الليل ..الليل .. الليل ، ودقّت الساعة تصحي الليل ، هكذا كانت تقول " الست" . لم أكن أفهم آنذاك ماذا تعنيه ، ولم يدخل في مخي أن الساعة يمكن أن تصحي الليل ، إلا أنّ ساعة " بيق بن " التي كانت تكرر دقاتها الشهيرة على رأس كل ساعة ، لم تكن تصحيني فحسب ، بل كانت تثيرني وتخيفني ، خاصة عندما تدق دقتها الأخيرة التي يتبعها سكون لعدة ثوان ، ثم يتبعها صوت رخيم يعلن : " هنا لندن " !
حفظت أسماء مذيعيها ومذيعاتها، وأحببت بعضهن حتى كِدْت أُعَدّل بيت بشار المشهور : ياناس أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا . ليصبح : الأذن تعشق قبل العين دائما !
على طريقة " ناصر القصبي " في برنامج "طاش ما طاش" الشهير ، كنت أُحرّك " راديو التو شيبا " ذو الغلاف البني حول أذني إلى كل الجهات ، لكي لا تفوتني كلمة من خبر ، أوجملة من برنامج ، أو مقطع من أغنية ، لكن سعادتي بسماع اسمي في برنامج "مايطلبه المستمعون" كادت تطيحه مني وأنا أجري لأخبر رفيقي وصديقي (س) :
والله والله وأقسم بالله أنه طلع اسمي في لندن وأنا اطلب أغنية محمد علي سندي :" على العقيق اجتمعنا ، حنا وسود العيوني "، أي والله واقسم بالله !
كيف طلع اسمك في لندن، متى.. طيب متى ، أحلف ....أحلف ..
كان زميلي (س) أكثر من يشاركني السهر والسمر في ليالي الشتاء القارسة ، حيث لا نار ولا دثار ، ننزوي في ركن من أركان المفرش ( المجلس) وأحيانا قريبا من النافذة ، لنتمكن من سماع الراديو الذي يأتينا من خلاله أغاني ومنوعات بأصوات دافئة ، نصغي إليها بشكل مختلف عن إصغاءنا لتلك الأصوات الجافة ، التي تعودنا سماعها ، فننسى معها البرد - الذي يتسلل إلينا من النافذة التي لا يمكن أحكام إغلاقها- وأشياء كثيرة أخرى ، ننسى أننا في قرية في رؤوس جبال السر وات ونتخيل أننا على مقربة من المدفأة في "بش هاوس" ، مقر هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، الذي حفظنا اسمه وأصبحنا نردده أكثر مما نردد بعض الأسماء المشهورة عندنا !
غادرنا القرية ؛ زميلي (س) وأنا ، بعد حصولنا على الابتدائية إلى مدينة الطائف ، وتركنا " راديو التو شيبا" و " هنا لندن" وصوت مذيعاتها ، وذكريات أخرى جميلة خلفنا ، وبدأنا نتأقلم مع المدينة ، حيث وجدنا في التلفزيون عوضا عن الراديو ، وأصبحت سميرة توفيق ، وسلوى سعيد ، بطلتا مسلسل فارس ونجود ، ووضحى وبن عجلان ، تأخذان المكان الذي كان مشغولا بهدى الرشيد وزميلاتها .
ومرت الأيام ، ودارت الأيام ، على قول " الست " أيضا ، ووجدت نفسي أسافر إلى بريطانيا في السنة أكثر من مرة ، ولكن ليس إلى لندن ، بل إلى مدينة ما نشستر ،حيث نغادر منها إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي ، كنا نحلّق في الجو على مقربة من لندن ، لكننا لم نتمكن من رؤيتها ، فالغيوم المنخفضة والضباب الذي اشتهرت به ، يحول دوننا ودونها في كل وقت نمر من أجواءها ، مما زادني تعلقا بها وشوقا إليها .
بعد انتهاء حرب تحرير الكويت مباشرة، أُبْتُعِثْتُ وعدد من زملائي للدراسة على طائرة جديدة يقع مصنعها بالقرب من لندن. كان في استقبالنا في المطار وفد لم نصدق أننا نحن المعنيين في ما رأيناه منه من اهتمام ، سيارات الليموزين الطويلة والفندق الذي أخذنا إليه لم يكن عاديا بالنسبة لنا .
أفهمنا بأننا سنقضي مدة الدورة في نفس الفندق ، فالمصنع يقع في ضاحية من ضواحي لندن القريبة ، التي بناها الانجليز عندما تدمرت لندن في الحرب العالمية الثانية .
كانت التسهيلات التي قدمت لنا ، والترتيبات التي رتبت لنا ،غير مألوفة لنا ، مما يجعلنا أحيانا نتساءل عن إذا ما كان هناك خطأ ما ! كانت تصرفات إدارة الفندق معنا تؤيد شكوكنا في هذا المجال ، فلم يكونوا مرتاحين لما يقدمونه لنا ، كارتياحهم لغيرنا وخاصة من النزلاء غير العرب كاليابانيين وغيرهم .
نزل زملائي إلى المطعم الذي يقدم الفطور المحسوب من ضمن إيجار الغرف ، فلم تستقبلهم المسؤولة عنه ، بحجة أنهم ليسوا باللباس اللائق بالمطعم ! ساءني ذلك فعزمت على الانتقام لهم على طريقة بني يعرب ، فلم أتِ إلى لندن لأقف على باب الـ (Home Office) لأشحذ إقامة دائمة ، فأنا قانع بقدري العربي ، وفخورٌ بقوميتي وانتمائي ، بل أكثر مما يتصور الإنجليز ، حيث كنت أعتقد أنني الرمح الذي يرفض أن ينحني ،ويرفض أن يساوم ، ويرفض أن يقدم تنازلات ، حتى ولو كان لتلك الحسناء المغرورة بجمالها وجنسها الآري.
رغم عدم ارتياحي للملابس الإفرنجية، فهي ليست غير مريحة لي فحسب، بل أنني أجد أنها كلها بما فيها من ماركات ومقاسات، أصغر من قامتي وأضيق من حجمي.رغم ذلك تهيّأتُ ولَبِسْتُ ما استطيع منها، بما فيها " االكرفتة " أو الخربطة كما يسميها الأسبان ! وهو اسم أقرب إلى العربية ولا استبعد أن يكون منها فاللغة الأسبانية مليئة بالمفردات العربية والمعنى قريبا منها ، فهي خربطة على أي حال !
نزلت إلى حيث تستقبل الناس تلك الحسناء المغرورة ، وقابلتني بعنجهيتها المتأصلة ، وبادرتني بالسؤال ( How many person ) كم شخص ؟ فأجبتها على الفور :" One & half " واحد ونصف .
لم تستوعب إجابتي، فسألتني مرة أخرى وكررت الإجابة دون أن أنظر إليها، فقالت باستغراب: واحد ونصف ! أين النصف؟ قلت لها : أنت النصف ! أُسْقِط في يدها، وبدا عليها الارتباك، تركتني في مدخل المطعم، وذهبت إلى مديرها، فمضيت إلى أفضل الأماكن وجلست فيه.
جاءني نفر من العاملين في الإدارة وبدت عليهم الحيرة، هل يستفسرون أم يعتذرون ولكنني لم ألق لهم بالا، وذهبت أختار فطوري وأتناوله وكأن الأمر لا يعنيني !
تغير الحال بعد ذلك، وأصبح لنا مكانا محجوزا بصفة دائمة في أحسن مكان في المطعم، ولم تعد صاحبتنا تتعالى علينا ، بل بالعكس فقد أصبحت تقترب منا ، وتهتم بنا ، حتى أنها لم تستطع أن تسيطر على نوبات الضحك التي تنتابها كلما تذكرت موقفي معها !
هناك تتمة .
حفظت أسماء مذيعيها ومذيعاتها، وأحببت بعضهن حتى كِدْت أُعَدّل بيت بشار المشهور : ياناس أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا . ليصبح : الأذن تعشق قبل العين دائما !
على طريقة " ناصر القصبي " في برنامج "طاش ما طاش" الشهير ، كنت أُحرّك " راديو التو شيبا " ذو الغلاف البني حول أذني إلى كل الجهات ، لكي لا تفوتني كلمة من خبر ، أوجملة من برنامج ، أو مقطع من أغنية ، لكن سعادتي بسماع اسمي في برنامج "مايطلبه المستمعون" كادت تطيحه مني وأنا أجري لأخبر رفيقي وصديقي (س) :
والله والله وأقسم بالله أنه طلع اسمي في لندن وأنا اطلب أغنية محمد علي سندي :" على العقيق اجتمعنا ، حنا وسود العيوني "، أي والله واقسم بالله !
كيف طلع اسمك في لندن، متى.. طيب متى ، أحلف ....أحلف ..
كان زميلي (س) أكثر من يشاركني السهر والسمر في ليالي الشتاء القارسة ، حيث لا نار ولا دثار ، ننزوي في ركن من أركان المفرش ( المجلس) وأحيانا قريبا من النافذة ، لنتمكن من سماع الراديو الذي يأتينا من خلاله أغاني ومنوعات بأصوات دافئة ، نصغي إليها بشكل مختلف عن إصغاءنا لتلك الأصوات الجافة ، التي تعودنا سماعها ، فننسى معها البرد - الذي يتسلل إلينا من النافذة التي لا يمكن أحكام إغلاقها- وأشياء كثيرة أخرى ، ننسى أننا في قرية في رؤوس جبال السر وات ونتخيل أننا على مقربة من المدفأة في "بش هاوس" ، مقر هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، الذي حفظنا اسمه وأصبحنا نردده أكثر مما نردد بعض الأسماء المشهورة عندنا !
غادرنا القرية ؛ زميلي (س) وأنا ، بعد حصولنا على الابتدائية إلى مدينة الطائف ، وتركنا " راديو التو شيبا" و " هنا لندن" وصوت مذيعاتها ، وذكريات أخرى جميلة خلفنا ، وبدأنا نتأقلم مع المدينة ، حيث وجدنا في التلفزيون عوضا عن الراديو ، وأصبحت سميرة توفيق ، وسلوى سعيد ، بطلتا مسلسل فارس ونجود ، ووضحى وبن عجلان ، تأخذان المكان الذي كان مشغولا بهدى الرشيد وزميلاتها .
ومرت الأيام ، ودارت الأيام ، على قول " الست " أيضا ، ووجدت نفسي أسافر إلى بريطانيا في السنة أكثر من مرة ، ولكن ليس إلى لندن ، بل إلى مدينة ما نشستر ،حيث نغادر منها إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي ، كنا نحلّق في الجو على مقربة من لندن ، لكننا لم نتمكن من رؤيتها ، فالغيوم المنخفضة والضباب الذي اشتهرت به ، يحول دوننا ودونها في كل وقت نمر من أجواءها ، مما زادني تعلقا بها وشوقا إليها .
بعد انتهاء حرب تحرير الكويت مباشرة، أُبْتُعِثْتُ وعدد من زملائي للدراسة على طائرة جديدة يقع مصنعها بالقرب من لندن. كان في استقبالنا في المطار وفد لم نصدق أننا نحن المعنيين في ما رأيناه منه من اهتمام ، سيارات الليموزين الطويلة والفندق الذي أخذنا إليه لم يكن عاديا بالنسبة لنا .
أفهمنا بأننا سنقضي مدة الدورة في نفس الفندق ، فالمصنع يقع في ضاحية من ضواحي لندن القريبة ، التي بناها الانجليز عندما تدمرت لندن في الحرب العالمية الثانية .
كانت التسهيلات التي قدمت لنا ، والترتيبات التي رتبت لنا ،غير مألوفة لنا ، مما يجعلنا أحيانا نتساءل عن إذا ما كان هناك خطأ ما ! كانت تصرفات إدارة الفندق معنا تؤيد شكوكنا في هذا المجال ، فلم يكونوا مرتاحين لما يقدمونه لنا ، كارتياحهم لغيرنا وخاصة من النزلاء غير العرب كاليابانيين وغيرهم .
نزل زملائي إلى المطعم الذي يقدم الفطور المحسوب من ضمن إيجار الغرف ، فلم تستقبلهم المسؤولة عنه ، بحجة أنهم ليسوا باللباس اللائق بالمطعم ! ساءني ذلك فعزمت على الانتقام لهم على طريقة بني يعرب ، فلم أتِ إلى لندن لأقف على باب الـ (Home Office) لأشحذ إقامة دائمة ، فأنا قانع بقدري العربي ، وفخورٌ بقوميتي وانتمائي ، بل أكثر مما يتصور الإنجليز ، حيث كنت أعتقد أنني الرمح الذي يرفض أن ينحني ،ويرفض أن يساوم ، ويرفض أن يقدم تنازلات ، حتى ولو كان لتلك الحسناء المغرورة بجمالها وجنسها الآري.
رغم عدم ارتياحي للملابس الإفرنجية، فهي ليست غير مريحة لي فحسب، بل أنني أجد أنها كلها بما فيها من ماركات ومقاسات، أصغر من قامتي وأضيق من حجمي.رغم ذلك تهيّأتُ ولَبِسْتُ ما استطيع منها، بما فيها " االكرفتة " أو الخربطة كما يسميها الأسبان ! وهو اسم أقرب إلى العربية ولا استبعد أن يكون منها فاللغة الأسبانية مليئة بالمفردات العربية والمعنى قريبا منها ، فهي خربطة على أي حال !
نزلت إلى حيث تستقبل الناس تلك الحسناء المغرورة ، وقابلتني بعنجهيتها المتأصلة ، وبادرتني بالسؤال ( How many person ) كم شخص ؟ فأجبتها على الفور :" One & half " واحد ونصف .
لم تستوعب إجابتي، فسألتني مرة أخرى وكررت الإجابة دون أن أنظر إليها، فقالت باستغراب: واحد ونصف ! أين النصف؟ قلت لها : أنت النصف ! أُسْقِط في يدها، وبدا عليها الارتباك، تركتني في مدخل المطعم، وذهبت إلى مديرها، فمضيت إلى أفضل الأماكن وجلست فيه.
جاءني نفر من العاملين في الإدارة وبدت عليهم الحيرة، هل يستفسرون أم يعتذرون ولكنني لم ألق لهم بالا، وذهبت أختار فطوري وأتناوله وكأن الأمر لا يعنيني !
تغير الحال بعد ذلك، وأصبح لنا مكانا محجوزا بصفة دائمة في أحسن مكان في المطعم، ولم تعد صاحبتنا تتعالى علينا ، بل بالعكس فقد أصبحت تقترب منا ، وتهتم بنا ، حتى أنها لم تستطع أن تسيطر على نوبات الضحك التي تنتابها كلما تذكرت موقفي معها !
هناك تتمة .
تعليق