لم تكن هذه القصيدة مما جادت به قريحتا الشاعران في الميدان كأغلب القصائد التي ألفنا سماعها جوار الزير، لكنها بـــــث ومناجاة بين صاحبين ، ورسالة مودة بين صديقين ، تربطهما علاقة وطيدة وصلة رحم ، رغم أن كل واحد منهما من قبيلة أخرى ، ولقد كانا كثيري الزيارة لبعضهما ، ويأنسان إلى الجلوس معـــاً ، وكعادتهما رحمهما الله حين يلتقيان يبادر أحدهما صاحبه بقصيدة ، يعلم أن الأخر ينتظرها بشوق ، وتلهف ، ولم لا والقصيدة سيبنيها إمـّا ( المكلماني ) أبو سحاب ، أوعلي ( دغســان ) فتأتي معبأة بكثير من الهم اليومي فيما يشـبه البث إلى الصاحب ، الذي يشاركه همــه وما يبثه من وجـع ، وهاهو حميد المحضري يباشر صاحبه بمشاعر فاض بها الخاطـر كما تفيـض الأنهار بعذب المـــاء فيقول :::
هنـا زماناً عـالـج أكبادي عليـجا
فيـــه شــــــراً ما علــمنــاه
واراه ما يعـْلـِِي يمين إلا على أيسار
ليش ما يعــلي علـى إيمـــات
عليـك هيـــل الله باير ياعليـكان
هنا - أخي القارئ - سوف تتمهل ، ولن تستعجل أبدا ، لأنك سوف تقرأ القصيدة مرة إثر أخرى،وستعيد القراءة وستكررها ،لا لشئ إلا لأن المعاني الجميلة و الجرس الموسيقي الذي يسري في القصيدة سيفرضان نفسيهما عليك كما فرضا نفسيهما علىّ من قبل وعلى آخرين كثيرين غيري وغيرك ، ولأن العناصر الإيقاعية الداخلية التي حظيت بها القصيدة قد أغنتها عن إيقاع الزير الذي فقدته في الميدان وباتت معظم كلماتها لا تنفك مؤتلفة عبر عنصر الإيقاع الذي ساد أرجاءها وارتكز على حروف أربعة ملأت أسماعنا بحسن إيقاعها وجميل رنينها ، فكان حرف( العين ) يشكل الإيقــاع الرئيس رغم أنه أقل من غيره تكرارا ، وذلك لما له من سلطة وقدرة كبيرة على التأثير الإيقاعي إلى جانب ( الياء وألف المد واللام ) وكان تكرار إيقاعاتها كمــا يــلي :
اليـــــــاء (16 ) مرة
ألف المد ( 15 ) مره
الـــــــلام ( 12 ) مره
العــــــين ( 9 ) مرات
ســيـّد إيقاع الشعر العربي عبر كل عصوره الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول :
أن لكل حرف من حروف الهجاء طبيعة نغمية خاصة، بفضلها يحسن بناء لفظة أو يقبح ، بصرف النظر عن مخرج صوته، فالعين والقاف على سبيل المثال "لا تدخلان في بناء إلا حسنتاه لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جرساً فإذا اجتمعا أو أحدهما في بناء حسـُن البناء لنصاعتهما
ترى هل سمع ( المحضري ) رحمه الله بهذه المقولة وبهذا التحريض الخليلي على استخدام حرف ( العــين ) ... ؟
إنه مجرد تســاؤل
وهذا ( العــلاج ) – عفواً لا أقصد الدواء - ولكني انطلق من الامتداد الجغرافي لكلمة ( عَــلـَجَ ) التي وشـّى بها الشاعر بيت الاستهلال في قصيدته الحاضرة لها معاني متعددة في كتب القواميس تتضح على النحو التالي :
العلج : الرجل من كفار العجم ، والعلج : الحمار الوحشي لغلاظته ، وكل صلب شديد علج ، والعلاج : المراس والدفاع ، واعتلج القوم : اتخذوا صراعا وقتالا ، وفي الحديث ( إن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان أي يتصارعان ) ، واعتلج الموج التطم ، واعتلج الهم في صدره وعلجه غلبه
ولأن هذا الزمان قد عالج وغالب أبي سحاب والتطم موجه العدواني وهمه في صدره وعلجه حتى أوشك على غلبه فقد كان ذلك هو السبب المباشر ليحلق مع الخيال والإبداع ويشخص ذلك الزمان ويجرده ذهنياً ويجعله كائناً حياً له مشاعر وأحاسيس فصوره لنــا قاسيا شريراً يعلك الشاعر علكا ، وجسـّمه تجسيما معنويا وصوره حسياً حتى غدا في صورة كائن حي يغلب ويعلك .
ولقد أضحى لسان حاله يقول شــاكياً :
آه يادغسان من زمن متغير أعيشه ، زمن قاسية عليّ أيامه ، زمن جارت عليّ أحداثه ، وتوالت بشرورها التي لم أعهـــدها من قبل ، أمرضت ( أكبادي ) وهاجمتها بعنف وقسوة وليتها اكتفــت بما فعلته بأكبادي لكن تلك الشرور استوطنت في كل أروقة حياتي ، واختبأت في كل أوقاتي ، وداهمتني في كل ساحاتي، وقد فاقت تلك الشرور كل ما عرفته وجربته فيما مضى من حياتي وتغلبت على كل خبراتي وعندما أحاول تلافي شر ذلك الزمان يجئني بأسلوب أخر ويقبل عليّ من طريق مختلف وكم تمنيت منه - على الأقل - أن يُقبـِل عليَ بأسلوب واحد واتجاه واحد وبدون مراوغة ولكن هيهات ذلك .
من هنا لجأ الشاعر إلى الدعــاء على هذا الماكر
فقال :
عليك هيل الله باير ياعليكان
وكلمة (عليكان ) التي وردت في أخر القصيدة تعنى :
تردد الشيء وتكاثفه ، تقول : ما زلت أعكه بالقول حتى غضب ، أي أردد عليه الكلام ومنه عكته الحمى ، و لليوم الحار يوم عك و عكيك يريد شدة احتدامه وتكاثفه ، وعلكت الدابة اللجام تعلكه علكا لاكته وحركته في فيها قال النابغة الذبياني :
خيل صيام وخيل غير صائمة = تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فلماذا اختار أبو سحاب هذه الكلمة ( ياعليكان ) ذات المعنى العميق المتردد والمتعدد والمتنوع لتوصيف حاله .؟ ،
نعم فأبي سحاب كالخيول التي تعلك اللجما
وأبي سحاب في حاله هنا كمن عكـّته الحمى
ومازال ذلك الزمن يعكه بالقول حتى أعياه
وقد ورّى في قصيدته ورمز وتشكى وأشتكى وقرب المعاني البعيدة وأبعد المعاني القريبة فجاء رد علي دغسان رحمه الله يحمل علامتي استفهام كبيرتان مسبوقتان بحسابات وأمنيات
اليـــــــاء (16 ) مرة
ألف المد ( 15 ) مره
الـــــــلام ( 12 ) مره
العــــــين ( 9 ) مرات
ســيـّد إيقاع الشعر العربي عبر كل عصوره الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول :
أن لكل حرف من حروف الهجاء طبيعة نغمية خاصة، بفضلها يحسن بناء لفظة أو يقبح ، بصرف النظر عن مخرج صوته، فالعين والقاف على سبيل المثال "لا تدخلان في بناء إلا حسنتاه لأنهما أطلق الحروف وأضخمها جرساً فإذا اجتمعا أو أحدهما في بناء حسـُن البناء لنصاعتهما
ترى هل سمع ( المحضري ) رحمه الله بهذه المقولة وبهذا التحريض الخليلي على استخدام حرف ( العــين ) ... ؟
إنه مجرد تســاؤل
وهذا ( العــلاج ) – عفواً لا أقصد الدواء - ولكني انطلق من الامتداد الجغرافي لكلمة ( عَــلـَجَ ) التي وشـّى بها الشاعر بيت الاستهلال في قصيدته الحاضرة لها معاني متعددة في كتب القواميس تتضح على النحو التالي :
العلج : الرجل من كفار العجم ، والعلج : الحمار الوحشي لغلاظته ، وكل صلب شديد علج ، والعلاج : المراس والدفاع ، واعتلج القوم : اتخذوا صراعا وقتالا ، وفي الحديث ( إن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان أي يتصارعان ) ، واعتلج الموج التطم ، واعتلج الهم في صدره وعلجه غلبه
ولأن هذا الزمان قد عالج وغالب أبي سحاب والتطم موجه العدواني وهمه في صدره وعلجه حتى أوشك على غلبه فقد كان ذلك هو السبب المباشر ليحلق مع الخيال والإبداع ويشخص ذلك الزمان ويجرده ذهنياً ويجعله كائناً حياً له مشاعر وأحاسيس فصوره لنــا قاسيا شريراً يعلك الشاعر علكا ، وجسـّمه تجسيما معنويا وصوره حسياً حتى غدا في صورة كائن حي يغلب ويعلك .
ولقد أضحى لسان حاله يقول شــاكياً :
آه يادغسان من زمن متغير أعيشه ، زمن قاسية عليّ أيامه ، زمن جارت عليّ أحداثه ، وتوالت بشرورها التي لم أعهـــدها من قبل ، أمرضت ( أكبادي ) وهاجمتها بعنف وقسوة وليتها اكتفــت بما فعلته بأكبادي لكن تلك الشرور استوطنت في كل أروقة حياتي ، واختبأت في كل أوقاتي ، وداهمتني في كل ساحاتي، وقد فاقت تلك الشرور كل ما عرفته وجربته فيما مضى من حياتي وتغلبت على كل خبراتي وعندما أحاول تلافي شر ذلك الزمان يجئني بأسلوب أخر ويقبل عليّ من طريق مختلف وكم تمنيت منه - على الأقل - أن يُقبـِل عليَ بأسلوب واحد واتجاه واحد وبدون مراوغة ولكن هيهات ذلك .
من هنا لجأ الشاعر إلى الدعــاء على هذا الماكر
فقال :
عليك هيل الله باير ياعليكان
وكلمة (عليكان ) التي وردت في أخر القصيدة تعنى :
تردد الشيء وتكاثفه ، تقول : ما زلت أعكه بالقول حتى غضب ، أي أردد عليه الكلام ومنه عكته الحمى ، و لليوم الحار يوم عك و عكيك يريد شدة احتدامه وتكاثفه ، وعلكت الدابة اللجام تعلكه علكا لاكته وحركته في فيها قال النابغة الذبياني :
خيل صيام وخيل غير صائمة = تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فلماذا اختار أبو سحاب هذه الكلمة ( ياعليكان ) ذات المعنى العميق المتردد والمتعدد والمتنوع لتوصيف حاله .؟ ،
نعم فأبي سحاب كالخيول التي تعلك اللجما
وأبي سحاب في حاله هنا كمن عكـّته الحمى
ومازال ذلك الزمن يعكه بالقول حتى أعياه
وقد ورّى في قصيدته ورمز وتشكى وأشتكى وقرب المعاني البعيدة وأبعد المعاني القريبة فجاء رد علي دغسان رحمه الله يحمل علامتي استفهام كبيرتان مسبوقتان بحسابات وأمنيات
أحسبت بو سحاب لا قالوا علي جا
بيقول أعطوا على أمناه
لجل أنه ما يخبر في الباطل على سار
وتحزن لا قالوا علي مات
وإلا من الصحبة تقل لي يا علي كان
إن إدراك دلالات الألفاظ من خلال أصواتها وأجراسها أمر شائع عند العرب ، وقد أورد السيوطي في المزهر تحت عنوان " المناسبة بين اللفظ ومدلوله " أن هناك من العرب من كان يدرك تلك المناسبة، فقد سئل أحدهم ـ على سبيل المثال ـ عن معنى ( أذغاغ ) قال أجد فيه يبساً شديداً وأراه الحجر وما زاد حميد المحضري وعلي دغسان – رحمهما الله – عن ذلك شيئاً عندما استخدما في قصيدتيهما - البدع والرد – كلمة ( عــلي ) بشتى تصاريفها وبتنوع إيقاعها عندما وظفا جمال جرسها توظيفا موسيقيا رائعا جاء كما يلي .
في البدع تكررت الكلمة تسع مرات
عالج
عليجا
علمنــاه
يعـْلـِِي
على
يعــلي على
عليك
ياعليكان
ــــــــــــــــــــ
وفي الرد تكررت خمس مرات
علي جا
على أمناه
على سار
علي مات
يا علي كان
ولما كان لكل كلمة بعد إيحائي إبلاغي يدل على معنى بذاته، فإن كلمة ( علـي ) قد جاءت في كل مرة معــبرة عن صورة ذهنية سمعية مختلفة وغير مكررة المعنى وكانت بإيقاعها الموسيقي قادرة على إثارة الانفعال المناسب في نفس المتلقي ليدرك معنى الكلمة من خلال سماع جرسها وإيقاعها الداخلي من دون أن يكون له علم مسبق به ، أي يمكننا معرفة معاني الألفاظ أو الكلمات من خلال موسيقاها وهو ما يدعى عند البلاغيين بالموهبة الموسيقية للألفاظ ([1]). كالحفيف لصوت الأغصان عندما يلامسها الهواء والخرير لصوت الماء عندما ينساب في الجداول بين الصخور وما إلى ذلك.
وقد بلغ الإنسان العربي قمة السيطرة على جهاز النطق بإبداع صوت العين في أول الحلق من الداخل،
وذلك عندما أضفى على ذلك الملحظ الصوتي موسيقاه الخاصة ، فعاد القول بصوتيتها من جملة أسرارها الجمالية ، والتأكيد على تناغمها الإيقاعي من أبرز ملامحها الفنية
ولما كان الشعراء الرمز يون يقررون : أن الكلمة هي صوت الوجدان ، لها سحرها ودفؤها وعبقها، جهرها وهمسها، شدتها ولينها، تفخيمها وترقيقها. وأنها مظهر من مظاهر الانفعال النفسي فلا غرابة أن تواجدت الكلمة المشار إليها في كل أبيات القصيدة في البدع والرد ولكن بتفوق تكراري واضح في البدع( 9 )إلى ( 5 ) تكرارات في الرد ولعل مرد ذلك إلى أن علي دغسان - رحمه الله - قد شغله الخوف من القطيعة وعدم تعوده التحدث عن نفسه قد تسببا في الفرق الكبير بين التكرارين
ولا غرو، فالشعراء هم الذين (موسقوا) الكلمة العربية بإنشادها في أهازيجهم وقصائدهم، فشحنوا أحرفها بشتى الأحاسيس والانفعالات وما تكرار كلمة علي إلا لأنها كانت عنصر الارتكاز الرئيس لموسيقى القصيدة كلها في بدعها وردها والتي لها ذات صفة التركيب فغدت هي المتحققة باختيار نوعية الحروف في الكلمة بمهارة ودراية وفن عظيم
ولما كان النطق بصوت العين هو أعسر ما يكون النطق به من أصوات الحروف العربية جميعاً فقد لفظ العربي صوت العين بهمس وخفوت ، يقول الدكتور إبراهيم أنيس بمعرض تحليل صوت العين: إنه (من حيث انعدام حفيفه، أقرب من الميم والنون واللام، ومن حروف اللين: "الألف والواو والياء". (الأصوات اللغوية ص88).
ويقول الدكتور حسن عباس ( وأنا لو أخذت بهذا النهج في تحليل صوت العين لكان بإمكاني أن أزيد على ذلك: إن هذا الصوت من حيث صفاؤه ونقاؤه يمت بقرابة مماثلة إلى حرف الصاد، ومن حيث فخامته فهو غير بعيد في قرابته عن حرف الضاد. أما من حيث توتره الصوتي، فهو ألصق طبيعة بحرف الزاي شدة وفعالية.
ومما سلف يبدو صوت العين وكأنه مزيج من خصائص أصوات هذه الحروف كلها. من متانة اللام وتماسكه، وصفاء الصاد وصقله، ونقاء النون وأناقته، ومن فخامة الضاد، وفعالية الزاي، ومرونة الألف والواو والياء ) .
والصوت الغنائي ذا الطابع العيني، سيان كان صاحبه رجلاً أم امرأة، ظل على مر الزمن أصلح الأصوات قاطبة للتعبير عن مختلف المشاعر الإنسانية، من حب وحنين وخشوع ونخوة وسمو وعزة نفس، بحرارة وصدق أصوات الحروف المختصة أصلاً بهذه المشاعر. وذلك لما يتمتع به هذا الصوت الذهبي المرنان، من مرونة وعذوبة وصفاء ونقاء وفخامة
الحرف العربي والشخصية العربية ص256).
افنستغرب بعد ذلك كله سيطرة حرف العين موسيقياً وعاطفياً وبيانياً على الرد والبدع لدى المكلماني وصاحبه دغسان .
نعم إنهما شــاعران تعودا الإبداع دوماً وتعودا التفنن في معظم قصائدهما وتعودا على روعة الإيقاع وعلى السمو والإبداع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1 ـ إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي لمحمد العبد، مصر، دار المعارف ط 1، 1988.
2 ـ الإبلاغية في البلاغة العربية لسمير أبو حمدان، بيروت، باريس، منشورات عويدات الدولية ط 1، 1991.
في البدع تكررت الكلمة تسع مرات
عالج
عليجا
علمنــاه
يعـْلـِِي
على
يعــلي على
عليك
ياعليكان
ــــــــــــــــــــ
وفي الرد تكررت خمس مرات
علي جا
على أمناه
على سار
علي مات
يا علي كان
ولما كان لكل كلمة بعد إيحائي إبلاغي يدل على معنى بذاته، فإن كلمة ( علـي ) قد جاءت في كل مرة معــبرة عن صورة ذهنية سمعية مختلفة وغير مكررة المعنى وكانت بإيقاعها الموسيقي قادرة على إثارة الانفعال المناسب في نفس المتلقي ليدرك معنى الكلمة من خلال سماع جرسها وإيقاعها الداخلي من دون أن يكون له علم مسبق به ، أي يمكننا معرفة معاني الألفاظ أو الكلمات من خلال موسيقاها وهو ما يدعى عند البلاغيين بالموهبة الموسيقية للألفاظ ([1]). كالحفيف لصوت الأغصان عندما يلامسها الهواء والخرير لصوت الماء عندما ينساب في الجداول بين الصخور وما إلى ذلك.
وقد بلغ الإنسان العربي قمة السيطرة على جهاز النطق بإبداع صوت العين في أول الحلق من الداخل،
وذلك عندما أضفى على ذلك الملحظ الصوتي موسيقاه الخاصة ، فعاد القول بصوتيتها من جملة أسرارها الجمالية ، والتأكيد على تناغمها الإيقاعي من أبرز ملامحها الفنية
ولما كان الشعراء الرمز يون يقررون : أن الكلمة هي صوت الوجدان ، لها سحرها ودفؤها وعبقها، جهرها وهمسها، شدتها ولينها، تفخيمها وترقيقها. وأنها مظهر من مظاهر الانفعال النفسي فلا غرابة أن تواجدت الكلمة المشار إليها في كل أبيات القصيدة في البدع والرد ولكن بتفوق تكراري واضح في البدع( 9 )إلى ( 5 ) تكرارات في الرد ولعل مرد ذلك إلى أن علي دغسان - رحمه الله - قد شغله الخوف من القطيعة وعدم تعوده التحدث عن نفسه قد تسببا في الفرق الكبير بين التكرارين
ولا غرو، فالشعراء هم الذين (موسقوا) الكلمة العربية بإنشادها في أهازيجهم وقصائدهم، فشحنوا أحرفها بشتى الأحاسيس والانفعالات وما تكرار كلمة علي إلا لأنها كانت عنصر الارتكاز الرئيس لموسيقى القصيدة كلها في بدعها وردها والتي لها ذات صفة التركيب فغدت هي المتحققة باختيار نوعية الحروف في الكلمة بمهارة ودراية وفن عظيم
ولما كان النطق بصوت العين هو أعسر ما يكون النطق به من أصوات الحروف العربية جميعاً فقد لفظ العربي صوت العين بهمس وخفوت ، يقول الدكتور إبراهيم أنيس بمعرض تحليل صوت العين: إنه (من حيث انعدام حفيفه، أقرب من الميم والنون واللام، ومن حروف اللين: "الألف والواو والياء". (الأصوات اللغوية ص88).
ويقول الدكتور حسن عباس ( وأنا لو أخذت بهذا النهج في تحليل صوت العين لكان بإمكاني أن أزيد على ذلك: إن هذا الصوت من حيث صفاؤه ونقاؤه يمت بقرابة مماثلة إلى حرف الصاد، ومن حيث فخامته فهو غير بعيد في قرابته عن حرف الضاد. أما من حيث توتره الصوتي، فهو ألصق طبيعة بحرف الزاي شدة وفعالية.
ومما سلف يبدو صوت العين وكأنه مزيج من خصائص أصوات هذه الحروف كلها. من متانة اللام وتماسكه، وصفاء الصاد وصقله، ونقاء النون وأناقته، ومن فخامة الضاد، وفعالية الزاي، ومرونة الألف والواو والياء ) .
والصوت الغنائي ذا الطابع العيني، سيان كان صاحبه رجلاً أم امرأة، ظل على مر الزمن أصلح الأصوات قاطبة للتعبير عن مختلف المشاعر الإنسانية، من حب وحنين وخشوع ونخوة وسمو وعزة نفس، بحرارة وصدق أصوات الحروف المختصة أصلاً بهذه المشاعر. وذلك لما يتمتع به هذا الصوت الذهبي المرنان، من مرونة وعذوبة وصفاء ونقاء وفخامة
الحرف العربي والشخصية العربية ص256).
افنستغرب بعد ذلك كله سيطرة حرف العين موسيقياً وعاطفياً وبيانياً على الرد والبدع لدى المكلماني وصاحبه دغسان .
نعم إنهما شــاعران تعودا الإبداع دوماً وتعودا التفنن في معظم قصائدهما وتعودا على روعة الإيقاع وعلى السمو والإبداع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
1 ـ إبداع الدلالة في الشعر الجاهلي لمحمد العبد، مصر، دار المعارف ط 1، 1988.
2 ـ الإبلاغية في البلاغة العربية لسمير أبو حمدان، بيروت، باريس، منشورات عويدات الدولية ط 1، 1991.
تعليق