الرحلة إلى الباحة رحلتان
*د. صالح معيض الغامدي:
شاركت في الندوة العلمية التي أقامتها كلية الآداب بجامعة الملك سعود عام 1424هـ عن الشيخ حمد الجاسر وجهوده العلمية ببحث عن كتابه (في سراة غامد وزهران)، انتهيت فيه إلى أن هذا الكتاب لم يكن مجرد رحلة واحدة حقيقية قام بها الجاسر إلى المنطقة، بل كان في الواقع رحلتين؛ إحداهما واقعية معاصرة، والأخرى تاريخية ماضية، ولم يكن يدور بخلدي آنذاك أننا في قسم اللغة العربية بهذه الكلية سوف نقوم بهاتين الرحلتين معا.
فقد تلقى القسم دعوة كريمة من بعض المؤسسات الحكومية والأهلية في منطقة الباحة فلباها، وقد كان القسم استن سنة حميدة وهي أن يزور في كل عام منطقة من مناطق مملكتنا الغالية. ولن أتحدث هنا عن جوانب الرحلة كلها ولا عن كرم أهل المنطقة وحسن استقبالهم فشاهدتي ربما تكون مجروحة كوني من هذه المنطقة، بل سأتحدث هنا عن الجوانب الثقافية والعلمية لهذه الرحلة لكونها مناسبة لاهتمامات قراء المجلة الثقافية.
وسأتحدث عن هذه الرحلة بصفتها رحلتين إحداهما تاريخية والأخرى واقعية أو معاصرة. سأبدأ بوصف الرحلة الثقافية المعاصرة التي بدأت معالمها تتكشف عندما وجدنا في استقبالنا في مطار الباحة عددا كبيرا من الوجوه الثقافية البارزة في المنطقة التي كانت تفتر عن ابتسامات حب وترحيب.
وأخذت السيارات التي أقلتنا تنحر جبال السروات نحرا إلى أن أحلتنا فندق قصر الباحة الذي كان متدثرا بدثار من ضباب كثيف.
فارتاح الزملاء قليلا ثم انتقلنا بعد ذلك إلى الأمسية الثقافية التي أقامها نادي الباحة الأدبي بعنوان (اللغة وقضايا الآخر) التي أدارها نائب رئيس النادي د. سعيد أبو عالي وقدمها كل من: د. فالح العجمي رئيس القسم، ود. محيي الدين محسب، ود. معجب الزهراني، وأثراها الحضور من مثقفي المنطقة وزوارها.
لكن ما أضفى على الندوة جدية واضحة وجوا مفعما بحرارة الكرم ودفء الترحيب هو حضور صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سعود أمير المنطقة هذه الندوة للترحيب بنا ومشاركتنا همومنا الثقافية. ولقد كان من مظاهر الرحلة الثقافية المعاصرة تمكننا من الالتقاء بأبرز الوجوه القافية في هذه المنطقة، والمشاركة في افتتاح ما يمكن عده أول منتدى ثقافي خاص في الباحة وهو (ثلوثية) الدكتور علي الرباعي. ومن المظاهر الثقافية الأخرى التي استمتعنا بها الأمسية الفلكلورية الفنية التي نظمها فرع جمعية الثقافة والفنون بالباحة في مدينة الملك سعود الرياضية التي أخرجتنا قليلا من الضباب الذي كان يلف مدينة الباحة آنذاك. فقد قدمت خلالها مجموعة من الرقصات الشعبية شارك فيها عدد من زملائي أعضاء القسم.
وكان للشعر الفصيح والشعبي في هذه الأمسية حضورهما، إذ ألقى الشاعر صالح الهنيدي قصيدة رائعة أطربت الحضور، ثم ألقى زميلنا الشاعر د. محمد الشخص قصيدة جميلة نظمها من وحي زيارته للمنطقة، بدأها بقوله :
قف حي (باحة) نبع الجود والكرم
وصغ لها حلية من جوهر الكلم
ثم أعقب ذلك مجلس جميل لعدد من شعراء المنطقة الشعبيين الذين ترنموا فيه بألحانهم المطربة التي جاءت ممثلة لكافة فنون المنطقة السروية والتهامية والبدوية. ومن المظاهر الثقافية لهذه الرحلة أيضا الاستقبال الفلكلوري الحافل الذي استقبل به الوفد في كلية المعلمين بالباحة وما أعقبه من نقاش علمي وثقافي حول سبل التعاون بين القسم والكلية.
وكذلك الأمسية الثقافية الرائعة التي أقامها د. سعيد أبو عالي احتفاء بالقسم في منزله العامر في أعالي جبال بني ظبيان التي كانت كعادتها تعانق السحاب.
فقد تبارى في مجلس د. أبو عالي بعض شعراء المنطقة من أمثال الشاعر حسن الزهراني والشاعر أحمد حامد وكل منهم يروم سلب عقولنا بقصائده الجميلة، كما عج المجلس بمناقشة كثير من القضايا التي تهم الشأن الثقافي في بلادنا الحبيبة.
ومن المظاهر الثقافية لهذه الرحلة اطلاع الزملاء على كثير من المواقع الجغرافية والعادات والتقاليد والهموم الإنسانية التي يصورها بعض أدباء المنطقة في إبداعاتهم مثل عبدالعزيز مشري ود. عبدالرحمن العشماوي.
فقد رأى الزملاء نماذج من القرية والشخصيات القروية التي استحوذت على كثير من اهتمام نصوص المشري الإبداعية، كما وقفوا على (بائعة الريحان) التي صورها العشماوي في شعره وكانت مصدر إلهام لكثير من قصائده، ليس هذا فقط بل ابتاعوا منها في سوق الباحة الكادي والريحان هدية لزوجاتهم وأخواتهم و بناتهم.
ومن المظاهرالثقافية العلمية لهذه الرحلة الاهتمام البالغ الذي أولاه بعض الزملاء مثل الدكتور فالح والأستاذ ناصر الحجيلان لبعض المظاهر اللغوية في لهجة المنطقة وشعرها.
فلو رأيت حرص الأستاذ ناصر وهو يحاول التقاط ما يلفت انتباهه من أحاديث الناس في المنطقة وشعرهم ويطلب منهم متلطفا إعادة بعض العبارات والكلمات لما كنت تملك إلا أن تعجب به.
ومن منا لم يعجب ويستمتع بالاستماع إلى الشاعر الشعبي المرموق عبدالواحد سعود وهو يحاول الإجابة عن تساؤلاتنا عن اللغز الذي يكتنف الشكل الشعري لقصيدة العرضة الجنوبية.
أما عن وصف الرحلة التاريخية فلا أستطيع إلا أن أصف ما شعرت به وقرأته في وجوه بعض زملائي وربما كان لكل منهم وصفه الخاص لهذه الرحلة.
فلقد تتبعنا الطرق والمسالك التي كان يرتادها الشنفرى وإخوانه الصعاليك في وادي أبيدة وفي معشوقة وفي وادي سلامان الممتد إلى دوس.
فقد أوقفنا الأستاذ جمعان عبد الكريم على موقع يقال له الناصف الأعلى والأسفل يحتوي على نبع ماء يقال إنه هو المكان الذي شهد مصرع الشنفرى كما جاء في القصة المشهورة عن مقتله، وحددت لنا بعض الأسماء والمواقع التي وردت في الشعر الجاهلي وما زالت محتفظة بها إلى اليوم، ولقد رأينا بأم أعيننا الجبال الشاهقة التي كان الصعاليك يرتادونها ويشتارون منها العسل.
ومن مظاهر هذه الرحلة الثقافية التاريخية أننا رحلنا إلى العصر الجاهلي فرأينا في بادية بني كبير والعقيق وجبال دوس الوديان التي كان يرتادها بعض شعراء المنطقة في العصر الجاهلي من أمثال عبدالله بن سلمة الغامدي وحاجز بن عوف الزهراني، كما طفنا أرض دوس في زهران فتمثل لنا وجه أبي هريرة رضي الله عنه في بعض الوجوه الزهرانية المشرقة التي رأيناها، كما لمحنا شعب ذي الخلصة وتخيلنا الطفيل بن عمرو الدوسي وهو يدعو قومه مشفقا عليهم إلى الإسلام. ورحلنا في أعماق بادية غامد وما جاورها فرأينا في العبلاء الرحا العملاقة التي ربما كان العباسيون يستعملونها لطحن بعض المعادن.
ورأينا قريبا منها ما يسميه أهل تلك المنطقة (ومنهم سائقنا) دكاكين أبو زيد الهلالي، وهي آثار لقرية كبيرة منقرضة، كما لمحنا بعض المناجم القديمة في تلك المنطقة.
ولم يقطع استغراقنا في تاريخ هذه المنطقة إلا تحذير دليلنا العم حسين من خطورة البقاء في هذا المكان مدة أطول لأنه قد يتعذر علينا قطع بعض الأودية التي مررنا بها، لأن سيول السراة كانت تتدفق بسرعة نحونا.
ومن المظاهر الثقافية لهذه الرحلة التاريخية وقوفنا على ما يدعى طريق الفيل أو على الجزء الشرقي منه الواقع قريبا من مدينة العقيق، الذي يقال إن أبرهة الحبشي بناه أو رصفه ليسهل مرور فيله أو فيلته وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لهدم الكعبة، كما زرنا قبور الزينات وهي مجموعة من القبور المرتفعة المسقوفة والمزينة بالمرو أو المرمر.
ولكن بعضنا لم يقنعه فيما يبدو أن يكون التزيين بالمرمر سببا للتسمية، فآثر أن يأخذ بأسطورة يتناقلها أهالي المنطقة بصيغ مختلفة تقول إن الزينات هن مجموعة من النساء الجميلات اللاتي دفن في هذه القبور لأسباب يتفنن بعض الرواة في ابتكارها.
وقد أمضينا وقتا نتجادل فيه حول طبيعة الخط الذي وجدناه على بعض الشواهد الحجرية، وجاء رئيسنا د. فالح لتهدئة هذا الجدل بتقرير أن هذا الخط هو الخط المسند. ومن مظاهر الرحلة التاريخية في تهامة الباحة زيارة القرية الأثرية الجملية قرية (ذي عين) التي قرأنا فيها بعض الراويات والأساطير التي تروى حول بناء هذه القرية واستنباط الماء من العين الدائمة التدفق فيها، ثم اعتلينا جبل شدا الشامخ بعد أن فقد شيئا من تأبيه، فأصبح بعد السفلته سهل المنال بعد أن كان عصيا على كثير من صاعديه، وأشرفنا من أعلاه على قرية الخلف والخليف الأثرية وعلى عشم وغيرها من المواقع الآثارية والتاريخية الأخرى.
كما تردد على مسامعنا صوت يعلى الأحول الأزدي وهو يئن في حبسه:
أرقت لبرق دونه شدوان
يمان وأهوى البرق كل يمان
وقد رمنا الإطلالة على وادي الخيطان جنوب الباحة حيث حدبة كليب ووادي البسوس وغيرها من المواقع التي يعتقد أنها كانت مسرحا لحياة الهلاليين في إحدى مراحلهم التاريخية، ولكن كثافة الضباب وتساقط الأمطار حالا دون ذلك فاستعضنا عنه بزيارة متحف الشيخ محمد بن مصبح الجميل الذي رحلنا فيه إلى تاريخ المنطقة خلال الأربعة قرون الماضية.
فصحبنا رجال المنطقة وهو يمارسون أعمالهم الفلاحية، وشاهدنا النساء وهن ينسجن الجباب والأكسية ويدرن الرحى، ورأينا المصنوعات اليدوية الفضية والحديدية والخشبية التي تغطي جميع مناحي الحياة.
وعلى الرغم من كل جوانب المتعة والفائدة التي تحققت لمنسوبي القسم من خلال زيارة هذه المنطقة العريقة من بلادنا العزيزة، إلا أن بعضنا ربما قد تساءل عن أسباب الإهمال الواضح لبعض المواقع التاريخية والآثارية في المنطقة التي تعد كنزا ثمينا يضاف إلى الكنوز السياحية الثمينة الأخرى التي يمتلكها وطننا الغالي وتجب المحافظة عليها.
ولعل زيارة الدكتور عبدالعزيز السبيل وكيل وزراة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية لهذه المواقع معنا بصفته أحد منسوبي القسم وزيارة الزملاء الآخرين تسهم في زيادة التوعية بأهمية هذه المواقع وتدفع المسئولين والمتخصصين إلى مزيد من الاهتمام بها، وذلك بحمايتها أولاً ودراستها ثانيا.
*د. صالح معيض الغامدي:
شاركت في الندوة العلمية التي أقامتها كلية الآداب بجامعة الملك سعود عام 1424هـ عن الشيخ حمد الجاسر وجهوده العلمية ببحث عن كتابه (في سراة غامد وزهران)، انتهيت فيه إلى أن هذا الكتاب لم يكن مجرد رحلة واحدة حقيقية قام بها الجاسر إلى المنطقة، بل كان في الواقع رحلتين؛ إحداهما واقعية معاصرة، والأخرى تاريخية ماضية، ولم يكن يدور بخلدي آنذاك أننا في قسم اللغة العربية بهذه الكلية سوف نقوم بهاتين الرحلتين معا.
فقد تلقى القسم دعوة كريمة من بعض المؤسسات الحكومية والأهلية في منطقة الباحة فلباها، وقد كان القسم استن سنة حميدة وهي أن يزور في كل عام منطقة من مناطق مملكتنا الغالية. ولن أتحدث هنا عن جوانب الرحلة كلها ولا عن كرم أهل المنطقة وحسن استقبالهم فشاهدتي ربما تكون مجروحة كوني من هذه المنطقة، بل سأتحدث هنا عن الجوانب الثقافية والعلمية لهذه الرحلة لكونها مناسبة لاهتمامات قراء المجلة الثقافية.
وسأتحدث عن هذه الرحلة بصفتها رحلتين إحداهما تاريخية والأخرى واقعية أو معاصرة. سأبدأ بوصف الرحلة الثقافية المعاصرة التي بدأت معالمها تتكشف عندما وجدنا في استقبالنا في مطار الباحة عددا كبيرا من الوجوه الثقافية البارزة في المنطقة التي كانت تفتر عن ابتسامات حب وترحيب.
وأخذت السيارات التي أقلتنا تنحر جبال السروات نحرا إلى أن أحلتنا فندق قصر الباحة الذي كان متدثرا بدثار من ضباب كثيف.
فارتاح الزملاء قليلا ثم انتقلنا بعد ذلك إلى الأمسية الثقافية التي أقامها نادي الباحة الأدبي بعنوان (اللغة وقضايا الآخر) التي أدارها نائب رئيس النادي د. سعيد أبو عالي وقدمها كل من: د. فالح العجمي رئيس القسم، ود. محيي الدين محسب، ود. معجب الزهراني، وأثراها الحضور من مثقفي المنطقة وزوارها.
لكن ما أضفى على الندوة جدية واضحة وجوا مفعما بحرارة الكرم ودفء الترحيب هو حضور صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سعود أمير المنطقة هذه الندوة للترحيب بنا ومشاركتنا همومنا الثقافية. ولقد كان من مظاهر الرحلة الثقافية المعاصرة تمكننا من الالتقاء بأبرز الوجوه القافية في هذه المنطقة، والمشاركة في افتتاح ما يمكن عده أول منتدى ثقافي خاص في الباحة وهو (ثلوثية) الدكتور علي الرباعي. ومن المظاهر الثقافية الأخرى التي استمتعنا بها الأمسية الفلكلورية الفنية التي نظمها فرع جمعية الثقافة والفنون بالباحة في مدينة الملك سعود الرياضية التي أخرجتنا قليلا من الضباب الذي كان يلف مدينة الباحة آنذاك. فقد قدمت خلالها مجموعة من الرقصات الشعبية شارك فيها عدد من زملائي أعضاء القسم.
وكان للشعر الفصيح والشعبي في هذه الأمسية حضورهما، إذ ألقى الشاعر صالح الهنيدي قصيدة رائعة أطربت الحضور، ثم ألقى زميلنا الشاعر د. محمد الشخص قصيدة جميلة نظمها من وحي زيارته للمنطقة، بدأها بقوله :
قف حي (باحة) نبع الجود والكرم
وصغ لها حلية من جوهر الكلم
ثم أعقب ذلك مجلس جميل لعدد من شعراء المنطقة الشعبيين الذين ترنموا فيه بألحانهم المطربة التي جاءت ممثلة لكافة فنون المنطقة السروية والتهامية والبدوية. ومن المظاهر الثقافية لهذه الرحلة أيضا الاستقبال الفلكلوري الحافل الذي استقبل به الوفد في كلية المعلمين بالباحة وما أعقبه من نقاش علمي وثقافي حول سبل التعاون بين القسم والكلية.
وكذلك الأمسية الثقافية الرائعة التي أقامها د. سعيد أبو عالي احتفاء بالقسم في منزله العامر في أعالي جبال بني ظبيان التي كانت كعادتها تعانق السحاب.
فقد تبارى في مجلس د. أبو عالي بعض شعراء المنطقة من أمثال الشاعر حسن الزهراني والشاعر أحمد حامد وكل منهم يروم سلب عقولنا بقصائده الجميلة، كما عج المجلس بمناقشة كثير من القضايا التي تهم الشأن الثقافي في بلادنا الحبيبة.
ومن المظاهر الثقافية لهذه الرحلة اطلاع الزملاء على كثير من المواقع الجغرافية والعادات والتقاليد والهموم الإنسانية التي يصورها بعض أدباء المنطقة في إبداعاتهم مثل عبدالعزيز مشري ود. عبدالرحمن العشماوي.
فقد رأى الزملاء نماذج من القرية والشخصيات القروية التي استحوذت على كثير من اهتمام نصوص المشري الإبداعية، كما وقفوا على (بائعة الريحان) التي صورها العشماوي في شعره وكانت مصدر إلهام لكثير من قصائده، ليس هذا فقط بل ابتاعوا منها في سوق الباحة الكادي والريحان هدية لزوجاتهم وأخواتهم و بناتهم.
ومن المظاهرالثقافية العلمية لهذه الرحلة الاهتمام البالغ الذي أولاه بعض الزملاء مثل الدكتور فالح والأستاذ ناصر الحجيلان لبعض المظاهر اللغوية في لهجة المنطقة وشعرها.
فلو رأيت حرص الأستاذ ناصر وهو يحاول التقاط ما يلفت انتباهه من أحاديث الناس في المنطقة وشعرهم ويطلب منهم متلطفا إعادة بعض العبارات والكلمات لما كنت تملك إلا أن تعجب به.
ومن منا لم يعجب ويستمتع بالاستماع إلى الشاعر الشعبي المرموق عبدالواحد سعود وهو يحاول الإجابة عن تساؤلاتنا عن اللغز الذي يكتنف الشكل الشعري لقصيدة العرضة الجنوبية.
أما عن وصف الرحلة التاريخية فلا أستطيع إلا أن أصف ما شعرت به وقرأته في وجوه بعض زملائي وربما كان لكل منهم وصفه الخاص لهذه الرحلة.
فلقد تتبعنا الطرق والمسالك التي كان يرتادها الشنفرى وإخوانه الصعاليك في وادي أبيدة وفي معشوقة وفي وادي سلامان الممتد إلى دوس.
فقد أوقفنا الأستاذ جمعان عبد الكريم على موقع يقال له الناصف الأعلى والأسفل يحتوي على نبع ماء يقال إنه هو المكان الذي شهد مصرع الشنفرى كما جاء في القصة المشهورة عن مقتله، وحددت لنا بعض الأسماء والمواقع التي وردت في الشعر الجاهلي وما زالت محتفظة بها إلى اليوم، ولقد رأينا بأم أعيننا الجبال الشاهقة التي كان الصعاليك يرتادونها ويشتارون منها العسل.
ومن مظاهر هذه الرحلة الثقافية التاريخية أننا رحلنا إلى العصر الجاهلي فرأينا في بادية بني كبير والعقيق وجبال دوس الوديان التي كان يرتادها بعض شعراء المنطقة في العصر الجاهلي من أمثال عبدالله بن سلمة الغامدي وحاجز بن عوف الزهراني، كما طفنا أرض دوس في زهران فتمثل لنا وجه أبي هريرة رضي الله عنه في بعض الوجوه الزهرانية المشرقة التي رأيناها، كما لمحنا شعب ذي الخلصة وتخيلنا الطفيل بن عمرو الدوسي وهو يدعو قومه مشفقا عليهم إلى الإسلام. ورحلنا في أعماق بادية غامد وما جاورها فرأينا في العبلاء الرحا العملاقة التي ربما كان العباسيون يستعملونها لطحن بعض المعادن.
ورأينا قريبا منها ما يسميه أهل تلك المنطقة (ومنهم سائقنا) دكاكين أبو زيد الهلالي، وهي آثار لقرية كبيرة منقرضة، كما لمحنا بعض المناجم القديمة في تلك المنطقة.
ولم يقطع استغراقنا في تاريخ هذه المنطقة إلا تحذير دليلنا العم حسين من خطورة البقاء في هذا المكان مدة أطول لأنه قد يتعذر علينا قطع بعض الأودية التي مررنا بها، لأن سيول السراة كانت تتدفق بسرعة نحونا.
ومن المظاهر الثقافية لهذه الرحلة التاريخية وقوفنا على ما يدعى طريق الفيل أو على الجزء الشرقي منه الواقع قريبا من مدينة العقيق، الذي يقال إن أبرهة الحبشي بناه أو رصفه ليسهل مرور فيله أو فيلته وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لهدم الكعبة، كما زرنا قبور الزينات وهي مجموعة من القبور المرتفعة المسقوفة والمزينة بالمرو أو المرمر.
ولكن بعضنا لم يقنعه فيما يبدو أن يكون التزيين بالمرمر سببا للتسمية، فآثر أن يأخذ بأسطورة يتناقلها أهالي المنطقة بصيغ مختلفة تقول إن الزينات هن مجموعة من النساء الجميلات اللاتي دفن في هذه القبور لأسباب يتفنن بعض الرواة في ابتكارها.
وقد أمضينا وقتا نتجادل فيه حول طبيعة الخط الذي وجدناه على بعض الشواهد الحجرية، وجاء رئيسنا د. فالح لتهدئة هذا الجدل بتقرير أن هذا الخط هو الخط المسند. ومن مظاهر الرحلة التاريخية في تهامة الباحة زيارة القرية الأثرية الجملية قرية (ذي عين) التي قرأنا فيها بعض الراويات والأساطير التي تروى حول بناء هذه القرية واستنباط الماء من العين الدائمة التدفق فيها، ثم اعتلينا جبل شدا الشامخ بعد أن فقد شيئا من تأبيه، فأصبح بعد السفلته سهل المنال بعد أن كان عصيا على كثير من صاعديه، وأشرفنا من أعلاه على قرية الخلف والخليف الأثرية وعلى عشم وغيرها من المواقع الآثارية والتاريخية الأخرى.
كما تردد على مسامعنا صوت يعلى الأحول الأزدي وهو يئن في حبسه:
أرقت لبرق دونه شدوان
يمان وأهوى البرق كل يمان
وقد رمنا الإطلالة على وادي الخيطان جنوب الباحة حيث حدبة كليب ووادي البسوس وغيرها من المواقع التي يعتقد أنها كانت مسرحا لحياة الهلاليين في إحدى مراحلهم التاريخية، ولكن كثافة الضباب وتساقط الأمطار حالا دون ذلك فاستعضنا عنه بزيارة متحف الشيخ محمد بن مصبح الجميل الذي رحلنا فيه إلى تاريخ المنطقة خلال الأربعة قرون الماضية.
فصحبنا رجال المنطقة وهو يمارسون أعمالهم الفلاحية، وشاهدنا النساء وهن ينسجن الجباب والأكسية ويدرن الرحى، ورأينا المصنوعات اليدوية الفضية والحديدية والخشبية التي تغطي جميع مناحي الحياة.
وعلى الرغم من كل جوانب المتعة والفائدة التي تحققت لمنسوبي القسم من خلال زيارة هذه المنطقة العريقة من بلادنا العزيزة، إلا أن بعضنا ربما قد تساءل عن أسباب الإهمال الواضح لبعض المواقع التاريخية والآثارية في المنطقة التي تعد كنزا ثمينا يضاف إلى الكنوز السياحية الثمينة الأخرى التي يمتلكها وطننا الغالي وتجب المحافظة عليها.
ولعل زيارة الدكتور عبدالعزيز السبيل وكيل وزراة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية لهذه المواقع معنا بصفته أحد منسوبي القسم وزيارة الزملاء الآخرين تسهم في زيادة التوعية بأهمية هذه المواقع وتدفع المسئولين والمتخصصين إلى مزيد من الاهتمام بها، وذلك بحمايتها أولاً ودراستها ثانيا.
تعليق