اليوم الثقافي
صلاح القرشي: في مجموعتي الأولى أخطاء نحوية ولكن!
غياب المحرر الأدبي وخراب مالطا الإبداع المحلي
د. علي الرباعي: لا يمكن التقليل من عمل فني متكامل بسبب غياب المحرر
منال العويبيل - الرياض
على الزهراني
علي الرباعي
صالح القرشي
«صدرت رواية «سعوديات» لسارة العليوي في نهاية العام المنصرم 2006م، وطُبعت حتى الآن طبعتان، وتستعد لطباعة الثالثة، ويغلب على الرواية اللهجة العامية، كما أنها مليئة بالأخطاء الإملائية، والتي بررتها العليوي بأنها «ليست أستاذة في اللغة»، واعتبرت ذلك ليس شرطاً لإصدار رواية».. انتهى الخبر، ويبدأ الطرح: نجد أن علاقة المبدع العربي بالمحرر الأدبي لازالت (وستظل فيما يبدو) علاقة ملتبسة، فإن تغاضى المتلقي _ مكرهاً لا بطلا _ عن هفوات بعض الأسماء الجديدة، لا يمكنه تجاهل فئة كبيرة من الكُتّاب البارزين الذين يُلبسون نصوصهم نوعاً من القداسة، ويسبغون عليها من الغيرة المبالغ فيها ما يصدهم عن التعامل مع المحررين الأدبيين الذين بات دورهم متصاعد الأهمية في دُور النشر الأجنبية، حيث تخضع نصوص أبرز الكُتّاب العالميين لأدوات المحرر الذي من المفترض عليه أن يقوم بعملية التدقيق والتصحيح، وصولاً لتخليص النص الأدبي من الزوائد. هذا الإجراء الذي لا يسلم منه حتى بعض من نالوا جوائز نوبل للآداب، دون أي حساسية، أو مساس بقاماتهم الإبداعية. وبالتالي، يظل دور المحرر الأدبي الغائب عن واقع النشر العربي عاملاً يعزز خروج أعمال تشوهها الأخطاء النحوية واللغوية، فضلاً عن الضعف الفني. والعديد من الروايات المحلية مؤخراً شاهدة على ذلك الغياب.
وحول ما إذا كان غياب المحرر الأدبي عن واقع النشر العربي إشكالية هامشية أم بأهمية اعتبارها أحد أسباب تدهور الإبداع المطبوع، توجهنا بعدد من التساؤلات لعدد من مبدعي الوسط المحلي.
القاصّ والروائي صلاح القرشي يجد أن مسألة تفعيل وجود محرر أدبي أو مصحح لغوي في دور النشر هو أمر مهم.. وخصوصا من جهة وجود الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية في بعض الأعمال الجيدة, كون وجود مثل هذه الهنات اللغوية يقلل من جمال العمل ويشوهه.
القاص فهد المصبح يرى أن حضور المحرر الأدبي عربياً لا يتعدى إقحامه من قبل جهات خاصة بما هو شاذ عن تخصصه؛ فيعمد إلى المواءمة والتواجد على الساحة بشكل مرتبك مربك يزيد السوء سوءا يلمعه بالإثارة, وهذا مرجعه إلى غياب التخصص عندنا؛ يستعاض عنه بالقارئ الواعي المتلقي، أو الناقد الموضوعي، والناشر الملتزم بقضية الأدب والنشر، إذ يقول أحد النقاد الأكاديميين: ان (راء) كلمة ناشر أبدلت (بلام) فأصبح «الناشر» «ناشل»!
يرى أن دور المحرر الأدبي مهم جدا، وفي اعتقادي _ كما يضيف _ يتجاوز دوره دور «مقص الرقيب» إلى بلوغ ذروة الإبداع، إلى القمة. حتى افتراضاً لو شاور الكاتب بعضا من أصدقائه حول منتجه الأدبي، وأخذ آراء عدة، بالطبع مختلفة، عندها أليس هذا هو دور المحرر الأدبي؟ بل عليه تقع المسؤولية كاملة في نجاح أو فشل المنتج الأدبي من المخطوطة إلى دور الرقيب اللغوي حتى طباعته! أم غيابه معناه مزيد من الفشل والعري وأحلام السراب؟
للقاص الدكتور علي الرباعي رؤية مغايرة لما سبق حيث يرى أنّ التحرير الأدبي موهبة لا تقل أهمية عن المنتج الأدبي والإبداعي، إلا أنه لا يمكن أن نقلل من أهمية عمل فني متكامل بسبب غياب المحرر، فكم من مواد محررة بشكل لافت لكنها لا تحمل فنية، ولا فكرة، وتفاصيلها مملة، والمبدع هو المسئول الأول عن تحرير وطباعة أعماله بطريقة تليق بمستواه، بعيداً عن العبث والمؤثرات الجانبية.
قف / STOP !!
أما إذا ما كان إقصاء المحرر الأدبي تترتب مسئولية تفعيله على دُور النشر العربية، بل واشتراطه على موافقة طبع الأعمال الأدبية، أم أنها مسئولية الكاتب بالاتفاق مع من يتولى تحرير نصّه كحل وسط، ومن ثم يقوم بتسليم النص لدار النشر جاهزاً للطبع.. وما قد يتأتى من آليات تحيي هذا الدور ترفع لافتة توقف لتداعيات الوضع الراهن.
يقول صلاح القرشي: المسؤولية هنا تخص الجهتين, جهة الكاتب, وجهة دار النشر, وربما لأن بعض دُور النشر العربية لا يهمها غالبا سوى قبض الثمن فهي لا تكلف نفسها عناء قراءة العمل، فما بالك بتصحيح تلك الأخطاء النحوية والإملائية.. شخصيا، أعتقد أن وجود مصحح أو مراجع للعمل من جهة اللغة هو أمر مهم، ويضيف للكاتب وللكتاب الكثير، كما يجنبه أيضا الكثير من التشوهات المعيبة.
أما فهد المصبح فيؤكد جازماً أن الأمر بلا شك حق للكاتب، ولا أحد سواه، إلا من يرتضيه قيما على إبداعه, فيوكل إليه بالمراجعة والتهميش على النص، ويدققه قبل دفعه إلى جهة النشر, وأرى أن الأمر فيه خلط بين طبع عمل كامل في كتاب، وبين نشر عمل في صحيفة, وأغلب الكتَّاب يجعل النشر لا الطبع (بروفة) لتلافي أخطائه جراء تلقي آراء القراء، فيكون حرا في تعديلها أو عدمه, أما طباعة العمل في كتاب فلا يحق للكاتب بعد ذلك التعديل أو الاعتذار عن خطئه، بل يحاسب عليه فنيا ورقابيا لا يملك معها إلا التراجع مصحوبًا بالاعتذار، إذ هو أصبح مسئولاً أمام الله والعالم عن كلماته وأفكاره.
علي الزهراني يورد مثالاً ليسوق رؤيته حول هذه النقطة، إذ يقول: لدي مثلاً منتج أدبي، ووضعته على طاولة المحرر الأدبي، وتركت له الحرية كاملة يتصرف كيفما يشاء، ولكن بشرط _ هنا مربط الفرس _ ألا يتعرف «المحرر الأدبي» على كاتب النص، ولا على مسماه النهائي، لكي يكون حكمه مجردًا وبموضوعية وحيادية، وأظن هذا هو السائد! أما قضية الاتفاق بينهما فأعتبره «عبثا كتابيا مخلّطا»، وأما إقصاء دور المحرر الأدبي فهو كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
د. علي الرباعي يرى أن العبرة ليست بكتابة العمل فقط، بل على منتِج النص أن يراجعه، ويعيد قراءته في بروفته الأولى والثانية، ولا حرج في الاستعانة بمتخصصين لمساعدته في اللغة والتشكيل، فالضعف وفشل العمل محسوب على الأب الشرعي للمنتَج.
حضرت الشرارة وبطل الفتيل
في تصريح للروائي الجزائري المقيم في إيطاليا (عمارة لخوص) رفض فيه أن يُمنح النص الأدبي أي قبيل من القداسة، وأشاد بدور «المحرر الأدبي» في دُور النشر الأجنبية الذي يرفضه معظم الكتّاب العرب، واصفاً إشكاليتهم بالغيرة المبالغ فيها على أعمالهم، حيث يرفض الكاتب العربي أن يقترب الناشر من رواياته أو قصصه «التي يغار عليها كأنها زوجته» على حد وصفه.
ولو اتفقنا على فكرة تقديس المبدع العربي لنصّه بما يصل للمبالغة، نتساءل عن كون ذلك ثقة عمياء في المستوى الإبداعي الذي لا يرغب بأن يُمس، أم إظهار التمكّن الكامل بالأدوات اللغوية والنحوية، ليجيبنا صلاح القرشي بقوله: لا أعتقد أن المسألة لها علاقة بفكرة التقديس, لكن ربما يعود الأمر إلى ثقة مفرطة لدى بعض الكتاب بتمكنهم اللغوي، أو ربما يتعلق الأمر أحيانًا بالاستعجال أو الاستسهال، أو الاعتقاد بعدم تأثير بعض الأخطاء على العمل الأدبي.
أمّا فهد المصبح فيؤكد على أن التشوه والأخطاء والضعف الفني ستتواجد مع وجود المحرر الأدبي وغيابه, غير أن أمورا كهذه يمكن تلافيها, أما جوهر العمل ونفحة الإبداع فيه فلن يوجدها تواجد الناس جميعا, وهو أمر مرتبط بالكاتب صاحب العمل. ويضيف: ولا أخفيكم بانحيازي نحو اعتزاز وتمسك الكاتب بنصه مادام العمل الأدبي ليس مطروحا كورشة (أي لم يكتمل)، هنا يحق لنا التعالق مع النص مهما كان ولمن كان, ويستوي في نظري الحذف والإضافة للنص كتشويه له، ما لم يكن بإذن واتفاق مسبق مع الكاتب, فإن قولتني شيئا لم أقله في نصي، أو حذفت منه شيئا قلته وأثبته فهو جريمة في حق النص وكاتبه، وأظن أننا نعود إلى الرقيب أو الوصي من حيث نشعر أو لا ندري.
أما د. علي الرباعي فيوجز رؤيته في فكرة مفادها أن القداسة للنصوص مبالغة لا أظنها تصدر عن وعي بقدرة الذات وقدرات المتلقي.
علي الزهراني يجد ادعاء المبدع العربي بأن منتجه الأدبي مقدسًا أو ثقته الكاملة بنفسه ضربًا من الغرور والخيلاء، في ظلّ المعطيات السابقة.. يقول: هناك أكبر دليل على صحة ما أقول، فالقصة الكاملة في «سورة الكهف»، وكيف أن موسى عليه السلام اعتقد أنه أعلم بكل شيء سوى الله سبحانه، ثم تفاجأ أن هناك شخصا آخر أعلم منه، وهو الخضر عليهما السلام، والله طبعا أعلم من الجميع، قال تعالى: ((وما فعلته عن أمري)) الآية.
وبرؤية موازية يقول: إن حرية كاتب المنتَج الأدبي يُعتبر نوعًا من الديمقراطية، بمعنى مطاطية التقديس، كون مبدع المنتج الأدبي (مشهورًا أم مغمورًا)، ويراه حسب رأيه واعتقاده (الأصلح والأكثر من رائع)، وهذا حقه طبعًا، لكن دون المساس بإبداع من يمارس النقد (المحرر الأدبي)، وفي ظني لابد من أن نعطي حرية أكثر للمحرر الأدبي بتجاوز دوره اللفظي أو النحوي، بل نعطيه بلغة المسرح خلْق «نص آخر» لا يقل إبداعًا عن النص الأصلي، عبر إيراد الإيجابيات والتنويه عنها صورة وتألقًا ومتعة، وفي نفس اللحظة إيراد السلبيات وفضحها على الورق والتحذير منها، كون المنتج الأدبي لا يخص المبدع الكاتب، بل بعد طبعه ونشره سيكون ملكا للقرّاء لقمة سائغة بالهناء والشفاء! فلنعتبره «المحرر الأدبي» مكملاً، بل بروازاً لاكتمال الصورة في حلتها النهائية، لكن لابد من قلم مشرط المحرر الأدبي أن يتجرد من الدوافع الشخصية، بمعنى أصح ألا يدخل المنتَج الأدبي غرفة «العناية المركزة» في حالة احتضار، وطبعًا لا يقترب «المبدع الكاتب» من الثالوث المحرم، عندها لا بد من إجراء عملية قيصرية فورًا، ولا يهم بعدها أن يولد خديجًا غير مكتمل النمو!!
سلّمٌ بالعَرض
على هذا الصعيد أثيرت مؤخراً قضية القاص جار الله الحميد الذي هدد باللجوء إلى القضاء لاسترداد مجموعته القصصية من نادي الرياض الأدبي، بعد أن تلقى الحميد قائمة التعديلات والتصويبات التي اشترط المحكِّم قيام الأول بها كشرط لطبع مجموعته. وعلى هذا الأثر طرحت السؤال على المشاركين عبر تجربتهم مع الإصدار الخاص، حول إذا ما سبق أن تعاونوا مع أي نوع من المحررين الأدبيين، وتقبّلهم لهذا التوجه، ليجيب علي الزهراني: لي مجموعتي القصصية الأولى بعنوان «السعلي» قدمتها قبل سنة لناد أدبي، وجلستُ انتظر قرابة الستة أشهر حتى أنهاها «المحرر الأدبي»، فقرأتُ ملاحظاته النارية وكأني اقرأ نصوصي لأول مرة، من كثرة الملاحظات عليها، ولكوني أعلم بجهبذة وحرفنة وإبداع من كتبها قمتُ فورًا بتغيير أغلبها، بل بعض عناوين القصص، ولم أجد حرجًا في ذلك. والآن لدي مخطوطة كتاب نقدي بعنوان: (قراءة في إبداع شعراء الساحة) قدمته للدكتور الكبير عالي القرشي، ومن الآن ليس لدي أي حساسية أو غضاضة في تقبل نقده على كتابي النقدي الجديد.
صلاح القرشي أجاب أنه لم يسبق له التعاون مع محرر أدبي بهذه الصفة،.. لكنني _ كما يردف _ وخصوصا في روايتي الأخيرة (بنت الجبل) حرصت على أن يراجعها بعض الأصدقاء الذين لديهم إلمام جيد باللغة من جهة النحو وجهة الإملاء.. لأن هناك أشياء قد تغيب عن ذهن كاتب العمل، ربما لقربه الشديد والمستمر من عمله. وفي مجموعتي الأولى كانت هناك أخطاء نحوية كان لي أن أكتشفها لو كنت اقرأ لكاتب آخر، لكنني وقعت فيها.. لكن في الرواية كانت الأخطاء _ والحمد لله _ قليلة، أو شبه معدومة.
على ذات الحال كانت إجابة فهد المصبح، يقول: لا لم يحدث لي أن تعاونت مع أي محرر أدبي, لكنني راجعت كتبي مع أكثر من شخص، ودفعته للتدقيق الإملائي والنحوي, وأحيانًا بمقابل، حتى يكون الحرص اشد في المراجعة, وبالمناسبة أشكر كل من ساعدني وشاركني الهم والمعاناة.
أقوى من الشدَّة أطول من المدَّة
في مطلع التسعينات الميلادية، أو قبلها، نالت البرامج التلفزيونية التعليمية (مع التنبيه على كونها تثقيفية ممتعة أكثر مما يوحيه اللفظ) نالت حضوراً مميزاً أثرى الذائقة على مدّ الوطن العربي، عبر برامج من قبيل (المناهل) من الأردن، و(مدينة القواعد) من العراق، وسلسلة برامج الإعلامي المميز (شريف العلمي) بتكثيف جمالي لحضور اللغة العربية الأصيلة، بقوالب سلسة قرّبت إليها الصغير والكبير.
ما ذُكر أعلاه ليس لغرض الحنين فقط، بقدر استحضار شخصيات من قبيل (مصحح الغلطاوي) في برامج شريف العلمي، الذي دأب فيه على تعديل الأخطاء اللغوية.. إضافةً لحضور المصحح اللغوي في (مدينة القواعد) بإطلالاته الرخيمة عبر فقرة (قل ولا تقل)، حيث تثبّت الصورة بعد كل خطأ (لا يُفتعل حضوره)؛ ليُمنح صوت المصحح فرصة التعديل المؤدِّي الأدوار، عوضاً عن التعديل المونتاجي للخطأ؛ لغايةٍ مثرية تتمثل في تأصيل ما تم تصحيحه.
فيا ترى، كم من محرر أدبي متمكن يحتاجه الإنتاج الإبداعي العربي، ولو من وراء حجابِ ناشر، ليستقيم عوج الوضع الراهن؟!
مع التنويه بأن ليس كل محررٍ أدبي كعبث الشرير خربوط في برنامج (المناهل)، وفي ذات الوقت لن يتأتى لكل الأدباء بطولة (أبي الحروف) اللغوية.
الرابط :
صلاح القرشي: في مجموعتي الأولى أخطاء نحوية ولكن!
غياب المحرر الأدبي وخراب مالطا الإبداع المحلي
د. علي الرباعي: لا يمكن التقليل من عمل فني متكامل بسبب غياب المحرر
منال العويبيل - الرياض
على الزهراني
علي الرباعي
صالح القرشي
«صدرت رواية «سعوديات» لسارة العليوي في نهاية العام المنصرم 2006م، وطُبعت حتى الآن طبعتان، وتستعد لطباعة الثالثة، ويغلب على الرواية اللهجة العامية، كما أنها مليئة بالأخطاء الإملائية، والتي بررتها العليوي بأنها «ليست أستاذة في اللغة»، واعتبرت ذلك ليس شرطاً لإصدار رواية».. انتهى الخبر، ويبدأ الطرح: نجد أن علاقة المبدع العربي بالمحرر الأدبي لازالت (وستظل فيما يبدو) علاقة ملتبسة، فإن تغاضى المتلقي _ مكرهاً لا بطلا _ عن هفوات بعض الأسماء الجديدة، لا يمكنه تجاهل فئة كبيرة من الكُتّاب البارزين الذين يُلبسون نصوصهم نوعاً من القداسة، ويسبغون عليها من الغيرة المبالغ فيها ما يصدهم عن التعامل مع المحررين الأدبيين الذين بات دورهم متصاعد الأهمية في دُور النشر الأجنبية، حيث تخضع نصوص أبرز الكُتّاب العالميين لأدوات المحرر الذي من المفترض عليه أن يقوم بعملية التدقيق والتصحيح، وصولاً لتخليص النص الأدبي من الزوائد. هذا الإجراء الذي لا يسلم منه حتى بعض من نالوا جوائز نوبل للآداب، دون أي حساسية، أو مساس بقاماتهم الإبداعية. وبالتالي، يظل دور المحرر الأدبي الغائب عن واقع النشر العربي عاملاً يعزز خروج أعمال تشوهها الأخطاء النحوية واللغوية، فضلاً عن الضعف الفني. والعديد من الروايات المحلية مؤخراً شاهدة على ذلك الغياب.
وحول ما إذا كان غياب المحرر الأدبي عن واقع النشر العربي إشكالية هامشية أم بأهمية اعتبارها أحد أسباب تدهور الإبداع المطبوع، توجهنا بعدد من التساؤلات لعدد من مبدعي الوسط المحلي.
القاصّ والروائي صلاح القرشي يجد أن مسألة تفعيل وجود محرر أدبي أو مصحح لغوي في دور النشر هو أمر مهم.. وخصوصا من جهة وجود الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية في بعض الأعمال الجيدة, كون وجود مثل هذه الهنات اللغوية يقلل من جمال العمل ويشوهه.
القاص فهد المصبح يرى أن حضور المحرر الأدبي عربياً لا يتعدى إقحامه من قبل جهات خاصة بما هو شاذ عن تخصصه؛ فيعمد إلى المواءمة والتواجد على الساحة بشكل مرتبك مربك يزيد السوء سوءا يلمعه بالإثارة, وهذا مرجعه إلى غياب التخصص عندنا؛ يستعاض عنه بالقارئ الواعي المتلقي، أو الناقد الموضوعي، والناشر الملتزم بقضية الأدب والنشر، إذ يقول أحد النقاد الأكاديميين: ان (راء) كلمة ناشر أبدلت (بلام) فأصبح «الناشر» «ناشل»!
يرى أن دور المحرر الأدبي مهم جدا، وفي اعتقادي _ كما يضيف _ يتجاوز دوره دور «مقص الرقيب» إلى بلوغ ذروة الإبداع، إلى القمة. حتى افتراضاً لو شاور الكاتب بعضا من أصدقائه حول منتجه الأدبي، وأخذ آراء عدة، بالطبع مختلفة، عندها أليس هذا هو دور المحرر الأدبي؟ بل عليه تقع المسؤولية كاملة في نجاح أو فشل المنتج الأدبي من المخطوطة إلى دور الرقيب اللغوي حتى طباعته! أم غيابه معناه مزيد من الفشل والعري وأحلام السراب؟
للقاص الدكتور علي الرباعي رؤية مغايرة لما سبق حيث يرى أنّ التحرير الأدبي موهبة لا تقل أهمية عن المنتج الأدبي والإبداعي، إلا أنه لا يمكن أن نقلل من أهمية عمل فني متكامل بسبب غياب المحرر، فكم من مواد محررة بشكل لافت لكنها لا تحمل فنية، ولا فكرة، وتفاصيلها مملة، والمبدع هو المسئول الأول عن تحرير وطباعة أعماله بطريقة تليق بمستواه، بعيداً عن العبث والمؤثرات الجانبية.
قف / STOP !!
أما إذا ما كان إقصاء المحرر الأدبي تترتب مسئولية تفعيله على دُور النشر العربية، بل واشتراطه على موافقة طبع الأعمال الأدبية، أم أنها مسئولية الكاتب بالاتفاق مع من يتولى تحرير نصّه كحل وسط، ومن ثم يقوم بتسليم النص لدار النشر جاهزاً للطبع.. وما قد يتأتى من آليات تحيي هذا الدور ترفع لافتة توقف لتداعيات الوضع الراهن.
يقول صلاح القرشي: المسؤولية هنا تخص الجهتين, جهة الكاتب, وجهة دار النشر, وربما لأن بعض دُور النشر العربية لا يهمها غالبا سوى قبض الثمن فهي لا تكلف نفسها عناء قراءة العمل، فما بالك بتصحيح تلك الأخطاء النحوية والإملائية.. شخصيا، أعتقد أن وجود مصحح أو مراجع للعمل من جهة اللغة هو أمر مهم، ويضيف للكاتب وللكتاب الكثير، كما يجنبه أيضا الكثير من التشوهات المعيبة.
أما فهد المصبح فيؤكد جازماً أن الأمر بلا شك حق للكاتب، ولا أحد سواه، إلا من يرتضيه قيما على إبداعه, فيوكل إليه بالمراجعة والتهميش على النص، ويدققه قبل دفعه إلى جهة النشر, وأرى أن الأمر فيه خلط بين طبع عمل كامل في كتاب، وبين نشر عمل في صحيفة, وأغلب الكتَّاب يجعل النشر لا الطبع (بروفة) لتلافي أخطائه جراء تلقي آراء القراء، فيكون حرا في تعديلها أو عدمه, أما طباعة العمل في كتاب فلا يحق للكاتب بعد ذلك التعديل أو الاعتذار عن خطئه، بل يحاسب عليه فنيا ورقابيا لا يملك معها إلا التراجع مصحوبًا بالاعتذار، إذ هو أصبح مسئولاً أمام الله والعالم عن كلماته وأفكاره.
علي الزهراني يورد مثالاً ليسوق رؤيته حول هذه النقطة، إذ يقول: لدي مثلاً منتج أدبي، ووضعته على طاولة المحرر الأدبي، وتركت له الحرية كاملة يتصرف كيفما يشاء، ولكن بشرط _ هنا مربط الفرس _ ألا يتعرف «المحرر الأدبي» على كاتب النص، ولا على مسماه النهائي، لكي يكون حكمه مجردًا وبموضوعية وحيادية، وأظن هذا هو السائد! أما قضية الاتفاق بينهما فأعتبره «عبثا كتابيا مخلّطا»، وأما إقصاء دور المحرر الأدبي فهو كمن يستجير من الرمضاء بالنار!
د. علي الرباعي يرى أن العبرة ليست بكتابة العمل فقط، بل على منتِج النص أن يراجعه، ويعيد قراءته في بروفته الأولى والثانية، ولا حرج في الاستعانة بمتخصصين لمساعدته في اللغة والتشكيل، فالضعف وفشل العمل محسوب على الأب الشرعي للمنتَج.
حضرت الشرارة وبطل الفتيل
في تصريح للروائي الجزائري المقيم في إيطاليا (عمارة لخوص) رفض فيه أن يُمنح النص الأدبي أي قبيل من القداسة، وأشاد بدور «المحرر الأدبي» في دُور النشر الأجنبية الذي يرفضه معظم الكتّاب العرب، واصفاً إشكاليتهم بالغيرة المبالغ فيها على أعمالهم، حيث يرفض الكاتب العربي أن يقترب الناشر من رواياته أو قصصه «التي يغار عليها كأنها زوجته» على حد وصفه.
ولو اتفقنا على فكرة تقديس المبدع العربي لنصّه بما يصل للمبالغة، نتساءل عن كون ذلك ثقة عمياء في المستوى الإبداعي الذي لا يرغب بأن يُمس، أم إظهار التمكّن الكامل بالأدوات اللغوية والنحوية، ليجيبنا صلاح القرشي بقوله: لا أعتقد أن المسألة لها علاقة بفكرة التقديس, لكن ربما يعود الأمر إلى ثقة مفرطة لدى بعض الكتاب بتمكنهم اللغوي، أو ربما يتعلق الأمر أحيانًا بالاستعجال أو الاستسهال، أو الاعتقاد بعدم تأثير بعض الأخطاء على العمل الأدبي.
أمّا فهد المصبح فيؤكد على أن التشوه والأخطاء والضعف الفني ستتواجد مع وجود المحرر الأدبي وغيابه, غير أن أمورا كهذه يمكن تلافيها, أما جوهر العمل ونفحة الإبداع فيه فلن يوجدها تواجد الناس جميعا, وهو أمر مرتبط بالكاتب صاحب العمل. ويضيف: ولا أخفيكم بانحيازي نحو اعتزاز وتمسك الكاتب بنصه مادام العمل الأدبي ليس مطروحا كورشة (أي لم يكتمل)، هنا يحق لنا التعالق مع النص مهما كان ولمن كان, ويستوي في نظري الحذف والإضافة للنص كتشويه له، ما لم يكن بإذن واتفاق مسبق مع الكاتب, فإن قولتني شيئا لم أقله في نصي، أو حذفت منه شيئا قلته وأثبته فهو جريمة في حق النص وكاتبه، وأظن أننا نعود إلى الرقيب أو الوصي من حيث نشعر أو لا ندري.
أما د. علي الرباعي فيوجز رؤيته في فكرة مفادها أن القداسة للنصوص مبالغة لا أظنها تصدر عن وعي بقدرة الذات وقدرات المتلقي.
علي الزهراني يجد ادعاء المبدع العربي بأن منتجه الأدبي مقدسًا أو ثقته الكاملة بنفسه ضربًا من الغرور والخيلاء، في ظلّ المعطيات السابقة.. يقول: هناك أكبر دليل على صحة ما أقول، فالقصة الكاملة في «سورة الكهف»، وكيف أن موسى عليه السلام اعتقد أنه أعلم بكل شيء سوى الله سبحانه، ثم تفاجأ أن هناك شخصا آخر أعلم منه، وهو الخضر عليهما السلام، والله طبعا أعلم من الجميع، قال تعالى: ((وما فعلته عن أمري)) الآية.
وبرؤية موازية يقول: إن حرية كاتب المنتَج الأدبي يُعتبر نوعًا من الديمقراطية، بمعنى مطاطية التقديس، كون مبدع المنتج الأدبي (مشهورًا أم مغمورًا)، ويراه حسب رأيه واعتقاده (الأصلح والأكثر من رائع)، وهذا حقه طبعًا، لكن دون المساس بإبداع من يمارس النقد (المحرر الأدبي)، وفي ظني لابد من أن نعطي حرية أكثر للمحرر الأدبي بتجاوز دوره اللفظي أو النحوي، بل نعطيه بلغة المسرح خلْق «نص آخر» لا يقل إبداعًا عن النص الأصلي، عبر إيراد الإيجابيات والتنويه عنها صورة وتألقًا ومتعة، وفي نفس اللحظة إيراد السلبيات وفضحها على الورق والتحذير منها، كون المنتج الأدبي لا يخص المبدع الكاتب، بل بعد طبعه ونشره سيكون ملكا للقرّاء لقمة سائغة بالهناء والشفاء! فلنعتبره «المحرر الأدبي» مكملاً، بل بروازاً لاكتمال الصورة في حلتها النهائية، لكن لابد من قلم مشرط المحرر الأدبي أن يتجرد من الدوافع الشخصية، بمعنى أصح ألا يدخل المنتَج الأدبي غرفة «العناية المركزة» في حالة احتضار، وطبعًا لا يقترب «المبدع الكاتب» من الثالوث المحرم، عندها لا بد من إجراء عملية قيصرية فورًا، ولا يهم بعدها أن يولد خديجًا غير مكتمل النمو!!
سلّمٌ بالعَرض
على هذا الصعيد أثيرت مؤخراً قضية القاص جار الله الحميد الذي هدد باللجوء إلى القضاء لاسترداد مجموعته القصصية من نادي الرياض الأدبي، بعد أن تلقى الحميد قائمة التعديلات والتصويبات التي اشترط المحكِّم قيام الأول بها كشرط لطبع مجموعته. وعلى هذا الأثر طرحت السؤال على المشاركين عبر تجربتهم مع الإصدار الخاص، حول إذا ما سبق أن تعاونوا مع أي نوع من المحررين الأدبيين، وتقبّلهم لهذا التوجه، ليجيب علي الزهراني: لي مجموعتي القصصية الأولى بعنوان «السعلي» قدمتها قبل سنة لناد أدبي، وجلستُ انتظر قرابة الستة أشهر حتى أنهاها «المحرر الأدبي»، فقرأتُ ملاحظاته النارية وكأني اقرأ نصوصي لأول مرة، من كثرة الملاحظات عليها، ولكوني أعلم بجهبذة وحرفنة وإبداع من كتبها قمتُ فورًا بتغيير أغلبها، بل بعض عناوين القصص، ولم أجد حرجًا في ذلك. والآن لدي مخطوطة كتاب نقدي بعنوان: (قراءة في إبداع شعراء الساحة) قدمته للدكتور الكبير عالي القرشي، ومن الآن ليس لدي أي حساسية أو غضاضة في تقبل نقده على كتابي النقدي الجديد.
صلاح القرشي أجاب أنه لم يسبق له التعاون مع محرر أدبي بهذه الصفة،.. لكنني _ كما يردف _ وخصوصا في روايتي الأخيرة (بنت الجبل) حرصت على أن يراجعها بعض الأصدقاء الذين لديهم إلمام جيد باللغة من جهة النحو وجهة الإملاء.. لأن هناك أشياء قد تغيب عن ذهن كاتب العمل، ربما لقربه الشديد والمستمر من عمله. وفي مجموعتي الأولى كانت هناك أخطاء نحوية كان لي أن أكتشفها لو كنت اقرأ لكاتب آخر، لكنني وقعت فيها.. لكن في الرواية كانت الأخطاء _ والحمد لله _ قليلة، أو شبه معدومة.
على ذات الحال كانت إجابة فهد المصبح، يقول: لا لم يحدث لي أن تعاونت مع أي محرر أدبي, لكنني راجعت كتبي مع أكثر من شخص، ودفعته للتدقيق الإملائي والنحوي, وأحيانًا بمقابل، حتى يكون الحرص اشد في المراجعة, وبالمناسبة أشكر كل من ساعدني وشاركني الهم والمعاناة.
أقوى من الشدَّة أطول من المدَّة
في مطلع التسعينات الميلادية، أو قبلها، نالت البرامج التلفزيونية التعليمية (مع التنبيه على كونها تثقيفية ممتعة أكثر مما يوحيه اللفظ) نالت حضوراً مميزاً أثرى الذائقة على مدّ الوطن العربي، عبر برامج من قبيل (المناهل) من الأردن، و(مدينة القواعد) من العراق، وسلسلة برامج الإعلامي المميز (شريف العلمي) بتكثيف جمالي لحضور اللغة العربية الأصيلة، بقوالب سلسة قرّبت إليها الصغير والكبير.
ما ذُكر أعلاه ليس لغرض الحنين فقط، بقدر استحضار شخصيات من قبيل (مصحح الغلطاوي) في برامج شريف العلمي، الذي دأب فيه على تعديل الأخطاء اللغوية.. إضافةً لحضور المصحح اللغوي في (مدينة القواعد) بإطلالاته الرخيمة عبر فقرة (قل ولا تقل)، حيث تثبّت الصورة بعد كل خطأ (لا يُفتعل حضوره)؛ ليُمنح صوت المصحح فرصة التعديل المؤدِّي الأدوار، عوضاً عن التعديل المونتاجي للخطأ؛ لغايةٍ مثرية تتمثل في تأصيل ما تم تصحيحه.
فيا ترى، كم من محرر أدبي متمكن يحتاجه الإنتاج الإبداعي العربي، ولو من وراء حجابِ ناشر، ليستقيم عوج الوضع الراهن؟!
مع التنويه بأن ليس كل محررٍ أدبي كعبث الشرير خربوط في برنامج (المناهل)، وفي ذات الوقت لن يتأتى لكل الأدباء بطولة (أبي الحروف) اللغوية.
الرابط :