في وادي الصفصاف
د. عبدالرزاق بن حمود الزهراني
فتحت عيني على الحياة، ونشأت وترعرعت في قرية (القسمة) إحدى قرى محافظة الأطاولة، في زهران بمنطقة الباحة، وكانت الحياة بسيطة وقاسية، وآمال الناس وأحلامهم متواضعة، كانت الأجسام تتعب، ولكن الأنفس كانت مرتاحة ومطمئنة، كان الجميع يعمل بانتظام من بعد صلاة الفجر، إلى غروب الشمس، وخاصة في مواسم الزراعة، والسقاية والحصاد، كنا نستمتع بمنظر الفلاحين وهم يغادرون منازلهم كل صباح ذاهبين إلى الحقول، كانت أصوات الرعاة وزقزقة الطيور، ونواح الأبقار وثغاء الأغنام، ونباح الكلاب ونهيق الحمير تختلط ببعضها مشكلة معزوفة طبيعية فريدة، وكان المنظر نفسه يتكرر في المساء عند عودة الفلاحين من الحقول بدوابهم، وبأحمالهم المختلفة من علف، وحطب، وأدوات زراعية، وبعض الثمار والفواكه، كانت الساعة البيولوجية عند الجميع تعمل بانتظام، فالجميع يتناول العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة والجميع يخلد إلى النوم والراحة بعد صلاة العشاء مباشرة، ونادراً ما كانوا يسهرون إلى الساعة الثالثة غروبي، أي الساعة التاسعة بتوقيت اليوم الزوالي، وكان ذلك يتم في العزائم والولائم والمناسبات، وكان كل شعب وواد له اسمه الخاص، وله ذكرياته وخصائصه حتى القطع الزراعية وبعض الأشجار لها مسمياتها وذكرياتها الخاصة، ولكن وادي الصفصاف كان ذا نكهة خاصة، فطوله لا يزيد على اثنين كيلو متر، وفي نهايته من أعلاه يبدأ وادي الريعة، وفي نهايته من أسلفه يبدأ وادي محوية، إنه واد واحد، ولكن في كل جزء منه له اسم خاص وتتفرع من وادي الصفصاف شعاب كثيرة، وعلى جانبيه مراع جيدة للدواب، تتنوع فيها الاشجار والنباتات والحشائش وكان فيه جزآن طبيعيان لم تمتد لهما يد الإنسان، وكانت المياه تنساب فيهما برقة ولطف، منحدرة على الصخور الملساء، مارة بمناطق النباتات والأشجار المعمرة مثل الطلح، والحماط، وتكثر فيها الغدران المائية، وتتشابك الشجيرات، ويكثر فيه نبات الحبق ذو الرائحة الزكية والنفاثة ونبات السذاب والحلفاء.
وكان الرعاة يأتون بأغنامهم إلى تلك الغدران ليسقوها، وكان أشهر غدير في الوادي يسمى (أبو الكباشة) والبعض يسميه (أم الكباشة) والكباشة جمع كبش، وسمي بذلك لأن أصحاب الأغنام كانوا يغسلونها مرة كل عام في هذا الغدير، قبل أن يقوموا بجز أصوافها لتتحول بواسطة بعض السيدات إلى خيوط رفيعة ينسج منها بعض الملابس والأغطية الثقيلة، وكان الصغار يعجبون من معرفة الأغنام للسباحة ويتمنون تقليدها، وكان الكبار الذين يريدون تعليم أبنائهم السباحة يلقون بهم في الغدير مع أحد الأغنام ويقومون بمراقبتهم، في البداية يتردد الصغير، وتبدو عليه علامات الخوف والتوتر، ولكنه يتشبث بيديه في صوف الضأن من جهة الذيل، ويحرك رجليه، وبعد عدة محاولات يصاحبها متعة وفرح، يبدأ بتعلم مهارة السباحة، وكان طلاب المدرسة يذهبون من وقت لآخر لهذا الغدير ليسبحوا، ويستمتعوا بالوقت، وكانوا يقفزون من مكان يظنون أنه مرتفع جداً، وهو في الحقيقة لا يزيد على مترين ونصف المتر، ولكن يبدو أن المقاييس قد تغيرت فكم من بيت كان يضرب به المثل في السعة عندما نشاهده اليوم نراه صغيراً ومتواضعا لأننا نستخدم مقاييس مختلفة وإطارنا المرجعي في هذا الشأن مختلف عن الإطار المرجعي القديم.
كنا لا نفهم معنى كلمة الصفصاف ولم يشرحها أحد لنا، وكان بعضنا يظن أنها مأخوذة من الصفاء، لصفاء مياهه، وهذا يذكرني بذلك الشاب الذي وصل إلى الجامعة وهو يظن أن كلمة (أخرجاه) في حديث (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) ويأتي بعد كلمة (أخرجاه) في نهاية الحديث عبارة: أي البخاري ومسلم، كان صاحبنا يظن أن البخاري ومسلم هما اللذان يخرجان الضب من الجحر.. أو ذلك الذي كان يظن في حديث (إنما الأعمال بالنيات) أن لون الأعمال هو اللون البني، لأن النية معنى مجرد لا يدركه الصغير، ولكنه يدرك اللون البني، فربطه به.. وصلنا إلى الجامعة ونحن لا نعرف معنى كلمة صفصاف، وهناك علمنا أنها من النبات، فعدت إلى كبار السن وسألتهم أين يوجد هذا النبات الذي سمي الوادي باسمه، والذي لابد أنه كان منتشراً فيه، ولكنه انقرض مثلما انقرض الديناصور، أراني أحد كبار السن نبتة في مكان بعيد عن وادي الصفصاف، وقال هذا هو نبات الصفصاف، كانت نبتة قصيرة، تتفرع من جذع كبير مقطوع، ويبدو أنها معمرة، ولكنها الوحيدة التي كانت في المكان، كانت تشكو من الوحدة والوحشة والغربة. ذهبت إلى وادي الصفصاف لعلي اجد لها شبيهاً فلم أفلح، فعلمت أن احتطاباً جائراً تم في حقبة من الحقب قضى على النبات وربما ساهم الرعي الجائر في حصول تلك المأساة البيئية، إن نبات الصفصاف قد رحل من الوادي، ولم يترك لنا إلا اسمه، فهل يمكننا إعادة توطينه في المكان نفسه؟ إنني أعتقد أنها مهمة ليست بالصعبة، وأنها تقع على كاهل وزارة الزراعة، وعلى الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها، وعلى السكان في القرى المجاورة الثلاث: الريعة، والقسمة، ومحوية. وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه الوادي وادياً للصفصاف فعلاً. والله الموفق.
د. عبدالرزاق بن حمود الزهراني
فتحت عيني على الحياة، ونشأت وترعرعت في قرية (القسمة) إحدى قرى محافظة الأطاولة، في زهران بمنطقة الباحة، وكانت الحياة بسيطة وقاسية، وآمال الناس وأحلامهم متواضعة، كانت الأجسام تتعب، ولكن الأنفس كانت مرتاحة ومطمئنة، كان الجميع يعمل بانتظام من بعد صلاة الفجر، إلى غروب الشمس، وخاصة في مواسم الزراعة، والسقاية والحصاد، كنا نستمتع بمنظر الفلاحين وهم يغادرون منازلهم كل صباح ذاهبين إلى الحقول، كانت أصوات الرعاة وزقزقة الطيور، ونواح الأبقار وثغاء الأغنام، ونباح الكلاب ونهيق الحمير تختلط ببعضها مشكلة معزوفة طبيعية فريدة، وكان المنظر نفسه يتكرر في المساء عند عودة الفلاحين من الحقول بدوابهم، وبأحمالهم المختلفة من علف، وحطب، وأدوات زراعية، وبعض الثمار والفواكه، كانت الساعة البيولوجية عند الجميع تعمل بانتظام، فالجميع يتناول العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة والجميع يخلد إلى النوم والراحة بعد صلاة العشاء مباشرة، ونادراً ما كانوا يسهرون إلى الساعة الثالثة غروبي، أي الساعة التاسعة بتوقيت اليوم الزوالي، وكان ذلك يتم في العزائم والولائم والمناسبات، وكان كل شعب وواد له اسمه الخاص، وله ذكرياته وخصائصه حتى القطع الزراعية وبعض الأشجار لها مسمياتها وذكرياتها الخاصة، ولكن وادي الصفصاف كان ذا نكهة خاصة، فطوله لا يزيد على اثنين كيلو متر، وفي نهايته من أعلاه يبدأ وادي الريعة، وفي نهايته من أسلفه يبدأ وادي محوية، إنه واد واحد، ولكن في كل جزء منه له اسم خاص وتتفرع من وادي الصفصاف شعاب كثيرة، وعلى جانبيه مراع جيدة للدواب، تتنوع فيها الاشجار والنباتات والحشائش وكان فيه جزآن طبيعيان لم تمتد لهما يد الإنسان، وكانت المياه تنساب فيهما برقة ولطف، منحدرة على الصخور الملساء، مارة بمناطق النباتات والأشجار المعمرة مثل الطلح، والحماط، وتكثر فيها الغدران المائية، وتتشابك الشجيرات، ويكثر فيه نبات الحبق ذو الرائحة الزكية والنفاثة ونبات السذاب والحلفاء.
وكان الرعاة يأتون بأغنامهم إلى تلك الغدران ليسقوها، وكان أشهر غدير في الوادي يسمى (أبو الكباشة) والبعض يسميه (أم الكباشة) والكباشة جمع كبش، وسمي بذلك لأن أصحاب الأغنام كانوا يغسلونها مرة كل عام في هذا الغدير، قبل أن يقوموا بجز أصوافها لتتحول بواسطة بعض السيدات إلى خيوط رفيعة ينسج منها بعض الملابس والأغطية الثقيلة، وكان الصغار يعجبون من معرفة الأغنام للسباحة ويتمنون تقليدها، وكان الكبار الذين يريدون تعليم أبنائهم السباحة يلقون بهم في الغدير مع أحد الأغنام ويقومون بمراقبتهم، في البداية يتردد الصغير، وتبدو عليه علامات الخوف والتوتر، ولكنه يتشبث بيديه في صوف الضأن من جهة الذيل، ويحرك رجليه، وبعد عدة محاولات يصاحبها متعة وفرح، يبدأ بتعلم مهارة السباحة، وكان طلاب المدرسة يذهبون من وقت لآخر لهذا الغدير ليسبحوا، ويستمتعوا بالوقت، وكانوا يقفزون من مكان يظنون أنه مرتفع جداً، وهو في الحقيقة لا يزيد على مترين ونصف المتر، ولكن يبدو أن المقاييس قد تغيرت فكم من بيت كان يضرب به المثل في السعة عندما نشاهده اليوم نراه صغيراً ومتواضعا لأننا نستخدم مقاييس مختلفة وإطارنا المرجعي في هذا الشأن مختلف عن الإطار المرجعي القديم.
كنا لا نفهم معنى كلمة الصفصاف ولم يشرحها أحد لنا، وكان بعضنا يظن أنها مأخوذة من الصفاء، لصفاء مياهه، وهذا يذكرني بذلك الشاب الذي وصل إلى الجامعة وهو يظن أن كلمة (أخرجاه) في حديث (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) ويأتي بعد كلمة (أخرجاه) في نهاية الحديث عبارة: أي البخاري ومسلم، كان صاحبنا يظن أن البخاري ومسلم هما اللذان يخرجان الضب من الجحر.. أو ذلك الذي كان يظن في حديث (إنما الأعمال بالنيات) أن لون الأعمال هو اللون البني، لأن النية معنى مجرد لا يدركه الصغير، ولكنه يدرك اللون البني، فربطه به.. وصلنا إلى الجامعة ونحن لا نعرف معنى كلمة صفصاف، وهناك علمنا أنها من النبات، فعدت إلى كبار السن وسألتهم أين يوجد هذا النبات الذي سمي الوادي باسمه، والذي لابد أنه كان منتشراً فيه، ولكنه انقرض مثلما انقرض الديناصور، أراني أحد كبار السن نبتة في مكان بعيد عن وادي الصفصاف، وقال هذا هو نبات الصفصاف، كانت نبتة قصيرة، تتفرع من جذع كبير مقطوع، ويبدو أنها معمرة، ولكنها الوحيدة التي كانت في المكان، كانت تشكو من الوحدة والوحشة والغربة. ذهبت إلى وادي الصفصاف لعلي اجد لها شبيهاً فلم أفلح، فعلمت أن احتطاباً جائراً تم في حقبة من الحقب قضى على النبات وربما ساهم الرعي الجائر في حصول تلك المأساة البيئية، إن نبات الصفصاف قد رحل من الوادي، ولم يترك لنا إلا اسمه، فهل يمكننا إعادة توطينه في المكان نفسه؟ إنني أعتقد أنها مهمة ليست بالصعبة، وأنها تقع على كاهل وزارة الزراعة، وعلى الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها، وعلى السكان في القرى المجاورة الثلاث: الريعة، والقسمة، ومحوية. وأتمنى أن يأتي اليوم الذي يصبح فيه الوادي وادياً للصفصاف فعلاً. والله الموفق.
تعليق