شــّد حمدان الحِمـْلَ على الحمارة بالـُرّمة بعد أن وضع عدد من الأكياس الصغيرة
[ الخرائط ] المملؤة بأنواع من حبوب الحنطة والشعير والمشعورة والذرة في كل عين من عيني [ الخـُـرْجْ ] ثم التقط فتاه النحيل ( علي ) البالغ من العمر سبع سنوات بين يديه وأركبه على ظهرها ، وأسقط في جيبه ريالين وهو يوصيه بالمحافظة عليها قائلاً :
خلـّـك رجال ولا تضيع عليك الدراهم ، توجه الفتى نحو القرية الأخرى حيث بابور الطحين وهو يعسـف في زهو حمارته البيضاء ويحثها على السير فتحرن أحياناً وتعدو أ حياناً أخرى وهي تهبط به من قمة ذلك الجبل مخترقةً حمى لقرية أخرى يحد القرية من شرقها مواصلا مشواره نحو البابور، قطع الوادي من الشاطئ إلى الشاطئ الأخر، مخترقاً مزارع الحنطة والمشعورة ، وهو يتأمل تلك الحقول الخضراء التي تمتد عبر الأودية ، وكأنها بساط سندسي غطى كل شبر، كانت النسائم تداعب جدائل القمح ، فتحيلها إلى تموجــات ربيعية أخـّـاذة ، فتحنو كل خصلة على أختها تداعبها مرة وتعانقها أخرى ، نسي فتانا الوقت ، والطريق ، فقد سلبت لبه وعقله تلك السـنابل المجدولة الخضراء التي ظل وقته كله وهو يتأمل سحر تموجاتها وتعانقها ، توقفت حمارته فجأة فاستفاق من تلك [ السرحة التأملية الطويلة] وإذا به يقف أمام بيت [ البابور ] مباشرة .
قفز كالفراشة من فوق ظهرها واستقر واقفاً على الأرض ، خرج من غرفة البابور رجل أشيب ، فارع الطول ، مفتول الساعدين ، وبدأ يساعده في [ الحــطّ ] عن الحمارة ، وهو يســأله بلهجة قروية قُحـّة :
[ ولد من انت يا صدقاني ..؟؟ ] فأجابه الفتى بسرعة [ أنا ولد .... من قرية ..... ]
وكم مــدّ معك ياولدي ..؟؟
عشرة أمداد يا عــم
أبي يسلم عليك ويقول دقــِّـقــْهــَا ..!
هبــا لك قروش يا ولدي ..؟؟
اخرج الفتى الريالين من جيبه وناولها صاحب البابور قائلا :
هاك ياعـم ...
وبعد أن تناولها نظر إلى الفتى قائلاً :
هذي ماتســد ياولدي..!!
ثم أعقب قائلاً :
المد بربع ريال وهذي ما هلاَّ ريالين ويبقى عليكم نص ريال
رد الفتى :
أبي يقل ياعم المد باربعة قروش ، هَـوْ تزيد علينا ..؟؟
رد صاحب البابور قائلاً :
ما يخالف يا ولدي ذلحين باطحن لك الحب من حساب أربعه قروش لكن المرة الثانية ماعاد باطحن لكم المدّ إلا بربع ريال ، سلم على أبوك وعلمه وقلّه سواتكم سواة الناس
رد الفتى : ابشــر ياعم
بدأ صاحب البابور عمله في طحن الحب والفتى يتابع كل حركاته بدقة بالغة
فقد ذهب أولاً بتشغيل البابور بالهنـــدل معتمدا على قوة عضلاته ومهارته، اشتغل البابور وأنطلق صوته الهادر يشق سكون القرية ، وضع الفتى أصابعه في أذنيه وهو يراقب ( الســير ) يدور على حلقتين إحداهما كبيــرة والأخرى أصغر منها قليلاً ، وصوت البابور يملأ المكان ثم توجه ( العم محمد ) نحو ( القادوس ) ليفرغ به أولى الخرائط
صاح علي قائلاً أطحن الحب على " ســَملْ " هيل ياعم
ابتسم الرجل الطويل ابتسامة صفراء وقال
انت بتعلمني ياولدي ..!!
كلها ميرتنا واحده يا علي ، وبتغدي في مكان واحد ، أنهى محمد طحنه ، وحمل كل الخرايط واركب علي فوقها ثم قال : افلح يا علي وسلم على أبوك ولا تنسى ماوصيتك
تخطى على كل منعطفات الطريق ومساريبه في طريق عودته نحو البيت ، وعرج وبينما هو يعبر طريق العودة عبر مجـرّة إحدى الآبار شــاهد مجموعة من الفتيات قد تجمعن في قـُفّ البير يستقين الماء وهن يجذبن دلاءهن فوق حجارة القــفّ التي قطعــتها حبال دلائهــن في صعودها وهبوطها لاستقاء المـــاء في القرب والقدور و( الحـِلال ) ، وعندما رآهن علي عرج عليهن وأوقف حمارته أمام القــف ، حياهن فرددن عليه السلام بشكل جماعي ، فســألته إحــداهن قائلة :
وشتبغي يا علي ..؟؟
أجاب علي على الفور ابغي أشرب واسقي حمارتي لكن ( الكــرامة )
تضاحكن الفتيات ثم تسابقن في سقاية علي وحمارته ، وهو مايزال ممتطي ظهرها يدير معهن حوار حول الطحين والبابور وأمه التي أراحها أبوه من عناء الوقوف اليومي أمام الرحى ، لتطحن نزر يسير من الحب لا يكاد يفي بحاجة اليوم ، واصل علي طريق العودة وأثناء اختراقه حديقة اللوز القريبة من القرية بدأ في مناوشة بعض أغصانها وتناول بعض ثمارها ( غضــاريفها ) الخضراء النـَّّدِيـَّة ، حصل على الغضروف الأول ثم الثاني ، أما الثالث فكان نائياً وبعيداً عن متناول يده ، أوقف حمارته واستقام فوق ظهرها ليلحق بذلك الغضروف العالي وعندما هم بتناوله تحركت الحمارة فاختل توازنه وسقط تحت شجرة اللوز وعندما حاول النهوض لاحظ أن يده اليمنى التي كان يتناول بها ثمار اللوز تؤلمه من المرفق وأن عظامها غير متناسقة وقد اختلفت عن وضعها الطبيعي ، علم علي أن يمناه قد كسرت ، تلفت يبحث عن الحمارة فرآها تدلف من المصراع نحو حوش البيت لملم ذراعه المكسورة وضمها إلى صدره واتجه نحو البيت ، قابلته أمه وهي تصرخ وتصيح باكية وتتمتم بكلمات فيها ذكر الله ، تجمع نسوة القرية حولها وهو في حضنها وهن يمطرنها وابنها علي بسيل من الأسئلة التي لا تتوقف عن كيفية سقوطه ثم يسدينها الكثير من النصائح والتعليمات .
حضر الأخ الأكبر وحين تفقد ذراع أخيه تأكد من وقوع المحذور فأسرع إلى الحمارة وأفرغ الخرج مما فيه وأمتطى ظهرها وأستاقها حثيثا نحو القرية النائة التي يسكنها ( المُجـبـِّر ) طبيب العظام الشعبي ، وما لبث أن عاد به ليعالج أخيه ، تفقد ( الجبلي ) الذراع ، وبمهارته المعروفة ، وخبرته الطويلة أعاد العظام المكسورة إلى وضعها الطبيعي ووضع فوقها ( جبايـره ) الخشبية ثم أحكم ربطها بأربطة من القماش المشبع بالسمن وأوصاه بالإكثار من تناول التمر المحشو بحبوب الثـُفـَّاء الحمراء وتناول البيض والسمن بشكل يومي لمدة شهر كامل ، فرح علي بما قاله المجبر فسيعيش شهر كامل ، يحظى بالاهتمام والعناية الفائقة ، وسينعم خلالها بأطيب مايشتهيه من الغذاء والرعاية ، وسينتهي لصالحه ذلك الصراع اليومي مع والدته على البيض الذي كانت تكلفه بجمعه يوميا من معالف ( الهوش ) والسفول دون أن يحظى ولو بحبة واحدة كان يتمنى أن تقلاها له أمـه في محماس البن أو في ( ملعقة ) صاج القرص المشرّق ، ولكن دون جدوى ، فأمه لم تكن تبخل أو تشح بها عليه ولكنها كانت تسعى لأن تكمل العشرين بيضة كل أسبوع ليبيعها أخوه الأكبر أو أبوه بريال واحد في سوق الخميس ويستفيد به في شراء شئ من حاجات البيت .
وقد سـُرّ علي في أعماقه بكسر ذراعه وأيقن أن ذلك رحمة هطلت عليه من السماء فهاهو تحت رعاية الأسرة كلها يتدلل عليهم كيف يشاء ويطلب من الغذاء ما يشاء وينام متى يشاء ويستيقظ متى يشاء ، فلا عمل ولا مدرسه ، بل نوم وطيب غذاء ، في ضحى اليوم التالي حضر ( محضر المدرسة ) إلى البيت ليصطحب علي إلى المدرسة التي غاب عنها ،عرفه كل أهل البيت بصوته الجهوري وبوقع حوافر حمارته البيضاء وهو مازال خارج ( الحوش ) الفناء حيث كانت وسيلته الوحيدة التي يستخدمها في تنقلاته بين القرى ، لإحضار التلاميذ المتغيبين عن الدراسة ، غير أن علي لم يفزع ولم يتخفى كما يحصل لمن يمتنع عن الذهاب للمدرسة عند سماع صوت المحضر ، وهو يزمجر في الخارج ، وبالرغم من أنه ارتبك قليلا في البداية لكنه تماسك ولم يهرب وخرج يرحب به على طريقة الكبار ويده مثنية فوق صدره ومعلقة في عنقه ، وما أن وقعت عينا العم المحضر على علي وهو بتلك الحالة حتى صرخ بصوته الجهوري ( قطع الله ايدي يا علي .. وشبك يا ولدي ) كان صوته مختلف هذه المرة ، كان ممتلئ حنانا وعاطفة فهو يعلم أن علي هو الأول على فصله وأنه من أحسن التلاميذ أدباً وخلقاً وهو لم يسبق له أن تأخر أو تهرب يوما عن الدراسة وهو حين يتعامل مع التلاميذ فإنه يتعامل معهم بناء على معرفته اليقينية بمستواهم الدراسي والأخلاقي حيث يعتبر نفسه مسئولا عنهم جميعا رغم أن وظيفته لا تزيد عن متابعة حالات الغياب وإحضار المتغيبين .
نسي علي ألام ذراعه المكسورة وظــل في البيت شهرا كاملا في رعاية حانية من كل أفراد الأسرة ولما تعافت يده عاد ليمارس حياته وهو بكامل عافيته وقد جبر الكسر وكأن شيئا لم يكن ، ذهبت سنوات طوال وبقي في الذاكرة شئ من ذلك اليوم وبقي حب الغضاريف متمكن من نفس علي وضل مولع بها يبحث عنها في كل مكان وعندما شاهدته منذ فترة وجيزة وهو في الحلقة وبيده كرتون من الغضاريف الخضراء اشتراه في التو واللحظة تبسمت وقلت له :
ألم تتب بعد يا علي ..؟
ســألني بسرعة وهو يبتســم
مم أتوب ..؟؟
قلت له وأنا أضحك وأشير بيد ي إلى الكرتون .
من الغضــاريف يا علي ..!!
ناولني قبضة منها وهو يبتسم ثم قال :
إن بيني وبينها عهد وميثاق وذراعي خير شاهد
قالها وهو يضحك ثم انصــرف ...!
وبعد أن خطـــا عــدة خطوات التفت وقال بصوت حــزين
ياليتني جنيتها من جناب اللوز
[ الخرائط ] المملؤة بأنواع من حبوب الحنطة والشعير والمشعورة والذرة في كل عين من عيني [ الخـُـرْجْ ] ثم التقط فتاه النحيل ( علي ) البالغ من العمر سبع سنوات بين يديه وأركبه على ظهرها ، وأسقط في جيبه ريالين وهو يوصيه بالمحافظة عليها قائلاً :
خلـّـك رجال ولا تضيع عليك الدراهم ، توجه الفتى نحو القرية الأخرى حيث بابور الطحين وهو يعسـف في زهو حمارته البيضاء ويحثها على السير فتحرن أحياناً وتعدو أ حياناً أخرى وهي تهبط به من قمة ذلك الجبل مخترقةً حمى لقرية أخرى يحد القرية من شرقها مواصلا مشواره نحو البابور، قطع الوادي من الشاطئ إلى الشاطئ الأخر، مخترقاً مزارع الحنطة والمشعورة ، وهو يتأمل تلك الحقول الخضراء التي تمتد عبر الأودية ، وكأنها بساط سندسي غطى كل شبر، كانت النسائم تداعب جدائل القمح ، فتحيلها إلى تموجــات ربيعية أخـّـاذة ، فتحنو كل خصلة على أختها تداعبها مرة وتعانقها أخرى ، نسي فتانا الوقت ، والطريق ، فقد سلبت لبه وعقله تلك السـنابل المجدولة الخضراء التي ظل وقته كله وهو يتأمل سحر تموجاتها وتعانقها ، توقفت حمارته فجأة فاستفاق من تلك [ السرحة التأملية الطويلة] وإذا به يقف أمام بيت [ البابور ] مباشرة .
قفز كالفراشة من فوق ظهرها واستقر واقفاً على الأرض ، خرج من غرفة البابور رجل أشيب ، فارع الطول ، مفتول الساعدين ، وبدأ يساعده في [ الحــطّ ] عن الحمارة ، وهو يســأله بلهجة قروية قُحـّة :
[ ولد من انت يا صدقاني ..؟؟ ] فأجابه الفتى بسرعة [ أنا ولد .... من قرية ..... ]
وكم مــدّ معك ياولدي ..؟؟
عشرة أمداد يا عــم
أبي يسلم عليك ويقول دقــِّـقــْهــَا ..!
هبــا لك قروش يا ولدي ..؟؟
اخرج الفتى الريالين من جيبه وناولها صاحب البابور قائلا :
هاك ياعـم ...
وبعد أن تناولها نظر إلى الفتى قائلاً :
هذي ماتســد ياولدي..!!
ثم أعقب قائلاً :
المد بربع ريال وهذي ما هلاَّ ريالين ويبقى عليكم نص ريال
رد الفتى :
أبي يقل ياعم المد باربعة قروش ، هَـوْ تزيد علينا ..؟؟
رد صاحب البابور قائلاً :
ما يخالف يا ولدي ذلحين باطحن لك الحب من حساب أربعه قروش لكن المرة الثانية ماعاد باطحن لكم المدّ إلا بربع ريال ، سلم على أبوك وعلمه وقلّه سواتكم سواة الناس
رد الفتى : ابشــر ياعم
بدأ صاحب البابور عمله في طحن الحب والفتى يتابع كل حركاته بدقة بالغة
فقد ذهب أولاً بتشغيل البابور بالهنـــدل معتمدا على قوة عضلاته ومهارته، اشتغل البابور وأنطلق صوته الهادر يشق سكون القرية ، وضع الفتى أصابعه في أذنيه وهو يراقب ( الســير ) يدور على حلقتين إحداهما كبيــرة والأخرى أصغر منها قليلاً ، وصوت البابور يملأ المكان ثم توجه ( العم محمد ) نحو ( القادوس ) ليفرغ به أولى الخرائط
صاح علي قائلاً أطحن الحب على " ســَملْ " هيل ياعم
ابتسم الرجل الطويل ابتسامة صفراء وقال
انت بتعلمني ياولدي ..!!
كلها ميرتنا واحده يا علي ، وبتغدي في مكان واحد ، أنهى محمد طحنه ، وحمل كل الخرايط واركب علي فوقها ثم قال : افلح يا علي وسلم على أبوك ولا تنسى ماوصيتك
تخطى على كل منعطفات الطريق ومساريبه في طريق عودته نحو البيت ، وعرج وبينما هو يعبر طريق العودة عبر مجـرّة إحدى الآبار شــاهد مجموعة من الفتيات قد تجمعن في قـُفّ البير يستقين الماء وهن يجذبن دلاءهن فوق حجارة القــفّ التي قطعــتها حبال دلائهــن في صعودها وهبوطها لاستقاء المـــاء في القرب والقدور و( الحـِلال ) ، وعندما رآهن علي عرج عليهن وأوقف حمارته أمام القــف ، حياهن فرددن عليه السلام بشكل جماعي ، فســألته إحــداهن قائلة :
وشتبغي يا علي ..؟؟
أجاب علي على الفور ابغي أشرب واسقي حمارتي لكن ( الكــرامة )
تضاحكن الفتيات ثم تسابقن في سقاية علي وحمارته ، وهو مايزال ممتطي ظهرها يدير معهن حوار حول الطحين والبابور وأمه التي أراحها أبوه من عناء الوقوف اليومي أمام الرحى ، لتطحن نزر يسير من الحب لا يكاد يفي بحاجة اليوم ، واصل علي طريق العودة وأثناء اختراقه حديقة اللوز القريبة من القرية بدأ في مناوشة بعض أغصانها وتناول بعض ثمارها ( غضــاريفها ) الخضراء النـَّّدِيـَّة ، حصل على الغضروف الأول ثم الثاني ، أما الثالث فكان نائياً وبعيداً عن متناول يده ، أوقف حمارته واستقام فوق ظهرها ليلحق بذلك الغضروف العالي وعندما هم بتناوله تحركت الحمارة فاختل توازنه وسقط تحت شجرة اللوز وعندما حاول النهوض لاحظ أن يده اليمنى التي كان يتناول بها ثمار اللوز تؤلمه من المرفق وأن عظامها غير متناسقة وقد اختلفت عن وضعها الطبيعي ، علم علي أن يمناه قد كسرت ، تلفت يبحث عن الحمارة فرآها تدلف من المصراع نحو حوش البيت لملم ذراعه المكسورة وضمها إلى صدره واتجه نحو البيت ، قابلته أمه وهي تصرخ وتصيح باكية وتتمتم بكلمات فيها ذكر الله ، تجمع نسوة القرية حولها وهو في حضنها وهن يمطرنها وابنها علي بسيل من الأسئلة التي لا تتوقف عن كيفية سقوطه ثم يسدينها الكثير من النصائح والتعليمات .
حضر الأخ الأكبر وحين تفقد ذراع أخيه تأكد من وقوع المحذور فأسرع إلى الحمارة وأفرغ الخرج مما فيه وأمتطى ظهرها وأستاقها حثيثا نحو القرية النائة التي يسكنها ( المُجـبـِّر ) طبيب العظام الشعبي ، وما لبث أن عاد به ليعالج أخيه ، تفقد ( الجبلي ) الذراع ، وبمهارته المعروفة ، وخبرته الطويلة أعاد العظام المكسورة إلى وضعها الطبيعي ووضع فوقها ( جبايـره ) الخشبية ثم أحكم ربطها بأربطة من القماش المشبع بالسمن وأوصاه بالإكثار من تناول التمر المحشو بحبوب الثـُفـَّاء الحمراء وتناول البيض والسمن بشكل يومي لمدة شهر كامل ، فرح علي بما قاله المجبر فسيعيش شهر كامل ، يحظى بالاهتمام والعناية الفائقة ، وسينعم خلالها بأطيب مايشتهيه من الغذاء والرعاية ، وسينتهي لصالحه ذلك الصراع اليومي مع والدته على البيض الذي كانت تكلفه بجمعه يوميا من معالف ( الهوش ) والسفول دون أن يحظى ولو بحبة واحدة كان يتمنى أن تقلاها له أمـه في محماس البن أو في ( ملعقة ) صاج القرص المشرّق ، ولكن دون جدوى ، فأمه لم تكن تبخل أو تشح بها عليه ولكنها كانت تسعى لأن تكمل العشرين بيضة كل أسبوع ليبيعها أخوه الأكبر أو أبوه بريال واحد في سوق الخميس ويستفيد به في شراء شئ من حاجات البيت .
وقد سـُرّ علي في أعماقه بكسر ذراعه وأيقن أن ذلك رحمة هطلت عليه من السماء فهاهو تحت رعاية الأسرة كلها يتدلل عليهم كيف يشاء ويطلب من الغذاء ما يشاء وينام متى يشاء ويستيقظ متى يشاء ، فلا عمل ولا مدرسه ، بل نوم وطيب غذاء ، في ضحى اليوم التالي حضر ( محضر المدرسة ) إلى البيت ليصطحب علي إلى المدرسة التي غاب عنها ،عرفه كل أهل البيت بصوته الجهوري وبوقع حوافر حمارته البيضاء وهو مازال خارج ( الحوش ) الفناء حيث كانت وسيلته الوحيدة التي يستخدمها في تنقلاته بين القرى ، لإحضار التلاميذ المتغيبين عن الدراسة ، غير أن علي لم يفزع ولم يتخفى كما يحصل لمن يمتنع عن الذهاب للمدرسة عند سماع صوت المحضر ، وهو يزمجر في الخارج ، وبالرغم من أنه ارتبك قليلا في البداية لكنه تماسك ولم يهرب وخرج يرحب به على طريقة الكبار ويده مثنية فوق صدره ومعلقة في عنقه ، وما أن وقعت عينا العم المحضر على علي وهو بتلك الحالة حتى صرخ بصوته الجهوري ( قطع الله ايدي يا علي .. وشبك يا ولدي ) كان صوته مختلف هذه المرة ، كان ممتلئ حنانا وعاطفة فهو يعلم أن علي هو الأول على فصله وأنه من أحسن التلاميذ أدباً وخلقاً وهو لم يسبق له أن تأخر أو تهرب يوما عن الدراسة وهو حين يتعامل مع التلاميذ فإنه يتعامل معهم بناء على معرفته اليقينية بمستواهم الدراسي والأخلاقي حيث يعتبر نفسه مسئولا عنهم جميعا رغم أن وظيفته لا تزيد عن متابعة حالات الغياب وإحضار المتغيبين .
نسي علي ألام ذراعه المكسورة وظــل في البيت شهرا كاملا في رعاية حانية من كل أفراد الأسرة ولما تعافت يده عاد ليمارس حياته وهو بكامل عافيته وقد جبر الكسر وكأن شيئا لم يكن ، ذهبت سنوات طوال وبقي في الذاكرة شئ من ذلك اليوم وبقي حب الغضاريف متمكن من نفس علي وضل مولع بها يبحث عنها في كل مكان وعندما شاهدته منذ فترة وجيزة وهو في الحلقة وبيده كرتون من الغضاريف الخضراء اشتراه في التو واللحظة تبسمت وقلت له :
ألم تتب بعد يا علي ..؟
ســألني بسرعة وهو يبتســم
مم أتوب ..؟؟
قلت له وأنا أضحك وأشير بيد ي إلى الكرتون .
من الغضــاريف يا علي ..!!
ناولني قبضة منها وهو يبتسم ثم قال :
إن بيني وبينها عهد وميثاق وذراعي خير شاهد
قالها وهو يضحك ثم انصــرف ...!
وبعد أن خطـــا عــدة خطوات التفت وقال بصوت حــزين
ياليتني جنيتها من جناب اللوز
ssmrd0321@h0tmail.com
ssmrd0321@hotmail.c0m
تعليق