يرديدون هدم المعاني الجليلة = يريدون هدم صروح الفضيلة
أفيقي أخيه = وقولي دعوني
دعوني فإني أريد حيائي = دعوني فإني أريد إبائي
دخلت فجر ابنة الخمس سنوات وهي تنشد بصوتها الصغير الرائق النبرات
رفع الوالدان إليها نظراتٍ محبةٍ مؤملة
وهما يستمعان لها تنهي النشيد بصوتها العذب مرددةً:
أفيقي أخيه
أفيقي أخيه
ومن جانبهما ارتفع صوتٌ متعثر لابنتهما بشرى ذات الثلاث سنوات تحاول تقليد أختها بكلماتٍ مبعثرة
ضمتها الأم إليها ضاحكةً مبتهجة؛ بينما سأل الأب ابنته:
- ها يا فجر متى تنهين حفظ سورة النبأ؟..
- غداً يا أبي بعد صلاة العصر..
- سأعمل لك إن شاء الله حفلاً عائلياً وأعطيك جائزةً بعد أن حفظت جزء عم كاملاً
استطارت البنت فرحاً وهي تسمع ذكر الجائزة
حاولت معرفة ما تكون إلا أن الأب لم يخبرها..
ثم توجه بها وبأختها إلى غرفة نومهما
استلقت كل واحدةٍ على سريرها وجلس هو بينهما، يحكي القصة اليومية قبل النوم:
" يحكي يا صغيراتي أنه وفي إحدى الغابات كانت تعيش أرنبتان جميلتان؛ يأكلن من
الحشائش الكثيرة؛ ويشربن من ماء الجدول الوفير؛ ويسكن جحراً فسيحاً زينته أزهار
الغابة وورودها؛ وكانت حياتهن سعيدةً جداً؛؛ يخرجن حين تشرق الشمس إلى الغابة فيأخذن في اللعب والمرح والأكل،، وعندما تغرب الشمس يسرعن بالعودة إلى جحرهن قبل مجيء الثعالب الماكرة؛ وذات يومٍ وجدت الأرنبة
الصغرى ضفدعةً قذرة قدمت من المستنقع البعيد؛ أخذت الأرنبة الجميلة تحدق
في الضفدعة المتسخة، وعندما رأتها الضفدعة تنظر إليها جعلت تحدثها كاذبةً عن بيتهم في المستنقع وحريتهم فيه وسعادتهم هناك؛ واستمرت الضفدعة في الحديث والأرنبة الصغيرة تستمع حتى غربت الشمس؛ مرت بهما الأرنبة الكبرى الحكيمة نظرت للضفدعة باشمئزاز...
ثم قالت لأختها: هيا بنا للمنزل فقد غربت الشمس.. أجابتها أختها: حسناً سوف آتي حالاً.. إلا أنها واصلت الاستماع لحديث الضفدعة ولم تذهب مع أختها..
وفجأةً رأت بين الأشجار عينين براقتين عرفت فيهما عين الثعلب فأسرعت تلوذ
بالفرار إلى جحرهم.. فرح الثعلب باكتشاف هذا الصيد الثمين ومعرفته لمنزلهم
ثم خرج من بين الأشجار إلى حيث الضفدعة ليشكرها
على تعاونها معه........
عندما وصل الأب لهذا الحد رفع طرفه لابنتيه ليجدهما نائمتين..
قام من مكانه ليصلح وضع اللحاف على صغراهما
ثم يلقي نظرةً حانيةً عليهما ويردد لنفسه باسماً:
اسأل الله أن يحفظكما من شر كل ضفدعةٍ مفسدةٍ وثعلبٍ ماكر..
أغلق الباب بهدوء متوجهاً للغرفة الأخرى حيث تنام زوجته وطفله الرضيع.
و استغرقت الأسرة في نومٍ عميق..
قبيل الفجر استيقظ الأب ليتوضأ ويصلي ما شاء الله له من الليل،،
ارتفع صوته الندي بالتلاوة؛ في مناجاةٍ مع ذي العزة والجلال
وقد أصغت لترتيله الأكوان
كان يمر بقول الله تعالى:
" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون"
توقف هنا ؛؛ فقد خيل إليه أنه يسمع صوت طرقاتٍ على باب المنزل
وعندما لم يسمع شيئاً عاد ليكمل:
"ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"
هنا ارتفع الطرق على الباب مؤكداً وجوده
عندها نهض من على سجادته مستعيذاً بالله من شر طوارق الليل والنهار
- من بالباب؟!..
- افتح... الشرطة العسكرية!!..
فتح الباب ليبصر من خلفه بضعة عشر جندياً مسلحاً
سرعان ما انقضوا عليه وكبلوه؛؛ ثم انطلقوا في أرجاء المنزل مفتشين
قبل أن يصلوا لغرفة نومهما كانت زوجته تقف ببابها..
قد راعتها الجلبة والمناظر المفزعة
لم تستطع الكلام أو السؤال أو حتى الصراخ
رأت زوجها مقيداً ففهمت الحكاية؛؛ وما أوجعها من حكاية..
كان الزمن زمن اعتقالاتٍ ومداهمات؛؛ طالت الكبير والصغير والبريء والمتهم
وهم رغم بعدهم عن السياسة ومسالكها؛؛ إلا أن في بيتهم تهمةً هي في نظر الطغيان أشد وأنكى..
ففي بيتهم قرآنٌ يتلى؛؛ وتربيةً جعلت من الإسلام منهجاً يحتذى
دفعها قائدهم جانباً ليدخل غرفة نومهما فيقلبها رأساً على عقب
محطماً وعابثاً بذكرياتٍ عزيزةٍ شهدت أيام زواجهم الأولى
وما أسعدها من أيامٍ تتراءى الآن كأبعد ما يكون..
وصل إلى الطاولة وعليها المصحف الشريف
وهناك أقدم على ما لم يكن يدور بخلدها أنها ستراه!!..
لقد حمل المصحف بيسراه القذرة؛؛ قلبه قليلاً ثم رمى به على الأرض عند قدميه
صاحت به: اتق الله.. الست مسلماً في بلدٍ مسلم؟!.. كيف تمتهن كلامك الله؟!!..
حدق فيها بنظرةٍ باردةٍ مزمجراً: أنت أيضاً لدينا أمرٌ باعتقالك!!
وقام أحدهم ليكبل يديها!!..
هتفت باكيةً وهي تنظر لرضيعها النائم:
وأطفالنا الصغار.. لمن نتركهم هنا؟! ألا ترحمونهم؟!..
رد ببرود: ليس لدي أي أوامر باعتقالهم..
وتصاعدت الضحكات من طغمة الأوغاد حوله..
إلى هنا والزوج الصابر صامتاً
يعلم أنه جاء دورهم في الابتلاء؛؛ وأن لا جدوى من استرحام الوحوش
وفي وجدانه يتردد صدى الآية التي قرأها قبل قليل
وعندما رأى دموع زوجته المنسابة؛؛
أراد أن يثبتها؛؛ أن يعزيها بكلمة؛؛ فلم يجد إلا أن يجهر لها بما يتردد بداخله؛؛
أخذ يرتل " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون"
نظر إليه الجنود بانذهال؛؛ ثم أسرعوا يتناوشونه ركلاً وضرباً
وعندما انفضوا عنه؛ رأت وجهه الدامي يشرق بابتسامةٍ كالشمس،،،
أضاءت لها ظلمات درب الابتلاء المعتم
فكفكفت الدموع
وإن كان في القلوب كجذوة النار تتوقد كلما أبصرت العيون بالصغار النائمين
وخرج الموكب من المنزل
أسيرٌ وأسيرة؛؛ يحيط بهما الجنود
وأقفل القائد الباب من الخارج؛؛ ومضى الركب إلى سجون الطغيان
رباه
قد هجدت الأرض بما تقل
فنامت في البحر أحياؤها؛؛ وكمنت على الأشجار طيورها
وفي بيتٍ مسلمٍ بأرض مسلمة
ينام ثلاثة أطفالٍ ليس لهم إلاك..
قد أبعد الطغيان عنهم حنان الأب ولهفة الأم
واراهم في ظلال التاريخ فلم يحك الدهر لنا من أمرهم خبرا
أما الأطفال
فهل يستطيع قلمٌ أن يصف حالهم؟ وقد استيقظوا فلم يجدوا حولهم أماً ولا أبا،
وإنما حيطانٌ جامدةٌ باردة،، وأثاثٌ مبعثرٌ ممزق.
في الضحى
قدمت خالتهم لتزور أختها
توالي الطرق على الباب ولا من مجيب؛؛ إلا بكاء الأطفال على الجانب الآخر
بعد ساعةٍ من الطرق
اضطروا لخلع الباب؛؛ وكان سؤال الخالة للصغار:
أين أباكم وأمكم؟؟
وما أعظم الفجيعة حين كان الرد هو ذات السؤال!!..
لم ينبس الكبار بكلمةٍ فقد عرفوا الجواب
أما الصغار فستعلمهم أيامهم البائسة ما جهلوه...