لا يستطيع أحد أن يقتحم غرفة المدرسين بسهولةوكثيراً ما تساءل الطلاب عن حقيقة ما يدور وراء أبوابها المغلقة حيث يستريح المدرس ويرصد تقديراتهم الشهرية تحت مرأى ومسمع من الجميع! ورغـم أنه قـد كـان لها أهمية خاصة إلى حد كبير إلا أن الواقع يؤكد أنها تضيق بأصحابها أحياناً كثيرة!، فخلف الأبواب المغلقة تكمن أسرار ومفارقات، تعالوا نسمعها من فم أصحابها.. فها هي كاتريه (مدرسة الإنجليزية) تؤكد أن غرفة المدرسين بمنزلة لجنة لاختبار المدرس المستجـد والحكم على صلاحيته، وتقول: «بالنسبة للمدرس الجديد تعد غرفة المدرسين مواجهة مهمة وحاسمة له قبل مواجهة الفصل. فالمدرسون الكبار لهم حاسة عميقة تجعلهم يفحصونه ويعايرونه: أنت جديد، انظروا كيف سيتصرف؟! كما أنهم يشعرونك دائماً بدرجات من السلطة والتحكم ودائماً ستشعر أن هيئتك وطريقتك في ارتداء ملابسك لا تعجبهم! كذلك يجب أن يكون واضحاً أنه داخل هذا المكان يوجد فرق كبير بين الشباب المتخرج حديثاً والعجوز الذي أمضى حياته في المدرسة! تماماً كما يوجد فرق بين طفل في الابتدائية وطالب حاصل على تقدير جيد جداً في الثانوية! ولذلك تظهـر علامات داخل الغرفة لا تخطئها عين: ففي مدارس باريس هناك صندوق خطابات من الخشب لصغار المدرسين ومن الحديد للكبار! ويتمتم «روجر» مدرس العلوم - حول غرفة المدرسين-: «إنها مكان نذهب إليه ونحن نرغب في الفرار منه!» ورغم أن هذا قــول ســـلبي، إلا أن الــواقـع يدعمه إلى حد كبير. فالهدوء الشديد يخيم على المكان مع كلمات (صباح الخير) التقليدية والكئيبة بين الزملاء الذين لا يجمعهم سوى المكان، دونما رغبة في التعارف أو إدارة حوار مفيد، لذلك لم يستطع روجر مثلاً أن يدخل مناقشة جديرة به ويكتفي بكتابة الدرجات أو تصحيح الكراسات في وقت الفراغ. وربما كان الاستثناء الوحيد داخل المقصف الخشبي، حين يتوقف كل مدرس لتناول القهوة وقطعة الكرواسون في الصباح: إذ يجلسون هنا باسترخاء شديد يسمعون أحسن نكتة ويتكلمون بشكل عادي وطبيعي دون اللجوء إلى استخدام مصطلحات فنية كما يحدث عند تدريس موادهم العلمية!
ويشـير «فيليـب» مـدرس الاقتصاد إلى نقطة هامة في أحاديث الزملاء «فبدون شك نحن نمضي وقتاً طويلاً في مناقشة أحوال التلاميذ وتبادل الآراء حولهم خصوصاً إذا كنا ندرّس في فصل واحد أو بيننا تلميذ مشترك ملحوظ جداً تفوقه أو شغبه!».
ومع ذلك، ففي غالبية المدارس الفرنسية اليوم نجد غرفة المدرسين مقسمة إلى وحدات صغيرة جداً يتمركز فيها المدرسون بانضباط شديد، ويؤدي كل واحد عمله بسرعة فهناك من يصوٍّر ورقة أو يصحح كراسة أو يرصد الدرجات.. وكأنها مجرد غرفة «ترانزيت»!
ورغم دور المدرسين والرسالة التي يحملونها على عاتقهم إلا أنهم كبقية الناس لا يسعدون بالذهاب كل يوم إلى العمل، ويتعجلون العودة إلى بيوتهم حيث الدفء والراحة. ويتذكر «روبرت» - بحنين - مدارس الماضي «حيث كان الدفء موجوداً والمشاعر حقيقية بدون زيف ومن أعماق القلب» كما يضيف ضاحكاً «زمان كنا نقضي الوقت في رواية النكت واغتياب الـزمـلاء.. صحـيـح أنـنـا لم نلعب فيها الورق، لكن على الأقل كانت هناك حياة»!.
وإذا كانت روابط الصداقة والحميمية قد تقلصت في المدينة، فإن مدارس الأقاليم مازالت أكثر تماسكاً «فهناك دائماً وقت للحديث عن العمل والطلاب، كذلك هناك في الغرفة المخصصة للمعلمين تدور الأحاديث الخاصة، وتكون اللغة عامية وتستمر الثرثرة وتصبح القفشات شديدة الخصوصية! تماماً كما يحدث مع التلاميذ والشباب بصفة عامة».
وإذا أراد تلميذ اختراق هذه الخصوصية أو إفسادها يتم التخلص منه بعبارة واحدة، «تعال في وقت لاحق».
هل عرفت الآن أيها الطالب لماذا تحتاج المحاولة 10 مرات قبل أن تحاصر مدرساً وتجبره على الرد على تساؤلاتك؟!

نشر في مجلة (المعرفة) عدد (37) بتاريخ (ربيع الآخر 1419هـ -أغسطس 1998م)

وعذرا للإطالة ،،