هالة من نور
علي سعد الموسى يقول الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، إنه لاحظ أن - هالة نور - كانت تسطع فوق رأسه وهو يلقي في سبتمبر الماضي كلمة بلاده على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في الدورة الاعتيادية الأخيرة. حين قرأت تصريحه الذي طار به العالم ظننت أنه يتكلم عن أنثى، ممثلة أو فنانة، اسمها - هالة نور - ومع هذا يفهم السياق من الجملة: إنه يتحدث عن ضوء رباني من السماء داخل قاعة مغلقة. خطابه عن هالة النور التي انصبت على رأسه من بركات السماء يصلح حتى في بداية القرن الواحد والعشرين لدغدغة مشاعر البسطاء والدهماء الذين يحتشدون له بالآلاف في باحة جامعة طهران - موضع التصريح الشهير - ولكنه لن يقنع شخصاً واحداً يحمل دبلوماً متوسطاً في الديكور، ذلك أن - هالة النور -التي يتحدث عنها كانت تسطع على رأسه من مصباح خفي في سقف القاعة مسلط منه على الأوراق التي بين يديه كي يقرأها بدرجة عالية من الوضوح. إما أن السيد أحمدي نجاد، وهو الشعبي البسيط، سقط في فخ عقدة الديكور مندهشاً في قاعة سقفها هو الأبعد والأعرض والأرحب بين كل قاعات الكون، وإما أنه ما زال مسكوناً بالأساطير، وإما أنه على العكس وهو ما أظن، كان ذكياً وهو يتحدث عن هالة نور كي يقنع بها من حوله على أنه من بين كل الذين اعتلوا هذا المنبر استثناء في الوصل مع ربه.
كم هم الذين تلوا علينا حكايات النور وهالة النور؟ استغربتها جداً من رمز شيعي مثلت طائفته في الغالب خطاباً براغماتيا لولا أخطاؤه السياسية الثورية لما استطاع فرد أو نظام على هذه الدنيا أن يثبت عليه زلة، وإلا، بالنسبة لي فنقص الضوء وهالات النور سيرة ذهبية مذهبية. ذات حين في عام 1987، دخل علينا فضيلة الشيخ العائد من أفغانستان وتلا علينا القصة التالية: يقول كنا قبيل مغرب يوم السبت حين مررنا على قرية أفغانية وتوقفنا بها لأداء الصلاة. بعد أن صلينا المغرب حكى لنا أفراد القرية عن قصة شهيد من أهلها قضى في تلك الحرب الضروس يوم جمعة. وكل يوم جمعة من حينه وإلى اليوم ما زال ضوء يرتفع من ذات القبر ليشق عنان السماء بعيد كل مغرب جمعة. هذا ما تلاه علينا فضيلته نقلاً عن أهل القرية.
كان الوقت آنئذ مشحوناً بتهيئة عامة لمثل هذه القصص التي كانت تجد طريقها بسهولة قبل أن تتحول الحروب إلى - نقل تلفزيوني مباشر - تضعنا فيه نشرات الأخبار وتقارير المراسلين الحية في قلب الأحداث دونما وسطاء لتزوير الوقائع. يومها كنا نسمع ونصدق كل الروايات التي كان فيها مثل حديث شيخنا عن قبر الشهيد ثانوياً بالمقارنة مع الدبابات التي تحترق إذا رمى عليها الأفغاني حفنة غبار أو سرب الطائرات الذي يصطدم ببعضه إذا شبك - المجاهد - على الأرض أصابعه في بعضها حين يمر السرب من فوقه أو الجراح والكسور التي تندمل وتجبر إذا ما مسح قائد الفريق بيده عليها مرة واحدة. قصص من الخيال تصلح اليوم بجدارة أفلاماً كرتونية بامتياز لأن عقولنا لم تكن أصغر من أن تستوعب فحسب، بل كانت في غياب كامل قبل أن تبدأ ثورة الاتصالات التي تطورت في عقد واحد ما لم تفعله خلال ألف عام خلت. عودة إلى - هالة النور - التي سمع عنها الشيخ في زيارته للقرية يوم السبت وقيل إنها تصعد من القبر يوم الجمعة. الشيء الوحيد الجيد في القصة برمتها هي الحبكة فلو أن الشيخ مر على القرية نهار الأربعاء لقيل له إن النور يصعد يوم الثلاثاء كي يستعصي عليه الانتظار لرؤية البرهان.
وعلى أي حال فلم تعد هذه الأساطير المسطرة حد الخرافة تحتاج إلى براهين. أبرز ما كان من مرحلتها ليس إلا غياب العقل فكرامات وادي بانشير لم تحصل للصفوة في وادي بدر ومعجزات جبل تورا بورا لم تنزل على الصفوة التي استأسدت في جبل أحد وأعمدة النور وهالاته لم تصعد من قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه.
إنها - الصحوة - التي جب زمنها ما قبله حتى بات جهاد القرن الرابع عشر في مرتبة أعلى من جهاد شهداء الأيام الأولى لهذا الدين العظيم وأكثر استئثاراً منه بالكرامة والمعجزة. اليوم لم تعد وقائع تغييب العقل في زمن استغلال فراغ العوام تحتاج إلى برهنة. إنها تحتاج إلى تطبيق: أن يعود فضيلة شيخنا اليوم إلى ذات القرية الأفغانية بعيد مغرب يوم جمعة ثم يقف على القبر ما شاء له إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود ثم يأتي إلينا ليتحدث مرة أخرى عن النور الذي لم يصعد أو يحاضر كيف تتوقف الأنوار وتنطفئ الكرامات بعد عقدين من الزمن فقط على رواج هذه الأساطير. أن يذهب السيد محمود أحمدي نجاد إلى قاعة الأمم المتحدة ويقف مباشرة في ذات المكان الذي أحس فيه بهالة نور على رأسه ثم نطفئ أنوار القاعة كاملة كي تبقى بها هذه الهالة المعجزة.
هذا الخلق والتكوين القصصي الذي تنكشف عراه في أقل من عمر المسيرة من طفولة إلى شباب هو بالتأكيد ما جعل من ثقافتنا بطولات خطاب زائف نحن أول من يكتشف اختلاقاته واختلافاته وكنا سنسكت عنها لولا أن العالم من حولنا أصبح ثقافة كروية قروية ولولا أن حروب التلفزيون تكشف اليوم شوارد الوقائع وأساطير البطولات.
* أكاديمي وكاتب سعودي
كم هم الذين تلوا علينا حكايات النور وهالة النور؟ استغربتها جداً من رمز شيعي مثلت طائفته في الغالب خطاباً براغماتيا لولا أخطاؤه السياسية الثورية لما استطاع فرد أو نظام على هذه الدنيا أن يثبت عليه زلة، وإلا، بالنسبة لي فنقص الضوء وهالات النور سيرة ذهبية مذهبية. ذات حين في عام 1987، دخل علينا فضيلة الشيخ العائد من أفغانستان وتلا علينا القصة التالية: يقول كنا قبيل مغرب يوم السبت حين مررنا على قرية أفغانية وتوقفنا بها لأداء الصلاة. بعد أن صلينا المغرب حكى لنا أفراد القرية عن قصة شهيد من أهلها قضى في تلك الحرب الضروس يوم جمعة. وكل يوم جمعة من حينه وإلى اليوم ما زال ضوء يرتفع من ذات القبر ليشق عنان السماء بعيد كل مغرب جمعة. هذا ما تلاه علينا فضيلته نقلاً عن أهل القرية.
كان الوقت آنئذ مشحوناً بتهيئة عامة لمثل هذه القصص التي كانت تجد طريقها بسهولة قبل أن تتحول الحروب إلى - نقل تلفزيوني مباشر - تضعنا فيه نشرات الأخبار وتقارير المراسلين الحية في قلب الأحداث دونما وسطاء لتزوير الوقائع. يومها كنا نسمع ونصدق كل الروايات التي كان فيها مثل حديث شيخنا عن قبر الشهيد ثانوياً بالمقارنة مع الدبابات التي تحترق إذا رمى عليها الأفغاني حفنة غبار أو سرب الطائرات الذي يصطدم ببعضه إذا شبك - المجاهد - على الأرض أصابعه في بعضها حين يمر السرب من فوقه أو الجراح والكسور التي تندمل وتجبر إذا ما مسح قائد الفريق بيده عليها مرة واحدة. قصص من الخيال تصلح اليوم بجدارة أفلاماً كرتونية بامتياز لأن عقولنا لم تكن أصغر من أن تستوعب فحسب، بل كانت في غياب كامل قبل أن تبدأ ثورة الاتصالات التي تطورت في عقد واحد ما لم تفعله خلال ألف عام خلت. عودة إلى - هالة النور - التي سمع عنها الشيخ في زيارته للقرية يوم السبت وقيل إنها تصعد من القبر يوم الجمعة. الشيء الوحيد الجيد في القصة برمتها هي الحبكة فلو أن الشيخ مر على القرية نهار الأربعاء لقيل له إن النور يصعد يوم الثلاثاء كي يستعصي عليه الانتظار لرؤية البرهان.
وعلى أي حال فلم تعد هذه الأساطير المسطرة حد الخرافة تحتاج إلى براهين. أبرز ما كان من مرحلتها ليس إلا غياب العقل فكرامات وادي بانشير لم تحصل للصفوة في وادي بدر ومعجزات جبل تورا بورا لم تنزل على الصفوة التي استأسدت في جبل أحد وأعمدة النور وهالاته لم تصعد من قبر سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه.
إنها - الصحوة - التي جب زمنها ما قبله حتى بات جهاد القرن الرابع عشر في مرتبة أعلى من جهاد شهداء الأيام الأولى لهذا الدين العظيم وأكثر استئثاراً منه بالكرامة والمعجزة. اليوم لم تعد وقائع تغييب العقل في زمن استغلال فراغ العوام تحتاج إلى برهنة. إنها تحتاج إلى تطبيق: أن يعود فضيلة شيخنا اليوم إلى ذات القرية الأفغانية بعيد مغرب يوم جمعة ثم يقف على القبر ما شاء له إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود ثم يأتي إلينا ليتحدث مرة أخرى عن النور الذي لم يصعد أو يحاضر كيف تتوقف الأنوار وتنطفئ الكرامات بعد عقدين من الزمن فقط على رواج هذه الأساطير. أن يذهب السيد محمود أحمدي نجاد إلى قاعة الأمم المتحدة ويقف مباشرة في ذات المكان الذي أحس فيه بهالة نور على رأسه ثم نطفئ أنوار القاعة كاملة كي تبقى بها هذه الهالة المعجزة.
هذا الخلق والتكوين القصصي الذي تنكشف عراه في أقل من عمر المسيرة من طفولة إلى شباب هو بالتأكيد ما جعل من ثقافتنا بطولات خطاب زائف نحن أول من يكتشف اختلاقاته واختلافاته وكنا سنسكت عنها لولا أن العالم من حولنا أصبح ثقافة كروية قروية ولولا أن حروب التلفزيون تكشف اليوم شوارد الوقائع وأساطير البطولات.
* أكاديمي وكاتب سعودي