Unconfigured Ad Widget

Collapse

شرعنة التمايز القبلي

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • أبو أحمد
    عضو مميز
    • Sep 2002
    • 1770

    شرعنة التمايز القبلي

    شرعنة التمايز القبلي

    *شتيوي الغيثي
    ما هو العقل الذي سيطر على الفكر الإسلامي ما بعد مرحلة الدعوة المحمدية والخلافة الراشدة، خاصة في المراحل الأولى منها..؟؟. أهو العقل الإسلامي الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاول أن يؤصله من خلال الأخوة الإسلامية في المرحلة المدنية..؟. أم هو العقل الذي أُنتِج من خلال الظروف التاريخية التي جاءت لاحقة للعصر الإسلامي الأول ومتخمة بكل صراعات الإسلام وظروف العمل السياسي ما بعد الراشدي؟.
    المفكر محمد عابد الجابري يؤكد من خلال كتابه (تكوين العقل العربي) أن مرحلة التدوين التي جاءت بعد ثلاثة قرون من الرسالة هي المرحلة التي تكوّن فيها العقل العربي، بل إن هذا التكوين وقف عند هذه المرحلة دون تجاوزها في عملية إقفال العقل قفلاً معرفياً نهائياً.
    هذه المرحلة من التاريخ لم تكن فكرية خالصة، أي إن مرحلة التدوين كانت متأثرة بكل صراعات المرحلة، ويؤكد الجابري أيضاً أن تأثير مرحلة ما قبل الإسلام كان واضحاً في تكوين هذا العقل الذي تم تدوينه، لكنه كان في شكله الكموني خاصة العقل القبلي منه بتحجيم الإسلام له أو التأثير عليه بالإيجاب، حتى جاءت مرحلة الأمويين التي يكاد يتفق المؤرخون على أنها بداية عودة العنصرية القبلية بشكلها السافر، وما كانت قصائد النقائض بين شعراء القبائل كجرير والفرزدق مثلاً والتي مازالت تُدّرس في مناهجنا التعليمية حتى الآن إلا ناتجاً عن تلك الفترة الأموية.
    ومع أن الإسلام كان حاسماً لهذه القضية حسماً نهائياً منذ أوائل تشكلها حتى من أقرب المقربين له، وبشكل واضح لا يقبل الجدل مهما كان السبب سواءً في النص القرآني:" إن أكرمكم عند الله أتقاكم" أو النص النبوي:" دعوها فإنها منتنة" إلا أن ذلك لم يكن له من التأثير الواضح في البنية القبلية المتجذرة في العقل العربي، بما أنه عقل قام وتشكل ضمن الأطر الفكرية التي قامت عليها القبيلة حتى بعد أربعة عشر قرناً من الإسلام، ولذلك فإن غياب هذا العقل لم يكن غياباً نهائياً، بل كان في حالة مدٍّ وجزرٍ ثقافيين حسب الظرف المحيط. وتزداد هذه الروح القبلية ظهوراً كلما كان المجتمع في مرحلته البدائية التي لم يستطع تجاوزها، وهذا ما قد حصل لعقلنا العربي الذي كان ولا يزال مجتمعاً عشائرياً، والمجتمع العشائري كما هو عند دارسي الأنثربولوجيا مجتمعاً يتسم بالبدائية الذهنية والشعورية، وبقاء هذه العشائرية حتى بعد كل هذه المدة ومع كل هذا التشنيع الإسلامي لها، يعني أن المجتمع العربي مازال مجتمعاً يتأرجح في مرحلة البدائية الحضارية.
    والزواج في العرف القبلي هو من أشد الأشياء وضوحاً في التباين والتمايز بين القبائل العربية إلى درجة العصبية الممقوتة، ولذلك فنحن نرى أنه ليس من السهل التعامل مع هذه الحالة الاجتماعية إلا بما يفرضه العقل القبلي من قوانين وأعراف هي في الأساس تنتمي إلى مرحلة ما قبل المجتمع المتمدن، ولقد جاءت تلك الحالة نتاجاً للحالة العربية ذات الوجه المتطرف في صحراويتها التي كان ضنك العيش أكثر سماتها وضوحاً، ولذلك تصبح القبيلة فرضاً اجتماعياً يتناسب مع الحالة العربية آنذاك حين كان البحث عن الرزق من خلال ذهنية القوة والتكاتف القبلي أيام الحرب والنهب والماء والمرعى. ومن هنا يصبح البقاء على هذه الذهنية هو نوع من عدم الانسجام مع حالة مناقضة لها أشد التناقض وهي الحالة المدنية التي كان من المفترض أننا نتمثلها الآن منذ تأسيس كيان الدولة. والزواج بما أنه أكثر المظاهر الاجتماعية حرصاً من العقل القبلي أن يبقي عليه قائماً، فإنه لا يمكن لهذا العقل أن يتنازل عن التمايز القبلي مهما كان السبب. وحتى بغياب المظاهر القبلية الأخرى أو اندثارها، فإن الزواج هو المظهر الوحيد الذي حاول الإبقاء عليه بشتى الطرق حتى أصبح عرفا مشاعاً، كونه المظهر الأخير الذي يبقي على التباين القبلي في حالة من رفض هذا العقل لمظاهر الانفتاح على غير ما قد أطر نفسه به منذ الأزل، وأنت تلاحظ أنه حتى عند لحظات الجدل العقلي في مسألة الزواج غير المتكافئ من ناحية الأطراف القبلية فقط فإنه لا يمكن أن يُدلي أحد بمنطقٍ متماسك حول الإبقاء على تراتبية المجتمع إلا أن هذا الأمر كان عليه من كان قبلنا من (الأولين). أعرف قبيلة من القبائل وبعد أن عانت دهراً من محاولة إثبات نسبها الفعلي، رجعت لتعيد سن هذا العرف ولتقرر رفض مثل هذا التزاوج بين الأبناء الذين كان قد اختلط نسبهم بغيرهم من غير القبيلة ذاتها، وهم الذين كانوا يعانون من التمييز القبائلي تجاههم فيما مضى قبل إثبات النسب.
    إنّ أقل ما يمكن عمله للإبقاء على هذا الوضع الاجتماعي أن يتم الفصل بين متزوجين أحدهما ذو انتماء قبلي والآخر غير ذلك. حتى إنه تتم الاستعانة بالقضاء من أجل هذا التفريق من غير حق شرعي يمكن الاستناد عليه كما سمعنا من بعض القصص التي لا تخفى على الجميع، والتي استعان بها الرافضون لمثل هذا الزواج (كما في قضية الخضيري المعروفة) بعد طفلين بالمحاكم الشرعية ليكون الحكم في صالح العرف على الشرع، في قضايا مخالفة لحقوق الإنسان مخالفة صريحة من أجل الإبقاء على أعراف ما جعل الله بها من سلطان.
    الأسوأ من ذلك كله أن تتم شرعنة مثل هذه الأعمال من خلال إقرار الفصل بين المتزوجين غير المتكافئين من الناحية القبلية فقط على أنه هو الحكم الشرعي في هذه القضية حين يعتمد بعض القضاة على شرط التكافؤ الاجتماعي من خلال الاستناد على رأي فقهي دون اعتماده من قبل المذاهب الأخرى، بل إن أكثر الآراء على الضد من هذا الشرط والنص الديني جاء مخالفا لهذه المسألة مخالفة واضحة، وكذلك الحس الإنساني المتعقل المتجاوز أزمات الرؤية القاصرة، ويزيد الطين بلة كما يقال حين تصادق محكمة التمييز على مثل هذا الحكم غير الإنساني والمخالف لأبسط بنود حقوق الإنسان التي صادقت عليها الدولة ووقعت على المواثيق الدولية التي تخص هذا الجانب.
    إن وصول مثل هذه القضية إلى هذا المستوى ما هو إلا تأكيد لشرعنة العلاقات القبلية والتمايز العنصري بين أبناء المجتمع الواحد، وهذه الشرعنة تجعل كل عمليات تجاوز أزمات الوعي عند أبناء المجتمع الذين يسعون إلى تجاوز مثل هذه المسألة أو غيرها بشيء من الوعي العلاقاتي بين الأطياف المختلفة وانصهارها في لحمة وطنية واحدة تجعلها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة التي لا تكلف إلا الاقتناع الحقيقي بها، وحينما نتكلم الآن عن تعايش طائفي بين الطوائف الإسلامية ثم نجد هذا التمايز القبلي فبأي شيء يمكن أن نقنع الآخرين بمصداقية طرحنا لهذا التعايش؟.
    إننا بحاجة إلى إعادة النظر حقيقة في هذه القضية مرة ومرة وإثارة الجدل والتساؤل العقلي والمنطقي والشرعي والإدانة الصريحة للوقوف في وجه هذا التمايز الذي لن يضر إلا بالمجتمع كونه مجتمعا يخطو الخطوات الأولى في العملية الإصلاحية، وحينما نسكت على هذا الوضع فإن أحداثاً أخرى ستتكرر، كما هي القصص التي سمعناها وقرأنا عنها.

    * كاتب سعودي
Working...