً من هذا المقاطع له، ثم لم يملك نفسه أن بادره بصوته الأجوف:
- تحسب زيك يا خالد المنفوخ؟!
ترددت في جنبات المسجد قهقهاتٌ عالية، وليس من شكٍ أن مصدرها من عندي، وأنا ألمح وجه خالد المنفوخ يتحول إلى طماطم حمراء كبيرة، بينما ابتسم الجماعة في وقار مصطنع، ليهب خالد من بيننا إلى خارج المسجد تسبقه دموعه.. يومها شعرت أنني أطبق النظرية الفيزيائية الشهيرة: قيمة دافعة أرخميدس يساوي قيمة ثقل السائل المزاح..
ولكن بتحريف بسيطٍ يقول:
قيمة الغيض القديم المتبخر من صدري = قيمة ثقل دموع خالد المنفوخ.
...
...
...
انتهت- الفنار
وللأسف؛ لم أخترع هذه القاعدة إلا لاحقا، بعد أن ذهبت مني فراخ عصفور الدوري الخمسة.
وكما يقول الأصوليون: من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه؛؛ فوداعاً يا فراخ؛ وداعاً لا لقاء بعده.
.
.
يقول اقليدس في مبرهنته الشهيرة: إنه يوجد عدد لا نهائي من الأعداد الأولية.
تماماً كما كنت أؤمن أيام الصبا أنه يوجد عدد لا نهائي من العصافير في قريتي؛ تتقاطع مغردةً مبتهجةً صيفاً وربيعاً، ثم يحل عليها الخريف لتبدأ بالخفوت، وحين يضمها الشتاء والضباب الرطب، تأوي لأعماق الأشجار صامتةً تنفض عن ريشها قطرات الماء، لكنما كانت تغيظني أعداد الأعشاش المنتهية، فما بالكم إذا كان العش الثمين الواحد قابلاً للقسمة على اثنين؟!. اللهم لا اعتراض.
وفي البحث الدؤوب، انتقلت بي قدماي الصغيرتان بأوامر اللاوعي، لتقف بي على منزل ( آل رشيد) القديم المهجور. ثمة حيث عثرت البارحة على كنزٍ جديد، يتمثل في بقايا نافذةٍ صغيرةٍ أقام عصفور ( الدوري) على زاويةٍ منها عشه الذهبي من بقايا حشائش يابسة، وبإطلالةٍ سريعةٍ علمت أن البيض في مرحلة الحضانة، وحتى التفقيس؛؛ ستظل تلافيف دماغي الصغيرة كلما فكرت في العش، بزغت لها عبارة: جاري الانتظار.
ولكن هذا لا يمنع من الجولات اليومية التفقدية، وكانت كارثة جولة اليوم، حين أطللت على المنزل المهجور من خلف الجدار الحجري القريب، لتفاجئني طلة ( ابن جيراننا) غير البهية، وعينيه ترقبان العش في سعادة وتلمظ، فأسرعت بالخروج إليه متحفزاً، وقد علمت أن ضحى هذا اليوم منذورٌ للدفاع عن العرين، وأن كرامتي وكرامة بيضي وفراخي على المحك، أمام مطامع ابن الجيران المنفوخ.
.
.
ابن الجيران، وفي روايةٍ لاحقةٍ ( خالد المنفوخ).. اسمان لشخصٍ واحد، كان يومها يحمل اسم خالد فقط، بدون إضافة المنفوخ اللاحقة، وقد وفد إلى القرية مع أهله من المدينة، واستقروا فيها منذ أشهرٍ قليلة، كانت شحومه المندلقة مقدمة ومؤخرة؛ علامة فارقة بين أبناء القرية الذين تغطي جلودهم عظامهم مباشرة، فهي من جهةٍ دلالة الترفيه، كما أنها دلالة المدنية التي تظهر في ثنايا ألفاظه، لتكسوها ببعض الرقة، وقد تمنحه بعض المكر، يعوض به ضعف قدراته الرياضية في ألعابنا التي نمارسها.
- ابتعد عن عشي، أنا وجدته قبلك، وأزوره كل يوم. ( هكذا صحت به في صرامة)
- من قال انك وجدته قبلي؟ أنا عثرت عليه وهي لازالت تبنيه، قبل حتى أن تضع البيض.
كانت ضربة موفقة منه، فوجدت نفسي أبحث عن تاريخٍ أقدم لأجيبه:
- أنا عثرت عليها وهي تحمل أول عودٍ في منقارها، وتبعتها حتى وجدتها تضعه هنا!.
صمت خالد مبهوتاً أمام هذا التاريخ المغرق في القدم، هي كذبةٌ بينةٌ ولكن الساحة هنا ساحة احتجاج، كنا فيها نطبق دون علم قاعدة الأصوليين: لا مساغ للاجتهاد في مورد النص،، على اعتبار أن كلامنا نصوصاً ثابتة.. ولكن ليس خالد بالذي يستسلم بسهولة، فقد لجأ إلى حيلة المكان بعد أن أعيته ظروف الزمان:
- ابنة خالتي متزوجة من آل رشيد، يعني هم أقاربنا، وكل الذي في بيتهم لنا نحن.
حينها وقفت حجتان متناظرتان من زمانٍ ومكان، وطال الجدل بلا استسلامٍ من أحد، حتى تقرر في الأخير أن يقسم العش بيننا بالتساوي، رغم أنفي وحسرتي لكن رؤيتي ليده المتضخمة، أمام يدي النحيلة المعروقة، دفعني لقبول التسوية، والتنازل عن بيضتين من العش له، مقابل بيضتين لي، ولكن الإشكال في البيضة الخامسة، فعصفور الدوري يضع خمس بيضات، وغالبا ما تفقس كلها، ولم يرض أحد منا أن يتنازل للآخر بها، لنتفق أخيراً أن ندع الفرخ الخامس يطير مع أمه، وكلٌ منا يجد برد الراحة في صدره، فأن يطير الفرخ للسماء أفضل لديه من أن يذهب للغريم الناقم.
___
___
.
المكان: أمام باب المسجد..
الزمان: صلاة المغرب من يوم قسمة العش الشهيرة.
وبينما الإمام يلعلع صوته الأجوف، كنا مجموعة صبيةٍ ملتفين حول بؤرة دائرة، ثمة حيث ابن خالي يحمل غصناً كبيراً تتفرع منه أغصان عدة، ويداعب بأطرافه حرباء ميتة، قضت نحبها على يده فتحول لونها للأسود وتوقف على ذلك، وأنا أحدق فيه يقلبها بغصنه ويحملها، كنت أبعدهم عنه مسافةً بنفسيةٍ تنفر من الحرباء أشد النفور، وقد أجد الثعبان فأطارده وأعبث به، وقد تكون عقرباً فأقطع شوكة ذيلها وأمسك بها، ولكني أقف دون الحرباء مشمئزاً مبغضاً لها، وكم تثير حنفي حين تبزغ لي ونحن نجني ثمار التوت البري، بحركتها البطيئة وملامحها البشعة.
وكانت رميةً موفقة وإن لم يقصدها، فقد طوح بالغصن والحرباء عليه، لتحلق في الهواء بارتفاع مترين، ثم تسقط على وجهي مباشرة!!. واشتعل في داخلي مرجل الغضب مع القرف، لأجد نفسي أحمل الغصن الكبير وأهجم عليه، حتى إذا رأى تضاريس وجهي المنكوبة أيقن بالهلاك، وأسرع للمسجد يحتمي به مما سيأتي، ولكن أنى له ذلك، وأمام صف المصلين مباشرة، ارتفع الغصن العملاق بكل غصيناته وأوراقه، ليهوي على ظهره في ضربةٍ لم تشف الغليل برغم جبروتها، لكن نحنحة المصلين ونظراتهم النارية حملتني حملاً للانسحاب، بينما التحق هو بالصلاة بكل خشوع.
ومضيت للمنزل أتحاشى أن ألعق شفتي، وأشمئز من نفسي ووجهي، وكانت ليلةً ليلاء مع كل أنواع المنظفات وطرق التنقيع والغسيل.
صباحاً؛؛ كانت بشرة وجهي متقشرةً متغيرة الألوان، لتأتي فتوى أخي الأكبر، بأن الحرباء قد نقلت إليك العدوى، وأن جراثيمها سوف تجعل من وجهك متغير الألوان، ليعتمل في داخلي بركان الخوف والغضب والحقد، وأعلنها مدويةً بين بعض صبية القرية، أنني إن عثرت على حرباء أخرى سأحملها لأضعها في فم ابن خالي المعتدي.. وإن كان قانون جراهام لانتشار الغازات يقول بأن سرعة انتشار الغاز تتناسب تناسباً عكسياً مع الجذر التربيعي للكثافة.. فإن قاعدة الصبية تقول: سرعة انتشار التهديدات تتناسب تناسباً طردياً مع الجذر التربيعي لـ اللقافة.
وما كان غريمي خالد ليضيع فرصته وقد وصله الخبر، فقد وافاني إلى المنزل في صفقةٍ سرية، مستغلاً ثورة المشاعر قبل أن تخبو:
- إذا أحضرت لك حرباء قبل صلاة العصر، فهل تعطيني نصيبك من البيضتين؟!.
كنت مع أحداث المغرب قد نسيت أحداث الضحى، وجدت نفسي أوافق مباشرة مدفوعاً بعاطفتي الهائجة، وإن تمسكت بأضعف الإيمان، أن تكون البيضة الخامسة لي، بينما يكون نصيبه الكامل هو أربع بيضات.. وتمت الصفقة. ليأتيني بعد ساعةٍ من الزمان يحمل حرباء كهرمانية اللون، ويضعها بين قدمي، بينما والدتي تنظر إلينا مشدوهة لا تعرف ما الأمر.. وحين سألتني أخبرتها بما فعله ابن أخيها، وعزمي على الانتقام منه، وما حصل في جيناتي الوراثية من تداخل مع الكروموسومات الحربائية..
نظرت أولاً إلى وجهي في تمعن، ثم سألتني: بماذا غسلت وجهك بالأمس؟!.. أخبرتها أنني دلكته بالتايد حتى تعبت يدي، ثم كما أراهم في غسيل الملابس، وضعت ماءً في صحنٍ كبير، وصببت عليه كميةً أكبر من الكلوركس، لأغمس وجهي فيه لمدة دقيقةٍ كاملة، مستعيناً بقدراتي العالية على تحمل انقطاع النفس..... وعند هذا الحد من الحديث انفجرت أختي ضاحكةً بقوة، بينما سحبتني أمي من يدي وهي تكتم ضحكتها، تخبرني أن ما حصل في وجهي كان بتأثير التنقيع الفريد، وهي تدهن وجهي بالكريمات المعالجة، وتتوعدني أن أتعرض لابن خالي؛ فقد جاءه من الغصن الضخم ما يكفي.
خرجت من بين يديها أبحث عن الحرباء، حملتها بكل اشمئزاز الكون عائداً بها إلى غريمي خالد، عله يقيلني فتعود لي البيضتان، وربما أعلل نفسي بقول الأصوليين: إذا بطل شيء بطل ما في ضمنه.. وبعد مسيرةٍ مضنيةٍ مع الحرباء المقرفة، لم يكلف خالد اللئيم نفسه عناء الحديث، فقد اكتفى بهزةٍ من رأسه الضخم يعلن بها الرفض، ويغلق باب منزلهم في وجهي، تاركاً إياي مع الحرباء والبيضة اليتيمة، والغضب.
.
.
أخيراً...
انتهت فترة الحضانة وفقس البيض، وكانت المفاجأة أن إحدى البيضات لم تفقس، حملها خالد متجهاً بها نحوي، مدعياً أنها بيضتي، ومع تعبي من الجدل قبلت بالنتيجة وسلمت له العش بما حوى، وفي أعماقي غيضٌ ما برح يتقد، غيضٌ منه حين استولى على كنزي الثمين، وغيضٌ من نفسي حين قبلت التقسيم من الخطوة الأولى.
___
___
.
ذات يومٍ خريفي..
تربع إمامنا بعد صلاة العصر يلقي درسه، وكنا في سيرة الرسول المصطفى، بينما إمامنا يرفع المفعول وينصب المجرور والمضاف، تضيع الكلمات الفصحى بين شدقيه حتى تخرج مجوفة مضخمة، يخبرنا عن الأعرابي يشد رسولنا الكريم من إزاره حتى يؤثر في عاتقه، فلا يغضب منه ولا يعنفه، ويعطيه مسألته....أتى فجأةً صوت خالد من أقصى الصف، بنغمته المعهودة الأنفية المخرج:
- والله الرسول كان عسل!!..
التفت إليه كهول القرية في استهجان، وحدق فيه الإمام مغضباً من هذا المقاطع له، ثم لم يملك نفسه أن بادره بصوته الأجوف:
- تحسب زيك يا خالد المنفوخ؟!
ترددت في جنبات المسجد قهقهاتٌ عالية، وليس من شكٍ أن مصدرها من عندي، وأنا ألمح وجه خالد المنفوخ يتحول إلى طماطم حمراء كبيرة، بينما ابتسم الجماعة في وقار مصطنع، ليهب خالد من بيننا إلى خارج المسجد تسبقه دموعه.. يومها شعرت أنني أطبق النظرية الفيزيائية الشهيرة: قيمة دافعة أرخميدس يساوي قيمة ثقل السائل المزاح..
ولكن بتحريف بسيطٍ يقول:
قيمة الغيض القديم المتبخر من صدري = قيمة ثقل دموع خالد المنفوخ.
...
...
...
انتهت- الفنار
تعليق