التكفير .. البعد الأخلاقي والتربوي !!
لو كان للواقع لسان ، لأشار بكلامه الى " التكفير " وأنه بؤرة خطيرة للغاية ، ولكن لسان الحال هو الذي يعمق القناعة بخطورة هذا المنهج وأثره على العمل والدعوة والاصلاح والأمة كلها ..
لقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليدخل الناس الى الاسلام ، ويدلهم الى طريق الهداية ، ثم توالت الأدلة على تحريم " التكفير " وهو إخراج المسلم من دائرة الاسلام الى دائرة الكفر ، فقال : " من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما " ، فإن لم يكن كذلك والا حارت عليه ، ولذا كان التكفير مزلقا خطيرا ومنهجا لم يتبناه في تاريخ الأمة الا الغلاة الذين جعلوا التكفير وسيلة الى استحلال دماء الناس واموالهم واعراضهم ..
إن فتنة التكفير لا ينظر اليها من باب الاجتهاد الشرعي الذي يقوم به عالم مجتهد يستجمع قضايا التكفير ، ، و ليست حكما على فرد بردة أو كفر ، فان هذا أمر قضائي موجود على مدار التاريخ الاسلامي ، ، ولكن المشكلة في طردها والتسلسل فيها وعدم إدارك خطورتها وابعادها الفكرية والمنهجية والتربوية ، فيلجأ من خلالها الى استحلال دماء المسلمين واموالهم واعراضهم ، ولا يعرف في منهج السلف أن خرج في الأمة فئة تكفر يرها البتة ، فقد كانت قضية الاحكام هي قضية سياسة شرعية يمارسها أهل الرأي من الولاة ، حيث كان " الخوارج " فقط هم الذين يكفرون بالفعل ، ثم يوقعونه على كل مخالفيهم ..
التكفير يحمل وراءه مآسي تربوية ضخمة ، فالعدائية التي توجد عند كثير من الشباب ، والسرعة في الحكم على الاموال والدماء ، والشعور بالغربة داخل المجتمع المسلم ، والحنق على اهل العلم والدعوة ، والتسرع في اطلاق الاحكام ، والتأزم النفسي ، وحدوث الانشقاق داخل الصف الاسلامي ، وانتهاك حرمة العلم والعلماء كلها تأتي نتيجة لزرع منهج التكفير في وعي الجيل المسلم المعاصر .
إن المفارقة الغريبة العجيبة حين تقرأ في كتب أهل العلم وخاصة فيما يتعلق بالتورع عن الاحكام بالردة والكفر ، ووضع الضوابط الصارمة في ايقاع الاحكام على المعينين ، ووضع الموانع والشروط التي لا بد ان تتحقق ، حتى يخيل اليك صعوبة ان يوقع وصف الكفر على مسلم يشهد الا اله الا الله ، ثم تقارن هذا بـ " التكفير " المعاصر الذي يعطي الانسان ملفات حمراء طول اليوم ، فمن تكفير الحكام الى تكفير العسكر والجند ، والوزراء ، والعلماء ، ومن لا يكفرونه من العلماء والدعاة ، فوصف الانبطاح والتخذيل والعمالة والفسق وغيرها أمر لا يتردد فيه كثير من الشباب الذين وقعوا تحت تأثير منظري التكفير والقتال ، وهذا ناتج عن عدم إدراك البعد التربوي للقيمة العلمية والفكرية التي يقولها العالم او طالب العلم ..
ما عليك سوى أن تدخل الى كثير من المنتديات الحوارية ، وغرف البال توك وغيرها حتى تدرك خطورة هذا المنحى على فكر الشباب وتوجهاتهم ، فالحنق على الناس ، والسباب والشتائم ، واستحلال الدماء ، والاستهانة بما يحدث داخل العالم الاسلامي من فتن وقلاقل ومواجهات ، بل لقد صرم هذا المنهج علاقة الأمة بعلمائها ودعاتها ، والنظر الى المجتمعات بنظرة دونية واسقاطية ، والفجر في الخصومة مع كل من لا ينتهج منهج " التكفير " ، واندراس معالم العلاقات الاسلامية والاخوة الايمانية ، واذابة اواصر القربى بين المسلمين ، والتراشق بأقذع الالقاب والاوصاف ، وهذا لا شك يحدث معالم غائرة في قلوب وعقول وضمائر الاجيال المسلمة ، وتربيتهم على التشظي والتناحر والتشتت .. وهو لا شك باب عريض يدخل منه الشيطان في التحريش بين المؤمنين ، وانتهاك حرمات بعضهم بعضا !!
إن الذين يؤصلون قضايا التكفير لا يدركون الفرق بين طرحها بطريقة علمية شرعية منهجية ، فيركزون على التكفير باعتباره أمرا جاءت به نصوص الشريعة الاسلامية ، وموقف المسلم منه ، من خلال دراسات أكاديمية – إن صح التعبير - ، ودراسة أحكام الردة والحدود وغيرها ، وبين القفز من التأصيل الشرعي الى إنزال الاحكام على جهات او حكومات او أحزاب او مذاهب او جماعات ، حيث أن الآخر يحمل بعده التربوي في تهيئة النفسيات التي تطبق الأحكام على الوقائع والاحوال ، بينما الأولى هي التي تضبط منهج الشاب ، وتعلمه خطورة الطريق ووعورته ، وخاصة أن قضية التكفير كلما تعمق الانسان في قراءتها كلما وجد أن بينه وبين ان يحكم على شخص بكفر وردة بعد المشرقين ، فهي شبيهة بقدر كبير بإيقاع عقوبة الزنا على المحصن الذي لم يقر ، ويدرك أن الاسلام وضع سياجات كثيرة بين الحكم على المسلم الذي دخل الى الاسلام بيقين ، جيث جعل وصف الاسلام لا يزول عنه الا بيقين مثله أو أعلى منه ، وهذا صعب الوقوع ، وشاق على من يتقي الله تعالى في أديان المسلمين ، فالعاقل يرى انه يخطيء في ابقاء كافر على الاسلام ، خير له من ان يخطيء في اخراج مسلم من الاسلام فيبوء بإثم الجرأة على الله تعالى !
إن التكفير لم يعد عند كثير من التوجهات أمرا شرعيا مضبوطا بضوابط اصول العلم وقواعده ، بل أصبح وسيلة للعمل وتصفية الحسابات مع الخصوم ، وهو بهذا طريق سالك الى استحلال الدماء ، فحتى تقنع الانسان بصحة القتل والقتال ، عليك ان تحكم على المقابل باستحقاقه لهذا لردته او كفره ، وهذا لا شك تسييس للمفهوم الشرعي ، واخراج له عن فقهه الشرعي ، ولذلك تجد التساهل في اطلاق الاحكام طالما هي تبرر الأفعال في القتل والقتال .. ولو عرضت على البعض نفس المسائل في وقت تراجع او ترك للمنهج لوجد من العوائق الكثير التي تحول بينه وبين ان يحكم على فلان او علان بالردة والكفر ..
إن الشريعة لم تحذر من أمر الا لضرره وخطورته ، ولم ترغب في أمر الا لتحقيقة المصلحة للانسان في عاجل أمره وآجله ، ولذا فإني ادعو كل شاب من شباب المسلمين الى التبرؤ من منهج التكفير بالعموم ، والعجلة فيه ، وان هذا أمر بان للقاصي والداني خطورته وآثاره التي ترتبت عليه ، حين انتقل الأمر من استباحة دماء الكفار الاصليين ، الى استباحة اهل الدماء المعصومة ، ولا شك ان المنطلق في هذا هو منطلق تكفيري ظاهر لا يشك فيه متابع ولا مطلع !
وفق الله الجميع كل خير ، وكفانا شر أهل الشر ، واصلح حال المسلمين ، ونصر الله المجاهدين في سبيله في كل مكان ... والله اعلم
منقول...........................