من هو الحنبلي ؟
د. سعد البريك
مع التسليم لعموم أئمة المذاهب الأربعة، مجتهدي الملّة بالرسوخ بالعلم، وإدراك مقاصد الشرع، واحترام تباين الاجتهاد فيما بينهم .. إلاّ أننا نجد أمراً غريباً في هذا الوقت الذي يتنطع بعض المتكلمين بالانفتاح والحرية، وقبول الآخر، وعدم التشدد مع المخالف، والنهي عن تصنيف الآخرين، أو التلميح إلى ما يدل على الموقف الأحادي فضلاً عن التصريح ، نرى بعضهم يُصاب بالحساسية المصحوبة بحكة الأجرب ، حينما يسمع أو يقرأ عن نقد العلمانية والليبرالية السابحة في فلكها.
هذا عجيب مضحك .. لكن الأعجب منه أن داعية الانفتاح مرهف الشعور تجاه النقد، لا يتردد أن يصم بعض المخالفين بعبارة أحادية الموقف، ضيقة النفس بالمخالف من خلال استخدام عبارة قلد غيره في جعلها عنواناً على التشدد ، وعدم التيسير .. وهذا ما لاحظته يوم كتب أحد الكتّاب مقالاً يدور على أن اجتهادات المذهب الحنبلي فيها تشدد ، حتى صار لفظ (حنبلي) يطلق على من يتشدد في أمر ما .
ومعلوم أن العقلاء (وليس غيرهم) يتفقون على أن لفظ حنبلي يُقصد به النسبة إلى إمام أهل السنَّة والجماعة أحمد بن حنبل -رحمه الله- ذلك الإمام العالم المشهود له بالديانة، والعدالة، والفقه، والحفظ، والمعرفة في صحيح الأحاديث وسقيمها، والعلم بجرح وتعديل الرواة، وحسبك بمن جمع هذه المناقب والفنون أن يكون من أبرز علماء الملة بمقاصد الشريعة في السماحة واليسر، ودفع المشقة، ورفع الحرج، ومن جهل ذلك فلا غرابة أن يجعل وصف الحنبلي عنواناً على التشدد.. حينما يضيق ذرعاً بالتمسك والعناية بالأصول.
وفي الوقت الذي يدعو فيه بعض هؤلاء الكتّاب إلى الاعتدال في الطرح وفي الأحكام على الآخرين، وإلى عدم تنقص الآخرين، ووصمهم بألفاظ تؤذيهم.. نجد من أولئك من قد سوَّغ لنفسه ولغيره- من عوام الناس - ما عابه على من خالفه !! فقد رأى أنه لا حرج ولا ضير في وصف المذهب الحنبلي بالتشدد، وغيره من المذاهب بالتساهل! بل أقر ذلك ووافق عليه، ولا يخفى أن من أطلق مثل هذه العبارة قد يشير إلى ذم صاحبها في الغالب.. وأيًّا كان الأمر، فهي في حقيقتها لا تدخل في سياق المدح والثناء، وهي إلى التنقص والذم أقرب.
وأعجب من ذلك أن ترى من يدعو إلى احترام رأي الآخرين، وعدم الحجر على أقوالهم، قد ألزم الآخرين برأيه وفهمه، فما رآه متشدداً فهو المتشدد. وما رآه متساهلاً فهو المتساهل. وإلاّ فما هو المعيار والميزان؟ فما أحسن قول القائل عن مثل هذا التناقض :
عيـرت غيــرك بالعمـــى فأفـــدته * * * بصراً وأنت محسن لعماكا
كفتيلة المصباح تحرق نفسها * * * لتضيء للأعشى وأنت كذاكا
ثم يقال بعد ذلك ما هو المقياس في التشدد والتساهل ؟
فمن عمل بما يظنه الحق والصواب من أقوال العلماء الموافقة للكتاب والسنّة، هل يُقال عنه متشدداً ؟
هذا في حين أن المنتسبين إلى هذا المذهب أو ذاك لا يرون في هذا تشدداً، ولا في ذلك تساهلاً. وإنما هذا ما استقر عندهم أنه الصواب حسب ما انتهى إليه علمهم وفهمهم .
ثم من هم الناس الذين تجري على ألسنتهم هذه العبارات؟ وهل كل ما يجري على ألسنة الناس يكون صحيحاً؟
وما أكثر الألفاظ البعيدة عن الصواب التي تجري على ألسنة الناس، فيرددها بعض الكتّاب لا يدركون معناها، حتى انساقوا وراء عبارات ومصطلحات بعض الصحف والعامة.
من حيث يشعرون أو لا يشعرون، حتى أصبح التشدد والتنطع والتطرف في نظرهم عنواناً على أفعال بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين.
ووقفة أخيرةٌ مع الكاتب ، حيث يدعو الدعاة إلى ( إرشاد الناس إلى الأيسر مما اختلف فيه العلماء ) ، مع أن إطلاق القول بهذا فيه من التساهل ما فيه . فالأيسر هو ما وافق الدليل من أقوال العلماء وإن رآه بعض الناس تشدداً.
إن الدعوة بهذا الإطلاق والتعميم ربما تفضي إلى فتح باب التبرم بأحكام الشرع تحت غطاء اختلاف العلماء.
* وقفة : روى البيهقي في (السنن الكبرى) بإسناده إلى أبي العباس بن سريج قال : سمعت إسماعيل بن إسحاق
_________________________________________________________________
القاضي يقول : دخلت على المعتضد، فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وكان قد جمع له الرخص من زلل العلماء، وما احتج
_________________________________________________________________
به كل منهم لنفسه، فقلت له: يا أمير المؤمنين: مصنف هذا الكتاب زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت:
_________________________________________________________________
الأحاديث على ما رُويت. ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة.. ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر. وما من عالم
_________________________________________________________________
إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد فأحرق ذلك الكتاب.
_________________________________________________________________
ورحم الله سليمان التيمي حيث يقول : ( لو أخذتَ برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشرُّ كله )
تعليق