"......من جانبي لا أنكر أني قد بدأت، وعلى نحو أراه يصطحب التبرير، بموقف يميل إلى جماعة الصقور الأميركيين بشأن العراق في سنوات التسعينات. ولكن بعد الحادي عشر من سبتمبر، وحين طلب مني المساهمة في دراسة رعتها وزارة الدفاع الأميركية حول إستراتيجية بعيدة المدى في «الحرب» على الإرهاب، فكرت وفي غضون القيام بتلك المهمة، في التهديد الأساسي، ونمط الاستراتيجيات الضرورية لمعالجة ذلك. وقررت عندئذ أن تحدي الإرهاب، وفي نهاية المطاف، هو صراع سياسي، ولا يمكن حله بالوسائل العسكرية. وكان من الواضح بالنسبة لي عندئذ، وقبل حوالي سنة من الحرب، إن حربا مع العراق يمكن أن تكون، في الحد الأدنى، تشويشا يصرف الأنظار عن القضايا الماثلة. وبالفعل فقد انتهى الأمر إلى إن يكون الوضع أسوأ، مما جعل الإرهاب بالتالي يتفاقم.
ولكني أقول إنه وباستثناء أفغانستان، فان معالجة الإرهاب لن تكون عبر غزو بلدان، وإنما عبر أمور تمتد من عمليات شرطة واستخبارات إلى التعامل مع القضايا المثيرة للجدل مثل الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد. وبالمناسبة فلهذه الرسوم بعد سياسي معقد، ويبقي على التساؤل الحاد حول إبعاد المسلمين العاديين عن التعاطف مع الجهاديين، وتقليص جاذبية النزعة الإسلامية المتطرفة.
ولكن وفي المقابل، لا بد أن نعترف إن مجمل الإستراتيجية سواء نحو الإصلاح أو نحو محاربة الإرهاب تبدو مفككة، لأن الديمقراطية يمكن أن تجعل الأمور أسوأ كما في حالة حماس على المدى القصير، وذلك لا يعني أن الديمقراطية جزء نهائي معين من سياسة فعالة. إن إحدى طرق التعامل مع المشكلة الأساسية للإرهاب تمر عبر السماح للإسلاميين بالنمو والتعود على حقائق السلطة. ومن المؤكد أن هذا يمكن ان يكون خطرا، لأن الطريقة التي يمارسون بها السلطة قد تكون، في خاتمة المطاف، ضد مصالح الغرب.
ولكن، وبالضرورة علينا أن نقبل ذلك الخطر لأن عملية الدمقرطة ستحصل، على المدى البعيد، في الشرق الأوسط على أية حال. ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس على حق عندما تقول إن سياسة الولايات المتحدة في المنطقة لا يمكن أن تقوم على دعم الدكتاتوريين غير الشرعيين. فإذا ما دعمت شاه إيران فانك محكوم بمجيء آيات الله بعدئذ. ومن هنا يجيء تركيزي على التنبيه بأن عملية النضج السياسي آتية في وقت ما، ولكن تلك العملية يمكن أن تكون طويلة جدا مما يجعل الطريق الحالي الممتد أمامنا محفوفا بالمخاطر والعوائق.
إن الحرب ليست مجازا جيدا لما يجري. فهي تربك ما هو صراع أساسي مديد مع ما يدرك، بصورة تقليدية، باعتباره حربا، وهي صراع حاد، لأنها، أي الحرب ، تعلن ويجري شنها والفوز بها أو خسرانها في إطار زمني محدد. إن هذا الصراع سيمر بمستوى بطيء نسبيا من النشاط مع حالات تصاعد في الحدة ولكن لن تكون له نهاية واضحة.
وباستخدام كلمة المجاز ندخل الى كل انواع المشاكل، من معالجة سجناء غوانتانامو الى التنصت على مواطنينا. ويقول البعض «يتعين علينا التخلي عن الحقوق المدنية لأننا في حالة حرب». ولكني أقول ان الحرب تضخم كثافة وحدة الصراع وأنماط التضحيات التي يجب تقديمها.
أما في ما يخص التعامل مع النزعة الاسلامية والشرق الأوسط ، فنحن نحتاج الى استراتيجية سياسية اكثر في مقابل استراتيجية عسكرية اقل، ومن هنا يحتاج الأميركيون الى محاولة صياغة العالم، ليس بالاستخدام الواسع للقوة العسكرية ، وانما بإقامة طائفة من المؤسسات المتعددة الجوانب التي يمكن عندئذ ان تصوغ مبادرات بعيدة الأمد للاستقرار والنمو والتعاون، وبينها، على سبيل المثال، مؤسسات بريتون وودز التي اقيمت بعد الحرب العالمية الثانية، أو الناتو او معاهدة الأمن الأميركية اليابانية. فقد حققت هذه المؤسسات خلال 50 عاما اطار عمل مؤسساتي بالنسبة للولايات المتحدة وللآخرين، من اجل صياغة العالم بدون اللجوء الى القوة العسكرية.
ولكن ومن سوء الحظ، ان الكثير من النقاش يركز هذه الأيام على الأمم المتحدة، ويقول أهل اليسار ان الأمم المتحدة هي البديل الوحيد، فيما يسعى أهل اليمين الى ما يسمونه «تحالف الارادة». وما نحتاجه في الواقع هو استراتيجية «متعددة الجوانب» يمكن ان توحد طائفة واسعة من المؤسسات المتعددة الجوانب. فالناتو ومجموعة الأنظمة الديمقراطية قائمة في الوقت الحالي على سبيل المثال. ويمكن خلق مؤسسات اخرى جديدة في مرحلة معينة في المستقبل للسماح للعمل الأميركي في ان يجري بصورة فعالة، ولكن أيضا لشرعنة طريقة استخدام القوة الأميركية لغايات مفيدة في استئصال جذور التطرف الاسلامي.
ومن هنا فأنا أوافق المحافظين الجدد اعتقادهم بأننا يجب ان نصل الى دول لتعزيز الديمقراطية. ولكن يتعين علينا هنا ان نفهم أننا لا نتحكم بالعرض. لا يمكننا تحديد التوقيت. وأية سياسات كهذه يجب أن تكون انتهازية، بمعنى أن تكون مستعدة لتقديم المساعدة عندما تحين اللحظة المناسبة، أي عندما تنشأ الحاجة العضوية الى الديمقراطية، ومن هنا أيضا، واذا ما اخذنا بالحسبان ذلك الشرط، فاننا بحاجة الى تحديد كيفية تحسين وسائل «القوة المعتدلة»، أي وزارة الخارجية والدبلوماسية العامة ووزارة الخزانة والوكالة الأميركية للتنمية الدولية وعلاقتنا مع البنك الدولي. وكل جوانب القوة المعتدلة هذه بحاجة الى ان تمر عبر «الدروس المستقاة ذاتها»، وعملية اعادة التنظيم كالتي يقوم بها الجيش بعد كل صراع او عند مواجهة خصم جديد.
وأخيرا فعصب حجتي ومجادلتي الأساسية التي أحاول تقديمها، هي أننا بحاجة الى نكون سلبيين في مواجهة القوى الاجتماعية الكبيرة، فهناك أوقات تلعب فيها القوة والفعل والحسم والزعامة دورا، ولكن يجب ان يبقى ذلك مجرد افق، ففرص العمل والتغيير الحاسم نادرة، علاوة على ان جوهر مؤهلات السياسي ورجل الدولة تتمثل في معرفة متى يمكنك دفع الأمور الى الأمام ومتى ينبغي عدم القيام بذلك.
ان فكرة ان أميركا يمكن ان تستخدم وببساطة، قوتها المهيمنة لصياغة العالم بصورة كاملة، هي وهم.
وإذا ما كان العراق قد علمنا شيئا فهو انه ليست هناك طرق مختصرة لبلوغ الأهداف الإنسانية الكبرى. "
*************
هذا من مقال للمفكر الأمريكي "فرانسيس فوكايما " نشر في صحيفة الشرق الأوسط في عددها رقم 9953 وتاريخ 27/ 2/ 2006 م .
ولكني أقول إنه وباستثناء أفغانستان، فان معالجة الإرهاب لن تكون عبر غزو بلدان، وإنما عبر أمور تمتد من عمليات شرطة واستخبارات إلى التعامل مع القضايا المثيرة للجدل مثل الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد. وبالمناسبة فلهذه الرسوم بعد سياسي معقد، ويبقي على التساؤل الحاد حول إبعاد المسلمين العاديين عن التعاطف مع الجهاديين، وتقليص جاذبية النزعة الإسلامية المتطرفة.
ولكن وفي المقابل، لا بد أن نعترف إن مجمل الإستراتيجية سواء نحو الإصلاح أو نحو محاربة الإرهاب تبدو مفككة، لأن الديمقراطية يمكن أن تجعل الأمور أسوأ كما في حالة حماس على المدى القصير، وذلك لا يعني أن الديمقراطية جزء نهائي معين من سياسة فعالة. إن إحدى طرق التعامل مع المشكلة الأساسية للإرهاب تمر عبر السماح للإسلاميين بالنمو والتعود على حقائق السلطة. ومن المؤكد أن هذا يمكن ان يكون خطرا، لأن الطريقة التي يمارسون بها السلطة قد تكون، في خاتمة المطاف، ضد مصالح الغرب.
ولكن، وبالضرورة علينا أن نقبل ذلك الخطر لأن عملية الدمقرطة ستحصل، على المدى البعيد، في الشرق الأوسط على أية حال. ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس على حق عندما تقول إن سياسة الولايات المتحدة في المنطقة لا يمكن أن تقوم على دعم الدكتاتوريين غير الشرعيين. فإذا ما دعمت شاه إيران فانك محكوم بمجيء آيات الله بعدئذ. ومن هنا يجيء تركيزي على التنبيه بأن عملية النضج السياسي آتية في وقت ما، ولكن تلك العملية يمكن أن تكون طويلة جدا مما يجعل الطريق الحالي الممتد أمامنا محفوفا بالمخاطر والعوائق.
إن الحرب ليست مجازا جيدا لما يجري. فهي تربك ما هو صراع أساسي مديد مع ما يدرك، بصورة تقليدية، باعتباره حربا، وهي صراع حاد، لأنها، أي الحرب ، تعلن ويجري شنها والفوز بها أو خسرانها في إطار زمني محدد. إن هذا الصراع سيمر بمستوى بطيء نسبيا من النشاط مع حالات تصاعد في الحدة ولكن لن تكون له نهاية واضحة.
وباستخدام كلمة المجاز ندخل الى كل انواع المشاكل، من معالجة سجناء غوانتانامو الى التنصت على مواطنينا. ويقول البعض «يتعين علينا التخلي عن الحقوق المدنية لأننا في حالة حرب». ولكني أقول ان الحرب تضخم كثافة وحدة الصراع وأنماط التضحيات التي يجب تقديمها.
أما في ما يخص التعامل مع النزعة الاسلامية والشرق الأوسط ، فنحن نحتاج الى استراتيجية سياسية اكثر في مقابل استراتيجية عسكرية اقل، ومن هنا يحتاج الأميركيون الى محاولة صياغة العالم، ليس بالاستخدام الواسع للقوة العسكرية ، وانما بإقامة طائفة من المؤسسات المتعددة الجوانب التي يمكن عندئذ ان تصوغ مبادرات بعيدة الأمد للاستقرار والنمو والتعاون، وبينها، على سبيل المثال، مؤسسات بريتون وودز التي اقيمت بعد الحرب العالمية الثانية، أو الناتو او معاهدة الأمن الأميركية اليابانية. فقد حققت هذه المؤسسات خلال 50 عاما اطار عمل مؤسساتي بالنسبة للولايات المتحدة وللآخرين، من اجل صياغة العالم بدون اللجوء الى القوة العسكرية.
ولكن ومن سوء الحظ، ان الكثير من النقاش يركز هذه الأيام على الأمم المتحدة، ويقول أهل اليسار ان الأمم المتحدة هي البديل الوحيد، فيما يسعى أهل اليمين الى ما يسمونه «تحالف الارادة». وما نحتاجه في الواقع هو استراتيجية «متعددة الجوانب» يمكن ان توحد طائفة واسعة من المؤسسات المتعددة الجوانب. فالناتو ومجموعة الأنظمة الديمقراطية قائمة في الوقت الحالي على سبيل المثال. ويمكن خلق مؤسسات اخرى جديدة في مرحلة معينة في المستقبل للسماح للعمل الأميركي في ان يجري بصورة فعالة، ولكن أيضا لشرعنة طريقة استخدام القوة الأميركية لغايات مفيدة في استئصال جذور التطرف الاسلامي.
ومن هنا فأنا أوافق المحافظين الجدد اعتقادهم بأننا يجب ان نصل الى دول لتعزيز الديمقراطية. ولكن يتعين علينا هنا ان نفهم أننا لا نتحكم بالعرض. لا يمكننا تحديد التوقيت. وأية سياسات كهذه يجب أن تكون انتهازية، بمعنى أن تكون مستعدة لتقديم المساعدة عندما تحين اللحظة المناسبة، أي عندما تنشأ الحاجة العضوية الى الديمقراطية، ومن هنا أيضا، واذا ما اخذنا بالحسبان ذلك الشرط، فاننا بحاجة الى تحديد كيفية تحسين وسائل «القوة المعتدلة»، أي وزارة الخارجية والدبلوماسية العامة ووزارة الخزانة والوكالة الأميركية للتنمية الدولية وعلاقتنا مع البنك الدولي. وكل جوانب القوة المعتدلة هذه بحاجة الى ان تمر عبر «الدروس المستقاة ذاتها»، وعملية اعادة التنظيم كالتي يقوم بها الجيش بعد كل صراع او عند مواجهة خصم جديد.
وأخيرا فعصب حجتي ومجادلتي الأساسية التي أحاول تقديمها، هي أننا بحاجة الى نكون سلبيين في مواجهة القوى الاجتماعية الكبيرة، فهناك أوقات تلعب فيها القوة والفعل والحسم والزعامة دورا، ولكن يجب ان يبقى ذلك مجرد افق، ففرص العمل والتغيير الحاسم نادرة، علاوة على ان جوهر مؤهلات السياسي ورجل الدولة تتمثل في معرفة متى يمكنك دفع الأمور الى الأمام ومتى ينبغي عدم القيام بذلك.
ان فكرة ان أميركا يمكن ان تستخدم وببساطة، قوتها المهيمنة لصياغة العالم بصورة كاملة، هي وهم.
وإذا ما كان العراق قد علمنا شيئا فهو انه ليست هناك طرق مختصرة لبلوغ الأهداف الإنسانية الكبرى. "
*************
هذا من مقال للمفكر الأمريكي "فرانسيس فوكايما " نشر في صحيفة الشرق الأوسط في عددها رقم 9953 وتاريخ 27/ 2/ 2006 م .
أكثركم – إن لم يكن جميعكم – يعرف هذا الكاتب، فهو من أشهر المنظرين الإستراتيجيين الأمريكان، وهو صاحب الكتاب الشهير " نهاية التاريخ ومصير الإنسان" The End of History and the Destiny of Man." الذي وجه فيه رسالة إلى العالم أجمع مفادها : إن الغرب وقيمه قد أصبح هو قدركم المكتوب، ولم يعد أمامكم إلا أن تكيِّفوا أموركم معه، لأن أي محاولة للمقاومة ما هي إلا جهد يائس للوقوف أمام التاريخ.
مع معرفتي الأكيدة بقدرة هذا الرجل على توجيه الكلام بوضوح لايدع أي مجال للتساؤل من القارئ أو المستمع ، إلا أنني هنا لم أعرف ماذا يريد أن يقول بالضبط ، فهل منكم من يعرف؟!
تعليق