عندما كنت كل صباح افتح عيناي المثقلتان بالنعاس كانت تترائى لي (محضره) حيث احداث هذه القصه رحمك الله يا بن مشري
حَدُّ الأسفلت
عبد العزيز مشري
أقوال تتناسج في المجلس، وأصوات تكاد تلمس السقف الخشب بالأيمان (الحَلِف) وبين لحظة وأخرى تزداد كثافة عجاجات الدخان بين الجالسين المتضاربين بالكلام في شأن يبدو كبيراً. رجل قليل الكلام، في الجزء الأخير من العمر، يعتقل عقالا يلزم طاسة الرأس الخلفية، ويلزم العمامة البيضاء، بمناظر لا تشك في أنها "طبية" بملزمتين سوداوين، ثبتتا فوق الأذنين بلفافتي قماش خوفا من الانزلاق، تبدو العينان من خلف الزجاج كعيني قط حذر.
فوق الثوب الأبيض المائل إلى التربة الصفراء، معطف، لمّ ما خلف الصدر بجانبيه، واندلع بأكبر من فتحته من الواجهة، وكان يعني بلا أقل شك أن واحداً من الأزرار قد شد دون عناية، فانقطع.
لزم "مطير" ركن المجلس، وأهمل يده الممدودة على ركبته، وقال ببطء الواثق:
- يا جماعة الخير، الطريق إلى بيت سعيد، من عهد الأجداد معروفة للصغير وللكبير.
- معروفة للرجل الماشية عليه، وليست معروفة للسيارة.
- ما كان لدى الأولين سيارات.
- يعني أنه من حق سعيد اليوم أن - يفتح خطاً للسيارة.
- كانت الأقوال تتصارع حول هذا المعنى.
وسمع على الباب الداخلي نقر، فقام صاحب الدار، وجاء بإبريق شاي كبير ذي معلق، وعاد وجاء بصحن، على حوضه فناجين زجاجية، وقعد "على ركبة ونصف ركبة" وانهمك يصب الشاي في الفناجين، ويحاذر ألا يسلخ يده.
تطلع إلى الجالسين فرأى أكبرهم "مطير" فقدم له فنجانا. على يمين الداخل، وقرب سرير متهالك من البطاطين والفرش العتيقة الملونة قعد صبي، يداعب قطة رمادية كبيرة، ما تلبث أن تتملَّص من يديه وتحوم ثم تعود بلطف وتقعد في حجره الدافئ، وتجتر قرقرتها فيزيلها بعنف، خوفا أن تسرق ما تعلمه من قرآن كما تحذره جدته.
كان "مطير" يرشف الشاي بصوت عال، ويرسل نظرات مقننة إلى الصبي والقطة، وكان الجالسون ينصرفون في انشغال بالفناجين الساخنة، ويذهب بعضهم يدخن في رتابة، وكأنهم قد اتفقوا على صلح ما، فأسكت الضجيج.
لم يَخل المجلس من "كاتب الصكوك" الذي سينال بعد الوفاق، ثمن التعب والحبر والورق، وسيكتب في نهاية "الحجة" شهادته ضمن الشهود، ويضيف "كتبه مغرم بن علي.. غفر الله له ولوالديه". أما وإنه يدرك إدراك العالم أن "مطير" ضعيف النظر، وقد تعرض، مع هذا العمر، إلى هيجان جمله الحاقد ذات يوم قريب فأهلك أضلعه، وكاد "لولا عناية الله" يعجنه بكل قوته، فإنه سيقوم بالورقة إليه، وسيصبغ إبهام يده اليسرى ليثبت شهادته ضمن الحاضرين.
كان القوم بالاتفاق قد سمعوا ملء الآذان من "مغرم" أن سعيداً يستحق إيجاد طريق للسيارة إلى بيته، وكل بيت كانت له طريق للرجل وللحافر، سيغدو له طريق للسيارة لو أراد.. "وليشهد الله وهو خير الشاهدين".
وقام كل إلى شأنه، وكان خارج الدار يحتقن بضباب الشتاء، وصاح أحدهم راجيا أن يخلف هذا الضباب مطر: "فرج الله قريب"، وتقافزت النظرات إليه داعية راجية.
وحينما دلفت الأقدام لتغادر الساحة كانت تلك القطة تموء وتهز ذيلها، وتقود خلفها ثلاث قطط صغيرة كثيرة المواء.
وإلى قرب قرص أخضر كبير من التين الشوكي قعد واحد يقضي حاجته، يوزع الالتفات، ويطمئن إلى أن لا أحد حوله، ولا خوف على طرف الثوب المتهدل من كل الجوانب.
حيث كان "مطير" قد خرج مع الخارجين، واتبع قدميه اللتين تعرفان كل الطرق بالخطوة، وهبط الوادي المقابل، وجعل بعينيه المختبئتين خلف زجاج نظارة، يطوف مزرعته المهملة مع المزارع المجاورة، فتختلط قدماه بالأعشاب، والنباتات المتطفلة التي عاثت بالأرض، وها هو بناء المدرج الذي لا يكاد يرى من تشابك النبات يهدم خطوة القدم، ويجعل أنة "مطير" تكاد تغلف كل المساحة من حوله. وتستبطئ زوجته "شريفة" عودته، فتحدث خاطرها بحديث كان "مطير" يحدثها به في الصباح، عن رغبته في زيارة المزرعة المهملة في الوادي، وتدفعها نيتها إلى ذاك المكان عله يكون قد تأخر لسبب.
عندما بلغ صوتها أقرب الدور في القرية كان الرجال يحملونه من تحت كتفيه، ويقعدونه على لين الفراش بركن الدار، ويستدعون "بن حسين"، مجبر العظام، ليعيد مفصل اليد اليمنى إلى مكانه، ويوصيه بالسمن، والبيض، وكل ذي طعم مر، وينهاه عن التمر، وما حلا طعمه من الطعام، ثم يكرر وصيته على "شريفة" المسؤولة الأولى عما يحدث لليد المكسورة من خلل.
بما أن ابن حسين، مجبر الكسور، لم يَمدّ يده ليقبض "وسخ الدنيا" من الريالات، فلا حاجة "لمطير" ولا لزوجته أن يقدما إليه شيئا لن يقبله أبدا.
زار أهل القرية "مطير" أفرادا وجماعات، وكانت "شريفة" تحرص على اليد المعلقة في الرقبة بالقماش الأبيض المندى برائحة السمن، وعفن الجسم الراكد على الفراش، فتجعل للبخور في البيت عجاجا، أكثر مما تفعل عند نفاسها.
وكانت تحاذر أن تهمل دخان الحطب الحارق، لئلا يأتي إلى عيني الزوج الضعيفتين فتشب نارها على العجين، حين تغمض عيناه جفنيهما وقت النوم، وكان هذا ما يسهرها بعد نوم كل العيال.
اشتهى "مطير" حبة تمر مع القهوة، فأبت شريفة، وقالت: "أين أنت يا مخلوق؟ ابن حسين منعك عن التمر والحلو"، وقامت إلى الداخل، وجاءت بجانب مقطوع من "خبزة العيال"، وعلى الحافة صفار بيض تملأ لمعته العين، وقالت تطمئنه: "بعد أيام تشفى وتأكل الحلو، فلا تعجل على قدرة الله".
"شق بطنك يا شريفة"
هكذا صرخت زوجة "مطير" حين باغتها وباغت زوجها وعيالها الخبر؛ فقد جاء رجل غريب عن القرية، وسأل عن دار "مطير السعدوي"، حتى دخل من عتبة الدار، وقعد إلى جانب رجل كبير العمر، يضع على عينيه نظارة بزجاج أبيض مكبر، وقرأ عليه ورقة صغيرة في يده، علم "مطير" بعدها أن عليه أن يترك بيته، وأن يبحث عن سكن يُؤْويه، فخط "الأسفلت" قرر بأن يأتي على داره.
وكما سمع عمن قد حدث لهم مثل هذا، بأن التعويض بالريالات سيبلغ جيبه ذات يوم، غير أن وضع الحال، وندمه على تاريخ حياته المذبوح في داره مع زوجته وأولاده، جعل قطر عينيه يتحدر من خلف الزجاج.مهاجرون في الحياة.
مجلة العربي عدد 394, 1 أيلول 1991