المرأة سعادة وشقاء
(وراء كل عظيم امرأة).. مقولة قد تصور في بعض جوانبها دور المرأة وأثرها في حياة النابغين، فالمرأة هي التي تدفع الرجل للأشياء العظيمة وهي الدافع له نحو آفاق النجاح والمجد، فدور المرأة خطير ومؤثر في حياة الرجل وفي شعوره، فهي غايته، ومدار حياته، وأنشودة فؤاده، ومعراجه الى سماء الراحة والسعادة، ومصدره للإلهام والإبداع وإذا كنا نسلم بصحة مقولة: (لولا الشاعر لما كانت المرأة) ،فإن المقولة الأخرى لها صحتها أيضاً وهي (لولا المرأة لما كان الرجل الإنسان والشاعر)، وقد تكون امرأة العظيم تلك نبع السعادة والنعيم، ومورداً عذباً للخلق والإبداع والعطاء، كما يمكن أن تكون العذاب عينه، والجحيم ذاته. وبالتوغل في حياة كثير من المبدعين وأرباب الفكر نجد دور المـــرأة الفاعـــل وتأثيرها القوي في دفع الرجل نحو المجد.
عطاء بلا حدود
فيكتور هوجو (Victor hugo) أبرز شاعر وراوئي وكاتب مسرحي فرنسي في القرن التاسع عشر الميلادي. صاحب (البؤساء) 1862م، و(أحدب نوتردام) 1831م كانت في حياته امرأتان، إحداهما سببت له الألم والجراح، والأخرى كانت البلسم الشافي والحب الأكبر في حياته.
الأولى: (أديل فوشيه) والثانية: هي الممثلة (جولييت دروديه) تعرف عليها في عام 1833م واستمرت علاقة هوجو بجولييت قوية مدة خمسين ســـنة، وإذا كانت هناك كلمة تعبر عنها فهي كلمة (العطاء) عطــــاء سخي بلا حدود تمنحه جولييت مقابل الحب الذي قدمه لها (هوجو).
ولأجل الحب العظيم الذي تحمله جولييت له تخلت عن كثير من المتع والمجوهرات والثياب الجديدة والتحف حتى لا تكلفه المال، وكانت تعيد رتق ثيابها القديمة وتقتصد في نفقات الطعام وتتناول منه أقل القليل الذي يكفي فقط لسد جوعها، كما كانت تتجنب إشعال النيران في المدفأة من أجل تقليل النفقات، وعندما كان البرد يشتد في غرفتها كانت تتكور في سريرها وترفع الغطاء حتى ذقنها وتلهي نفسها بقراءة أشعاره لتنسى وحدتها والبرودة القاسية.
كانت تفعل كل ما يطلبه منها، فامتنعت عن استقبال الضيوف من أصدقائها وامتنعت عن الخروج، وكانت تنتظر قدومه لتخرج معه لكنه كان يتجنب أن يرتاد معها الأماكن المزدحمة كي لا تتعلق بها عيون الفضوليين، الأمر الذي كان يحزنها، فهي لم تكن تحب أكثر من الظهور إلى جواره.
وعندما كانت تشعر بالوحدة والفراغ كانت تشغل نفسها بإعادة كتابة مسودات أعماله، ولأن (هوجو) كان يكتب كثيراً كانت (جولييت) تجد ما تفعله عندما يتركها.
وقد كانت جولييت بكل ما تقدمه لهوجو معيناً له ليكتب ويبدع.
سعادة دائمة
(لا أزمع أن أتزوج بدافع من الحب)
هذا قول قاله دزرائيلي الكاتب الروائي، والسياسي البريطاني، ولم يتزوج محباً، مكث عزباً حتى بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، ثم طلب يد أرملة عمرها خمسون سنة !.. أرملة تكبره بخمس عشرة سنة، أرملة وخط الشيب رأسها.
ولم يكن دافعه الحب، وعــــرفت هي أنــه لا يحبها وأنه تزوج بها طمعاً في مالها، عملية واقعية وصفقة تجارية، ومع ذلك حدث التناقض العجيب وكان زواجاً موفقاً في صفائه وانسجامه.
الأرملة الثرية التي اختارها دزرائيلي لم تكن جميلة ولا صغيرة ولا ذكية فحديثها كان يتخلله جهل هائل، وذوقها في الملبس كان شاذاً، ولكنها كانت عبقرية في نظرتها وتصرفها كزوجة وفي معالجتها للزوج ومعاملتها له.
فحين كان دزرائيلي يؤوب إلى المنزل ضجراً بعد ساعات من العمل المرهق.. كانت تخفف عنه بمهارة فائقة فيزول وصبه، ويرتفع الثقل الذي حمله على صدره.
المنزل كان المكان الذي يحتمي فيه من المحن، فينتعل حذاء الراحة، وينعم بدفء محبة (ماري) الفياضة.
تلك الساعات التي يقضيها مع زوجته كانت أجمل ساعات حياته، كانت (ماري) رفيقته المرفهة، وكاتمة سره ومستشاره، كان يحث الخطى إلى المنزل ليطلعها على أنبائه في مجلس العموم، ومهما كان التشاؤم الذي يشعــــر به كانت هي موقنـة من أنه لن يفشـــل:
ثلاثون سنة وارفة الظلال عاشتها ماري لدزرائيلي، اعتزت بمالها لأنه سهل عليه حياته، ومقابل ما أغدقته عليه كانت بطلته، ولما قضــت طلب دزرائيــــلي من الملكة فيكتوريا أن ترفع ماري إلى رتبة النبلاء فــاستجابت له الملكة ومنحتها لقب (كونتيس)، ماري لم تكن كاملة، ولكنها طوال ثلاثين سنة لهج لسانها بذكر دزرائيلي ووصف فضائله.
وقال دزرائيلي عنها: (لثلاثين سنة خلون وأنا أحيا معها في جنة لم أضجر قط ولم أملّ)، وقد جاهر دزرائيلي بأن ماري جوهر حياته، وماري قالت: حياتي مشهد سعادة متصل الحلقات، وكانا يتندران دائماً بقول له، وقول لها.
- (تزوجتك لمالك).
- وتبتسم وتقول: ( أجل ولكن إن كنت ستتزوجني ثانية فمن أجل الحب).
وأقر بأن هذا صحيح وحق.
والأمثــــلة على دور المــــرأة الإيجــــابي في حياة المبــدعين وأرباب الفكر كثيرة.. فأديب إيطاليا والروائي لويجي بيرانديللوLuIog Pirandello كتب ديوان شــــعر رائع بعد تعلقه بفتاة أحلامه، والروائي والكاتب الأمريكي إرنست همنجواي (Ernest Hemingway) أخـــــرج لنا رائعته (وداعاً للسلاح) بعد معاناته في هجر حبيبته له.
العذاب امرأة
وكما يمكن أن تكون المرأة ينبوع سعادة ومصدر إلهام.. يمكن أن تكون سبب الشقاء والألم والتعاسة.
فامرأة سقراط ما أن يُذكر العباقرة التعساء في بيوتهم حتى يقفز اسمها على الفور حتى أصبحت مضرباً للمثل في سلاطة اللسان.
فكل الروايات تشير إلى أنها كانت سيئة الطباع، دائمة الشجار مع زوجها الفيلسوف، وقد حكم عليها التاريخ بأنها امرأة عاشت في كنف عظيم دون أن تقدر قيمته. بيد أن هذا الحكم فيه بعض الظلم لتلك الزوجة التي كانت بسيطة لا شأن لها بعلم الكلام والجدل، لقد كان جل همها.. أطفالها وبيتها ومتطلباتهم، بينما زوجها منصرف عن كل هذا بفلسـفته، الأمر الذي جعل (اكزانتيب) دائمة الشـجار معه، تعيب عليه إهماله لشـــؤون أسرته وقد كانت في ذلك محقة، إذ كان سقراط يجول في الطــــرقات يحدث الناس عن الفضيلة تاركاً أســرته تعاني شظف العيش، فهو لم يكن ثرياً كي يتفرغ لفلسفته معتمداً على المال الذي لديه، وكان شــــديد الزهد لدرجة أنه كان ينسى أن يتناول طعامه.. ولكن ما ذنب أبنائه وزوجته في كل هذا ؟!
وقد كان سقراط يعترف بأن شكوى (اكزانتيب) زوجته عادلة.. لذا كان يتقبل نقدها برحابة صدر، كما كان يثني على رعايتها لمنزلها وأطفالها باقتدار، وقد كانت اكزانتيب رغم شكواها وتذمرها تحب سقراط ولكن على طريقتها، والدليل على ذلك حزنها الشديد عليه بعد المحاكمة الشهيرة التي انتهت بالحكم بإعدامه بدعوة أنه لا يؤمن "بآلهة المدينة"! وبأنه أفسد أخلاق الشباب، وفي سجنه.. جاءت الزوجة إليه وبكت بين يديه بينما سقراط يواسيها ثم طلب من صـــديقه أن يصحبها إلى دارها حتى لا تنصرف وحيدة. وبعد ذلك أخذ كأس السم من حارسه وتجرعه في هدوء.
مأساة تولستوي
إذا كان سقراط قد تعامل مع سلوك زوجته بفلسفة.. فإن الأديب والروائي والفيلسوف الروسي ليو تولستوي (Leo Tolstoy) لم يفعل مثله وظل كارهاً لزوجته حاقداً عليها، لا يغفر لها أنها أحالت حياته جحيماً.
وقد وصلت كراهيته لها إلى حد أنه أوصى بألاّ تدخل لرؤية جثمانه بعد وفاته، وقد اكتشفت زوجة تولستوي حقيقة الجحيم الذي صنعته لزوجها بتذمرها وشـكواها ونكـــدها الــذي لا ينتهي.. ولكن بعد فوات الأوان.. فقبل موتها اعترفت لبنتيها بقولها: (كنت السبب في موت أبيكما).
ولم تعلق الفتاتان.. فقد عرفتا أن أمهما قالت الحقيقة المرّة.. عرفتا أنها قتلت أباهما بشكواها المستمرة وانتقاداتها الدائمة.
لقد كان من المفروض أن يعيش تولستوي وزوجته في هناء. فهو الكاتب الكبير الذي فاقت شهرته شهرة جميع القياصرة، وكان المعجبون به يدونون كل كلمة يقولها وكل حركة تصدر منه حتى لو قال: (أريد أن ألوذ بالفراش).
ولد تولستوي لعائلة شديدة الثراء من ملاك الأراضي، ورغم أنه لم يحصل على درجة علمية إلا أنه كان بارعاً في الكتابة، وقد وضع روايتين من أشهر الروايات التي عرفها العالم: (الحرب والسلام) و(أنا كارنينا).
تزوج من (صوفيا أندويفنا)، وكان زواجه سعيداً، واستقر في الضيعة التي يمتلكها 15 سنة كتب خلالها أروع أعماله، ثم بدأ التغير والتحول في نمط حياته، إذ أخذ يدعو إلى مبادئه عن الحب والسلام وإلغاء الرق والاقطاع، ثم أصبح يطبق هذه المبادئ على حياته فعاش حياة القديسين يرتدي الثياب الخشنة، ويصنع أحذيته بيديه، ويأكل طعاماً بسيطاً في طبق من خشب... وتخلى عن جميع ممتلكاته الأمر الذي أدى إلى نشوب خلافات خطيرة بينه وبـــين زوجـته، وانضم أولاده إلى أمهـــم ما عدا ابنته الصغرى (الكسندرا) فعاش الرجل شقياً في أسرته التي لم ترض عن آرائه.
كانت (صوفيا) تحب حياة الترف والعز وتسعى إلى الشهرة، بينما هو احتقر كل هذا ولم يأبه به.
ومضت السنون وصوتها يرتفع بالتذمر والتشكي، أغضبها إقدامه على السماح بنشر كتبه بلا مقابل. وأصيبت بالهستيريا وأقسمت بأنها ستنتحر، وتسبب عدم التوافق الفكري هذا في شقاء كبير ومرارة.
وفي ليلة عاصفة رجته أن يقرأ مذكراته التي كتبها عنها وعن حبها قبل خمسين سنة. فقد روي أن كلاً من تولستوي وزوجته كان يكتب مذكراته يوماً بيــــوم، هو يـدون آراءه بصراحة في زوجـته وهي تدون انطباعاتها عنــه، وترك كل منهما هذه المذكرات متاحة للآخر ليقرأها.
وحين طلبت منه أن يقرأ مذكراته القديمة استجاب وأخذ يقرأ عن تلك الأيام الجميلة الحافلة بالسعادة التي ولّت بلا رجعة. فبكى الاثنان بكاءً مريراً.
وبلغ تولستوي الثانية والثمانين وضاقت نفسه بالشقاء المخيم على منزله. فهرب من زوجته في ليلة انهمر ثلجها.. وسار هائماً على وجهه في الظلام المتجمد.. وبعد أحد عشر يوماً مات من البرد بداء الرئة وحيداً فقيراً في محطة للقطارات.
هذا هو الثمن الذي دفعته (صوفيا) زوجة تولستوي، رب قائل يقول: إنها كانت محقة في تذمرها ونقدها..
ولكن هل أفادها تذمرها في شـــيء، لقـــد أضاف ســـوءاً إلى سوء وشراً إلى شــر
( قراءة من مجلة أهلاً وسهلاً ديسمبر2005 للكاتبة : الشريفة دانية آل غالب )
تعليق