فتح الأندلس صفحة مشرقة في التاريخ الإسلامي ، بل كان فتحًا مبينًا للحضارة الإنسانية .
ثمانية قرون ، حكمها العرب والمسلمون ، عمروها ولم يستعمروها ( كالمستعمرين في الحضارة المعاصرة ) .
أُخرج المسلمون منها ، وكانت صفحةً سوداء في تارخهم ، وجرحًا لم ولن يندمل .
أترككم مع هذه القراءة المختلفة ( على الأقل لدي ) والتي كتبها الأستاذ : الطاهر أحمد مكي ، في مجلة العربي الكويتية ، وسأوردها لكم في حلقات ، آمل أن أكون وفقت في وضعها بين أيديكم ، راجيًا أن تكون ذات فائدة :
ثمة قاعدة انتهى إليها علماء التاريخ: إن الإسلام إذا بلغ أرضا استقر فيها إلى الأبد, وكانت إسبانيا وصقلية الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة! فكيف كانت بداية الفتح.. وكيف انتهى أفول الخروج?
الحق أن إزاحة الإسلام عن إسبانيا بعد عمر طويل وحضارة زاهرة, ظاهرة تستأهل الدرس العميق, والغوص وراء أسبابها الخفية والظاهرة, لأن الأسباب إذا تشابهت - مهما تكررت - تؤدي إلى نتائج متقاربة, وإذن فنحن مهددون بأكثر من أندلس أخرى إذا لم نكن في يقظة حذرة مما حولنا, أو يدبر لنا.
وقبل أن آتي إلى بعض هذه الأسباب - ولا أزعم أنني سأتناولها كلها أو أقدر وحدي على استقصائها جميعها في هذه العجالة - أود أن أصحح لبسا تقع فيه الكثرة الغالبة من المثقفين, وهو أن إسبانيا كانت بلدا مستقلا, جاء العرب فاحتلوه زمنا, ثم تجمع الإسبان فحرروه منهم, وهي مقولة مغلوطة من أولها إلى آخرها.
لم تجئ حركة الفتح الأولى عفوا, ولا كانت مجرد مغامرة, بل جاءت وليدة تخطيط محكم, ودراسة واعية, وإدراك جيد بما كان يجري على أرض إسبانيا نفسها, وكان عبور طارق بن زياد, بعد عبورين سبقاه, وحملة استطلاع تبينت الواقع, ومعلومات تؤكد أن الدولة القوطية تتفكك, والصراع بين أمرائها على أشده, وهم ليسوا بأقرب إلى السكان من البربر المسلمين, فقد جاءوها من الشمال جموعا وثنية همجية, ثم استقروا فيها حاكمين, ومن ثم فإن قطاعا عريضا من المجتمع الإسباني كان يغذي عملية العبور هذه, والبقية الأخرى لم يكن الأمر كله يعنيها في شيء على الإطلاق, قلة فحسب كانت خائفة ومذعورة: الإقطاعيون وملاك العبيد. وكان هؤلاء, مع رقيق الأرض, يمثلون الأغلبية الساحقة من الشعب, ويئنون تحت ضغوط شخصية ونفسية ومادية هائلة, ويتمنون الخلاص على يد أي مخلوق.
كان هناك صراع قوي بين الأجناس والطبقات والأديان, فلم تكن إسبانيا مسيحية كلها في ذاك الوقت, بل كان فيها إلى جانب الكاثوليك طوائف أخرى, من الوثنيين والأريوسيين واليهود, في فترة أبعد ما تكون عن التسامح الديني أو التعايش بين الطوائف.
ولم تكن الدولة على وفاق مع المجتمع, وتفتقد القاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها.
وحتى رجال الدين الكاثوليك كانوا يطمحون إلى تغيير النظام القائم, ولم يرعبهم في شيء أن يعيشوا في ظل الإسلام.
كان لا بد إذن من قارعة, من الداخل أو الخارج, تذهب بهذا النظام الذي ينتمي إلى العصر القديم, تتمثل في جنس جديد, أو موجة جديدة من الشمال أو الجنوب, تذهب بهؤلاء القائمين في طليطلة من القوط. وكان محالا أن تجيء من الداخل, لأن المجتمع عاجز عن خلق أي شيء, تعوزه الحيوية والحماسة, مريض بلا علاج, وما كان ممكنا أن تجيء من الشمال, لأن فرنسا كانت تعاني من المشكلات نفسها تقريبا, فكان الإسلام هو القارعة!.
ويمكن القول إذن, (والقول لمؤرخ إسباني), إن المسلمين عبروا المضيق في مهمة قدرية للقضاء بعنف على نظام قائم لا توجد قوة غيره قادرة على أن تأتي عليه في ضربة قاضية, وأن تشغل مكانه.
ومن المؤكد أن تخطيطا على مستوى عال تم في مدينة سبتة بين أبناء الملك الذي أزيح عن العرش وحاكم المدينة, وكان صديقا لهم, وبين موسى ابن نصير القائد العام, وطارق بن زياد قائد الحملة, وفيه تم تحييد جانب كبير من النبلاء والقواد حتى لايقاوموا, وآخرون أخذوا جانب المسلمين صراحة, وتعكس الخطة معرفة واعية بطبيعة الأرض التي سوف يجري القتال فوقها, فبعد اثني عشر قرنا من الفتح الإسلامي سلكت قوات الجنرال فرانكو - حين ثار على النظام الجمهوري عام 1936 وكان في المغرب - في طريقها إلى إسبانيا, الطريق نفسه الذي سلكه موسى بن نصير: الجزيرة الخضراء, فإشبيلية, فماردة, فطليطلة.
كان البربر أول من دخل الأندلس, فقد كان جيش طارق بربريا كله, واحتملوا صدمة الفتح الأولى, واتصلت هجرتهم إليه لقرب بلادهم منه, وتشابه مناخ أوطانهم به, وكثرة القلاقل عندهم. وبعدهم جاء العرب, يمنيين, أو مضريين, مع موسى بن نصير أولا, ومع بلج بن بشر القيسي فيما بعد, وفي أفواج قليلة مع عبد الرحمن الداخل أخيرا, وبقيت الأغلبية الساحقة من السكان من أهل البلاد الأصليين, ايبيريين أو سلتيين أو قوطا أو أفارقة أو فينيقيين, إلى جانب قلة من اليهود قدمت إلى إسبانيا قبل المسلمين بزمن طويل. وقد أسلمت الأغلبية العظمى من أهل البلاد, واحتفظت قلة محدودة بعقيدتها الكاثوليكية, ولكنها تعربت فيما عداها, لغة وعادات وحياة وسلوكا, ولذلك عرفوا باسم المستعربين وكان المسلمون الذين من أصل إسباني أشد الجميع تحمسا للدين الجديد.
بعد أقل من نصف قرن من الزمان, مع قدوم عبد الرحمن بن معاوية, وتوليه الإمارة, استقل الأندلس, وأصبح دولة لا سلطان لأحد عليها غير أبنائها. نعم كان الأمير عربيا قرشيا جاء من المشرق, لكن ألم يكن لذريق ملكها قبيل الفتح قوطيا جاء من شمال أوربا?.
في ظل الأمن والاستقرار والتعايش والرخاء, سوف تتأصل الحضارة الإسلامية وتزدهر, وتعطي خير ثمارها, وسوف تصبح قرطبة العاصمة من كبريات مدن العالم, ويضرب بها المثل فى العلم والرفاهية والرقي, وتبلغ شهرتها الخافقين.
مع أول القرن الثامن الميلادي جاء العرب إلى الأندلس, ومع نهاية القرن العاشر أصبح بهم دولة مرهوبة الجانب, مركزية السلطة, يسودها الأمن, وتفيض بالخير: الحقول خضراء زاهية, والبيوت أنيقة مريحة, والحمامات كثيرة ونظيفة, وأنظمة الري دقيقة ومحكمة, والأقوات موفورة بأرخص الأسعار, ويتحرك الناس في صحة بادية وملابس نظيفة, وانكمش الفقر أو تلاشى.
وقد صنع هذا المجد عربيان عظيمان, كان الأول خليفة, وهو عبد الرحمن الناصر, وكان الثاني حاجبا أو رئيسا للوزراء فى لغتنا المعاصرة, وهو المنصور بن أبي عامر, وكما تكون إنجازات العباقرة عظيمة تجيء أخطاؤهم من المستوى نفسه.
إلى الملتقى في الجزء التالي .
ثمانية قرون ، حكمها العرب والمسلمون ، عمروها ولم يستعمروها ( كالمستعمرين في الحضارة المعاصرة ) .
أُخرج المسلمون منها ، وكانت صفحةً سوداء في تارخهم ، وجرحًا لم ولن يندمل .
أترككم مع هذه القراءة المختلفة ( على الأقل لدي ) والتي كتبها الأستاذ : الطاهر أحمد مكي ، في مجلة العربي الكويتية ، وسأوردها لكم في حلقات ، آمل أن أكون وفقت في وضعها بين أيديكم ، راجيًا أن تكون ذات فائدة :
ثمة قاعدة انتهى إليها علماء التاريخ: إن الإسلام إذا بلغ أرضا استقر فيها إلى الأبد, وكانت إسبانيا وصقلية الاستثناء الوحيد في هذه القاعدة! فكيف كانت بداية الفتح.. وكيف انتهى أفول الخروج?
الحق أن إزاحة الإسلام عن إسبانيا بعد عمر طويل وحضارة زاهرة, ظاهرة تستأهل الدرس العميق, والغوص وراء أسبابها الخفية والظاهرة, لأن الأسباب إذا تشابهت - مهما تكررت - تؤدي إلى نتائج متقاربة, وإذن فنحن مهددون بأكثر من أندلس أخرى إذا لم نكن في يقظة حذرة مما حولنا, أو يدبر لنا.
وقبل أن آتي إلى بعض هذه الأسباب - ولا أزعم أنني سأتناولها كلها أو أقدر وحدي على استقصائها جميعها في هذه العجالة - أود أن أصحح لبسا تقع فيه الكثرة الغالبة من المثقفين, وهو أن إسبانيا كانت بلدا مستقلا, جاء العرب فاحتلوه زمنا, ثم تجمع الإسبان فحرروه منهم, وهي مقولة مغلوطة من أولها إلى آخرها.
لم تجئ حركة الفتح الأولى عفوا, ولا كانت مجرد مغامرة, بل جاءت وليدة تخطيط محكم, ودراسة واعية, وإدراك جيد بما كان يجري على أرض إسبانيا نفسها, وكان عبور طارق بن زياد, بعد عبورين سبقاه, وحملة استطلاع تبينت الواقع, ومعلومات تؤكد أن الدولة القوطية تتفكك, والصراع بين أمرائها على أشده, وهم ليسوا بأقرب إلى السكان من البربر المسلمين, فقد جاءوها من الشمال جموعا وثنية همجية, ثم استقروا فيها حاكمين, ومن ثم فإن قطاعا عريضا من المجتمع الإسباني كان يغذي عملية العبور هذه, والبقية الأخرى لم يكن الأمر كله يعنيها في شيء على الإطلاق, قلة فحسب كانت خائفة ومذعورة: الإقطاعيون وملاك العبيد. وكان هؤلاء, مع رقيق الأرض, يمثلون الأغلبية الساحقة من الشعب, ويئنون تحت ضغوط شخصية ونفسية ومادية هائلة, ويتمنون الخلاص على يد أي مخلوق.
كان هناك صراع قوي بين الأجناس والطبقات والأديان, فلم تكن إسبانيا مسيحية كلها في ذاك الوقت, بل كان فيها إلى جانب الكاثوليك طوائف أخرى, من الوثنيين والأريوسيين واليهود, في فترة أبعد ما تكون عن التسامح الديني أو التعايش بين الطوائف.
ولم تكن الدولة على وفاق مع المجتمع, وتفتقد القاعدة الاجتماعية التي تقوم عليها.
وحتى رجال الدين الكاثوليك كانوا يطمحون إلى تغيير النظام القائم, ولم يرعبهم في شيء أن يعيشوا في ظل الإسلام.
كان لا بد إذن من قارعة, من الداخل أو الخارج, تذهب بهذا النظام الذي ينتمي إلى العصر القديم, تتمثل في جنس جديد, أو موجة جديدة من الشمال أو الجنوب, تذهب بهؤلاء القائمين في طليطلة من القوط. وكان محالا أن تجيء من الداخل, لأن المجتمع عاجز عن خلق أي شيء, تعوزه الحيوية والحماسة, مريض بلا علاج, وما كان ممكنا أن تجيء من الشمال, لأن فرنسا كانت تعاني من المشكلات نفسها تقريبا, فكان الإسلام هو القارعة!.
ويمكن القول إذن, (والقول لمؤرخ إسباني), إن المسلمين عبروا المضيق في مهمة قدرية للقضاء بعنف على نظام قائم لا توجد قوة غيره قادرة على أن تأتي عليه في ضربة قاضية, وأن تشغل مكانه.
ومن المؤكد أن تخطيطا على مستوى عال تم في مدينة سبتة بين أبناء الملك الذي أزيح عن العرش وحاكم المدينة, وكان صديقا لهم, وبين موسى ابن نصير القائد العام, وطارق بن زياد قائد الحملة, وفيه تم تحييد جانب كبير من النبلاء والقواد حتى لايقاوموا, وآخرون أخذوا جانب المسلمين صراحة, وتعكس الخطة معرفة واعية بطبيعة الأرض التي سوف يجري القتال فوقها, فبعد اثني عشر قرنا من الفتح الإسلامي سلكت قوات الجنرال فرانكو - حين ثار على النظام الجمهوري عام 1936 وكان في المغرب - في طريقها إلى إسبانيا, الطريق نفسه الذي سلكه موسى بن نصير: الجزيرة الخضراء, فإشبيلية, فماردة, فطليطلة.
كان البربر أول من دخل الأندلس, فقد كان جيش طارق بربريا كله, واحتملوا صدمة الفتح الأولى, واتصلت هجرتهم إليه لقرب بلادهم منه, وتشابه مناخ أوطانهم به, وكثرة القلاقل عندهم. وبعدهم جاء العرب, يمنيين, أو مضريين, مع موسى بن نصير أولا, ومع بلج بن بشر القيسي فيما بعد, وفي أفواج قليلة مع عبد الرحمن الداخل أخيرا, وبقيت الأغلبية الساحقة من السكان من أهل البلاد الأصليين, ايبيريين أو سلتيين أو قوطا أو أفارقة أو فينيقيين, إلى جانب قلة من اليهود قدمت إلى إسبانيا قبل المسلمين بزمن طويل. وقد أسلمت الأغلبية العظمى من أهل البلاد, واحتفظت قلة محدودة بعقيدتها الكاثوليكية, ولكنها تعربت فيما عداها, لغة وعادات وحياة وسلوكا, ولذلك عرفوا باسم المستعربين وكان المسلمون الذين من أصل إسباني أشد الجميع تحمسا للدين الجديد.
بعد أقل من نصف قرن من الزمان, مع قدوم عبد الرحمن بن معاوية, وتوليه الإمارة, استقل الأندلس, وأصبح دولة لا سلطان لأحد عليها غير أبنائها. نعم كان الأمير عربيا قرشيا جاء من المشرق, لكن ألم يكن لذريق ملكها قبيل الفتح قوطيا جاء من شمال أوربا?.
في ظل الأمن والاستقرار والتعايش والرخاء, سوف تتأصل الحضارة الإسلامية وتزدهر, وتعطي خير ثمارها, وسوف تصبح قرطبة العاصمة من كبريات مدن العالم, ويضرب بها المثل فى العلم والرفاهية والرقي, وتبلغ شهرتها الخافقين.
مع أول القرن الثامن الميلادي جاء العرب إلى الأندلس, ومع نهاية القرن العاشر أصبح بهم دولة مرهوبة الجانب, مركزية السلطة, يسودها الأمن, وتفيض بالخير: الحقول خضراء زاهية, والبيوت أنيقة مريحة, والحمامات كثيرة ونظيفة, وأنظمة الري دقيقة ومحكمة, والأقوات موفورة بأرخص الأسعار, ويتحرك الناس في صحة بادية وملابس نظيفة, وانكمش الفقر أو تلاشى.
وقد صنع هذا المجد عربيان عظيمان, كان الأول خليفة, وهو عبد الرحمن الناصر, وكان الثاني حاجبا أو رئيسا للوزراء فى لغتنا المعاصرة, وهو المنصور بن أبي عامر, وكما تكون إنجازات العباقرة عظيمة تجيء أخطاؤهم من المستوى نفسه.
إلى الملتقى في الجزء التالي .
تعليق