هذا كلام منقول من ( مجلة الحرس الوطني ).
وقفات في الحكم والأسرار الشرعية
الحكمة في قطع يد السارق
بقلم: د. طارق بن محمد عبدالله الخويطر (*
شرع المولى- عز وجل- الحدود حماية للمجتمع من التفكك والانحلال؛ لأن الجرائم ما إن تهب رياحها في أي مجتمع إلا وتظهر فيه راية الحقد وتسكب في النفوس البغضاء ويلوح الخوف السرمدي الذي يعكر صفو النفوس، فتصبح حياة همجية يفقد فيها الأمن ويئد أفراد المجتمع كل أواصر المحبة والإخاء، ويكون بنيان المجتمع متهالكاً على شفا جرف هار يعصف به كل شيء فتغدو الحياة كريهة لاتطاق.
ومما شرع الله تعالى لإرساء دعائم الأمن: حد السرقة وهو قطع اليد اليمنى للسارق متى ما تمت شروط القطع، فحد السرقة فيه صيانة أموال المسلمين من التلف وصيانة السارق عن السرقة؛ فإن من سرق أسرف إذا حصل له مال مجموع غير مكسوب، ولا شك أن السرقة إنما تنشأ من لؤم في الطبع وخبث الطينة وسوء الظن بالله تعالى وترك الثقة بضمان الله تعالى وترك الاعتماد على قسم الله، قال الله تعالى : (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) هود: 6، وقال تعالى: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات: 23، فجوزي بالعقوبة لهذه الأنواع من الجناية.
وآخر أن مالك المال يعتمد عصمة الله تعالى في حال نومه وغفلته وغيبته، والسارق ينتهز هذه الفرصة ولا يبالي بهذه العصمة فجازاه الله تعالى بقطع العصمة من آلة الجناية وهي اليد، فإنه بها يتمكن من السرقة في غالب أحواله ثم الحسن فيه أنه جوزي بالقطع لا بالقتل؛ لأنه فوت على المالك بعض المنافع فيجازى بتفويت بعض المنافع(1).
إن السارق مجرم ولا شك يستحق العقاب، ولكن ثمة عقوبات يعتقد بعض الناس أنها تجدي كالضرب والحبس والإبعاد، ولكنها لا يلبث أن ينساها السارق، فهذه العقوبات تردّ لوقت قصير، تزول بعده هيبة الجريمة من السارق، فيعود لإجرامه ويشقى مجتمعه به مرة أخرى، والواقع المشاهد يشهد لذلك فالدول التي لا تطبق شرع الله تفوح فيها رائحة الجرائم ليلاً ونهاراً، أعرضوا عن شرع الله فزادت أتراحهم وتبددت أحلامهم ونزفت جراحهم، يعيشون حياة رعب وخوف، فشل تقدمهم وأطيح بأحلامهم وسلبت سعادتهم، تحفهم الخطوب وتعلو وجوه أفرادهم الكآبة، كيف لا وقد زرعوا بذور الشر فماذا يكون الحصاد؟
إن قطع يد السارق فيه مصلحة له ولمجتمعه فالسارق يحمل عضواً فاسداً يجب استئصاله من جسمه حتى لا يدب الفساد فيه، كالمريض عندما يقرر الأطباء استئصال جزء من جسمه لمصلحته لتبقى له حياة، وفوق ذلك قطعها تكفير لذنبه الذي ارتكبه لتعود صحيفته بيضاء كما كانت قبل فعله، وأما مجتمعه فيعيش أفراده ذكرى دائمة كلما رأوا هذا الشخص نمت ورسخت في نفوسهم هيبة السرقة وعظم عقوبتها، فيبتعد الجميع عن هذه الجريمة حتى لا تقع في المجتمع الإسلامي في سنين طويلة إلا سرقات تعد على رؤوس الأصابع.
ومع أن المجتمع الإسلامي يعيش في ظل تطبيقات الشريعة الغراء حياة هنيئة ينعمون بالخيرات ويسقون كل خلق حسن، أبى الأعداء إلا أن يشككوا المسلمين في دينهم، والشك داء عضال لايفتأ أن يفتك بصاحبه، دأبوا على هدم صرح الإسلام فسلوا سيوفهم ولكن هذه المواجهة لم يفلحوا فيها، فاتجهوا إلى المحاربة الفكرية لأن القوى تخور بعدها فبدأوا يزينون ويدلّسون على العامة باللفظ الجميل، فاستجاب لهم بعض من نفخ الشيطان في آذانهم، وهذه المحاربة ليست جديدة وإنما هي منذ ظهور الإسلام وسقوط أعظم الدول كفارس والروم، لقد ساء الأعداءَ قديماً وحديثا انتصارُ المسلمين وانتشار الإسلام، فرسموا مخططات لهدم الدولة الإسلامية، وبرز النفاق في أماكن شتى بصورة أوضح من السابق.
إن منافقي اليوم هم أحفاد المنافقين الأول، ومايبثونه من أسئلة بغرض التشكيك هي التي نبح بها أجدادهم، غاية ما هنالك اختلاف الأساليب لاختلاف العصر.
ولقد هيأ الله تعالى علماء أفذاذاً نافحوا عن دينه وذبوا عنه بكل مايستطيعون، ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم خدمة لهذا الدين، هم الشم المناجيد جعلوا سيوفهم مسلطة على شبه الأعداء حتى قتلوها، جاهدوا في الله حق جهاده حتى توارت فلول الأعداء، شمروا عن سواعدهم وقدموا أقلامهم وألفوا مؤلفات كثيرة أبرزوا فيها محاسن الإسلام وذكروا كثيراً من الحكم التي تغيب عن كثير حتى من أبناء الإسلام فكان الشك عن كثير من المسلمين لايدوم إلا مثلما تبرق في الجو بارقة وتختفي، وعلى رأس هؤلاء العلماء: العلاّمة ابن القيم- رحمه الله رحمة واسعة- فقد أفرد مصنفات لبيان الأسرار في الشريعة الإسلامية.
شُبهَ واعتراضات على حد السرقة
وسأذكر هنا بعض الشبه والاعتراضات التي أوردها المنافقون والزنادقة، ثم أذكر جواب أهل العلم عنها، وهذه الاعتراضات هي الأصول التي يتمسك بها الأعداء وهي ديدنهم مذ دمر الإسلام دولهم الفاسدة وعقائدهم المتردية، وما عداها من الشبه ترجع إليها من قريب أو بعيد.
الاعتراض الأول:
أن عقوبة القطع محض ضرر للسارق.
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله- عن هذا الاعتراض بقوله: إن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموماً بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة.
أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد، وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة، فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم والودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله. إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلاً، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة، وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلاً بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الانكار وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين *ما لكم كيف تحكمون).
وقوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) الجاثية: 21، وقوله : (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ص: 28، فأنكر سبحانه من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه، فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلاهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيراً، وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه مَن فَعَلَه. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحالّ بها وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة؟ كما قال الشاعر :
نعمة الله لا تعاب ولكن
ربما استقبحت على أقوام(2)
الاعتراض الثاني:
أن دية اليد خمسمئة دينار وفي السرقة تقطع في ربع دينار وهذا -على قولهم- تناقض.
وقد أجاب ابن القيم عن هذا بقوله:
وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمئة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة؛ فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف، فقطعها في ربع دينار حفظاً للأموال، وجعل ديتها خمسمئة دينار حفظاً لها وصيانة، وقد أورد بعض الزنادقة(3) هذا السؤال وضمنه بيتين، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وُديت
ما بالها قُطعت في ربع دينار؟
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له
ونستجير بمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم(4) قوله:
يد بخمس مئين عسجد وُديت
لكنها قطعت في ربع دينار
حماية الدم أغلاها، وأرخصَها
خيانة المال، فانظر حكمة الباري
وروي أن الشافعي(5) رحمه الله- أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها
وههنا ظَلَمَتْ هانت على الباري
وأجاب بعضهم بقوله:
قل للمعريّ عار أيما عار
جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عارِ
لا تقدحن زناد الشعر عن حكم
شعائر الشرع لم تقدح بأشعار
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب فإن تعدت فلا تسوى بدينار(6)
الاعتراض الثالث:
أن السارق تقطع يده والزاني لايقطع فرجه مع أنهما سبب فعل الجريمة.
وقد أجاب المارودي عن هذا بقوله: ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها ولم يجعل حد الزاني قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به، لثلاثة معان:
أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه.
والثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره وقطع اليد في السرقة ظاهر وقطع الذكر في الزاني باطن؛ فقطع اليد زجر للمحدود وغيره وأما قطع الذكر فزجر للمحدود فقط لأن الناس لايرونه.
والثالث: أن في قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله(7).
وقد أفاض ابن القيم- رحمه الله- في الرد على هذا الاعتراض وبين دقيق الفرق في العقوبات التي شرعها المولى تقدس اسمه فقال:
وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة، وليس في حكمة الله ومصلحته خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به، فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدواناً، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها، وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك، وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يُحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً، وأن يذكّره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سراً كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: فلان ينظر إلى فلان مسارقة، إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة مختف بنفسه كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء؛ واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولهذا يقال: وصلت جناح فلان إذ رأيته يسير منفرداً فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصاصاً لجناحه، وتسهيلاً لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفاً في العَدْو، ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفاً في عَدْوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحماً على وضم، فيستريح ويريح.
وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن، والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة؛ ولما كان الزنى من أمهات الجرائم وكبار المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين، وفي هلاك ذلك، فزجر عنه بالقصاص ليرتدع عن مثل فعله من يهمّ به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة.
ثم إن للزاني حالتين؛ إحداهما: أن يكون محصناً قد تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام.
والثانية: أن يكون بكراً، لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله؛ فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف؛ فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعاً عن المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثاً له على القنع بما رزقه الله من الحلال. وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه. وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟
ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم، وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة وقد حصلت جريمة الزنى بجميع أجزائه، فكان من العدل أن تعمه العقوبة ثم إنه غير متصور في حق المرأة، وكلاهما زان؛ فلا بد أن يستويا في العقوبة، فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين(8).
الاعتراض الرابع:
أن السرقة عقوبتها القطع، والغصب والاختلاس ونحو ذلك أخذ للمال بغير حق، ومع ذلك لا قطع فيهما.
والجواب عن هذا أن يقال: إنما اختص القطع بأخذ المال على وجه السرقة دون أخذه على وجه الغصب والاختلاس مع أن الجميع أخذ مال الغير بغير طيب نفس صاحبه؛ لأن مفسدة السرقة أشد لامتناع الدفع عن المال عندها بخلاف الغصب والخلسة فاختص القطع بالسرقة دون غيرها لهذا السر(9).
الاعتراض الخامس:
أن العقوبات في الشريعة لم تحدد كلها على مقدار معلوم؛ فيجب القطع في السرقة إذا بلغ ثمن المسروق ربع دينار، ويجب الحد على شارب قليل الخمر وكثيرها.
والجواب عن هذا الاعتراض: أن الخمر لا يقدم على مرارتها لعينها، وإنما تراد لما لا يحصل إلا عند الإكثار منها فهو لا يقصد إلا كثيرها فوجب أن يترتب الحد على التعاطي المطلق. وأيضاً الخمر لا حائل يحول بين الناس والكثير منها فكان تناول القليل منها داعياً قويا في تعاطي الكثير، والنفوس تشح على الأموال وتصونها، والمقدار القليل تتوقف النفس عن الإقدام عليه، ولا يكون الإقدام عليه وسيلة إلى الكثير بحال، فلذلك لم يُقطع سارق القليل وحُد شارب القليل من الخمر والكثير(10) .
الاعتراض السادس:
أن القطع يساوي بين من سرق ربع دينار وبين من سرق ألف دينار فاستويا في الوزر.
والجواب عن هذا أن يقال: إن وزرهما في الدار الآخرة متفاوت بتفاوت مفسدة سرقتيهما، قال تعالى: (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة، وقال جل وعلا: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) الأنبياء:47، والقطع الواجب في الألف متعلق بربع دينار من الألف، ولا يلزم من الاستواء في العقوبة العاجلة الاستواء في العقوبة الآجلة، ويجوز أن يجاب بمثل هذا في حدي القطرة والسكرة لكن الحدود كفارة لأهلها، فقد استويا في الحدين وتكفير الذنبين، وفي السرقتين استويا في المفسدتين وهما أخذ ربع دينار؛ فيكفر الحدان ما يتعلق بربع الدينار من السرقتين ويبقى الزائد إلى تمام الألف لا مقابل لا ولا تكفير(11).
المراجع والهوامش:
1- محاسن الاسلام وشرائع الاسلام -63
2- بدائع الفوائد 2-211
3- نَسَبَ ابن حجر والشربيني البيتين لأبي العلاء المعري، فتح الباري 12-98 ومغني المحتاج 46- 158 .
4- نَسَبَ ابن حجر والشربيني البيت الثاني جواباً من القاضي عبدالوهاب المالكي على اختلاف بسيط في العبارات، المرجعان السابقان.
5- إما أن الشافعي أجاب شخصاً غير المعري لأن المعري توفي بعده بكثير، وإما أن نسبته الى الشافعي- رحمه الله- غير صحيحة.
6- اعلام الموقعين 2-82
7- تفسير الماوردي 1- 463 والحاوي 13/266، وانظر تفسير القرطبي 6- 175 .
8- اعلام الموقعين 2- 125 .
9- عدة البروق في جميع ما في المذهب من الجموع والفروق- 687، وانظر طرح التثريب 8- 23 .
10- المرجع السابق- 683
11- قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1-33ز
(* معهد القرآن الكريم بالحرس الوطني .
وهذا رابط المقال من موقعه الأصلي ( يعني بالعربي الفصيح ابن قسقس ما عنده حجه يحذف الرابط )
بس صراحة الكتاب كان قاسي على الحرامية .
ليه نقطع ايدييهم
هو حكم ربي صح
ولكن يجب ان نتلطف مع الحرامي
ما نقطع يده ولكن نقول له عيب فقط
وقفات في الحكم والأسرار الشرعية
الحكمة في قطع يد السارق
بقلم: د. طارق بن محمد عبدالله الخويطر (*
شرع المولى- عز وجل- الحدود حماية للمجتمع من التفكك والانحلال؛ لأن الجرائم ما إن تهب رياحها في أي مجتمع إلا وتظهر فيه راية الحقد وتسكب في النفوس البغضاء ويلوح الخوف السرمدي الذي يعكر صفو النفوس، فتصبح حياة همجية يفقد فيها الأمن ويئد أفراد المجتمع كل أواصر المحبة والإخاء، ويكون بنيان المجتمع متهالكاً على شفا جرف هار يعصف به كل شيء فتغدو الحياة كريهة لاتطاق.
ومما شرع الله تعالى لإرساء دعائم الأمن: حد السرقة وهو قطع اليد اليمنى للسارق متى ما تمت شروط القطع، فحد السرقة فيه صيانة أموال المسلمين من التلف وصيانة السارق عن السرقة؛ فإن من سرق أسرف إذا حصل له مال مجموع غير مكسوب، ولا شك أن السرقة إنما تنشأ من لؤم في الطبع وخبث الطينة وسوء الظن بالله تعالى وترك الثقة بضمان الله تعالى وترك الاعتماد على قسم الله، قال الله تعالى : (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) هود: 6، وقال تعالى: (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) الذاريات: 23، فجوزي بالعقوبة لهذه الأنواع من الجناية.
وآخر أن مالك المال يعتمد عصمة الله تعالى في حال نومه وغفلته وغيبته، والسارق ينتهز هذه الفرصة ولا يبالي بهذه العصمة فجازاه الله تعالى بقطع العصمة من آلة الجناية وهي اليد، فإنه بها يتمكن من السرقة في غالب أحواله ثم الحسن فيه أنه جوزي بالقطع لا بالقتل؛ لأنه فوت على المالك بعض المنافع فيجازى بتفويت بعض المنافع(1).
إن السارق مجرم ولا شك يستحق العقاب، ولكن ثمة عقوبات يعتقد بعض الناس أنها تجدي كالضرب والحبس والإبعاد، ولكنها لا يلبث أن ينساها السارق، فهذه العقوبات تردّ لوقت قصير، تزول بعده هيبة الجريمة من السارق، فيعود لإجرامه ويشقى مجتمعه به مرة أخرى، والواقع المشاهد يشهد لذلك فالدول التي لا تطبق شرع الله تفوح فيها رائحة الجرائم ليلاً ونهاراً، أعرضوا عن شرع الله فزادت أتراحهم وتبددت أحلامهم ونزفت جراحهم، يعيشون حياة رعب وخوف، فشل تقدمهم وأطيح بأحلامهم وسلبت سعادتهم، تحفهم الخطوب وتعلو وجوه أفرادهم الكآبة، كيف لا وقد زرعوا بذور الشر فماذا يكون الحصاد؟
إن قطع يد السارق فيه مصلحة له ولمجتمعه فالسارق يحمل عضواً فاسداً يجب استئصاله من جسمه حتى لا يدب الفساد فيه، كالمريض عندما يقرر الأطباء استئصال جزء من جسمه لمصلحته لتبقى له حياة، وفوق ذلك قطعها تكفير لذنبه الذي ارتكبه لتعود صحيفته بيضاء كما كانت قبل فعله، وأما مجتمعه فيعيش أفراده ذكرى دائمة كلما رأوا هذا الشخص نمت ورسخت في نفوسهم هيبة السرقة وعظم عقوبتها، فيبتعد الجميع عن هذه الجريمة حتى لا تقع في المجتمع الإسلامي في سنين طويلة إلا سرقات تعد على رؤوس الأصابع.
ومع أن المجتمع الإسلامي يعيش في ظل تطبيقات الشريعة الغراء حياة هنيئة ينعمون بالخيرات ويسقون كل خلق حسن، أبى الأعداء إلا أن يشككوا المسلمين في دينهم، والشك داء عضال لايفتأ أن يفتك بصاحبه، دأبوا على هدم صرح الإسلام فسلوا سيوفهم ولكن هذه المواجهة لم يفلحوا فيها، فاتجهوا إلى المحاربة الفكرية لأن القوى تخور بعدها فبدأوا يزينون ويدلّسون على العامة باللفظ الجميل، فاستجاب لهم بعض من نفخ الشيطان في آذانهم، وهذه المحاربة ليست جديدة وإنما هي منذ ظهور الإسلام وسقوط أعظم الدول كفارس والروم، لقد ساء الأعداءَ قديماً وحديثا انتصارُ المسلمين وانتشار الإسلام، فرسموا مخططات لهدم الدولة الإسلامية، وبرز النفاق في أماكن شتى بصورة أوضح من السابق.
إن منافقي اليوم هم أحفاد المنافقين الأول، ومايبثونه من أسئلة بغرض التشكيك هي التي نبح بها أجدادهم، غاية ما هنالك اختلاف الأساليب لاختلاف العصر.
ولقد هيأ الله تعالى علماء أفذاذاً نافحوا عن دينه وذبوا عنه بكل مايستطيعون، ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم خدمة لهذا الدين، هم الشم المناجيد جعلوا سيوفهم مسلطة على شبه الأعداء حتى قتلوها، جاهدوا في الله حق جهاده حتى توارت فلول الأعداء، شمروا عن سواعدهم وقدموا أقلامهم وألفوا مؤلفات كثيرة أبرزوا فيها محاسن الإسلام وذكروا كثيراً من الحكم التي تغيب عن كثير حتى من أبناء الإسلام فكان الشك عن كثير من المسلمين لايدوم إلا مثلما تبرق في الجو بارقة وتختفي، وعلى رأس هؤلاء العلماء: العلاّمة ابن القيم- رحمه الله رحمة واسعة- فقد أفرد مصنفات لبيان الأسرار في الشريعة الإسلامية.
شُبهَ واعتراضات على حد السرقة
وسأذكر هنا بعض الشبه والاعتراضات التي أوردها المنافقون والزنادقة، ثم أذكر جواب أهل العلم عنها، وهذه الاعتراضات هي الأصول التي يتمسك بها الأعداء وهي ديدنهم مذ دمر الإسلام دولهم الفاسدة وعقائدهم المتردية، وما عداها من الشبه ترجع إليها من قريب أو بعيد.
الاعتراض الأول:
أن عقوبة القطع محض ضرر للسارق.
وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله- عن هذا الاعتراض بقوله: إن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموماً بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة.
أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد، وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة، فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم والودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله. إن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلاً، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة، وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلاً بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الانكار وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين *ما لكم كيف تحكمون).
وقوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) الجاثية: 21، وقوله : (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ص: 28، فأنكر سبحانه من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه، فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلاهيته لا إله إلا هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيراً، وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والانتقام في موضع الرحمة والإحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه مَن فَعَلَه. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحالّ بها وأحقها بالعقوبة، وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة؟ كما قال الشاعر :
نعمة الله لا تعاب ولكن
ربما استقبحت على أقوام(2)
الاعتراض الثاني:
أن دية اليد خمسمئة دينار وفي السرقة تقطع في ربع دينار وهذا -على قولهم- تناقض.
وقد أجاب ابن القيم عن هذا بقوله:
وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمئة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة؛ فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف، فقطعها في ربع دينار حفظاً للأموال، وجعل ديتها خمسمئة دينار حفظاً لها وصيانة، وقد أورد بعض الزنادقة(3) هذا السؤال وضمنه بيتين، فقال:
يد بخمس مئين عسجد وُديت
ما بالها قُطعت في ربع دينار؟
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له
ونستجير بمولانا من العار
فأجابه بعض الفقهاء بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم(4) قوله:
يد بخمس مئين عسجد وُديت
لكنها قطعت في ربع دينار
حماية الدم أغلاها، وأرخصَها
خيانة المال، فانظر حكمة الباري
وروي أن الشافعي(5) رحمه الله- أجاب بقوله:
هناك مظلومة غالت بقيمتها
وههنا ظَلَمَتْ هانت على الباري
وأجاب بعضهم بقوله:
قل للمعريّ عار أيما عار
جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عارِ
لا تقدحن زناد الشعر عن حكم
شعائر الشرع لم تقدح بأشعار
فقيمة اليد نصف الألف من ذهب فإن تعدت فلا تسوى بدينار(6)
الاعتراض الثالث:
أن السارق تقطع يده والزاني لايقطع فرجه مع أنهما سبب فعل الجريمة.
وقد أجاب المارودي عن هذا بقوله: ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها ولم يجعل حد الزاني قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به، لثلاثة معان:
أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه.
والثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره وقطع اليد في السرقة ظاهر وقطع الذكر في الزاني باطن؛ فقطع اليد زجر للمحدود وغيره وأما قطع الذكر فزجر للمحدود فقط لأن الناس لايرونه.
والثالث: أن في قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله(7).
وقد أفاض ابن القيم- رحمه الله- في الرد على هذا الاعتراض وبين دقيق الفرق في العقوبات التي شرعها المولى تقدس اسمه فقال:
وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة، وليس في حكمة الله ومصلحته خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به، فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدواناً، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها، وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك، وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يُحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحاً، وأن يذكّره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.
ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سراً كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: فلان ينظر إلى فلان مسارقة، إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة مختف بنفسه كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء؛ واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولهذا يقال: وصلت جناح فلان إذ رأيته يسير منفرداً فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصاصاً لجناحه، وتسهيلاً لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفاً في العَدْو، ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفاً في عَدْوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحماً على وضم، فيستريح ويريح.
وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن، والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجلد مرة والقتل بالحجارة مرة؛ ولما كان الزنى من أمهات الجرائم وكبار المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين، وفي هلاك ذلك، فزجر عنه بالقصاص ليرتدع عن مثل فعله من يهمّ به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة.
ثم إن للزاني حالتين؛ إحداهما: أن يكون محصناً قد تزوج، فعلم ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنى، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام.
والثانية: أن يكون بكراً، لم يعلم ما علمه المحصن ولا عمل ما عمله؛ فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف؛ فحقن دمه، وزجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعاً عن المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثاً له على القنع بما رزقه الله من الحلال. وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه. وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعدوان؟
ثم إن قطع فرج الزاني فيه من تعطيل النسل وقطعه عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم، وفيه من المفاسد أضعاف ما يتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاء جميع البدن من العقوبة وقد حصلت جريمة الزنى بجميع أجزائه، فكان من العدل أن تعمه العقوبة ثم إنه غير متصور في حق المرأة، وكلاهما زان؛ فلا بد أن يستويا في العقوبة، فكان شرع الله سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين(8).
الاعتراض الرابع:
أن السرقة عقوبتها القطع، والغصب والاختلاس ونحو ذلك أخذ للمال بغير حق، ومع ذلك لا قطع فيهما.
والجواب عن هذا أن يقال: إنما اختص القطع بأخذ المال على وجه السرقة دون أخذه على وجه الغصب والاختلاس مع أن الجميع أخذ مال الغير بغير طيب نفس صاحبه؛ لأن مفسدة السرقة أشد لامتناع الدفع عن المال عندها بخلاف الغصب والخلسة فاختص القطع بالسرقة دون غيرها لهذا السر(9).
الاعتراض الخامس:
أن العقوبات في الشريعة لم تحدد كلها على مقدار معلوم؛ فيجب القطع في السرقة إذا بلغ ثمن المسروق ربع دينار، ويجب الحد على شارب قليل الخمر وكثيرها.
والجواب عن هذا الاعتراض: أن الخمر لا يقدم على مرارتها لعينها، وإنما تراد لما لا يحصل إلا عند الإكثار منها فهو لا يقصد إلا كثيرها فوجب أن يترتب الحد على التعاطي المطلق. وأيضاً الخمر لا حائل يحول بين الناس والكثير منها فكان تناول القليل منها داعياً قويا في تعاطي الكثير، والنفوس تشح على الأموال وتصونها، والمقدار القليل تتوقف النفس عن الإقدام عليه، ولا يكون الإقدام عليه وسيلة إلى الكثير بحال، فلذلك لم يُقطع سارق القليل وحُد شارب القليل من الخمر والكثير(10) .
الاعتراض السادس:
أن القطع يساوي بين من سرق ربع دينار وبين من سرق ألف دينار فاستويا في الوزر.
والجواب عن هذا أن يقال: إن وزرهما في الدار الآخرة متفاوت بتفاوت مفسدة سرقتيهما، قال تعالى: (ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) الزلزلة، وقال جل وعلا: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) الأنبياء:47، والقطع الواجب في الألف متعلق بربع دينار من الألف، ولا يلزم من الاستواء في العقوبة العاجلة الاستواء في العقوبة الآجلة، ويجوز أن يجاب بمثل هذا في حدي القطرة والسكرة لكن الحدود كفارة لأهلها، فقد استويا في الحدين وتكفير الذنبين، وفي السرقتين استويا في المفسدتين وهما أخذ ربع دينار؛ فيكفر الحدان ما يتعلق بربع الدينار من السرقتين ويبقى الزائد إلى تمام الألف لا مقابل لا ولا تكفير(11).
المراجع والهوامش:
1- محاسن الاسلام وشرائع الاسلام -63
2- بدائع الفوائد 2-211
3- نَسَبَ ابن حجر والشربيني البيتين لأبي العلاء المعري، فتح الباري 12-98 ومغني المحتاج 46- 158 .
4- نَسَبَ ابن حجر والشربيني البيت الثاني جواباً من القاضي عبدالوهاب المالكي على اختلاف بسيط في العبارات، المرجعان السابقان.
5- إما أن الشافعي أجاب شخصاً غير المعري لأن المعري توفي بعده بكثير، وإما أن نسبته الى الشافعي- رحمه الله- غير صحيحة.
6- اعلام الموقعين 2-82
7- تفسير الماوردي 1- 463 والحاوي 13/266، وانظر تفسير القرطبي 6- 175 .
8- اعلام الموقعين 2- 125 .
9- عدة البروق في جميع ما في المذهب من الجموع والفروق- 687، وانظر طرح التثريب 8- 23 .
10- المرجع السابق- 683
11- قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1-33ز
(* معهد القرآن الكريم بالحرس الوطني .
وهذا رابط المقال من موقعه الأصلي ( يعني بالعربي الفصيح ابن قسقس ما عنده حجه يحذف الرابط )
بس صراحة الكتاب كان قاسي على الحرامية .
ليه نقطع ايدييهم
هو حكم ربي صح
ولكن يجب ان نتلطف مع الحرامي
ما نقطع يده ولكن نقول له عيب فقط
تعليق