قبل أيام قرأت مقالاً في صحيفة ( الاقتصادية) للشاعر المعروف صالح الشادي ، وطرح فيه رأيًا لا تنقصه الواقعية فأحببت أن أطلع من لم يطلع عليه وأن نناقشه بموضوعية .
يقول صالح الشادي في مقاله :
" منتهى الغباء أن نعتقد أن الشعر هو خاصتنا نحن فقط من بين أمم الأرض ، وأنه لا قصائد إلا قصائدنا ، ولا مشاعر إلا مشاعرنا ، وأن شعر غيرنا مجرد ( خرابيط ) ! ، ومنتهى الغباء أيضًا أن ننغلق على أنفسنا (كدودة القز)فلا نرى إلا ما تدركه أبصارنا ، ولا نستشعر إلا ما جادت به قرائح شعرائنا ، وكأن العالم نحن فقط .
الشعر هبة ربانية ، لا يمنحها إنس ولا جان ، والشاعر إنسان (مبتلى) ذو شفافية ورؤية خاصة ، ملهم إلى حدٍ بعيد ، لا يشبه غيره لافي نمطية حياته ، أو في تفكيره ، وهو وإن حاول أن يكون عقلانيًا في بعض الأحيان ، إلا أنه غالبًا يعود إلى طبيعته الأولى ، وهي الطبيعة العاطفية ،فتراه محتدًا مزاجيًا متقلبًا فوضويًا وطفوليًا دون أن يقصد ، وهو يمارس لعبة التسلل من واقعة ببعض (القفشات)التي يطلقها من وقت إلى آخر ليصرف النظر عما هو عليه من حال ، فتراه متهكمًا ساحرًا قلقًا ، أو محلقًا في سحابةٍ من صمت ، هذا إلى جانب محاولاته الظهور بمظهر المتواضع القنوع ، برغم أنه عكس ذلك الأمر تمامًا .
والشاعر الذي أقصد ليس بالناظم ، وهناك لبس واضح لدى عامة الناس في مسألة التفريق بين الشاعر والناظم ، إذ أن الكثير يرون أن الشاعر هو الناظم ولا فرق بينهما ، ولكن الحقيقة تختلف ، فليس كل ناظم شاعرًا ، وليس بالضرورة أن يكون كل شاعرٍ ناظم ، فالشاعر الحقيقي حالة إنسانية متوهجة تمشي على قدمين ، لا يملك خيار الوقت والمكان في عملية البوح ، وتدفق القريحة يجتاحه عادةً بشكل مباغت ، دون إرادةٍ منه ودون استئذان ، فتراه وقد تدفق إما همهمةً وإنشادًا ، وإما كتابةً وجملاً ،وإما رسمًا أو عزفًا ، وإما صمتًا وغورقة ، أما الناظم فهو صاحب ملكة أدبية عقلية ، وهو على أهبة الاستعداد دائمًا للكتابة حول أي موضوع ، فهو هجّاء مدّاح ، جاهز في كل لحظة ، وفي أي مناسبة ، فما أن تقع الواقعة ، حتى تراه وقد ملأ الأسطر والطروس من الأحبار والقوافي والاستعارات والتشبيهات والجناس والطباق ...الخ وقد تكتمل قصيدته قبل أن يكتمل الحدث الذي هو بصدد الكتابة عنه !.
والشعراء عادة ما تسودهم روح الألفة والانسجام ، فهم الأقرب إلى بعضهم البعض ، والأكثر إنصاتًا ، والأجمل بوحًا ... على عكس ( النظمة) الذين تتصاعد في ذواتهم روح المنافسة والتضاد ، وقد يصل الحال ببعضهم إلى التلاسن الحاد ، أو إلى إطلاق التهم والنيل من الخصوصيات .. وكأن العمل الإبداعي لديهم حالة خصومية (كروية) وهو ما يلاحظه الكثير من متابعي ساحات الشعر ( والشعر الشعبي على وجه الخصوص) في المنتديات وعلى صفحات الجرائد والمجلات وفي مجالس ( .... الأدب ) .
أما عن الميول والتوجهات ، فالشعراء ذوو همّ إنساني مطلق ، وهم لا ينعزلون بطبيعتهم عن أيٍ من قضايا الحياة ، فدواخلهم مليئة بالمتناقضات التي تصطدم بالمثل العليا التي ينطلقون منها في تعاملاتهم وفي سلوكياتهم بشكلٍ عام ، فما يحدث في محيطهم من جرائم أخلاقية لا يمر على أذهانهم مرور الكرام ، إذ تؤثر أبسط الأمور في مقياس مزاجيتهم وفلسفتهم كتأثير أعقد الأمور تمامًا ، وهم قليلو البوح ، ولا يعبرون إلا عن أنفسهم ، وإن امتشق أحدهم قلمه ، فإنه يكتب لاشعوريًا كمن ينزف ، وإن كتب كتب تلميحًا لا تصريحًا وأتى بجديدٍ واقتضب .
أما النظمة فهم حيويون إلى أبعد مدى ، ويتسمون بالنشاط العقلي المتقد ، وما يميزهم عن غيرهم أنهم مبدعون في طرائق الكتابة ، قادرون على جذب الدهشة الآنيّة ،وصافّون بدرجة متميزة ، إلا أنهم ( يخترعون) ما يكتبون ، إذ لا رابط بين بوحهم وبين ما يشعرون به ، فقد يكتب أحدهم في وصف مدينة لم يرها ، أو حادثة لم يعايشها ، أو أن ينعت بخيلاً بالسخاء ، أو غبيًا بالذكاء ... وهكذا ، والناظم في غالب الأحيان يعبر عما في عقله لا عما يجول في مشاعره من أحاسيس ، وهو لا يأتي بجديد ، لذا فهو متحكم في قصيدته أكثر بكثير من تحكمها فيه ، على عكس الشاعر تمامًا الذي تتحكم فيه قصيدته إلى أبعد الحدود ، ومن طبيعة النظمة أيضًا أن يكونوا ألسنة أقوامهم وجماعاتهم ، فهم المنافحون والمحامون والإعلاميون فيما بينهم ، وهم كثر ، فطريون ، حاضرون في كل مناسبة ، وفي كل موقف ، وعمومًا يمكن تقريب الصورة في التفريق بين الناظم والشاعر، كالفرق بين العازف العادي الذي يكرر ، وبين الملحن الذي يبتكر ، أو الفرق بين الصباغ والرسام ، أو كالفرق بين بدر بن عبدالمحسن وبين نجوم الأغلفة المشنوقين في متاحف الأدب الشعبي ."
إلى أي مدى نتفق أو نختلف مع رؤية ( صالح الشادي ) ؟ وهل شعراؤنا جميعًا شعراء ؟ أم أن منهم شعراء ولكن أغلبهم ( نظمة ) ؟
يقول صالح الشادي في مقاله :
" منتهى الغباء أن نعتقد أن الشعر هو خاصتنا نحن فقط من بين أمم الأرض ، وأنه لا قصائد إلا قصائدنا ، ولا مشاعر إلا مشاعرنا ، وأن شعر غيرنا مجرد ( خرابيط ) ! ، ومنتهى الغباء أيضًا أن ننغلق على أنفسنا (كدودة القز)فلا نرى إلا ما تدركه أبصارنا ، ولا نستشعر إلا ما جادت به قرائح شعرائنا ، وكأن العالم نحن فقط .
الشعر هبة ربانية ، لا يمنحها إنس ولا جان ، والشاعر إنسان (مبتلى) ذو شفافية ورؤية خاصة ، ملهم إلى حدٍ بعيد ، لا يشبه غيره لافي نمطية حياته ، أو في تفكيره ، وهو وإن حاول أن يكون عقلانيًا في بعض الأحيان ، إلا أنه غالبًا يعود إلى طبيعته الأولى ، وهي الطبيعة العاطفية ،فتراه محتدًا مزاجيًا متقلبًا فوضويًا وطفوليًا دون أن يقصد ، وهو يمارس لعبة التسلل من واقعة ببعض (القفشات)التي يطلقها من وقت إلى آخر ليصرف النظر عما هو عليه من حال ، فتراه متهكمًا ساحرًا قلقًا ، أو محلقًا في سحابةٍ من صمت ، هذا إلى جانب محاولاته الظهور بمظهر المتواضع القنوع ، برغم أنه عكس ذلك الأمر تمامًا .
والشاعر الذي أقصد ليس بالناظم ، وهناك لبس واضح لدى عامة الناس في مسألة التفريق بين الشاعر والناظم ، إذ أن الكثير يرون أن الشاعر هو الناظم ولا فرق بينهما ، ولكن الحقيقة تختلف ، فليس كل ناظم شاعرًا ، وليس بالضرورة أن يكون كل شاعرٍ ناظم ، فالشاعر الحقيقي حالة إنسانية متوهجة تمشي على قدمين ، لا يملك خيار الوقت والمكان في عملية البوح ، وتدفق القريحة يجتاحه عادةً بشكل مباغت ، دون إرادةٍ منه ودون استئذان ، فتراه وقد تدفق إما همهمةً وإنشادًا ، وإما كتابةً وجملاً ،وإما رسمًا أو عزفًا ، وإما صمتًا وغورقة ، أما الناظم فهو صاحب ملكة أدبية عقلية ، وهو على أهبة الاستعداد دائمًا للكتابة حول أي موضوع ، فهو هجّاء مدّاح ، جاهز في كل لحظة ، وفي أي مناسبة ، فما أن تقع الواقعة ، حتى تراه وقد ملأ الأسطر والطروس من الأحبار والقوافي والاستعارات والتشبيهات والجناس والطباق ...الخ وقد تكتمل قصيدته قبل أن يكتمل الحدث الذي هو بصدد الكتابة عنه !.
والشعراء عادة ما تسودهم روح الألفة والانسجام ، فهم الأقرب إلى بعضهم البعض ، والأكثر إنصاتًا ، والأجمل بوحًا ... على عكس ( النظمة) الذين تتصاعد في ذواتهم روح المنافسة والتضاد ، وقد يصل الحال ببعضهم إلى التلاسن الحاد ، أو إلى إطلاق التهم والنيل من الخصوصيات .. وكأن العمل الإبداعي لديهم حالة خصومية (كروية) وهو ما يلاحظه الكثير من متابعي ساحات الشعر ( والشعر الشعبي على وجه الخصوص) في المنتديات وعلى صفحات الجرائد والمجلات وفي مجالس ( .... الأدب ) .
أما عن الميول والتوجهات ، فالشعراء ذوو همّ إنساني مطلق ، وهم لا ينعزلون بطبيعتهم عن أيٍ من قضايا الحياة ، فدواخلهم مليئة بالمتناقضات التي تصطدم بالمثل العليا التي ينطلقون منها في تعاملاتهم وفي سلوكياتهم بشكلٍ عام ، فما يحدث في محيطهم من جرائم أخلاقية لا يمر على أذهانهم مرور الكرام ، إذ تؤثر أبسط الأمور في مقياس مزاجيتهم وفلسفتهم كتأثير أعقد الأمور تمامًا ، وهم قليلو البوح ، ولا يعبرون إلا عن أنفسهم ، وإن امتشق أحدهم قلمه ، فإنه يكتب لاشعوريًا كمن ينزف ، وإن كتب كتب تلميحًا لا تصريحًا وأتى بجديدٍ واقتضب .
أما النظمة فهم حيويون إلى أبعد مدى ، ويتسمون بالنشاط العقلي المتقد ، وما يميزهم عن غيرهم أنهم مبدعون في طرائق الكتابة ، قادرون على جذب الدهشة الآنيّة ،وصافّون بدرجة متميزة ، إلا أنهم ( يخترعون) ما يكتبون ، إذ لا رابط بين بوحهم وبين ما يشعرون به ، فقد يكتب أحدهم في وصف مدينة لم يرها ، أو حادثة لم يعايشها ، أو أن ينعت بخيلاً بالسخاء ، أو غبيًا بالذكاء ... وهكذا ، والناظم في غالب الأحيان يعبر عما في عقله لا عما يجول في مشاعره من أحاسيس ، وهو لا يأتي بجديد ، لذا فهو متحكم في قصيدته أكثر بكثير من تحكمها فيه ، على عكس الشاعر تمامًا الذي تتحكم فيه قصيدته إلى أبعد الحدود ، ومن طبيعة النظمة أيضًا أن يكونوا ألسنة أقوامهم وجماعاتهم ، فهم المنافحون والمحامون والإعلاميون فيما بينهم ، وهم كثر ، فطريون ، حاضرون في كل مناسبة ، وفي كل موقف ، وعمومًا يمكن تقريب الصورة في التفريق بين الناظم والشاعر، كالفرق بين العازف العادي الذي يكرر ، وبين الملحن الذي يبتكر ، أو الفرق بين الصباغ والرسام ، أو كالفرق بين بدر بن عبدالمحسن وبين نجوم الأغلفة المشنوقين في متاحف الأدب الشعبي ."
إلى أي مدى نتفق أو نختلف مع رؤية ( صالح الشادي ) ؟ وهل شعراؤنا جميعًا شعراء ؟ أم أن منهم شعراء ولكن أغلبهم ( نظمة ) ؟
تعليق