Unconfigured Ad Widget

Collapse

حـمــــــاطــة الـمـســـــــيـد

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • سعيد صالح المرضي
    عضو مميز
    • Dec 2002
    • 569

    حـمــــــاطــة الـمـســـــــيـد

    حمـــاطة المســـيد
    كان قلبه معلق بالمسـاجد، فعند كل صلاة وعند كل فرض تعود العم [ محسن ] أن يحمــل الرّكْوة ويتجه نحو ســاحة مسجد القرية ليتوضأ تحت حماطة المسيد - تلك الشجرة التي تبوأت منتصف فناء المسجد من قبل أن يولد فتطاولت أغصانها حتى غطت كامل الفناء - كان يحضر مبكرا ويستمتع بالجلوس على حجر أملس تحتها ، وإلى جواره ركوته البنية اللون ، والمصنوعة من الجلد ، والمليئة بالماء البارد الزلال ، كان يتوضأ تحت الحماطة خمس مرات كل يوم تقريبا ، وأصبحت هذه العادة أشبه بالطقوس التي ليس لها تفسير سوى تعلقه بالمسيد والصلاة فيه ، والجلوس تحت الحماطة قبل وربما بعد الصلاة ، كان العم محسن احد المناظر المألوفة للقرية بجسمه المديد وخصره النحيل الذي تعود أن يحزمه بالقديمية الفضية التي لم تكن تفارقه ، ووجهه المستطيل ذو اللحية الكثة البيضاء ، كان ميقاتيّ القرية الذي تعرفه مساريبها وأهلها مع حلول ميعاد كل صلاة ، وهو يسلكها متجها نحو المسيد أو عائداً منه ، وكان صوته يشنف أذانهم وهو يرفعه داعياً للصلاة ، كان العم محسن يغار كثيراً على الحماطة ، ويغار أكثر على المسيد، فكان المسجد والحماطة على موعد يومي دقيق معه ، كان يسقي الحماطة بماء وضوءه ، وكان يحرسها من عبث الطفولة ، وشقاوة الشباب الذين كانت تغريهم ثمراتها السوداء الناضجة ، فيحاولون أن يجدوا مغــرة من العم محسن لتسلقها والحصول على بعض جناها ، لم يكن العم محسن سيئاً أو شرسا ًأو حاسداً لهم لكنه لا يحب الاعتداء على الحماطة ، فهو يبيع ثمارها في كل صيف بدراهم معدودة على أحد أثرياء القرية ، ليصرف ثمنها على حاجات المسيد، كانت تلك الدراهم المعدودة تسد حاجة المسيد من زيت المصباح أو فرش المسجد المكون من هُدُمٍٍ مصنوعةٍ من سعف النخيل أو حنبل من الكتان ويضيف إليها من عنده مانقص من ذلك ، وكان يحرص بين الحين والأخر وكلما أتيحت له فرصة الهبوط إلى السوق لشراء [ مقشة ] أو محوقه لينظف بها المسيد، وإن لم يتمكن عمد إلى [ عرفجة ] فأقتلعها وربطها من وسطها و[ حـَوّقَ ] بها جنباته.
    كانت حماطة المسيد التي تنتصب بقامتها المديدة وسط الساحة ، وتغطيها بظلالها الوارفة ، وعندما يقترب المساء يتجمع أهل القرية فيها قبيل الغروب يجلسون على أرائك من الأحجــار المبنية بإحكام لتحيط بكل جنبات الساحة ، وتدور أحاديث الجماعة المسائية عن شؤون ، وشجون القرية ، وعن الأهـِلـــّة ، والمطر والاستسقاء و الزراعة ، ومواعيد الحرث ، والصرام ، ومشاريب الماء [ نظام الري ] ، والبغـــرة والوسمية ، والشركة ، ومواعيد الزواج والختان ، ومواسم الحــجّ والأفــراح وكل أحوال القرية .
    لم يكن العم محسن يعرف القراءة ولا الكتابة كان أميّ لكنه كان من اعرفهم بالنجوم ، وأفضل أوقات الزراعة ، ومن أعرف أهل القرية بأمور الزراعة ، وشِرْب الماء ، وعدد [ حلق الأراضي الزراعية ] لكل بيت ، والنيبــة ، ويعرف حتى [ الخرص ] وهو أنصبة الزكاة وكان ذكر الله لا ينقطع عن لسانه حتى وهو يناقش مع الجماعة شؤون حياتهم وحتى وهو يخترق مساريب القرية في غدوه ورواحه في ظلمة الليل أو في وضح النهار تسمع تهاليله وتسابيحه وأنت في داخل بيتك ، كان بركة الدار والوادي وكان بيته مسيده ومسيده بيته
    وحتى إذا أختلف بعض أفراد القرية على حدّ من الحدود وحضر العم محسن ، قبل الطرفان قوله وارتضيا حكمه وانتهت المشكله .
    كان شباب القرية يتحلقون تحت حماطة المسيد بعد صلاة العشاء في ليالي الصيف المقمرة وكانت أشعة القمر تخترق أغصان الحماطة وتسقط على رؤوس السمار وهم يتسامرون في ساحة المسيد ويتذاكرون أخبار المدارس والسفر والغربة وبعضاً من أمور القرية كان العم محسن بلحيته التي تشبه ضوء القمر يشاركهم بعض سمرهم فقد كان رغم تقدم العمر يحب الشباب ويحب مجالستهم وأحاديثهم وحتى أقاصيصهم ، وربما تولد ذلك عنده لأنه رزق بثلاث بنات وولد واحد توفي وهو في عمر الزهور فكان يلمــح في كل واحد من شباب القرية صورة ابنه [ سالم ]
    كانت أحاديث الشباب مع العم محسن شيقة ومثيرة وصاخبة في بعض الأحيان ســأله ذات ليلة أحد الشباب قائلاً : لماذا زُرعت شجرة التين هذه دون غيرها في ساحة المسجد ياعم محسن ..؟؟ و لم لم تكن شجرة لوز أو حبله [ شجرة عنب ] أو خوط عرر ..؟؟
    تبسم الرجل ونظر إلى أكبرهم وقال له :
    ما علموك يا ولدي في المدرسة سورة و التين والزيتون..!!
    أجابه الشاب نعم ورتل :
    (( بسم الله الرحمن الرحيم * والتين والزيتون وطور سنين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ))
    التقط الحديث شاب أخر وكان أكثرهم ثقافة فقال :
    إن إقسام الله جل وعلا بهذه الشجرة هو نوع من تكريمه للإنسان بخلقه في أحسن تقويم‏ وتبيان لأهمية هذه الشجرة التي لو لم تكن مهمة لما أقسم بها الله عز وجل .
    ضحك العم محسن من تلك الإجابة ودعا لهم بالتوفيق في دراستهم وقال ليتني في سنكم وأتعلم مثلكم ..!!
    وكانت الأمهات من نســاء القرية عندما تصيب الحساسية الرضع من أطفالهن يبعثن بأحــد الصغار إلى العم محسن ليغترف لهن شيئا يسيراً من ذلك التراب الناعم الذي تساقط عند حواف المسجد الداخلية من الطين الذي غطيت به تلك الجدران ليداوين به حساسية أطفالهن ، تماماً هي نفس الوظيفة التي تقوم به البودرة الآن .

    وعلى غير العادة افتقدت مساريب القرية وقــع خطـى ذلك الشيخ الذي كان يذرعها ذهابا وإيابا بنحنحته المعروفة وتهليله الذي ألفته حتى حصاها ونباتاتها،
    لقد ألزم المرض العم محسن الفراش وحال بينه وبين غدوه ورواحه في جنبات القرية نحو مسجدها أو مزارعها ، وبات منزله يمتلئ كل مساء بالزوار الذين كانوا يتحلقون بكل أطيافهم حول قعادة العم محسن ، يعسونه ، يسامرونه ويسـلونه ويرمقونه بنظرات من الإشفاق والقلق لما يلمحونه على وجهه من أثار المرض وشدة سطوته ، كانت تعابير وجهه تنبئ بأمر خطير ومرض عضال رغم صبره وتجمله وتبسمه المستمر في وجوه زواره ، حاول بعض كبار القرية في حوارهم معه البحث عن وسيلة تساعده على التخلص من المرض غير أنه كان يردد دائماًً ( هــو الشـافي ) لقد كان العم محسن يشعر في أعماقه بقرب دنو أجله وأن أيامه في هذه الحياة الدنيا باتت معدودة وأنه من العبث اللجوء إلى البشر والأمر بيد خالق البشر فكان يرفض وبشدة كل عرض بإحضار من يداويه أو يصف له دواء ، كان أكثر ما يفعله هو تناول القليل من العسل أو قليل من اللبن البارد أو تناول شئ من القهوة عندما تدار مساءً على زواره .
    لم يطل عهد المرض بالعم محسن فبينما كان الكثيرون يتحلقون حوله ذات مساء وافاه الأجل المحتوم وهم جلوس حوله رفع العم محسن بصره إلى السماء ثم رفع سبابته وحرك لسانه ونطق بالشهادتين قفز أحد المسنين إلى جواره وهو يردد معه الشهادة ، ولما تأكد من موافاة الأجل أغمض عينيه ثم أغلق فمه وغطا وجهه وأعقبها بدمعة صامتة شاردة من عينيه سالت على خده شاهدها الجميع رغم محاولته إخفاءها
    التفت إلى الحاضرين وسـألهم الدعاء له بالرحمة والغفران وطلب منهم مسامحته والعفو عنه .
    في ضحى اليوم التالي وُوُرِي جثمان الفقيد الثرى في مقبرة القرية الملاصقة لِدُورِها وعاد الجميع والحزن يخيم على كل شئ
    وظهرت علامات الحزن على الكبير والصغير وحتى تلك الحماطة التي كانت تأنس بـه كلما استظل بظلها ورواها من ماء وضوءه بدأت تذبل أغصانها وتتساقط أوارا قها في غير أوانها تنبه بعض الشباب لحالها فظنوا أن نقص الماء هو السبب فتعهدوها يومياً بالسقيا غير أن الذبول كان يزيد يوما بعد يوم ولم يطل بها الأمد حتى جفت أغصانها وتساقطت أفرعها ويبس عودها ولحقت بصاحبها
    نعم لقد ماتت حماطة المسيد كما مات العم محسن وكما مات وسيموت الكثيرون تلك هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا .
    ولله الأمـر من قبل ومن بعــد
    وسبحان الحي الدائم الذي لا يموت
    ((كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏ ))
    ‏(‏ آل عمران‏:185 )‏
  • رعــد الجنـــوب
    مشرف منتدى الشعر النبطي
    • Aug 2004
    • 4075

    #2
    الاخ العزيز سعيد
    اسعد الله اوقاتك بكل خير


    عزيزي كان بودي ان يكون هذا الموضوع في غير منتدى الشعبيات
    لسبب وجيه وهو قيمة الموضوع الكبيره لاتجعل قبوله في الشعبيات
    مألوفا فالشعبيات عرفت بالقصائد فقط رغم ان الموضوع من الشعبيات
    ولكن أمل ان يتم نقله الى مجتمع الديره مثلا فهناك سيلقى ردود فعل
    اكبر
    ةاما بالنسبه لموضوعك فأقول بارك الله فيك ورحم الله العم محسن
    واسكنه فسيح جناته سيكون لي تعليق بعد نقل الموضوع انشاء الله

    تعليق

    • عبدالله رمزي
      إداري
      • Feb 2002
      • 6605

      #3
      موضوع في غاية الروعة ويحتاج إلى وقت للقراءة والرد ...

      لي عودة

      عبدالله رمزي
      ما كل من يبعد به الوقت ناسيك ... بعض البشر قدام عينك وينساك

      تعليق

      • صقر العروبة
        عضو نشيط
        • Jan 2005
        • 837

        #4
        موضوع جيد جدا بس ملاحظاتى انة طويل جدا أشكرك وتحياتى

        تعليق

        • ابو المجد
          عضو
          • Sep 2004
          • 87

          #5
          الأخ سعيد صالح
          تحية لك معطرة بعطر الورد ورائحة البخور
          عند ما نراك تكتب عن العم محسن والقرية والمسيد
          نرى قطرات الشهد تتساقط من بين الأنأمل لترينا
          الأبداع والمواهب المصقوله
          لولا عشقك للقرية والبيت الحجر ما تدفقت تلك الينا بيع
          العذبه التي أروت قلوب العطاشا
          المحبة حاصله والمجئ حسب الظروف = ان حصل لي جئت وأما حصلي كيف اجئ

          تعليق

          • أبو ماجد
            المشرف العام
            • Sep 2001
            • 6289

            #6
            هل هو عبدالعزيز مشري آخر قادم ؟؟؟

            هنيئًا لنا بك يا أبا عادل ، وآمل أن أراها بجوار درر أخرى في عقد يضمها جميعًا ، على أرفف مكتباتنا .

            سر على بركة الله وبتوفيقه .

            تعليق

            • بن بشيتي
              عضو مميز
              • Feb 2003
              • 1335

              #7
              استاذنا الغالي اسال الله لك التوفيق والنجاح في الدنيا والاخرة . قبل مداخلتي اوافق ابو ماجد في امنيته فكم تفتقر رفوف مكتباتنا الى مثل هذا الادب الجميل ,

              رحم الله الشيخ محسن (وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه )


              الناس صنفان موتى لاحياة لهم = واخرون ببطن الارض احياء
              اديبنا الغالي نحن نسميها الرقاعه وهي بجوار المسيد ووسط القرية قريبة جد من الحماطة شكلا وانتاجا تولعنا بها ونحن في سنوات الطفوله الجميله النقية فكانت المكان الجميل والنادي الكبير الذي نمارس فيه نشاطنا اليومي لهوا ومرحا وعند الاذان عبادة وخاصة ان امثال محسن يرحمهم الله كثير لك ان ترى تلك الوجوه الندية الطيبة تسمع الصوت عند سماع الله واكبر تبداء الحركة مباشرة يتوافد القوم ان لم يكونوا تحت الرقاعه من الاصل صلاة الجمعه انتظروا قليلا نريد المشورة في امر جد نريد ان ناخذ شركة نريد ان نستقبل ضيوف نريد ان نزور مريضا او سميا او نزوج عرس كل ذالك يدور في ذالك النادي الكبير باهله تحت الرقاعه المكان مكشوف واحوال القوم بمقياس اليوم بسيطه ولكن النفوس كبيرة وكبيرة لااريد الاطناب فاكتفي بقناعتي كتلميذ في مدرسة سعيد المرضي ومع الحماطة عدت للخلف لايام افلت ولسان حال قول ابو الصمت


              واذكر ايام الحمى ثم انثني = على كبدي من خشية ان تصدعى
              وليست عشيات الحمى برواجع = عليك ولكن خل عيناك تدمعى

              تعليق

              • قينان
                أدعو له بالرحمه
                • Jan 2001
                • 7093

                #8
                أخي العزيز سعيد المرضي.

                أبا عادل إن هذا الاسلوب الراقي كم نحن بحاجه إلى جمع أشتات مثل هذه القصص وتضمينها كتابا نقتنيه ليزين جنبات مكتباتنا وندرسه لابنائنا
                ويتناقله جيلا بعد جيل.

                أنني أوفق الأستاذ أبو ماجد وماتبعه من إخوة كرام وأضم صوتي إلى أصواتهم ونطلب منك صياغة مثل هذه القصص المؤثرة.

                حتى تلك الشجرة تأثرت بصاحبها وذبلت أغصانها وتساقطت أوراقها بدلا من تلك النظرة الجميله والاغصان الوارفه وحفيف الرياح يشنذ الاذان .

                سر على بركة الله ورحم الله العم (محسن ) وجزاك الله الف خير على هذا الطرح
                sigpic

                تعليق

                Working...