عاش بين الفرس ونسيه العرب
من يحتفل بألفية بديع الزمان؟
د. هالة أحمد زكي
*****************************************
حدثنا عيسي بن هشام قال: لما بلغت بي الغربة الأبواب, رضيت من الغنيمة بالإياب
هكذا تبدأ قصة طويلة وعجيبة التفاصيل كتبها رجل ذكي حاذق أراد أن ينشر عبر حديثه المبادئ والفضيلة.
كان يمكن أن يكون مجرد ورقة في كتاب لولا انه جاب الآفاق برفقة المغامر وبطل الفكاهة والاعاجيب أبي الفتح السكندري. والراوي عيسي ابن هشام رضي من الغنيمة بالإياب ولم يكن له عصمة كما قال إلا الرجاء.. إلا اننا نكاد نجزم ان كاتب هذه المقامات هو واحد من أصحاب الحظ السيئ الذين امتهنوا حرفة الأدب فامتهنتهم
ففي أقل من أربعين عاما هي كل عمره كتب وكتب لم يعرف في زمانه ماجدوي الكتابة في وقت عز فيه الأحباب وماحكمة ان يكتب ليعلم الجميع بأحزانه ومافعله به الاصحاب فقد يقول من يقرأ ان الشعر كان يكتب للمدح وجمع الأموال وأما الشعراء والكتاب الذين لهم حظ بطلنا بديع الزمان الهمذاني فللحكي عندهم قصة أخري ربما جعلت لحكاياته وحكاياتهم وقعا فريدا علي النفس.
وكاتبنا هو بديع الزمان الهمذاني واسمه كاملا أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني الذي صادفناه في كتب المدارس المصرية وإن لم يكتب يوما حكايات ولا مقامات من وحي أهل مصر واعتبرناه حكاء بارعا من خلال أربعمائة مقامة معظمها في مدينة نيسابور.
يوافق هذا العام مرور ألف عام علي رحيله حيث ذكر الثعالبي في يتيمة الدهر انه توفي عام398 هـ أي1008 م وان كانت الكثير من الموسوعات تؤكد انه توفي قبل هذا التاريخ بعام إلا انه علي الرغم من الشهرة التي أصابها في العصور التالية لرحيله لم ينعم بالكثير من التوفيق في حياته.
ويعتبر الهمذاني صاحب توليفة خاصة, فهو ابن مدينة همذان الايرانية وهو في الوقت ذاته عربي يعيش في بلاد الفرس. وصفه د. مصطفي الشكعة بأنه كان ذا إشراق نفسي وخلقي وجرأة واستقامة وعز وتدين ونزعة تحررية جريئة. كانت رسائله مقالات صحفية نزيهة فقد كان مصلحا ابتكر فن الصحافة بالقدر الذي سمحت به ظروفه وقد وصف الهمذاني نفسه يوما فقال اني عبدالشيخ واسمي أحمد وهمذان المولد وتغلب المرد ومضر المحتد.
ويذكر ادوارد براون في كتابه الأشهر تاريخ الأدب في ايران انه من الظاهر ان هذا الرجل العربي لم يكن يحب بلدته همذان وقال فيها بيتيه المعروفين:
همذان لي بلد أقول بفضله
لكنه من أقبح البلدان
صبيانه في القبح مثل شيوخه
وشيوخه في العقل كالصبيان
لا تلمني علي ركاكة عقلي
إذ تيقنت أنني همذاني
إلا ان غيره ممن أرخوا لحياة الهمذاني يؤكدون ان هذا الشعر لايكشف حقيقة ماكان يدور في نفس الهمذاني الذي لابد انه أحب بلاده وإلا لما كتب عنها في مقاماته التي اختصت منطقة فارس وبلاد العراق بالكثير من الحكي, ولما ظهرت المقامة البلخية والساسانية والقزوينية والنيسابورية والشيرازية والأصفهانية.
هذا الهجاء من الكاتب لموطنه هو فيما يبدو عادة فارسية تأثر بها كاتبنا الذي كان يري الكتاب في فارس يهجون مدنا كبخاري وسجستان وخوارزم.
والهمذاني كان كغيره من أبناء عصره ممن كانوا يحترفون الأدب ويتكسبون منه, كتب الشعر والرسائل إلا ان هويته الحقيقية كانت في هذه المقامات التي جمعت في رأي كثيرين بين فكرة المسرح والصحافة والرواية. وان كان لشوقي ضيف رأي آخر ابرزه موقع سياحة مع الكتب بجريدة الأهالي وهو أن المقامة ليست قصة وانما هي حديث أدبي بليغ وهي أدني الي الحياة منها الي القصة. وليس فيها من القصة إلا الظاهر, وأما حقيقتها فهي حيلة يعرفنا بها بديع وغيره لنطلع من جهة علي حادثة معينة ومن جهة ثانية علي أساليب أنيقة ممتازة.
ولان لكل مقامة بداية فبداية حياة الهمذاني الفكرية كانت عند تتلمذه علي يد أحمد بن فارس الاديب الكبير وابن تركان ليذهب بعدها الي أصفهان التي يصفها أهلها بأنها نصف الدنيا, فيعيش وسط طبيعتها المبهرة التي تختلف عن طبيعة همذان التي يسمع فيها الي الآن صوت تكسر ثلوجها اثناء الليالي الشتوية الطويلة, وفي أصفهان يلتقي بالصاحب بن عباد أشهر شعرائها والذي كان وزيرا لآل بويه الفارسيين وصاحب المكانة في مجتمع الأدب, فكانت له ندوة كبيرة كل ليلة وكان يقول لجلسائه نحن بالنهار سلطان وبالليل اخوان وكان لا يفرق بين ولعه بالشعر العربي والشعر الفارسي.
وكان يدعو الهمذاني الي جلساته ويعترف له بقدرته الفائقة علي نقل الشعر من الفارسية الي العربية ملتزما قافية بعينها وهي ملكة لايستطيعها غيره من العرب والفرس.
ومن أصفهان ينتقل الي جرجان ثم نيسابور حيث جرت مناظرة أدبية شهيرة بينه وبين الخوارزمي أثبت فيها الهمذاني سرعة بديهته وقدرته علي هزيمة هذا العالم اللغوي الكبير في مناظرة لايزال الأدب العربي يذكرها, بدأها بقصيدة مدح لايعرف الفرس لها مثيلا وقد اختارها لتناسب العقلية والمزاج الفارسي فأسقط في يد الخوارزمي الذي لم يتوقع من الهمذاني أن ينافسه علي أرضية أدبية فارسية, إلا أن هذه المناظرة الناجحة لم تكن تعني أن يستقر الهمذاني في نيسابور.
فتتبدل البلاد وتتدافع الايام حتي يصل الهمذاني الي الفترة الاخيرة من حياته والتي يسافر فيها الي سجستان وغزنة وهرات أفغانستان التي تشهد زواجه وتحسن أحواله المادية وانجاب الاولاد ثم يكتب لها أن تشهد وفاته الشديدة الغموض وفي نفس مدينة الاستقرار, هذا الاستقرار الطارئ علي حياة ذلك البلبل المغرد كان يعني إسدال الستائر علي حياته القصيرة والتي ظهر فيها كاتبنا كالشهاب في الليالي المظلمة.
أما وفاته نفسها فظلت الأكثر غموضا وإثارة للتكهنات فمن قائل انه مات مسموما ومن قائل إن غيبوبة أصابته فظنه الناس مات فدفنوه فلما أفاق وجد نفسه في قبره. فظل طوال الليل يصرخ حتي اذا ما اقبل الصبح كان قد انتهي فهل كان يتوقع أحد هذا والأكثر من هذا هل كان يتوقع أحد هذا الجفاء لهذا العبقري الذي مازالت تعيش الي الآن مقامته؟
من يحتفل بألفية بديع الزمان؟
من يحتفل بألفية بديع الزمان؟
د. هالة أحمد زكي
*****************************************
حدثنا عيسي بن هشام قال: لما بلغت بي الغربة الأبواب, رضيت من الغنيمة بالإياب
هكذا تبدأ قصة طويلة وعجيبة التفاصيل كتبها رجل ذكي حاذق أراد أن ينشر عبر حديثه المبادئ والفضيلة.
كان يمكن أن يكون مجرد ورقة في كتاب لولا انه جاب الآفاق برفقة المغامر وبطل الفكاهة والاعاجيب أبي الفتح السكندري. والراوي عيسي ابن هشام رضي من الغنيمة بالإياب ولم يكن له عصمة كما قال إلا الرجاء.. إلا اننا نكاد نجزم ان كاتب هذه المقامات هو واحد من أصحاب الحظ السيئ الذين امتهنوا حرفة الأدب فامتهنتهم
ففي أقل من أربعين عاما هي كل عمره كتب وكتب لم يعرف في زمانه ماجدوي الكتابة في وقت عز فيه الأحباب وماحكمة ان يكتب ليعلم الجميع بأحزانه ومافعله به الاصحاب فقد يقول من يقرأ ان الشعر كان يكتب للمدح وجمع الأموال وأما الشعراء والكتاب الذين لهم حظ بطلنا بديع الزمان الهمذاني فللحكي عندهم قصة أخري ربما جعلت لحكاياته وحكاياتهم وقعا فريدا علي النفس.
وكاتبنا هو بديع الزمان الهمذاني واسمه كاملا أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني الذي صادفناه في كتب المدارس المصرية وإن لم يكتب يوما حكايات ولا مقامات من وحي أهل مصر واعتبرناه حكاء بارعا من خلال أربعمائة مقامة معظمها في مدينة نيسابور.
يوافق هذا العام مرور ألف عام علي رحيله حيث ذكر الثعالبي في يتيمة الدهر انه توفي عام398 هـ أي1008 م وان كانت الكثير من الموسوعات تؤكد انه توفي قبل هذا التاريخ بعام إلا انه علي الرغم من الشهرة التي أصابها في العصور التالية لرحيله لم ينعم بالكثير من التوفيق في حياته.
ويعتبر الهمذاني صاحب توليفة خاصة, فهو ابن مدينة همذان الايرانية وهو في الوقت ذاته عربي يعيش في بلاد الفرس. وصفه د. مصطفي الشكعة بأنه كان ذا إشراق نفسي وخلقي وجرأة واستقامة وعز وتدين ونزعة تحررية جريئة. كانت رسائله مقالات صحفية نزيهة فقد كان مصلحا ابتكر فن الصحافة بالقدر الذي سمحت به ظروفه وقد وصف الهمذاني نفسه يوما فقال اني عبدالشيخ واسمي أحمد وهمذان المولد وتغلب المرد ومضر المحتد.
ويذكر ادوارد براون في كتابه الأشهر تاريخ الأدب في ايران انه من الظاهر ان هذا الرجل العربي لم يكن يحب بلدته همذان وقال فيها بيتيه المعروفين:
همذان لي بلد أقول بفضله
لكنه من أقبح البلدان
صبيانه في القبح مثل شيوخه
وشيوخه في العقل كالصبيان
لا تلمني علي ركاكة عقلي
إذ تيقنت أنني همذاني
إلا ان غيره ممن أرخوا لحياة الهمذاني يؤكدون ان هذا الشعر لايكشف حقيقة ماكان يدور في نفس الهمذاني الذي لابد انه أحب بلاده وإلا لما كتب عنها في مقاماته التي اختصت منطقة فارس وبلاد العراق بالكثير من الحكي, ولما ظهرت المقامة البلخية والساسانية والقزوينية والنيسابورية والشيرازية والأصفهانية.
هذا الهجاء من الكاتب لموطنه هو فيما يبدو عادة فارسية تأثر بها كاتبنا الذي كان يري الكتاب في فارس يهجون مدنا كبخاري وسجستان وخوارزم.
والهمذاني كان كغيره من أبناء عصره ممن كانوا يحترفون الأدب ويتكسبون منه, كتب الشعر والرسائل إلا ان هويته الحقيقية كانت في هذه المقامات التي جمعت في رأي كثيرين بين فكرة المسرح والصحافة والرواية. وان كان لشوقي ضيف رأي آخر ابرزه موقع سياحة مع الكتب بجريدة الأهالي وهو أن المقامة ليست قصة وانما هي حديث أدبي بليغ وهي أدني الي الحياة منها الي القصة. وليس فيها من القصة إلا الظاهر, وأما حقيقتها فهي حيلة يعرفنا بها بديع وغيره لنطلع من جهة علي حادثة معينة ومن جهة ثانية علي أساليب أنيقة ممتازة.
ولان لكل مقامة بداية فبداية حياة الهمذاني الفكرية كانت عند تتلمذه علي يد أحمد بن فارس الاديب الكبير وابن تركان ليذهب بعدها الي أصفهان التي يصفها أهلها بأنها نصف الدنيا, فيعيش وسط طبيعتها المبهرة التي تختلف عن طبيعة همذان التي يسمع فيها الي الآن صوت تكسر ثلوجها اثناء الليالي الشتوية الطويلة, وفي أصفهان يلتقي بالصاحب بن عباد أشهر شعرائها والذي كان وزيرا لآل بويه الفارسيين وصاحب المكانة في مجتمع الأدب, فكانت له ندوة كبيرة كل ليلة وكان يقول لجلسائه نحن بالنهار سلطان وبالليل اخوان وكان لا يفرق بين ولعه بالشعر العربي والشعر الفارسي.
وكان يدعو الهمذاني الي جلساته ويعترف له بقدرته الفائقة علي نقل الشعر من الفارسية الي العربية ملتزما قافية بعينها وهي ملكة لايستطيعها غيره من العرب والفرس.
ومن أصفهان ينتقل الي جرجان ثم نيسابور حيث جرت مناظرة أدبية شهيرة بينه وبين الخوارزمي أثبت فيها الهمذاني سرعة بديهته وقدرته علي هزيمة هذا العالم اللغوي الكبير في مناظرة لايزال الأدب العربي يذكرها, بدأها بقصيدة مدح لايعرف الفرس لها مثيلا وقد اختارها لتناسب العقلية والمزاج الفارسي فأسقط في يد الخوارزمي الذي لم يتوقع من الهمذاني أن ينافسه علي أرضية أدبية فارسية, إلا أن هذه المناظرة الناجحة لم تكن تعني أن يستقر الهمذاني في نيسابور.
فتتبدل البلاد وتتدافع الايام حتي يصل الهمذاني الي الفترة الاخيرة من حياته والتي يسافر فيها الي سجستان وغزنة وهرات أفغانستان التي تشهد زواجه وتحسن أحواله المادية وانجاب الاولاد ثم يكتب لها أن تشهد وفاته الشديدة الغموض وفي نفس مدينة الاستقرار, هذا الاستقرار الطارئ علي حياة ذلك البلبل المغرد كان يعني إسدال الستائر علي حياته القصيرة والتي ظهر فيها كاتبنا كالشهاب في الليالي المظلمة.
أما وفاته نفسها فظلت الأكثر غموضا وإثارة للتكهنات فمن قائل انه مات مسموما ومن قائل إن غيبوبة أصابته فظنه الناس مات فدفنوه فلما أفاق وجد نفسه في قبره. فظل طوال الليل يصرخ حتي اذا ما اقبل الصبح كان قد انتهي فهل كان يتوقع أحد هذا والأكثر من هذا هل كان يتوقع أحد هذا الجفاء لهذا العبقري الذي مازالت تعيش الي الآن مقامته؟
من يحتفل بألفية بديع الزمان؟
تعليق