امرأة عقد نكاحها من العلوج في الفلوجة
كان الإعياء قد أخذ من المجاهد تلك الليلة كلّ مأخذ، عندما آوى إلى خندقه -وفيه غريفة صغيرة قد وضع فيها حاسوبا، ليكتب التقارير الجهادية عن سير العمليات-، وأحسّ بحاجة إلى إغفاءه، فوضع سلاحه "الكلاشنكوف" على منضدة عارية من كل شيء، إلا من ذلك الحاسوب الذي يحس بغربة في ذلك المكان -كغرفة المجاهد في هذا الزمان-، وضعه بجانب "لوحة المفاتيح"، فهو يلمع في ظلمة لا يكاد المصباح الصغير في سقف الغريفة قادراً على تمزيقها، وقد بدت تلك الظلمة وكأنها تخيم على الكون أجمع، والكواكب متلفعة بأردية السحب، وزخات المطر متواصلة في خيوط متصلة، ونغمة واحدة، كأنها اتفقت على أنشودة حالمة يطمئن في إيقاعها الهادئ المجاهد لينام ويستريح.
في وسط فلوجة العزة كان ذلك المكان، في أحياءها القديمة الشاهدة على تاريخ حضارة الإسلام المجيدة في العراق، وقد غدت الفلوجة اليوم فالجة الكفار الصليبين، ولقد خبأ لها الله تعالى هذا الشرف في دورة الدهور، فهي فرحة به اليوم فرحاً لا يوصف، ترقص طرباً كطائر يخفق جناحاه في ترقرق صفحة الهواء، يغرد تائهاً بين عبق الزهور.
كان هذا المجاهد مسئولاً عن حصر العمليات الجهادية وجمعها في تقارير متناسقة، لنشرها في وسيلة الإعلام الوحيدة الممكنة لنشر أخبار الجهاد الإسلامي الذي اشتعل اشتعال النار في الهشيم في الأرض كلّها، تلك الشبكة العنكبوتية، التي سُخِّرت في وقت لم يحسب له أعداء الإسلام حساباً، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، بعد أن تحولت وسائل الإعلام الرسمية كلها إلى أبواق للصليبية الغازية بلاد الإسلام.
فهي تارة تسمّى احتلال بلاد الإسلام تحريراً، وتارة تلبّس على المسلمين محاولة طمس وجه الحق الأبلج، وهو أن الساحة العالمية تشهد صراعاً بين الصليبية المتصهينة المتهوّدة مع الصهاينة اليهود، للهيمنة على العالم الإسلامي، ليردوا المسلمين عن دينهم، وليس في كنانة أحد مشروع لصدهم إلا أهل الجهاد طليعة أمة الإسلام.
تلبّس على المسلمين الحق بالباطل زاعمة: أن الصراع اليوم إنما هو بين "إرهابيين"، ومجتمعاتهم، بين طائفة تريد أن تخرب ديار الإسلام، ودول تريد أن ترقى بهذه الأمة نحو العز والتمكين، في محاولة يائسة لطمس الحقيقة، وخلط الأوراق، وقلب حقيقة المعركة.
غير أن صنيع هذا الإعلام الكاذب الخائن قد بدا ظاهراً للعيان، لا تخفى منه خافية، بعد أن جعلت تلك الدول أرض الإسلام مرتعاً للمعسكرات الصليبية تغير منها جيوش الصليب على بلاد الإسلام، ممهداً لاجتثاث دين الإسلام منها، ثم تأوي إلى تلك المعسكرات وهي في مأمن إذ هي في حراسة تلك الدول، قد سخرت أبناء المسلمين لحمايتها، وبعض شيوخ الدين لجعل خططها في حماية شريعة الله، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
غطّ المجاهد في نوم هانئ، وكيف لا يهنأ وهو بين أعظم حسنيين، النصر أو الشهادة، وهي أعظم النصر أيضاً، فهو ينام وقد امتلأ جفناه من حلاوة النصر، وانشرح صدره بالرضا عن نفسه، واطمأن قلبه بسلامة المنهج الذي يسير عليه، أليس هو على ذرة سنام الإسلام، وأي مقام أشرف من هذا المقام.
وقد كانت "لوحة المفاتيح" تلك، تزهو في بهجة ممزوجة بالفخر والخيلاء، كلما نقرت تلك الأصابع المباركة عليها مبشرة بأخبار الجهاد، غير أنها هذه المرة.. ولأوّل مرة.. تشعر بالغيرة من " الكلاشنكوف "، فقالت هامسة ما تظن أن أحداً يسمعها: ترى هل هذا أسعد مني حظاً، بنصر الإسلام، أم هو أرفع مني منزلة فيه، أم المجاهد يحبّه أكثر منّي؟!
وبينما هي تنظر إليه تلك النظرات، وتهمهم بتلك الكلمات، إذا هو ينطق هذه المرة على غير عادته في النطق، فقال وهو يغض بصراً.. مُسّيت خيرا يا أمة الله.
قالت: ويْ.. واحتجبت عنه.. ما كنت أظنك تنطق بغير النار.
قال: بلى.. لا أنطق بالنار إلا مع الكفّار أهل النار.. لامع المسلمين والأخيار، ألم تسمعي قوله تعالى { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } ..
لكن أخبريني: ما هذا الذي حدثتك نفسك به؟
قالت: وما أنت وذاك؟
قال: دعينا نقطع هذا الليل في حوار مفيد، فالصبح عنا بعيد، وليس صاحبنا بحاجة إلينا هذا المساء.
قالت: إني والله أولى بالفضل منك، فبي تنطلق كلمات الإسلام، ومن حروفي الدعوة إليه، وعلىّ بعد الله اعتمد الدعاة، وامتلأت ديار الإسلام بالهداة، وأُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر، وبسببي هدى الله الخلق، وظهر الحق، واندحر الباطل، وانقطع المعاند المجادل، وأما أنت.. فما أنت؟!.. حديدة لا تفقه علماً.. ونار تزمجر لا تغنم شيئاً، ولا تجلب فيئاً.
قال "الكلاشنكوف" في ابتسامة واثقة وقورة: ما أنكرنا فضلك، فأنت لكلّ خير أهل، غير أنك تعلمين، أن في السلاح عز الإسلام، وما هان أهله بين الناس إلا لما فارقوه، فالجهاد قلعة الدين، ورفعة المسلمين، لا يتركوه إلا هلكوا، ولا يذروه إلا ذلُوا.
ويكفيني شرفاً وفضلاً أنني ألصق شيء بخير الناس، فأهل الجهاد خير المؤمنين، قد فضلهم الله على العالمين، كما قال تعالى { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ.خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
وجعل التائبين العابدين الحامدين السائحين الراكعين الساجدين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الحافظين لحدود الله، بعد المجاهدين في المنزلة، كما قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
ثم قال { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } .
ثم إن الجهاد لا يتركه أو يترك تحديث النفس به إلا من فيه شعبة من النفاق، كما في الحديث « من لم يَغزُ ولمْ يُحَدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق » ، ولم يُذكر مثل هذا إلا في الجهاد.
وإذا كان الجهاد بهذه الرتبة، وكنت أنا والمجاهد في أتم صحبة، فلا يستطيع المجاهد أن يستغني عنّي، ولا يمكنه أن يبتعد منّي، فأنا خير صحبِهِ، وأنيس دربهِ، فما جعلني الله تعالى في هذا المقام، إلا لعظم منزلتي في الإسلام.
قالت: فأنا العلم والقلم، الذي أول ما نزل من رب الفلق، إذ قال { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق } .
قال: فأنا إذًا مسك الختام، إذ عقد محمد صلى الله عليه وسلم اللواء "لأسامة" لقتال الروم ومات، واليوم على هذا الأمر كما ترين تعقد الرايات.
قالت " لوحة المفاتيح ": قد بالغت يا هذا في قولك، وتجاوزت في ذكر فضلك، فلا تنسى أن الجهاد أصلاً مقصود لتبليغ الدين، وهداية الناس إلى رب العالمين، والمقاصد دوماً أشرف من الوسائل، وعلى هذا اجتمعت الدلائل.
قال: نعم.. فأنت نِعم وسيلة للتبليغ، غير أنّي وسيلة تغني عن قول كلّ بليغ، وما تغني حروفك هذه المصفوفة، ورموزها حولها ملفوفة، في جمال ونعومة، كأنها بكر في خدرها مخدومة، إن هيمن الكفار على المسلمين، ونصبوا عليهم الزنادقة والمنافقين، وسعوا في بلاد الإسلام بالفساد، وأبطلوا شريعة رب العباد، وأحكموا قبضتهم على وسائل الإعلام والتعليم، مناهج العلم والثقافة، فأفسدوا البلاد، وأجبروك على أن تنطقي بالكفر والإلحاد؟!
قالت وقد بهتها كلامه الباهر، فحادت إلى حديث آخر: أنا اسمي: جامعة المفاتيح، أفتح الخيرات، وأجلب المسرات، وأنت ابتدأ اسمك ب" كلاّ "، ثم شن شنة عجماء، ثم " كوف " وكوّف الأديم قطعه، فاسمك كلُّه أجزاءه معاب، فأنا الثريا وأنت التراب.
قال: ها قد لجأت أخيراً إلى حجج النساء، أما "كلا" فللكفار أقولها، كلا لن تنالوا الإسلام وأنا من الأحياء، وأما شنشنتي فهي ناري التي أحرق بها المنافقين والأعداء، وأنا الذي أكوّف أي أقطّع الكفار تقطيعاً، وأمزق أشلاءهم تمزيقاً.
ولكن ألا أدلك على خير من جدالنا هذا؟
قالت: وما هو؟
قال: لا أجد مثلك كريمة بنت كرام، وإني أخطبك، فهل تقبليني زوجاً؟
قالت في استحياء وغضت صوتها: أما أن مثلك لا يرد، ولكن ما مهري؟
قال: مهرك عشرة من العلوج الصليبيّة الكافرة؟ حتى تعلمي أن الدعوة لا يحميها إلا الجهاد، وتتركي هذا العناد.
قالت: فنعم إذاً.
ولم تكد تقول نعم، حتى سقطت قنابل كالجحيم على خندقه، فارتجت المنضدة، وارتفع كلّ شيء في الغريفة في الهواء، وإذا بالمجاهد يقفز فزعاً فيلتقف " الكلاشنكوف "، ويترك لوحة المفاتيح لا يلتفت إليها، وترى " لوحة المفاتيح " السلاح يزهو في خيلاء في يد المجاهد، كأنه يقول: الآن ستعلمين فضلي، وتعرفين صدق قولي، وأن الدعوة إن لم تحمها قوة الحديد والنار، قضى عليها الفجار والكفار.
وخرج المجاهد البطل، وإذا حول الخندق، عشرة من العلوج الكافرة، يُقبلون دججاً، فانطلقت من سلاحه طلقات كالضحكات، وأصابت كل وحدة منها علجاً، لم تنحرف عنه عوجاً، وتعجب المجاهد من هذه الطلقات، كيف ضحكت هكذا، وكيف انطلقت ولم تلق في إصابة العدو حرجا، وتعجّب لحالها عجباً؟!!
ولما عاد إلى خندقه، أخبره سلاحه بما أزال عجبه، فعقد النكاح بينه وبين لوحة المفاتيح، وزُفّت إليه، وتزاوجت زخات الطلقات، بالحروف والكلمات، وأنجبوا ولدا أسموه عزّ الإسلام، وتصالح الجهاد والدعوة، وتعانق السلاح والصحوة، وانكشفت الغمة، وانجلت المحنة عن الأمّة، وارتفع الخلاف، والتأم الشمل في انتظام وائتلاف.
للشيخ حامد بن عبدالله العلي فك الله اسره
كان الإعياء قد أخذ من المجاهد تلك الليلة كلّ مأخذ، عندما آوى إلى خندقه -وفيه غريفة صغيرة قد وضع فيها حاسوبا، ليكتب التقارير الجهادية عن سير العمليات-، وأحسّ بحاجة إلى إغفاءه، فوضع سلاحه "الكلاشنكوف" على منضدة عارية من كل شيء، إلا من ذلك الحاسوب الذي يحس بغربة في ذلك المكان -كغرفة المجاهد في هذا الزمان-، وضعه بجانب "لوحة المفاتيح"، فهو يلمع في ظلمة لا يكاد المصباح الصغير في سقف الغريفة قادراً على تمزيقها، وقد بدت تلك الظلمة وكأنها تخيم على الكون أجمع، والكواكب متلفعة بأردية السحب، وزخات المطر متواصلة في خيوط متصلة، ونغمة واحدة، كأنها اتفقت على أنشودة حالمة يطمئن في إيقاعها الهادئ المجاهد لينام ويستريح.
في وسط فلوجة العزة كان ذلك المكان، في أحياءها القديمة الشاهدة على تاريخ حضارة الإسلام المجيدة في العراق، وقد غدت الفلوجة اليوم فالجة الكفار الصليبين، ولقد خبأ لها الله تعالى هذا الشرف في دورة الدهور، فهي فرحة به اليوم فرحاً لا يوصف، ترقص طرباً كطائر يخفق جناحاه في ترقرق صفحة الهواء، يغرد تائهاً بين عبق الزهور.
كان هذا المجاهد مسئولاً عن حصر العمليات الجهادية وجمعها في تقارير متناسقة، لنشرها في وسيلة الإعلام الوحيدة الممكنة لنشر أخبار الجهاد الإسلامي الذي اشتعل اشتعال النار في الهشيم في الأرض كلّها، تلك الشبكة العنكبوتية، التي سُخِّرت في وقت لم يحسب له أعداء الإسلام حساباً، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، بعد أن تحولت وسائل الإعلام الرسمية كلها إلى أبواق للصليبية الغازية بلاد الإسلام.
فهي تارة تسمّى احتلال بلاد الإسلام تحريراً، وتارة تلبّس على المسلمين محاولة طمس وجه الحق الأبلج، وهو أن الساحة العالمية تشهد صراعاً بين الصليبية المتصهينة المتهوّدة مع الصهاينة اليهود، للهيمنة على العالم الإسلامي، ليردوا المسلمين عن دينهم، وليس في كنانة أحد مشروع لصدهم إلا أهل الجهاد طليعة أمة الإسلام.
تلبّس على المسلمين الحق بالباطل زاعمة: أن الصراع اليوم إنما هو بين "إرهابيين"، ومجتمعاتهم، بين طائفة تريد أن تخرب ديار الإسلام، ودول تريد أن ترقى بهذه الأمة نحو العز والتمكين، في محاولة يائسة لطمس الحقيقة، وخلط الأوراق، وقلب حقيقة المعركة.
غير أن صنيع هذا الإعلام الكاذب الخائن قد بدا ظاهراً للعيان، لا تخفى منه خافية، بعد أن جعلت تلك الدول أرض الإسلام مرتعاً للمعسكرات الصليبية تغير منها جيوش الصليب على بلاد الإسلام، ممهداً لاجتثاث دين الإسلام منها، ثم تأوي إلى تلك المعسكرات وهي في مأمن إذ هي في حراسة تلك الدول، قد سخرت أبناء المسلمين لحمايتها، وبعض شيوخ الدين لجعل خططها في حماية شريعة الله، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
غطّ المجاهد في نوم هانئ، وكيف لا يهنأ وهو بين أعظم حسنيين، النصر أو الشهادة، وهي أعظم النصر أيضاً، فهو ينام وقد امتلأ جفناه من حلاوة النصر، وانشرح صدره بالرضا عن نفسه، واطمأن قلبه بسلامة المنهج الذي يسير عليه، أليس هو على ذرة سنام الإسلام، وأي مقام أشرف من هذا المقام.
وقد كانت "لوحة المفاتيح" تلك، تزهو في بهجة ممزوجة بالفخر والخيلاء، كلما نقرت تلك الأصابع المباركة عليها مبشرة بأخبار الجهاد، غير أنها هذه المرة.. ولأوّل مرة.. تشعر بالغيرة من " الكلاشنكوف "، فقالت هامسة ما تظن أن أحداً يسمعها: ترى هل هذا أسعد مني حظاً، بنصر الإسلام، أم هو أرفع مني منزلة فيه، أم المجاهد يحبّه أكثر منّي؟!
وبينما هي تنظر إليه تلك النظرات، وتهمهم بتلك الكلمات، إذا هو ينطق هذه المرة على غير عادته في النطق، فقال وهو يغض بصراً.. مُسّيت خيرا يا أمة الله.
قالت: ويْ.. واحتجبت عنه.. ما كنت أظنك تنطق بغير النار.
قال: بلى.. لا أنطق بالنار إلا مع الكفّار أهل النار.. لامع المسلمين والأخيار، ألم تسمعي قوله تعالى { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } ..
لكن أخبريني: ما هذا الذي حدثتك نفسك به؟
قالت: وما أنت وذاك؟
قال: دعينا نقطع هذا الليل في حوار مفيد، فالصبح عنا بعيد، وليس صاحبنا بحاجة إلينا هذا المساء.
قالت: إني والله أولى بالفضل منك، فبي تنطلق كلمات الإسلام، ومن حروفي الدعوة إليه، وعلىّ بعد الله اعتمد الدعاة، وامتلأت ديار الإسلام بالهداة، وأُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر، وبسببي هدى الله الخلق، وظهر الحق، واندحر الباطل، وانقطع المعاند المجادل، وأما أنت.. فما أنت؟!.. حديدة لا تفقه علماً.. ونار تزمجر لا تغنم شيئاً، ولا تجلب فيئاً.
قال "الكلاشنكوف" في ابتسامة واثقة وقورة: ما أنكرنا فضلك، فأنت لكلّ خير أهل، غير أنك تعلمين، أن في السلاح عز الإسلام، وما هان أهله بين الناس إلا لما فارقوه، فالجهاد قلعة الدين، ورفعة المسلمين، لا يتركوه إلا هلكوا، ولا يذروه إلا ذلُوا.
ويكفيني شرفاً وفضلاً أنني ألصق شيء بخير الناس، فأهل الجهاد خير المؤمنين، قد فضلهم الله على العالمين، كما قال تعالى { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ.خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
وجعل التائبين العابدين الحامدين السائحين الراكعين الساجدين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الحافظين لحدود الله، بعد المجاهدين في المنزلة، كما قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
ثم قال { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } .
ثم إن الجهاد لا يتركه أو يترك تحديث النفس به إلا من فيه شعبة من النفاق، كما في الحديث « من لم يَغزُ ولمْ يُحَدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق » ، ولم يُذكر مثل هذا إلا في الجهاد.
وإذا كان الجهاد بهذه الرتبة، وكنت أنا والمجاهد في أتم صحبة، فلا يستطيع المجاهد أن يستغني عنّي، ولا يمكنه أن يبتعد منّي، فأنا خير صحبِهِ، وأنيس دربهِ، فما جعلني الله تعالى في هذا المقام، إلا لعظم منزلتي في الإسلام.
قالت: فأنا العلم والقلم، الذي أول ما نزل من رب الفلق، إذ قال { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق } .
قال: فأنا إذًا مسك الختام، إذ عقد محمد صلى الله عليه وسلم اللواء "لأسامة" لقتال الروم ومات، واليوم على هذا الأمر كما ترين تعقد الرايات.
قالت " لوحة المفاتيح ": قد بالغت يا هذا في قولك، وتجاوزت في ذكر فضلك، فلا تنسى أن الجهاد أصلاً مقصود لتبليغ الدين، وهداية الناس إلى رب العالمين، والمقاصد دوماً أشرف من الوسائل، وعلى هذا اجتمعت الدلائل.
قال: نعم.. فأنت نِعم وسيلة للتبليغ، غير أنّي وسيلة تغني عن قول كلّ بليغ، وما تغني حروفك هذه المصفوفة، ورموزها حولها ملفوفة، في جمال ونعومة، كأنها بكر في خدرها مخدومة، إن هيمن الكفار على المسلمين، ونصبوا عليهم الزنادقة والمنافقين، وسعوا في بلاد الإسلام بالفساد، وأبطلوا شريعة رب العباد، وأحكموا قبضتهم على وسائل الإعلام والتعليم، مناهج العلم والثقافة، فأفسدوا البلاد، وأجبروك على أن تنطقي بالكفر والإلحاد؟!
قالت وقد بهتها كلامه الباهر، فحادت إلى حديث آخر: أنا اسمي: جامعة المفاتيح، أفتح الخيرات، وأجلب المسرات، وأنت ابتدأ اسمك ب" كلاّ "، ثم شن شنة عجماء، ثم " كوف " وكوّف الأديم قطعه، فاسمك كلُّه أجزاءه معاب، فأنا الثريا وأنت التراب.
قال: ها قد لجأت أخيراً إلى حجج النساء، أما "كلا" فللكفار أقولها، كلا لن تنالوا الإسلام وأنا من الأحياء، وأما شنشنتي فهي ناري التي أحرق بها المنافقين والأعداء، وأنا الذي أكوّف أي أقطّع الكفار تقطيعاً، وأمزق أشلاءهم تمزيقاً.
ولكن ألا أدلك على خير من جدالنا هذا؟
قالت: وما هو؟
قال: لا أجد مثلك كريمة بنت كرام، وإني أخطبك، فهل تقبليني زوجاً؟
قالت في استحياء وغضت صوتها: أما أن مثلك لا يرد، ولكن ما مهري؟
قال: مهرك عشرة من العلوج الصليبيّة الكافرة؟ حتى تعلمي أن الدعوة لا يحميها إلا الجهاد، وتتركي هذا العناد.
قالت: فنعم إذاً.
ولم تكد تقول نعم، حتى سقطت قنابل كالجحيم على خندقه، فارتجت المنضدة، وارتفع كلّ شيء في الغريفة في الهواء، وإذا بالمجاهد يقفز فزعاً فيلتقف " الكلاشنكوف "، ويترك لوحة المفاتيح لا يلتفت إليها، وترى " لوحة المفاتيح " السلاح يزهو في خيلاء في يد المجاهد، كأنه يقول: الآن ستعلمين فضلي، وتعرفين صدق قولي، وأن الدعوة إن لم تحمها قوة الحديد والنار، قضى عليها الفجار والكفار.
وخرج المجاهد البطل، وإذا حول الخندق، عشرة من العلوج الكافرة، يُقبلون دججاً، فانطلقت من سلاحه طلقات كالضحكات، وأصابت كل وحدة منها علجاً، لم تنحرف عنه عوجاً، وتعجب المجاهد من هذه الطلقات، كيف ضحكت هكذا، وكيف انطلقت ولم تلق في إصابة العدو حرجا، وتعجّب لحالها عجباً؟!!
ولما عاد إلى خندقه، أخبره سلاحه بما أزال عجبه، فعقد النكاح بينه وبين لوحة المفاتيح، وزُفّت إليه، وتزاوجت زخات الطلقات، بالحروف والكلمات، وأنجبوا ولدا أسموه عزّ الإسلام، وتصالح الجهاد والدعوة، وتعانق السلاح والصحوة، وانكشفت الغمة، وانجلت المحنة عن الأمّة، وارتفع الخلاف، والتأم الشمل في انتظام وائتلاف.
للشيخ حامد بن عبدالله العلي فك الله اسره
تعليق