في الذكرى الماسية : أرامكو بين النجاحات الباهرة والإخفاقات المُرَّة (2)
انتقدت في مقالتي السابقة غياب مفهوم المسؤولية المجتمعية عن ذهن بعض القيادات في الإدارة العليا وهو ما سمح بظهور بعض الأصوات العنصرية " الفلتانة " , وأكمل اليوم حديثي حول مسؤوليات أرامكو المجتمعية " المفقودة " , وهو الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات خصوصاً إذا علمنا أن الإدارة العليا في أرامكو تزخر بقيادات ناضجة لا يعزب عنها مفهوم المسؤولية المجتمعية الذي هو أحد مفاهيم الإدارة الحديثة . ودعوني قبل أن أبدأ ألفت الانتباه إلى أن البعض قد يتساءل عن السبب الذي يجعلني أركز على ذكر سلبيات ومثالب أرامكو متجاهلاً إيجابياتها ونجاحاتها , وهذا تساؤل مشروع , لكنني ألفت نظر هذا المتسائل إلى أنني قد ذكرت أن أرامكو قد حققت الكثير من النجاحات الباهرة التي لا ينكرها سوى أعمى أو حاقد , وهذه النجاحات بالذات هي التي تدفعني وتدفع غيري إلى الإشارة إلى السلبيات كي لا يتلطخ وجه النجاحات الأرامكوية الباهرة. ثم إنني أعتقد أن ليس من مهمة الكاتب " الناقد " نثر المديح وتدبيج القصائد فيما هو بيِّن وواضح ومشاهد , ولكن مهمته هي لفت النظر تجاه الزوايا المظلمة المهملة . كما أنني لا أظن أن أرامكو تشكو من قلة المادحين على المستوى الإعلامي فشبكة علاقاتها العامة تتمدد بسرعة , ولو أن شبكة مسؤولياتها المجتمعية تتمدد بالسرعة نفسها لما كنت بحاجة لكتابة هذه المقالة ! ونكمل ما بدأناه باسم الله :
مع بداية الثمانينيات وبعد أن تحوَّلت أرامكو لتكون شركة سعودية بالكامل , اتخذت حكومة خادم الحرمين الشريفين قرارا ذكياً جداً ينم عن استنارة وتقدمية ألا وهو الاستمرار في سياسة تحرير أرامكو من البيروقراطية الحكومية , وجعلها تُشغِّل نفسها بعيداً عن الجمود والروتين , وهو القرار الذي أثبت بُعد نظر صاحبه وصواب رؤيته المستقبلية التي جعلت من أرامكو فيما بعد واحدة من أكبر الشركات البترولية في العالم وأكثرها نجاحاً على المستوى " الربحي ". هذا المستوى العالي من الربحية كان يجب أن يُصرف جزءٌ منه في دفع عملية تنمية المجتمع خارج محيط أرامكو اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً , فأرامكو كما ذكرت في مقالتي السابقة لا تعيش في الفراغ أو في القمر بل على هذه الأرض وعلى هذه المساحة الجغرافية بالذات , ولذا فلا تستطيع أرامكو أن تتجاهل ما حولها وتذهب لتشارك البعيد القاصي آلامه ونكباته بينما تتجاهل الجار ذي القربى . وكلنا نتذكر أن أرامكو ساعدت بقوة وبحماس في بناء بيوت المتضررين من إعصار كاترينا في الولايات المتحدة الأمريكية !
لأرامكو أن تجمَّل وجهها وصورتها كما تريد لكن ليكن للجار ذي القربى نصيب من هذا التجميل والتجمَّل لأنني أعلم كما يعلم غيري أن بقرب مصفاة التكرير الأكبر في العالم وهي في رأس تنورة وعلى بعد كيلومترات قليلة تقبع مدينة اسمها أم الساهك يعيش نسبة غير قليلة من أفرادها في العشش وبيوت الصفيح دون أن تضطرهم أعاصير أو نكبات لفعل هذا بل الفقر والفقر وحده , فأين الخير الأرامكوي عن أم الساهك , وما سر هذه الحماسة لمتضرري إعصار كاترينا ؟
إنَّ قصور الدور الأرامكوي عن المشاركة في التنمية المجتمعية لم يكن قاصراً على أم الساهك فقط , بل دعونا نفتح ورقة حساب صغيرة لنرى حجم التفاعل الأرامكوي مع قضايا المجتمع المُلِّحة , وأحب أن ألفت الانتباه هنا إلى أنني أعتمد في معلوماتي على موقع أرامكو على الإنترنت , وعلى معلوماتي الشخصية التي سمح بها قربي من مجتمع أرامكو :
على الجانب التعليمي : هل قدمت أرامكو جامعة واحدة أو أكاديمية واحدة أو كلية واحدة ؟ أرامكو ذات الخمسة والسبعين ربيعاً , وذات العقول الكبيرة جداً , وذات الإنجازات الأكبر لم تقدم للشعب السعودي لا جامعة ولا أكاديمية ولا كلية !! وحتى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا التي هي مبادرة شخصية من خادم الحرمين الشريفين جاءت بميزانية من لدنه حفظه الله , وسُلِّمت إدارة إنشائها إلى أرامكو . التي بدأت عملها " بتنظيم " حفلين باربكيو !!فأين المبادرة الأرامكوية والتي كانت في السابق مضرب المثل؟!
تعالوا لننظر ماذا قدمت أرامكو للشعب السعودي وعلى الأقل لأهالي المنطقة الشرقية على المستوى التعليمي الأدنى ؟ نعم لقد قدمت أرامكو عدداً من مباني المدارس الإبتدائية والمتوسطة وما تُسميه مجمعاً هنا وهناك , عدداً قليلاً جداً جعل الكثرة الكاثرة من مدارسنا ومن طلابنا تقبع في منازل مستأجرة ! لا أحد يُعفي الدولة من مسؤولياتها في هذا الجانب , لكن تخيلوا معي لو أن أرامكو تكفلت ببناء نسبة كبيرة من المدارس الحكومية في الشرقية ولا أعتقد أن المال ينقصها لتفعل هذا ففي النهاية تعود إيرادات النفط لخزينة الدولة ومنها تُصرف ميزانية التعليم والتي منها بناء المدارس . لاحظوا كيف أن ميزانية وزارة التعليم ستتحرر قليلاً فيما لو قامت أرامكو ببناء هذه المدارس وستتمكن الوزارة حينها من بناء مدارس حكومية محترمة في مناطق المملكة الأخرى. دعوني أذكر هنا ومن باب الإنصاف أن أرامكو ذات الأرباح المالية الضخمة جداً قامت بحملة لرسم البسمة على شفاه أبناء الأسر المحتاجة ( كما جاء في خبر مجلة القافلة ) أسمتها " حملة الحقيبة المدرسية " . حيث تفتخر أرامكو - كما هو في الخبر- بإنَّ إجمالي التبرعات التي أسهم بها موظفو أرامكو وعائلاتهم ( لاحظوا أنها تبرعات شخصية محضة ) مكَّنت القائمين على الحملة من توزيع 4000 حقيبة مدرسية !! ......لا تعليق.
هذا فيما يخص بناء المدارس والجامعات والكليات والمعاهد و" الحقائب المدرسية ", فماذا عن الدعم المالي للتعليم ؟ لقد بحثت في موقع أرامكو الإلكتروني عن حجم الدعم الذي تُقدِّمه أرامكو لفرع وزارة التعليم في المنطقة الشرقية فما وجدت شيئاً , وهو أمر غريب , فإن وُجِد هذا الدعم كان لزاماً أن يُعرض في الموقع وإن لم يوجد فالمصيبة أعظمُ !
على الجانب الصحي : ماذا قدمت أرامكو ؟ صفر مكعب . لم تساهم في بناء مستشفيات , بل لم تساهم ولا حتى في بناء مراكز صحية صغيرة تخفف قليلاً من حجم التلوث والأمراض والبلاوي التي تضخها مصانعها في بيئتنا . وحتى وقت قصير كانت أرامكو تُميِّز في تعاملها الطبي بين موظفيها فمنْ هم دون الدرجة 11 كانت لهم عناية صحية متدنية , على عكس أولئك الذين فوق الدرجة 11 , وهو الأمر المعيب جداً والذي تجاوزته أرامكو " مشكورة " قبل سنين قليلة بعد أن ظهرت الأصوات المستنكرة والرافضة لهذا النوع من التمييز غير الإنساني.
على الجهة الأخرى هل جعلت أرامكو بيئتنا الصحية أفضل ؟ بل لنكن واقعيين قليلاً فنقول : هل فعلت أرامكو شيئاً يعوِّض ما تقوم به معاملها من تخريب وإفساد للبيئة المناخية ؟ لا شيء . وكأن الأمر لا يعنيها . وكأن تزايد أعداد المرضى والمصابين بالربو الحاد وأمراض الرئة الأخرى المختلفة ذات العلاقة بالتسمم الهوائي لا علاقة طردية له بكميات الغاز المطرود من معامل أرامكو إلى البيئة الخارجية . باستثناء الحملات الإعلامية " المكشوفة " إيِّاها عن تدوير النفايات وعن تنظيف الشواطىء وهي الحملات التي تنتهي منذ أن يفرغ المصوِّرالإعلامي من أخذ الصور. إنَّ منْ يتصفح موقع أرامكو الإلكتروني يُصاب بالدهشة لأن الموقع لا يذكر شيئاً عن نسب الانبعاثات الغازية التي تضخها أرامكو وتسمم به أجواءنا والتي أجزم أنها تتجاوز بكثير النسب العليا التي وضعتها المنظمات والجمعيات ذات العلاقة بالبيئة والسلامة الصحية والمهنية. وهذه النسب ستتضاعف حتماً حين يبدأ تشغيل مصنع البتروكيماويات الذي تنوي أرامكو بناءه على شاطىء رأس تنورة وهو الذي لقي معارضة شديدة من لدن أهالي رأس تنورة ومجلسها البلدي حتى وصل الأمر إلى خادم الحرمين الشريفين . ولعل هذا المثال يُعبِّر بصدق عن أولوية الربحية على ما عداها في القاموس الأرامكوي , وهو الأمر المفهوم ما دام هذا المصنع الجديد لن يكون في الظهران حيث مبنى الإدارة العليا في أرامكو.
على الجانب الإداري والخدماتي والخيري : ماذا قدمت أرامكو " الإدارية " وهي التي تملك ثروة وتركة إدارية كبرى عمرها ثلاثة أرباع القرن ؟ هل قامت بما يجب عليها تجاه هذا المجتمع ؟ هل قامت بعمل ندوات وورش عمل ومؤتمرات لدعم المؤسساتية والتحديث الإداري في المنطقة الشرقية ؟ هل دعمت أرامكو المؤسسات الوطنية الخدمية بالبرمجيات الخاصة بالإدارة وتطوير المواد البشرية ؟ هل قامت بدعم شركة الكهرباء مثلاً ؟ بل تعالوا لننظر لشيء أبسط من هذا كله وأكثر وضوحاً , ألا وهو رصف وسفلتة الطرق !! السفلتة كما نعلم تتم باستخدام مادة الأسفلت وهي المادة الأكثر كثافة من مواد عمود التقطير ( Distillation Column ) , أي أنها مادة متوفرة بكثرة لدى أرامكو ثم هي أرخص سعراً مما سواها. لكننا نجد أن أرامكو تكتفي فقط برصف وسفلتة طرق مجاميعها السكنية فقط , على عكس أرامكو قبل 30 سنة والتي كان آباؤنا يعملون فيها والتي كانت تدار بطاقم أمريكي حيث رصفت وسفلتت طرق مدن كثيرة على رأسها أبقيق ورأس تنورة دون أن تركز فقط على مجاميعها السكنية !! هل تكون الإدارات الأمريكية الأرامكوية أكثر سعودية من الإدارات السعودية ؟! ومع كل أسف نرى جميعاً حجم الخلل الحاصل في بنية شبكة الطرق في الشرقية والتي تعمل أمانة المنطقة الشرقية بكل طاقتها لمعالجتها وإصلاحها . وكلنا رأينا مشاكل الطريق السريع الممتد من الجبيل حتى الخبر الذي كان مليئاً بالتحويلات الإجبارية والذي كان يواجه مشاكل رقابية وتقنية وإدارية واضحة . ولو كان موظفو أرامكو لا يستخدمون هذه الطرق لقلنا أنها العقلية الأرامكوية إياها غير الملتزمة بشيء تجاه المجتمع لكن المصيبة أن غالبية مستخدمي هذا الطريق بالذات هم من موظفي أرامكو ! قد يخرج من يقول أن مثل هذه المشاريع يُراد لها أن تقوم بها مؤسسات وشركات مقاولات وطنية حتى تتحرك عجلة الاقتصاد وينتفع أصحاب المشاريع الوطنية الصغرى والوسطى لكن هذا لا يعني أن تتوارى أرامكو خلف الستار , ولا حتى بتقديم المشورة فيما يخص تأهيل المقاولين والمشاركة في الشأن الرقابي والتنظيمي لأعمال المقاولات !!
لا أحد يعرف المنطقة الشرقية أكثر من أرامكو .لذا فلو كان الأمر بيدي لجعلت أرامكو تقوم بسفلتة ورصف الطرق في المنطقة الشرقية كاملة , ليس هذا فقط بل والقيام بعمل شبكات المياه والصرف الصحي وإنشاء المستشفيات الحكومية والمدارس ودعمها بالأجهزة والمعدات الطبية ولا يخفى أن هذا كله سيعود بالخير على ميزانيات الوزارات المعنية بتوفير هذا ويجعلها تتحرر كما ذكرت لتقوم بعمليات الرصف والسفلتة وإنشاء شبكات المياه والصرف الصحي والمستشفيات والمدارس وفق مواصفات أعلى . قد يكون هذا مُكلفاً على أرامكو , أقول " قد " , فلمَ لا تقوم به أرامكو في مقابل مادي تتقاضاه من الحكومة ؟ وبمناسبة الحديث حول هذه النقطة ألا تلاحظون معي أن أرامكو مُتخلِّفة جداً في تنويع استثماراتها على المستويين الداخلي والخارجي ؟ لا شك أن التركيز على ما يسمى " النشاط الرئيس " (Core Activity) أمر مطلوب , لكن المفاهيم الإدارية تقدمت كثيراً في السنوات القليلة الماضية وظهرت بقوة أصوات كثيرة مهمة لا ترى أن تنويع الاستثمار يناقض أو يهدد فكرة التركيز على النشاط الرئيس. ولعل المًطلِّع على تجارب الشركات البترولية العالمية يجدها وبتسارع محموم توسع استثماراتها وتنوِّعها بل وتستحوذ أو تنشىء من أجل ذلك الشركات الكبيرة التابعة لها , ولعل الإخوة في شركة البترول الكويتية فعلوا ذلك بنجاح يدعو للإعجاب. ولعلي أكتب مقالة خاصة بهذا الموضوع فيما بعد.
على الجانب الخيري : من الجميل أن تسمح أرامكو مثلها مثل كل الأجهزة والقطاعات الحكومية لموظفيها بإقتطاع جزء من رواتبهم من أجل دعم الجمعيات الخيرية , لكن الأجمل لو قامت أرامكو باقتطاع جزء صغير من حصتها الربحية لهذا الأمر , وهو ما أزعم أنه لن يؤثر بحال على نسب الربحية في الشركة . سمعت من لدن البعض أن أرامكو تقوم بدعم الجمعيات الخيرية, وأوافق على هذا لأنني كما ذكرت آنفاً قرأت أنَّها دعمت وساعدت المتضررين من إعصار كاترينا , لكنني لم أسمع ولم أقرأ في موقعها الإلكتروني ذكراً لأم الساهك أو الجمعيات الخيرية السعودية في المنطقة الشرقية ! قد يُقسم لنا البعض بأغلظ الأيمان أن أرامكو تفعل ذلك , فنطالبه بكشف الأرقام ونشرها على الملأ , لأن الدعم " الطفس " الذي يتمثل في حملة ( هكذا سمَّتها أرامكو ) " التبرعات بالتمور ", لا يُعتبر دعماً بل هو أقرب ما يكون لذر الرماد في العيون. ولا أدري من الذي اقترح هذه الحملة, ومن الذي اقترح تسليط الضوء عليها , لأنها معيبة . معيبة جداً. توزيع تمور وكأننا في زمن الخلافة الأموية أو العباسية !
ماذا قدمت أرامكو لجمعيات المعاقين ؟ وماذا قدمت لمرضى الفشل الكلوي ؟ وماذا قدمت لجمعيات الصم والبكم ؟ وماذا قدَّمت للأرامل واليتامى ؟ إن دعم اليتامى لا يكون بحضور الاحتفالات " الإعلامية " مع اليتامى والتزمير معهم بصفارات أعياد الميلاد , لكنه يكون - إن أرادت أرامكو بالفعل أن تدعم اليتامى – بكفالة حصة منهم من حين دراستهم وحتى توظيفهم لديها ثم بابتعاثهم للخارج لإكمال تعليمهم. وهنا أشير فقط إلى رجل خيرٍ أعرفه وهو من شباب هذا البلد , وقد كفل الكثير من أبناء المسلمين اليتامى في سيرلانكا حتى تخرجوا من الجامعات وانتقلوا للعمل في شركات عالمية كبرى في دبي وبريطانيا وأمريكا , وضخوا مما يقتطعونه من أموالهم في مشروع هذا الشاب السعودي ما مكَّن هذا المشروع من أن يستمر ويزدهر ويكبر ويتوسع . هل يستطيع رجلٌ واحدٌ أن يفعل هذا , ولا تستطيعه الشركة البترولية الربحية الأكبر في العالم ؟
ولعلنا نبدو ساذجين حين نطالب بكل ما سبق وقد قرأنا قبل أيام قلائل خبراً مفاده أن أرامكو منحت المتقاعدين زيادة بنحو 5% من الدخل التكميلي! 5% لأناس قضوا سني عمرهم الطويل وزهرة شبابهم في خدمة أرامكو يكابدون النصب والتعب والألم , لم يبق منهم على قيد الحياة سوى قلة قليلة !! ومع هذا تستخسر أرامكو في هذه القلة القليلة ما هو أكثر من 5% في ظل تضخم وغلاء لا يرحم فاق نسبة الـ5% بكثير ! لا غرابة فالإدارة العليا التي تقبض الرواتب الكبيرة المجزية لن تعاني الأمرَّين حين تحال للتعاقد فرواتبها الضخمة لن يضرها إن نقص نصفها ولا حتى ثلاثة أرباعها!! إن المؤسسات والشركات التي تحترم نفسها " تضمن " الحياة الكريمة للطبقة الأدنى وخصوصاً تلك التي بلغت من العمر عتياً وأحيلت للتقاعد . ولاحظوا أننا لا نتكلم هنا عن دفع أجور لمواطنين خارج أرامكو , بل لموظفي أرامكو من الشيوخ والعجائز, لكنهم أولئك الذين طواهم النسيان حين مصَّت أرامكو رحيقهم وزهرتهم . وقديماً قال الشاعر : وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المُهنَّدِ.
ألا نغدو سذجاً حين نطالبها بعد هذا بدعم الجمعيات الخيرية وهي التي لم تدعم ذويها وأقاربها الذين شابت لحاهم وحنت ظهورهم في خدمتها؟
كنت قد نويت أنا السائر إلى نهاية مقالتي أن أفرد جزءاً خاصاً بداء ما ظننت أنَّ يوجد مثله في أرامكو ذات الخمسة والسبعين ربيعاً , ألا وهو داء " غياب الشفافية ". وهو الداء الأخطر . وحين أقول غياب الشفافية في أرامكو فأنا لا أبرىء الشركات أو الأجهزة أو القطاعات الأخرى والتي يفوق معدل غياب الشفافية لديها ما لدى أرامكو بمراحل سواءً أكانت في القطاع الخاص أو العام. لكننا حين نُقارن أرامكو فيجب أن نقارنها بمثيلاتها من الشركات البترولية العالمية , فالشفافية اليوم قيمة تبيع وتحقق الأرباح وليست قيمة مجانية أو مُكلِّفة كما كان يُقال سابقاً. المثير للدهشة أن أرامكو من حين تحولت ملكيتها بالكامل بدأت تفقد شيئاً فشيئاً شفافيتها التي كانت مضرب المثل , حتى بتنا نسمع البعض من موظفي أرامكو يترحم على أيام الإدارة الأمريكية التي لم تكن تعترف بالواسطة أو الطائفية القبلية أو المناطقية أو المذهبية. رغم أن " الشفافية " مصطلح لم يشتهر وينتشر ويُكتشف تأثيره الإيجابي والربحي سوى في العقد الأخير . أما الشفافية الأرامكوية الموجهة لمجتمع خارج أرامكو فيظهر نقصها وتخلفها بادياً من خلال الموقع الإلكتروني الإرامكوي الذي لا يقول شيئاً , والذي لا يقول شيئاً هو في حقيقة الأمر يقول كل شيء . فلو كان لدى أرامكو ما تُباهي به وتفخر به لنشرته في موقعها الإلكتروني , وأمَّا العبارات الواسعة كمثل العبارات المنشورة حول أن أرامكو تتقيد بالمواصفات والمقاييس العالمية في معاييرها المختلفة بيئيةً كانت أو صحيةً فلا يسمن ولا يغني من جوع , لأن الزمن اليوم هو زمن المعلومة الدقيقة التفصيلية وليس زمن العبارة الفضفاضة العامة التي تذروها رياح الواقع الضيق الذي يفقأ وضوحه العين.
ختاماً : إن الناظر بحيادية إلى أرامكو ليشعر بالفخر الكبير لوجودها وللنقلة النوعية التي أحدثتها ربحيتها العالية , لكنه يشعر بالأسى , ولا أريد أن أقول العار , للتخلَّف الذي تقبع فيه أرامكو في الجوانب الأخرى كجوانب المسؤولية المجتمعية والشفافية والدعم الإنمائي الذي يبدو أنَّه يأتي في درجة متدنية من درجات سلَّم الأولويات لدى الإدارة العليا في أرامكو.
لا يُجمِّل وجه أرامكو لقاءات إعلامية هنا وهناك , ولا جوائز وحفلات تكريم لكُتَّاب وكاتبات(غير منقبات) وصحفيين وصحفيات (غير منقبات) هنا وهناك , ولا زيارات لمنطقة "شيبة" مدفوعة الأجر؛ بل يجملها الحقيقة ولباس الحقيقة ذلك خير . وذلك بأن تأخذ مكانها التنموي الذي ينبغي . وأن تساهم عملياً في دفع عجلة التنمية . وأن تأخذ زمام المبادرة لدعم وتمويل وإدارة مشاريع وحملات وطنية تؤكد وتثبت عملياً أن أرامكو تعتقد حقيقة أن عليها مسؤولية مجتمعية مثلها مثل كل الشركات التي تدار بشكل حديث واحترافي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم " قد أعذر الله رجلاً بلغ الخمسين " . فكيف بمن بلغ الخامسة والسبعين ؟
دام الجميع بخير.
عبدالله العجمي
انتقدت في مقالتي السابقة غياب مفهوم المسؤولية المجتمعية عن ذهن بعض القيادات في الإدارة العليا وهو ما سمح بظهور بعض الأصوات العنصرية " الفلتانة " , وأكمل اليوم حديثي حول مسؤوليات أرامكو المجتمعية " المفقودة " , وهو الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات خصوصاً إذا علمنا أن الإدارة العليا في أرامكو تزخر بقيادات ناضجة لا يعزب عنها مفهوم المسؤولية المجتمعية الذي هو أحد مفاهيم الإدارة الحديثة . ودعوني قبل أن أبدأ ألفت الانتباه إلى أن البعض قد يتساءل عن السبب الذي يجعلني أركز على ذكر سلبيات ومثالب أرامكو متجاهلاً إيجابياتها ونجاحاتها , وهذا تساؤل مشروع , لكنني ألفت نظر هذا المتسائل إلى أنني قد ذكرت أن أرامكو قد حققت الكثير من النجاحات الباهرة التي لا ينكرها سوى أعمى أو حاقد , وهذه النجاحات بالذات هي التي تدفعني وتدفع غيري إلى الإشارة إلى السلبيات كي لا يتلطخ وجه النجاحات الأرامكوية الباهرة. ثم إنني أعتقد أن ليس من مهمة الكاتب " الناقد " نثر المديح وتدبيج القصائد فيما هو بيِّن وواضح ومشاهد , ولكن مهمته هي لفت النظر تجاه الزوايا المظلمة المهملة . كما أنني لا أظن أن أرامكو تشكو من قلة المادحين على المستوى الإعلامي فشبكة علاقاتها العامة تتمدد بسرعة , ولو أن شبكة مسؤولياتها المجتمعية تتمدد بالسرعة نفسها لما كنت بحاجة لكتابة هذه المقالة ! ونكمل ما بدأناه باسم الله :
مع بداية الثمانينيات وبعد أن تحوَّلت أرامكو لتكون شركة سعودية بالكامل , اتخذت حكومة خادم الحرمين الشريفين قرارا ذكياً جداً ينم عن استنارة وتقدمية ألا وهو الاستمرار في سياسة تحرير أرامكو من البيروقراطية الحكومية , وجعلها تُشغِّل نفسها بعيداً عن الجمود والروتين , وهو القرار الذي أثبت بُعد نظر صاحبه وصواب رؤيته المستقبلية التي جعلت من أرامكو فيما بعد واحدة من أكبر الشركات البترولية في العالم وأكثرها نجاحاً على المستوى " الربحي ". هذا المستوى العالي من الربحية كان يجب أن يُصرف جزءٌ منه في دفع عملية تنمية المجتمع خارج محيط أرامكو اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً , فأرامكو كما ذكرت في مقالتي السابقة لا تعيش في الفراغ أو في القمر بل على هذه الأرض وعلى هذه المساحة الجغرافية بالذات , ولذا فلا تستطيع أرامكو أن تتجاهل ما حولها وتذهب لتشارك البعيد القاصي آلامه ونكباته بينما تتجاهل الجار ذي القربى . وكلنا نتذكر أن أرامكو ساعدت بقوة وبحماس في بناء بيوت المتضررين من إعصار كاترينا في الولايات المتحدة الأمريكية !
لأرامكو أن تجمَّل وجهها وصورتها كما تريد لكن ليكن للجار ذي القربى نصيب من هذا التجميل والتجمَّل لأنني أعلم كما يعلم غيري أن بقرب مصفاة التكرير الأكبر في العالم وهي في رأس تنورة وعلى بعد كيلومترات قليلة تقبع مدينة اسمها أم الساهك يعيش نسبة غير قليلة من أفرادها في العشش وبيوت الصفيح دون أن تضطرهم أعاصير أو نكبات لفعل هذا بل الفقر والفقر وحده , فأين الخير الأرامكوي عن أم الساهك , وما سر هذه الحماسة لمتضرري إعصار كاترينا ؟
إنَّ قصور الدور الأرامكوي عن المشاركة في التنمية المجتمعية لم يكن قاصراً على أم الساهك فقط , بل دعونا نفتح ورقة حساب صغيرة لنرى حجم التفاعل الأرامكوي مع قضايا المجتمع المُلِّحة , وأحب أن ألفت الانتباه هنا إلى أنني أعتمد في معلوماتي على موقع أرامكو على الإنترنت , وعلى معلوماتي الشخصية التي سمح بها قربي من مجتمع أرامكو :
على الجانب التعليمي : هل قدمت أرامكو جامعة واحدة أو أكاديمية واحدة أو كلية واحدة ؟ أرامكو ذات الخمسة والسبعين ربيعاً , وذات العقول الكبيرة جداً , وذات الإنجازات الأكبر لم تقدم للشعب السعودي لا جامعة ولا أكاديمية ولا كلية !! وحتى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا التي هي مبادرة شخصية من خادم الحرمين الشريفين جاءت بميزانية من لدنه حفظه الله , وسُلِّمت إدارة إنشائها إلى أرامكو . التي بدأت عملها " بتنظيم " حفلين باربكيو !!فأين المبادرة الأرامكوية والتي كانت في السابق مضرب المثل؟!
تعالوا لننظر ماذا قدمت أرامكو للشعب السعودي وعلى الأقل لأهالي المنطقة الشرقية على المستوى التعليمي الأدنى ؟ نعم لقد قدمت أرامكو عدداً من مباني المدارس الإبتدائية والمتوسطة وما تُسميه مجمعاً هنا وهناك , عدداً قليلاً جداً جعل الكثرة الكاثرة من مدارسنا ومن طلابنا تقبع في منازل مستأجرة ! لا أحد يُعفي الدولة من مسؤولياتها في هذا الجانب , لكن تخيلوا معي لو أن أرامكو تكفلت ببناء نسبة كبيرة من المدارس الحكومية في الشرقية ولا أعتقد أن المال ينقصها لتفعل هذا ففي النهاية تعود إيرادات النفط لخزينة الدولة ومنها تُصرف ميزانية التعليم والتي منها بناء المدارس . لاحظوا كيف أن ميزانية وزارة التعليم ستتحرر قليلاً فيما لو قامت أرامكو ببناء هذه المدارس وستتمكن الوزارة حينها من بناء مدارس حكومية محترمة في مناطق المملكة الأخرى. دعوني أذكر هنا ومن باب الإنصاف أن أرامكو ذات الأرباح المالية الضخمة جداً قامت بحملة لرسم البسمة على شفاه أبناء الأسر المحتاجة ( كما جاء في خبر مجلة القافلة ) أسمتها " حملة الحقيبة المدرسية " . حيث تفتخر أرامكو - كما هو في الخبر- بإنَّ إجمالي التبرعات التي أسهم بها موظفو أرامكو وعائلاتهم ( لاحظوا أنها تبرعات شخصية محضة ) مكَّنت القائمين على الحملة من توزيع 4000 حقيبة مدرسية !! ......لا تعليق.
هذا فيما يخص بناء المدارس والجامعات والكليات والمعاهد و" الحقائب المدرسية ", فماذا عن الدعم المالي للتعليم ؟ لقد بحثت في موقع أرامكو الإلكتروني عن حجم الدعم الذي تُقدِّمه أرامكو لفرع وزارة التعليم في المنطقة الشرقية فما وجدت شيئاً , وهو أمر غريب , فإن وُجِد هذا الدعم كان لزاماً أن يُعرض في الموقع وإن لم يوجد فالمصيبة أعظمُ !
على الجانب الصحي : ماذا قدمت أرامكو ؟ صفر مكعب . لم تساهم في بناء مستشفيات , بل لم تساهم ولا حتى في بناء مراكز صحية صغيرة تخفف قليلاً من حجم التلوث والأمراض والبلاوي التي تضخها مصانعها في بيئتنا . وحتى وقت قصير كانت أرامكو تُميِّز في تعاملها الطبي بين موظفيها فمنْ هم دون الدرجة 11 كانت لهم عناية صحية متدنية , على عكس أولئك الذين فوق الدرجة 11 , وهو الأمر المعيب جداً والذي تجاوزته أرامكو " مشكورة " قبل سنين قليلة بعد أن ظهرت الأصوات المستنكرة والرافضة لهذا النوع من التمييز غير الإنساني.
على الجهة الأخرى هل جعلت أرامكو بيئتنا الصحية أفضل ؟ بل لنكن واقعيين قليلاً فنقول : هل فعلت أرامكو شيئاً يعوِّض ما تقوم به معاملها من تخريب وإفساد للبيئة المناخية ؟ لا شيء . وكأن الأمر لا يعنيها . وكأن تزايد أعداد المرضى والمصابين بالربو الحاد وأمراض الرئة الأخرى المختلفة ذات العلاقة بالتسمم الهوائي لا علاقة طردية له بكميات الغاز المطرود من معامل أرامكو إلى البيئة الخارجية . باستثناء الحملات الإعلامية " المكشوفة " إيِّاها عن تدوير النفايات وعن تنظيف الشواطىء وهي الحملات التي تنتهي منذ أن يفرغ المصوِّرالإعلامي من أخذ الصور. إنَّ منْ يتصفح موقع أرامكو الإلكتروني يُصاب بالدهشة لأن الموقع لا يذكر شيئاً عن نسب الانبعاثات الغازية التي تضخها أرامكو وتسمم به أجواءنا والتي أجزم أنها تتجاوز بكثير النسب العليا التي وضعتها المنظمات والجمعيات ذات العلاقة بالبيئة والسلامة الصحية والمهنية. وهذه النسب ستتضاعف حتماً حين يبدأ تشغيل مصنع البتروكيماويات الذي تنوي أرامكو بناءه على شاطىء رأس تنورة وهو الذي لقي معارضة شديدة من لدن أهالي رأس تنورة ومجلسها البلدي حتى وصل الأمر إلى خادم الحرمين الشريفين . ولعل هذا المثال يُعبِّر بصدق عن أولوية الربحية على ما عداها في القاموس الأرامكوي , وهو الأمر المفهوم ما دام هذا المصنع الجديد لن يكون في الظهران حيث مبنى الإدارة العليا في أرامكو.
على الجانب الإداري والخدماتي والخيري : ماذا قدمت أرامكو " الإدارية " وهي التي تملك ثروة وتركة إدارية كبرى عمرها ثلاثة أرباع القرن ؟ هل قامت بما يجب عليها تجاه هذا المجتمع ؟ هل قامت بعمل ندوات وورش عمل ومؤتمرات لدعم المؤسساتية والتحديث الإداري في المنطقة الشرقية ؟ هل دعمت أرامكو المؤسسات الوطنية الخدمية بالبرمجيات الخاصة بالإدارة وتطوير المواد البشرية ؟ هل قامت بدعم شركة الكهرباء مثلاً ؟ بل تعالوا لننظر لشيء أبسط من هذا كله وأكثر وضوحاً , ألا وهو رصف وسفلتة الطرق !! السفلتة كما نعلم تتم باستخدام مادة الأسفلت وهي المادة الأكثر كثافة من مواد عمود التقطير ( Distillation Column ) , أي أنها مادة متوفرة بكثرة لدى أرامكو ثم هي أرخص سعراً مما سواها. لكننا نجد أن أرامكو تكتفي فقط برصف وسفلتة طرق مجاميعها السكنية فقط , على عكس أرامكو قبل 30 سنة والتي كان آباؤنا يعملون فيها والتي كانت تدار بطاقم أمريكي حيث رصفت وسفلتت طرق مدن كثيرة على رأسها أبقيق ورأس تنورة دون أن تركز فقط على مجاميعها السكنية !! هل تكون الإدارات الأمريكية الأرامكوية أكثر سعودية من الإدارات السعودية ؟! ومع كل أسف نرى جميعاً حجم الخلل الحاصل في بنية شبكة الطرق في الشرقية والتي تعمل أمانة المنطقة الشرقية بكل طاقتها لمعالجتها وإصلاحها . وكلنا رأينا مشاكل الطريق السريع الممتد من الجبيل حتى الخبر الذي كان مليئاً بالتحويلات الإجبارية والذي كان يواجه مشاكل رقابية وتقنية وإدارية واضحة . ولو كان موظفو أرامكو لا يستخدمون هذه الطرق لقلنا أنها العقلية الأرامكوية إياها غير الملتزمة بشيء تجاه المجتمع لكن المصيبة أن غالبية مستخدمي هذا الطريق بالذات هم من موظفي أرامكو ! قد يخرج من يقول أن مثل هذه المشاريع يُراد لها أن تقوم بها مؤسسات وشركات مقاولات وطنية حتى تتحرك عجلة الاقتصاد وينتفع أصحاب المشاريع الوطنية الصغرى والوسطى لكن هذا لا يعني أن تتوارى أرامكو خلف الستار , ولا حتى بتقديم المشورة فيما يخص تأهيل المقاولين والمشاركة في الشأن الرقابي والتنظيمي لأعمال المقاولات !!
لا أحد يعرف المنطقة الشرقية أكثر من أرامكو .لذا فلو كان الأمر بيدي لجعلت أرامكو تقوم بسفلتة ورصف الطرق في المنطقة الشرقية كاملة , ليس هذا فقط بل والقيام بعمل شبكات المياه والصرف الصحي وإنشاء المستشفيات الحكومية والمدارس ودعمها بالأجهزة والمعدات الطبية ولا يخفى أن هذا كله سيعود بالخير على ميزانيات الوزارات المعنية بتوفير هذا ويجعلها تتحرر كما ذكرت لتقوم بعمليات الرصف والسفلتة وإنشاء شبكات المياه والصرف الصحي والمستشفيات والمدارس وفق مواصفات أعلى . قد يكون هذا مُكلفاً على أرامكو , أقول " قد " , فلمَ لا تقوم به أرامكو في مقابل مادي تتقاضاه من الحكومة ؟ وبمناسبة الحديث حول هذه النقطة ألا تلاحظون معي أن أرامكو مُتخلِّفة جداً في تنويع استثماراتها على المستويين الداخلي والخارجي ؟ لا شك أن التركيز على ما يسمى " النشاط الرئيس " (Core Activity) أمر مطلوب , لكن المفاهيم الإدارية تقدمت كثيراً في السنوات القليلة الماضية وظهرت بقوة أصوات كثيرة مهمة لا ترى أن تنويع الاستثمار يناقض أو يهدد فكرة التركيز على النشاط الرئيس. ولعل المًطلِّع على تجارب الشركات البترولية العالمية يجدها وبتسارع محموم توسع استثماراتها وتنوِّعها بل وتستحوذ أو تنشىء من أجل ذلك الشركات الكبيرة التابعة لها , ولعل الإخوة في شركة البترول الكويتية فعلوا ذلك بنجاح يدعو للإعجاب. ولعلي أكتب مقالة خاصة بهذا الموضوع فيما بعد.
على الجانب الخيري : من الجميل أن تسمح أرامكو مثلها مثل كل الأجهزة والقطاعات الحكومية لموظفيها بإقتطاع جزء من رواتبهم من أجل دعم الجمعيات الخيرية , لكن الأجمل لو قامت أرامكو باقتطاع جزء صغير من حصتها الربحية لهذا الأمر , وهو ما أزعم أنه لن يؤثر بحال على نسب الربحية في الشركة . سمعت من لدن البعض أن أرامكو تقوم بدعم الجمعيات الخيرية, وأوافق على هذا لأنني كما ذكرت آنفاً قرأت أنَّها دعمت وساعدت المتضررين من إعصار كاترينا , لكنني لم أسمع ولم أقرأ في موقعها الإلكتروني ذكراً لأم الساهك أو الجمعيات الخيرية السعودية في المنطقة الشرقية ! قد يُقسم لنا البعض بأغلظ الأيمان أن أرامكو تفعل ذلك , فنطالبه بكشف الأرقام ونشرها على الملأ , لأن الدعم " الطفس " الذي يتمثل في حملة ( هكذا سمَّتها أرامكو ) " التبرعات بالتمور ", لا يُعتبر دعماً بل هو أقرب ما يكون لذر الرماد في العيون. ولا أدري من الذي اقترح هذه الحملة, ومن الذي اقترح تسليط الضوء عليها , لأنها معيبة . معيبة جداً. توزيع تمور وكأننا في زمن الخلافة الأموية أو العباسية !
ماذا قدمت أرامكو لجمعيات المعاقين ؟ وماذا قدمت لمرضى الفشل الكلوي ؟ وماذا قدمت لجمعيات الصم والبكم ؟ وماذا قدَّمت للأرامل واليتامى ؟ إن دعم اليتامى لا يكون بحضور الاحتفالات " الإعلامية " مع اليتامى والتزمير معهم بصفارات أعياد الميلاد , لكنه يكون - إن أرادت أرامكو بالفعل أن تدعم اليتامى – بكفالة حصة منهم من حين دراستهم وحتى توظيفهم لديها ثم بابتعاثهم للخارج لإكمال تعليمهم. وهنا أشير فقط إلى رجل خيرٍ أعرفه وهو من شباب هذا البلد , وقد كفل الكثير من أبناء المسلمين اليتامى في سيرلانكا حتى تخرجوا من الجامعات وانتقلوا للعمل في شركات عالمية كبرى في دبي وبريطانيا وأمريكا , وضخوا مما يقتطعونه من أموالهم في مشروع هذا الشاب السعودي ما مكَّن هذا المشروع من أن يستمر ويزدهر ويكبر ويتوسع . هل يستطيع رجلٌ واحدٌ أن يفعل هذا , ولا تستطيعه الشركة البترولية الربحية الأكبر في العالم ؟
ولعلنا نبدو ساذجين حين نطالب بكل ما سبق وقد قرأنا قبل أيام قلائل خبراً مفاده أن أرامكو منحت المتقاعدين زيادة بنحو 5% من الدخل التكميلي! 5% لأناس قضوا سني عمرهم الطويل وزهرة شبابهم في خدمة أرامكو يكابدون النصب والتعب والألم , لم يبق منهم على قيد الحياة سوى قلة قليلة !! ومع هذا تستخسر أرامكو في هذه القلة القليلة ما هو أكثر من 5% في ظل تضخم وغلاء لا يرحم فاق نسبة الـ5% بكثير ! لا غرابة فالإدارة العليا التي تقبض الرواتب الكبيرة المجزية لن تعاني الأمرَّين حين تحال للتعاقد فرواتبها الضخمة لن يضرها إن نقص نصفها ولا حتى ثلاثة أرباعها!! إن المؤسسات والشركات التي تحترم نفسها " تضمن " الحياة الكريمة للطبقة الأدنى وخصوصاً تلك التي بلغت من العمر عتياً وأحيلت للتقاعد . ولاحظوا أننا لا نتكلم هنا عن دفع أجور لمواطنين خارج أرامكو , بل لموظفي أرامكو من الشيوخ والعجائز, لكنهم أولئك الذين طواهم النسيان حين مصَّت أرامكو رحيقهم وزهرتهم . وقديماً قال الشاعر : وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المُهنَّدِ.
ألا نغدو سذجاً حين نطالبها بعد هذا بدعم الجمعيات الخيرية وهي التي لم تدعم ذويها وأقاربها الذين شابت لحاهم وحنت ظهورهم في خدمتها؟
كنت قد نويت أنا السائر إلى نهاية مقالتي أن أفرد جزءاً خاصاً بداء ما ظننت أنَّ يوجد مثله في أرامكو ذات الخمسة والسبعين ربيعاً , ألا وهو داء " غياب الشفافية ". وهو الداء الأخطر . وحين أقول غياب الشفافية في أرامكو فأنا لا أبرىء الشركات أو الأجهزة أو القطاعات الأخرى والتي يفوق معدل غياب الشفافية لديها ما لدى أرامكو بمراحل سواءً أكانت في القطاع الخاص أو العام. لكننا حين نُقارن أرامكو فيجب أن نقارنها بمثيلاتها من الشركات البترولية العالمية , فالشفافية اليوم قيمة تبيع وتحقق الأرباح وليست قيمة مجانية أو مُكلِّفة كما كان يُقال سابقاً. المثير للدهشة أن أرامكو من حين تحولت ملكيتها بالكامل بدأت تفقد شيئاً فشيئاً شفافيتها التي كانت مضرب المثل , حتى بتنا نسمع البعض من موظفي أرامكو يترحم على أيام الإدارة الأمريكية التي لم تكن تعترف بالواسطة أو الطائفية القبلية أو المناطقية أو المذهبية. رغم أن " الشفافية " مصطلح لم يشتهر وينتشر ويُكتشف تأثيره الإيجابي والربحي سوى في العقد الأخير . أما الشفافية الأرامكوية الموجهة لمجتمع خارج أرامكو فيظهر نقصها وتخلفها بادياً من خلال الموقع الإلكتروني الإرامكوي الذي لا يقول شيئاً , والذي لا يقول شيئاً هو في حقيقة الأمر يقول كل شيء . فلو كان لدى أرامكو ما تُباهي به وتفخر به لنشرته في موقعها الإلكتروني , وأمَّا العبارات الواسعة كمثل العبارات المنشورة حول أن أرامكو تتقيد بالمواصفات والمقاييس العالمية في معاييرها المختلفة بيئيةً كانت أو صحيةً فلا يسمن ولا يغني من جوع , لأن الزمن اليوم هو زمن المعلومة الدقيقة التفصيلية وليس زمن العبارة الفضفاضة العامة التي تذروها رياح الواقع الضيق الذي يفقأ وضوحه العين.
ختاماً : إن الناظر بحيادية إلى أرامكو ليشعر بالفخر الكبير لوجودها وللنقلة النوعية التي أحدثتها ربحيتها العالية , لكنه يشعر بالأسى , ولا أريد أن أقول العار , للتخلَّف الذي تقبع فيه أرامكو في الجوانب الأخرى كجوانب المسؤولية المجتمعية والشفافية والدعم الإنمائي الذي يبدو أنَّه يأتي في درجة متدنية من درجات سلَّم الأولويات لدى الإدارة العليا في أرامكو.
لا يُجمِّل وجه أرامكو لقاءات إعلامية هنا وهناك , ولا جوائز وحفلات تكريم لكُتَّاب وكاتبات(غير منقبات) وصحفيين وصحفيات (غير منقبات) هنا وهناك , ولا زيارات لمنطقة "شيبة" مدفوعة الأجر؛ بل يجملها الحقيقة ولباس الحقيقة ذلك خير . وذلك بأن تأخذ مكانها التنموي الذي ينبغي . وأن تساهم عملياً في دفع عجلة التنمية . وأن تأخذ زمام المبادرة لدعم وتمويل وإدارة مشاريع وحملات وطنية تؤكد وتثبت عملياً أن أرامكو تعتقد حقيقة أن عليها مسؤولية مجتمعية مثلها مثل كل الشركات التي تدار بشكل حديث واحترافي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم " قد أعذر الله رجلاً بلغ الخمسين " . فكيف بمن بلغ الخامسة والسبعين ؟
دام الجميع بخير.
عبدالله العجمي
تعليق