لم تكن ( العرضة ) التي تتميز بها منطقة الباحة ضمن ما تتميز به في المورثات الكثيرة ، لم تكن كما نراها الآن . فلم تكن تقام للمناسبات السعيدة فحسب ، بل كانت تقام أستعداداً للقتال وفي وسطه وبعد نهايته ، وخاصة عندما ينتهي القتال بالنصر . و كذلك كان اللبس مختلفاً جداً عما نراه الآن من الثياب الطويلة والطويلة جداً والشماغ الذي ( يتلثم ) به الشباب وكأنه لا ( يعرض ) إلا مجيراً أو خجلاً . أقول كان اللبس مناسباً لاداء رقصة ( العرضة) التي يقول عنها أحد شعراء المنطقة ( رقصة الحرب )، فقد كانت ثياب من يؤدون تلك الرقصة لا تتعدى نصف الساق وأوساطهم مشدودة ( بالمسابت ) و ( الجنابي ) ، أما عمائمهم فقد كانوا يلفونها بشكل محكم وجيد حول رؤوسهم ، دلالة على حزمهم ووحدة رأيهم . وكانوا يرقصون بحماس يدل على القوة والشجاعة والفروسية حتى يكاد الماء يظهر من تحت أرجلهم ، ولم تكن تعيقهم عن ذلك عائقة ، فالملابس مناسبة كما أسلفنا .
هذا عن ( العرضة ) فماذا عن الشعراء ؟
كان الشاعر هو وزير أعلام قبيلته ، ولم يكن ليتخلف عنهم في مناسباتهم ، حتى ولو أٌعْطِئ ملء الأرض ذهباً . ولم يكن الشاعر يشترط أجراً معيناً ، أو يعطى وعوداً ثم يخلفها كما نراه الآن . والحقيقة أنه مهما أٌعْطِئ الشاعر فهو ليس كثيراً في حقه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم اعطى شاعره بردته وهو أغلى ما يمكن أن يحصل عليه شاعر ، والشيخ ( بالرقوش ) اعطى الشاعر الكبير محمد بن ثامرة مزرعة كاملة في ( حميم )، ولكن لم يكن أحداً منهم يشترط كما أسلفنا ولا يعتبر أن ما قدم له قليلاً ، بل يعتبر أن عليه واجباً بالمشاركة يؤديه بغض النظر عن ما يتقاضاه مقابلا له .
وقد كان مضمون قصائدهم يختلف جداً عما نراه اليوم من أسفاف وسخف في بعض القصائد . فكم من مره ساهموا في حل مشاكل قبائلهم ودفعوا شرا ً كا د أن يؤدي بحياة الكثيرين . وتراهم في نفس الوقت يثيرون حماس ربعهم ويستحثوا همهم متى ما دعت الحاجة إلى ذلك . والشواهد في هذا كثيرة ، ولم يكن هذا هو النهج الوحيد لهم ، فالمدح والفخر والشجاعة والكرم والوصف ، كلها أساليب ومناهج طرقوها وأبدعوا فيها ، فتراهم يعبرون عن مشاكل الناس ويترجمون أحاسيسهم ، في الوقت الذي تجدهم يعبرون عن جمال مناطقهم ، بما فيها من جبال و مرتفعات وأودية ، ويصفون العشب والزهر والورد والمرعى والأمطار والبروق والرعود والزروع ، بذرها وأستوائها وحصادها ، والليل والفجر والضحى والقمر والسمر والسَُرَي ، يصفون المبادئ والمثاليات ، ويشبهون كبرياء وآنفة الرجال وشموخهم بتلك الجبال التي هي " أقرب بقاع الجزيرة إلى السماء " ، ولا ينسون أن يذكّروا الناس بضربات القدر والموت والآخرة . وكل ذلك كان يأتينا في إطار شعري جميل ، لا يخرج عن حدود الأدب .
هذا هو الموروث ( القبلي ) الذي ورثناه ، وليس ما نسمعه اليوم من كلمات اقل ما يقال عنها انها بعيدة عن الموروث الجميل ، فالذبائح المكفّنة ، والكباري ، والشاحنة ، والدعس على الشارب ، كلها مفردات لم تطور الموروث كما يقال ؟! بل خرجت عن اطاره وشذّت عن قاعدته.
هذه المقدمة دعتني أليها أمسية احياها الشاعر المرهف الذي يتميز بحساسية وشفافية لا يدركها إلا من كان شاعراً مثله أو من يقدر للناس مقاماتهم ، فهو لم يسفّه بشعره احداً قط ، ولم يذكر أحد من الناس أنه أساء أليه ، ويظل شعره كبيراً وعملاقاً ، كما قال عنه الشاعر الكبير( خلف بن هذال ) حينما سئل عن عبدالله بن عيضه الهريري فقال:" أنه قامة عملاقة " ، دعتني اليها تلك الأمسية التي أحياها معه زميله الشاعر الكبير محمد بن مصلح في قصر الريان في ليلة 8/5/1420هـ ، وسأحاول هنا أن أقتصر على قراءة بدع الشاعر عبدالله البيضاني .
يقول عبد الله :
كان مشعال الحجير ينبصر من صدر قوب
أما في ذا الوقت من شب اللظايا يحترق به
أبتلي قلبي مع المرسم والأوراق أبتلي
مقارنة بين الحاضر والماضي الجميل ، الماضي الذي كانت فيه المشاعل هي وسيلة الاتصال بين الناس ، حيث كان صفاء أجواء الديرة ، بكل ما تحمله كلمة صفاء من معنى، يسمح بالأتصال ، فلا تلوث في الجو، ولا حواجز من العمران، ولا شوائب من العلاقات ، فبمجرد ما يُرَى مشعال الحجير ، يتجاوب معه أهل" قوب " وقس على هذا .
كان مشعال الحجير ينبصر من صدر قوب.
هذا في الماضي ! وماذا عن الحاضر ؟
أما في ذا الوقت من شب اللظايا تحترق به .
تعبير بكلمات مختصرة يتحسر فيها عبد الله على هذا الوقت ، حيث يتحفظ الأنسان حتى عن أن يتحدث إلى أحد أو يتصل في أحد أو يوصل خبراً إلى أحد مخافة أن يتهم بالسوء ، وتعود عليه حسن نواياه بشر لم يحسب له حساب ، لذلك فإنه يفضل أن يكون وحيداَ وبعيداً بين أوراقه ومراسمه ، وفي هذا يذكرنا أن الوحدة خير من جليس السوء أو يكاد يقول (وخير جليس في الحياه كتاب ) .
يا محمد وين أروح من الدروب وفين أصوب
لا تقول ويش في زميلي بعد هذا الود وشبه
قد صليت الجمر حتى والجمر ما ينصلــي
يتسآءل مع رفيق دربه قديما محمد بن مصلح بأسلوب فيه من العتب والأعتذار ما لا يعرفه ألا الشاعر كما يقال وهنا نقرأ ؛ أن عبدالله البيضاني ليس بمسرور مع رفاق الدرب الجدد، كما كان مرتاحاً للشاعر الكبير محمد بن مصلح وأمثاله ، فالساحة أصبحت تعج بشعراء يقف معهم عبدالله مجبراً كمن يصالي الجمر على حرارته المعروفة .
باقصد الاجواد والابطال والطارف ينوب
أترك اللي لا لفيته حط لي في الصدر تعبه
لا يباشرني بمصفاة ولا ياهب طلي
هنا يحلق بنا عبدالله البيضاني على أجنحة الأبداع ، و آفاق المعاني ، بأبيات جميلة مترابطة ، أن عبدالله هنا أختصر الكتب والامثال والحكم ، ليأتي بها شعراًَ في ثلاثة أبيات ، مطربة ، وجميلة ، ومكتملة ، فالطارف من الأجواد يكفيك عن من إذا ضفته أتعب قلبك بالكلام ! حتى لو يضيّفكْ بما في الجزيرة من أبل ، فالمثل يقول " يا نحلة لا تلقصيني ولا أبغي لك عسل " ، ولا أستبعد أن يكون الشاعر هنا قصد حادثة بعينها، ولكنها حكمة عامة تصلح لأي زمان ومكان ، وقد لامسَتْ شغاف الحاضرين وحلقت بهم عبر الضباب الذي كان يغطي سماء الحفل في ذلك اليوم ، حتى أختلط الرذاذ الذي يخرج من أفواههم وهم يرددون القصيدة بشكل متكرر ، أختلط مع رطوبة الضباب الذي كانوا يحلقون فيه ، وما ذاك إلا لأن القصيدة ترجمت أحاسيسهم .
مرة أتجاوب معك ومرارا اعود جنوب
لا تقول شب العقايب يا عساها ما تشبه
لا تحددني عليها شف لغيري وأبدلي
أختتم البيضاني هذا اللون الذي أطرب الحاضرين باعلان موقف وتوضيح مبدأ ، حيث يفيد بأنه يحتار في مسايرة بعض الشعراء ، فطبيعة عبدالله أنه لا يحب الخروج عن المألوف ، ولا يريد أثارة المشاكل، ويحدد هنا منهجه ويقول :" أنا لا أصلح لمثل ما تذهبون أليه فابحثوا عن غيري وبدلاً مني " . وهذا هو منهج الشعراء السليم الذي كان والذي نريد .
هذه قراءة سريعة غير متخصصة من أنسان غير متفرغ وغير متخصص يعجبه الموروث ويهتم به كثيراً ، غير أنه لا يجد الوقت الذي يتابع فيه كا ما يقال وكل ما يكتب عنه ، وفي نفس الوقت لا يريد أن ينطبق علينا قول الشاعر :
ألهي بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمر بن كلثوم
___________________
مقال كتبته في جريدة المدينة في زاوية " بقلمي " بتاريخ 8 شعبان 1420 هــ ، في عددها رقم (13395) .
هذا عن ( العرضة ) فماذا عن الشعراء ؟
كان الشاعر هو وزير أعلام قبيلته ، ولم يكن ليتخلف عنهم في مناسباتهم ، حتى ولو أٌعْطِئ ملء الأرض ذهباً . ولم يكن الشاعر يشترط أجراً معيناً ، أو يعطى وعوداً ثم يخلفها كما نراه الآن . والحقيقة أنه مهما أٌعْطِئ الشاعر فهو ليس كثيراً في حقه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم اعطى شاعره بردته وهو أغلى ما يمكن أن يحصل عليه شاعر ، والشيخ ( بالرقوش ) اعطى الشاعر الكبير محمد بن ثامرة مزرعة كاملة في ( حميم )، ولكن لم يكن أحداً منهم يشترط كما أسلفنا ولا يعتبر أن ما قدم له قليلاً ، بل يعتبر أن عليه واجباً بالمشاركة يؤديه بغض النظر عن ما يتقاضاه مقابلا له .
وقد كان مضمون قصائدهم يختلف جداً عما نراه اليوم من أسفاف وسخف في بعض القصائد . فكم من مره ساهموا في حل مشاكل قبائلهم ودفعوا شرا ً كا د أن يؤدي بحياة الكثيرين . وتراهم في نفس الوقت يثيرون حماس ربعهم ويستحثوا همهم متى ما دعت الحاجة إلى ذلك . والشواهد في هذا كثيرة ، ولم يكن هذا هو النهج الوحيد لهم ، فالمدح والفخر والشجاعة والكرم والوصف ، كلها أساليب ومناهج طرقوها وأبدعوا فيها ، فتراهم يعبرون عن مشاكل الناس ويترجمون أحاسيسهم ، في الوقت الذي تجدهم يعبرون عن جمال مناطقهم ، بما فيها من جبال و مرتفعات وأودية ، ويصفون العشب والزهر والورد والمرعى والأمطار والبروق والرعود والزروع ، بذرها وأستوائها وحصادها ، والليل والفجر والضحى والقمر والسمر والسَُرَي ، يصفون المبادئ والمثاليات ، ويشبهون كبرياء وآنفة الرجال وشموخهم بتلك الجبال التي هي " أقرب بقاع الجزيرة إلى السماء " ، ولا ينسون أن يذكّروا الناس بضربات القدر والموت والآخرة . وكل ذلك كان يأتينا في إطار شعري جميل ، لا يخرج عن حدود الأدب .
هذا هو الموروث ( القبلي ) الذي ورثناه ، وليس ما نسمعه اليوم من كلمات اقل ما يقال عنها انها بعيدة عن الموروث الجميل ، فالذبائح المكفّنة ، والكباري ، والشاحنة ، والدعس على الشارب ، كلها مفردات لم تطور الموروث كما يقال ؟! بل خرجت عن اطاره وشذّت عن قاعدته.
هذه المقدمة دعتني أليها أمسية احياها الشاعر المرهف الذي يتميز بحساسية وشفافية لا يدركها إلا من كان شاعراً مثله أو من يقدر للناس مقاماتهم ، فهو لم يسفّه بشعره احداً قط ، ولم يذكر أحد من الناس أنه أساء أليه ، ويظل شعره كبيراً وعملاقاً ، كما قال عنه الشاعر الكبير( خلف بن هذال ) حينما سئل عن عبدالله بن عيضه الهريري فقال:" أنه قامة عملاقة " ، دعتني اليها تلك الأمسية التي أحياها معه زميله الشاعر الكبير محمد بن مصلح في قصر الريان في ليلة 8/5/1420هـ ، وسأحاول هنا أن أقتصر على قراءة بدع الشاعر عبدالله البيضاني .
يقول عبد الله :
كان مشعال الحجير ينبصر من صدر قوب
أما في ذا الوقت من شب اللظايا يحترق به
أبتلي قلبي مع المرسم والأوراق أبتلي
مقارنة بين الحاضر والماضي الجميل ، الماضي الذي كانت فيه المشاعل هي وسيلة الاتصال بين الناس ، حيث كان صفاء أجواء الديرة ، بكل ما تحمله كلمة صفاء من معنى، يسمح بالأتصال ، فلا تلوث في الجو، ولا حواجز من العمران، ولا شوائب من العلاقات ، فبمجرد ما يُرَى مشعال الحجير ، يتجاوب معه أهل" قوب " وقس على هذا .
كان مشعال الحجير ينبصر من صدر قوب.
هذا في الماضي ! وماذا عن الحاضر ؟
أما في ذا الوقت من شب اللظايا تحترق به .
تعبير بكلمات مختصرة يتحسر فيها عبد الله على هذا الوقت ، حيث يتحفظ الأنسان حتى عن أن يتحدث إلى أحد أو يتصل في أحد أو يوصل خبراً إلى أحد مخافة أن يتهم بالسوء ، وتعود عليه حسن نواياه بشر لم يحسب له حساب ، لذلك فإنه يفضل أن يكون وحيداَ وبعيداً بين أوراقه ومراسمه ، وفي هذا يذكرنا أن الوحدة خير من جليس السوء أو يكاد يقول (وخير جليس في الحياه كتاب ) .
يا محمد وين أروح من الدروب وفين أصوب
لا تقول ويش في زميلي بعد هذا الود وشبه
قد صليت الجمر حتى والجمر ما ينصلــي
يتسآءل مع رفيق دربه قديما محمد بن مصلح بأسلوب فيه من العتب والأعتذار ما لا يعرفه ألا الشاعر كما يقال وهنا نقرأ ؛ أن عبدالله البيضاني ليس بمسرور مع رفاق الدرب الجدد، كما كان مرتاحاً للشاعر الكبير محمد بن مصلح وأمثاله ، فالساحة أصبحت تعج بشعراء يقف معهم عبدالله مجبراً كمن يصالي الجمر على حرارته المعروفة .
باقصد الاجواد والابطال والطارف ينوب
أترك اللي لا لفيته حط لي في الصدر تعبه
لا يباشرني بمصفاة ولا ياهب طلي
هنا يحلق بنا عبدالله البيضاني على أجنحة الأبداع ، و آفاق المعاني ، بأبيات جميلة مترابطة ، أن عبدالله هنا أختصر الكتب والامثال والحكم ، ليأتي بها شعراًَ في ثلاثة أبيات ، مطربة ، وجميلة ، ومكتملة ، فالطارف من الأجواد يكفيك عن من إذا ضفته أتعب قلبك بالكلام ! حتى لو يضيّفكْ بما في الجزيرة من أبل ، فالمثل يقول " يا نحلة لا تلقصيني ولا أبغي لك عسل " ، ولا أستبعد أن يكون الشاعر هنا قصد حادثة بعينها، ولكنها حكمة عامة تصلح لأي زمان ومكان ، وقد لامسَتْ شغاف الحاضرين وحلقت بهم عبر الضباب الذي كان يغطي سماء الحفل في ذلك اليوم ، حتى أختلط الرذاذ الذي يخرج من أفواههم وهم يرددون القصيدة بشكل متكرر ، أختلط مع رطوبة الضباب الذي كانوا يحلقون فيه ، وما ذاك إلا لأن القصيدة ترجمت أحاسيسهم .
مرة أتجاوب معك ومرارا اعود جنوب
لا تقول شب العقايب يا عساها ما تشبه
لا تحددني عليها شف لغيري وأبدلي
أختتم البيضاني هذا اللون الذي أطرب الحاضرين باعلان موقف وتوضيح مبدأ ، حيث يفيد بأنه يحتار في مسايرة بعض الشعراء ، فطبيعة عبدالله أنه لا يحب الخروج عن المألوف ، ولا يريد أثارة المشاكل، ويحدد هنا منهجه ويقول :" أنا لا أصلح لمثل ما تذهبون أليه فابحثوا عن غيري وبدلاً مني " . وهذا هو منهج الشعراء السليم الذي كان والذي نريد .
هذه قراءة سريعة غير متخصصة من أنسان غير متفرغ وغير متخصص يعجبه الموروث ويهتم به كثيراً ، غير أنه لا يجد الوقت الذي يتابع فيه كا ما يقال وكل ما يكتب عنه ، وفي نفس الوقت لا يريد أن ينطبق علينا قول الشاعر :
ألهي بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمر بن كلثوم
___________________
مقال كتبته في جريدة المدينة في زاوية " بقلمي " بتاريخ 8 شعبان 1420 هــ ، في عددها رقم (13395) .
تعليق