"إذا جاء لأمك بنت أدفنها وأنا أبوك.. الموصى الله ".
هذه هي الوصية التي أوصى بها حميد بن منصور ابنه عندما حمل عصاه وغادر قريته في رحلة لطلب الرزق استغرقت عدة سنين ..
اختلفت الروايات حول المكان الذي عاش فيه حميد بن منصور فمع أن أكثرها يشير إلى أنه يماني إلا أن ذلك التحديد يبقى مطلقا لجميع قبائل الجنوب ، فالمتعارف عليه قديما أن اليمن هو مابين مكة وحضرموت ، ولذلك سمي ركن الكعبة الجنوبي بالركن اليماني .وسمي النجم الزاهر الذي يظهر إلى الجنوب من مكة أيضا بسهيل اليماني الذي أنشد فيه الشيخ عايض القرني بيتا أمام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أعتبره من أبلغ ماسمعت ، حيث يقول :
حتى النجوم لكم سهيلٌ وحده = لو خيّروه ما اشتهى إلا اليمن .
ومثل ما كان المتنبي يملأ الدنيا ويشغل الناس ، كان حميد بن منصور أيضا ، فلا تكاد قصائده وحكمه وأمثاله تخرج من أفواه الرواة والمحدثين إلا وتسافر مع رياح الجنوب تارة ومع رياح الشمال تارة أخرى ، تُشرّق تارة وتُغَرِب أخرى ، يتغنى بها الراعي والحادي ..
يقول حميد بن منصور :
الطين كلّه محارث = إلى لقي من يثيره
يقول حميد بن منصور :
أطراف مالي حصونه
إلى غدا أطراف مالي
منين لي من يصونه ؟
يقول حميد بن منصور :
ما يذهب الفقر عنا = غير الدبش والزراعة
وفرقتينٌ من الضأن = تطأ الجبل من فراعه
وإلا بعيرٌ مدنّى = له كل دورٌ بضاعة
وإلا صبيّة عريبة =من بيت منصا شجاعة
تشبعنا في حزّة الجوع= وتشحّه يوم الشباعة
يقول حميد بن منصور :
بعض الشكالة هتالة
بغيت في الشط يعود
وزدت سدّ المحالة
ومع مافي هذه الأبيات من معاني وحكم وعبر ، ومع ماتحتاجه من شرح وإيضاح، إلا أن موضوعنا هنا هو عن وصية حميد بن منصور التي وصى بها ابنه ، فقد عاد بعد سفره الطويل ليجد صبية - بين النساء اللاتي يسقين على البئر القريبة من القرية - أثارت الشك في قلب حكيم زمانه ، فما كان منه إلا أن أختبرها ببيت من الشعر :
" ويشا بلاكم بذا البير = حمل الحمارة رشاها ؟"
يأتيه الجواب فوار ليقطع شكه بيقن لايريحه ولم يكن يتوقعه :
"كلٌ مولع بأرضه = ولو تسقّى بلاها !"
فيرد على الفور على غير عادته في التأني:
"بنت حميد بن منصور = يالعن بو من رباها !"
كان ابن حميد بن منصور" مبارك" ناويا على تنفيذ وصية والده ، لكن هيهات أن تترك له حواء ذلك ! فما أن أخذ أخته " مزنة" إلى حيث يريد دفنها ، إلا وأظهرت من الحب والود ما جعله يغير رأيه ، هو يحفر القبر ، وهي تنتظر ساعة الدفن ، يأتي التراب على ثيابه ، فتهِبّ لنفضها وتنظيفها ، فيعدل عما كان ينوي ، ويعود بها إلى البيت .
لا مكان ولا زمان للتفاهم بين حميد بن منصور وابنه مبارك، فقد خالف وصيته، وعليه أن يتحمل نتيجة مخالفته، يطلب منه أن يغادر هو وأخته، فلم يعد يحتمل رؤيتهما.
يصلان إلى مكان لا يوجد فيه إلا عجوزا وحيدة " آخرة عرب " ، تستأنس بهما وتطلب منهما البقاء معها، لكنها تحذرهما من قبيلة مجاورة، فأهلها غزاة بغاة، لا يرحمون ولا يتورعون عن نهب وسلب من يمر بديارهم أو يعيش بجوارهم.
يسرح مبارك للصيد ، ويمارس الفروسية ، ويستعد لما يخبئه له الغيب ، وخصوصا بعد علمه ببأس جيرانه ، وتبقى أخته مع العجوز التي ما تفتأ تحذرها بين الحين والآخر :" انتبهي بابنتي ، لا ترمين شعرك في الفلج ، فقد يذهب به الماء إلى ديرة الأعداء ، فيعرفون أن هناك غرباء على المنطقة ، فيأتون للبحث عنهم ".
تستمر الحياة في ترقب وخوف ، حتى أن مزنة ، لا تنام إلا بعد أن تطلب من أخيها أن يربط سراحها في طرف كمه. وتمر الأيام والشهور والسنين ، تكبر مزنة ، فتبدأ بالتفكير خارج أضلاع المثلث ..!
تتعمد إلقاء خصلة من شعرها في الفلج ، مبارك قد خالف وصية أبيه من قبل ، فلماذا لا تخالف هي وصية العجوز التي لا تربطها بها أي صلة قرابة ؟!
تمضي خصلة شعر مزنة في الفلج فتصل إلى يد أحد الذين كانت تحذرها منهم تلك العجوز التي لم تكن تعلم أن مزنة أصبحت تفضل رؤيتهم على رؤية أخيها وعجوزه !
يأتي إليها صاحبها، ولا يطول انتظاره، تقابله وتطلعه على الوضع، وتتفق معه على خطة الهروب !
" أخي لا ينام إلا بعد أن يربط شعري في كم ثوبه ، فلا تأتي إلينا إلا بعد أن ينام ، سأحاول أن أنسل منه بعد أن أقطع سراحي ، لكنني أحذرك من بأسه ، فلو حس بنا سيقتلك ، لذلك عليك التخلص منه بمجرد أن تحس أنه تحرك ..!" .
ما تكاد مزنة تبدأ بجز خصلة شعرها التي ربطت في كم أخيها إلا وينهض شاهرا سيفه ليصد الخطر الذي أعتقد أنه حدق بأخته " المسكينة" ..! يعاجله صاحبها بضربة من سيفه فيصرعه، ثم يبدأ بطعنه وتجريحه حتى لم يعد يحس بما حوله، فيذهب هو وصاحبته إلى حيث أرادا..!
تستيقظ العجوز في صباح اليوم التالي ، فلا تحس حركة مبارك ولا مزنة ، على غير العادة ، فتذهب لتعرف الخبر ..! تفاجأ بمنظر مبارك الغارق في دمائه والغائب عن وعيه ..!
تبدأ بخبرتها الطويلة في معالجته، تطلب منه عند انتهاء كل فترة علاجية القفز، في كل مرة تعيده إلى المعالجة من جديد، حتى تأكدت أنه يستطيع القفز فوق الحصان.
غادر للبحث عن أخته وعشيقها، بعد أن تزود بما يحتاجه من الإرشادات والنصائح من تلك العجوز...!
كانوا قد رحلوا من مكانهم الأول، فبدأ يبحث عنهم، ويتتبع أثرهم، وكما وجد أبوه أخته من قبل، وجدها هو مع ثلّة من الرجال، كانت متأكدة أنه قد فارق الحياة، ولكنها لم تستبعد الشبه..! تصيح قائلة :
" العين عين مبارك واللمحة لمحة هندي " !!
رغم أنه جاء إليهم في هيئة مسكين متسول،إلا أن قلبها بدأ يدق بشكل لا يدل على الطمأنينة .فالعيون هي عيون مبارك التي تعرفها جيدا ، أما النظر فإنه مختلف وكأنه نظر أحد الهنود الذين لا يجرأون على النظر المباشر إلى الآخر .
مكث حولهم يقتات على ما يعطونه مما يبقى من الأكل ، فهو المسكين الذي تقطعت به السبل كما أفاد ، وماهو في الحقيقة إلا منتظرا لفرصة تمكنه من الثأر له ولأبيه الذي وصاه من قبل..!
تأتي الساعة ، وتحين الفرصة ، فيجهز عليهم وهم نائمون ، فيقتل الثلاثة جميعا ، ويبقى عليها ، ويخبرها أنه " مبارك " ..!
يأخذها إلى حيث تقيم العجوز ، يستشيرها في الأمر ، فتدله على أن يجعلها على ناقتين ، يحبس واحدة عن الأكل أسبوعا ، والثانية عن الماء كذلك ، يُرْكِبها على الناقتين ، ويفك القيد ، فتذهب واحدة إلى الماء، والثانية إلى الأكل ، فتنفرج رجلاها ويتشقق جسدها ويسقط حملها ، لتعاني بعض ما عانى ... !!
هذه هي الوصية التي أوصى بها حميد بن منصور ابنه عندما حمل عصاه وغادر قريته في رحلة لطلب الرزق استغرقت عدة سنين ..
اختلفت الروايات حول المكان الذي عاش فيه حميد بن منصور فمع أن أكثرها يشير إلى أنه يماني إلا أن ذلك التحديد يبقى مطلقا لجميع قبائل الجنوب ، فالمتعارف عليه قديما أن اليمن هو مابين مكة وحضرموت ، ولذلك سمي ركن الكعبة الجنوبي بالركن اليماني .وسمي النجم الزاهر الذي يظهر إلى الجنوب من مكة أيضا بسهيل اليماني الذي أنشد فيه الشيخ عايض القرني بيتا أمام الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أعتبره من أبلغ ماسمعت ، حيث يقول :
حتى النجوم لكم سهيلٌ وحده = لو خيّروه ما اشتهى إلا اليمن .
ومثل ما كان المتنبي يملأ الدنيا ويشغل الناس ، كان حميد بن منصور أيضا ، فلا تكاد قصائده وحكمه وأمثاله تخرج من أفواه الرواة والمحدثين إلا وتسافر مع رياح الجنوب تارة ومع رياح الشمال تارة أخرى ، تُشرّق تارة وتُغَرِب أخرى ، يتغنى بها الراعي والحادي ..
يقول حميد بن منصور :
الطين كلّه محارث = إلى لقي من يثيره
يقول حميد بن منصور :
أطراف مالي حصونه
إلى غدا أطراف مالي
منين لي من يصونه ؟
يقول حميد بن منصور :
ما يذهب الفقر عنا = غير الدبش والزراعة
وفرقتينٌ من الضأن = تطأ الجبل من فراعه
وإلا بعيرٌ مدنّى = له كل دورٌ بضاعة
وإلا صبيّة عريبة =من بيت منصا شجاعة
تشبعنا في حزّة الجوع= وتشحّه يوم الشباعة
يقول حميد بن منصور :
بعض الشكالة هتالة
بغيت في الشط يعود
وزدت سدّ المحالة
ومع مافي هذه الأبيات من معاني وحكم وعبر ، ومع ماتحتاجه من شرح وإيضاح، إلا أن موضوعنا هنا هو عن وصية حميد بن منصور التي وصى بها ابنه ، فقد عاد بعد سفره الطويل ليجد صبية - بين النساء اللاتي يسقين على البئر القريبة من القرية - أثارت الشك في قلب حكيم زمانه ، فما كان منه إلا أن أختبرها ببيت من الشعر :
" ويشا بلاكم بذا البير = حمل الحمارة رشاها ؟"
يأتيه الجواب فوار ليقطع شكه بيقن لايريحه ولم يكن يتوقعه :
"كلٌ مولع بأرضه = ولو تسقّى بلاها !"
فيرد على الفور على غير عادته في التأني:
"بنت حميد بن منصور = يالعن بو من رباها !"
كان ابن حميد بن منصور" مبارك" ناويا على تنفيذ وصية والده ، لكن هيهات أن تترك له حواء ذلك ! فما أن أخذ أخته " مزنة" إلى حيث يريد دفنها ، إلا وأظهرت من الحب والود ما جعله يغير رأيه ، هو يحفر القبر ، وهي تنتظر ساعة الدفن ، يأتي التراب على ثيابه ، فتهِبّ لنفضها وتنظيفها ، فيعدل عما كان ينوي ، ويعود بها إلى البيت .
لا مكان ولا زمان للتفاهم بين حميد بن منصور وابنه مبارك، فقد خالف وصيته، وعليه أن يتحمل نتيجة مخالفته، يطلب منه أن يغادر هو وأخته، فلم يعد يحتمل رؤيتهما.
يصلان إلى مكان لا يوجد فيه إلا عجوزا وحيدة " آخرة عرب " ، تستأنس بهما وتطلب منهما البقاء معها، لكنها تحذرهما من قبيلة مجاورة، فأهلها غزاة بغاة، لا يرحمون ولا يتورعون عن نهب وسلب من يمر بديارهم أو يعيش بجوارهم.
يسرح مبارك للصيد ، ويمارس الفروسية ، ويستعد لما يخبئه له الغيب ، وخصوصا بعد علمه ببأس جيرانه ، وتبقى أخته مع العجوز التي ما تفتأ تحذرها بين الحين والآخر :" انتبهي بابنتي ، لا ترمين شعرك في الفلج ، فقد يذهب به الماء إلى ديرة الأعداء ، فيعرفون أن هناك غرباء على المنطقة ، فيأتون للبحث عنهم ".
تستمر الحياة في ترقب وخوف ، حتى أن مزنة ، لا تنام إلا بعد أن تطلب من أخيها أن يربط سراحها في طرف كمه. وتمر الأيام والشهور والسنين ، تكبر مزنة ، فتبدأ بالتفكير خارج أضلاع المثلث ..!
تتعمد إلقاء خصلة من شعرها في الفلج ، مبارك قد خالف وصية أبيه من قبل ، فلماذا لا تخالف هي وصية العجوز التي لا تربطها بها أي صلة قرابة ؟!
تمضي خصلة شعر مزنة في الفلج فتصل إلى يد أحد الذين كانت تحذرها منهم تلك العجوز التي لم تكن تعلم أن مزنة أصبحت تفضل رؤيتهم على رؤية أخيها وعجوزه !
يأتي إليها صاحبها، ولا يطول انتظاره، تقابله وتطلعه على الوضع، وتتفق معه على خطة الهروب !
" أخي لا ينام إلا بعد أن يربط شعري في كم ثوبه ، فلا تأتي إلينا إلا بعد أن ينام ، سأحاول أن أنسل منه بعد أن أقطع سراحي ، لكنني أحذرك من بأسه ، فلو حس بنا سيقتلك ، لذلك عليك التخلص منه بمجرد أن تحس أنه تحرك ..!" .
ما تكاد مزنة تبدأ بجز خصلة شعرها التي ربطت في كم أخيها إلا وينهض شاهرا سيفه ليصد الخطر الذي أعتقد أنه حدق بأخته " المسكينة" ..! يعاجله صاحبها بضربة من سيفه فيصرعه، ثم يبدأ بطعنه وتجريحه حتى لم يعد يحس بما حوله، فيذهب هو وصاحبته إلى حيث أرادا..!
تستيقظ العجوز في صباح اليوم التالي ، فلا تحس حركة مبارك ولا مزنة ، على غير العادة ، فتذهب لتعرف الخبر ..! تفاجأ بمنظر مبارك الغارق في دمائه والغائب عن وعيه ..!
تبدأ بخبرتها الطويلة في معالجته، تطلب منه عند انتهاء كل فترة علاجية القفز، في كل مرة تعيده إلى المعالجة من جديد، حتى تأكدت أنه يستطيع القفز فوق الحصان.
غادر للبحث عن أخته وعشيقها، بعد أن تزود بما يحتاجه من الإرشادات والنصائح من تلك العجوز...!
كانوا قد رحلوا من مكانهم الأول، فبدأ يبحث عنهم، ويتتبع أثرهم، وكما وجد أبوه أخته من قبل، وجدها هو مع ثلّة من الرجال، كانت متأكدة أنه قد فارق الحياة، ولكنها لم تستبعد الشبه..! تصيح قائلة :
" العين عين مبارك واللمحة لمحة هندي " !!
رغم أنه جاء إليهم في هيئة مسكين متسول،إلا أن قلبها بدأ يدق بشكل لا يدل على الطمأنينة .فالعيون هي عيون مبارك التي تعرفها جيدا ، أما النظر فإنه مختلف وكأنه نظر أحد الهنود الذين لا يجرأون على النظر المباشر إلى الآخر .
مكث حولهم يقتات على ما يعطونه مما يبقى من الأكل ، فهو المسكين الذي تقطعت به السبل كما أفاد ، وماهو في الحقيقة إلا منتظرا لفرصة تمكنه من الثأر له ولأبيه الذي وصاه من قبل..!
تأتي الساعة ، وتحين الفرصة ، فيجهز عليهم وهم نائمون ، فيقتل الثلاثة جميعا ، ويبقى عليها ، ويخبرها أنه " مبارك " ..!
يأخذها إلى حيث تقيم العجوز ، يستشيرها في الأمر ، فتدله على أن يجعلها على ناقتين ، يحبس واحدة عن الأكل أسبوعا ، والثانية عن الماء كذلك ، يُرْكِبها على الناقتين ، ويفك القيد ، فتذهب واحدة إلى الماء، والثانية إلى الأكل ، فتنفرج رجلاها ويتشقق جسدها ويسقط حملها ، لتعاني بعض ما عانى ... !!
تعليق