إحساسٌ غريب اعتلج بفؤادها لا تعرف كنهه
منذ رحل عنها قبل ثلاث سنوات؛ وهي تعيش عالماً من الانكسار الداخلي..
والحزن المرفرف بجناحيه على نفسها الصامدة.. فمالها هذا المساء؟!..
تتظاهر أمام الجميع بالصمود؛ وهذا ما أبدته أمامه حين قر قراره على الرحيل
هي بآلامها لا تريد أن تكون عائقاً أمام ما اختطه لنفسه من نهجٍ نبيل..
وعلى ذلك هي تبدي للآخرين من مظاهر السرور والرضا ما يدهشهم؛؛ ولو نفذوا بأبصارهم إلى دخيلتها؛ لرأوا قلباً يبكي بدل الدمع دما..
اقتربت (حياة) من النافذة.. تعلق ناظراها بالشفق عند الأفق وقد غزاه جحفل الظلام..
وظهر الهلال نحيلاً سادراً في رحيله الأزلي..
معلناً بداية شهرٍ جديد من شهور أمتي الباكية..
طرقاتٌ خافتة على باب المنزل الحديدي!!..
انتزعتها الطرقات من أحلامها، نظرت حواليها في توجس،
ألقت على ابنتها أمل النائمة بجلال الطفولة نظرةً مذعورة، لفها خوفٌ أوهن قواها؛ وكبل أعضاءها..
تراءى لها عبدالرحمن برجولته الدافقة فتمنت لو كان بجوارها؛ تحتمي به من شر هذا الطارق.
تعالى الطرق مرةً أخرى؛؛ وقفت بين الإقدام والإحجام..ترددت..ثم..
متكلةً على الله تقدمت من الباب؛ بعد أن أودعت ابنتها نظرةً تزدهر بالحنان..
- من الطارق؟!..نطقتها بصوتٍ يمازجه الخوف.. أعقبها لحظة ندمٍ هائل على تهورها..
إلا ان الرد الخافت أتاها :
- افتحي يا حياتي..
انتقضت حتى الأعماق،، عرتها رجفةٌ هي مزيجٌ بين السرور والشك والخوف!.
الصوت والنداء محفوران في قلبها، لكن.. أيعقل ذلك؟!..
أتى الصوت مرةً أخرى وبنبرةٍ أعلى:
- افتحي حياتي بسرعة.. أنا عبدالرحمن..
وهنا لم يعد للشك مجال.. فتحت الباب.. رفعت طرفاً ملهوفاً إلى رجلها العائد من الجهاد..
تراءى لها أكثر شموخاً وقوةً وإباء..
ألقت بنفسها على صدره.. تبكي أشد البكاء..
هي نفسها لم تكن تدري لم البكاء.. أتراها تبكي ذكريات أيام الأحلام الأولى..
أم تبكى عطش قلبها الى حنانٍ وحبٍ يغمرها به هذا الحبيب العائد..
أم تبكي ليالٍ من الخوف والجزع يتملكانها ويسامرانها كلما فكرت فيه صريعاً ينزف الدماء؛ أو أسيراً يعاني في سجون الكفار الهوان..
أم تبكي حياتها وما نالها من مضايقاتٍ وتهديداتٍ بعد رحيله..
أسرع يدفعها الى المنزل مغلقاً الباب وهو يربت على رأسها في حنان..
وكأنما كان البكاء ترياقاً لنفسها الحزينة؛وحفظاً لقواها العقلية أن يذهب بها دفق الفرح بعد مساءٍ اجترت فيه آلامها المعتادة..
فقد ارتفع نشيجها حتى دفع بالدمع الى عيني أسد الجبهات؛ ومن خاض أكبر الصعاب..
- حياة.. حياتي..
- عبد الرحمن...
تعانقت النظرات الوالهة... ثم غابا في بحرٍ من الحب والود العميق..
وكأنما أفاق بعد غشية: ولكن أين أملنا؟!..
- انها نائمة..
هرول الى غرفة ابنته.. تتبعه زوجه ممسكةً بيده؛ كأنما تخشى أن يفارقها الساعة..
فتح الباب.. لتسيل روحه مع نظرة حبٍ وعطف أرسلها لابنته ذات السنوات الأربع..
مشى إليها بخطىً وئيدة.. انحنى على سريرها ليحملها بين ذراعيه..
مغرقاً وجهها الملائكي بأحر القبلات..
بينما الزوجة تتابع المشهد بعيونٍ سالت مدامعها أنهرا..
فتحت الطفلة عينيها على هذا الوجه الغريب..
لم تحس بالنفور وإنما وجدت - بصدق إحساس الطفولة - في وجهه وعينيه ما يقربها إليه..
أسرعت تنقل نظرةً متسائلة على أمها؛ التي غمغمت من بين دموعها:
- هذا بابا حبيبتي..
وجهت الطفلة نظرها لأبيها؛ ثم بلهجةٍ متشككة:
- بابا سافر من زمان..
- أنا بابا يا حبيبتي..
قالها الأب وقد عصف بقلبه الحوار الحزين.. ثم احتضن ابنته التي أسرعت تلف ذراعيها حول عنقه وهي تهتف بفرح طفولي:
- بابا... ليه ما تجي عندنا؟ أنا وماما نتكلم عنك كل يوم..
صمتت الكلمات.. ولم يبق في المنزل إلا حديث الدموع..
رباه.. أي سعادةٍ مغموسةٍ بذكريات الألم؛ غرقت فيها تلك الأسرة المجاهدة تلك الليلة..
هكذا أمتي "تعلي قوماً يسلكون بنا درب الورود المفضي للفناء؛ وترخص من ارتضوا القتاد موطئاً ليقودوا مراكبنا للعلياء"
لا مزيد أحبتي لأرويه؛ ففي دولة المخبرين الإسلامية..
علمت الحكومة الظالمة بوصول المجاهد عبدالرحمن أبو أمل إلى منزله..
كان في مهمةٍ يقوم بها سريعاً خدمةً لإخوانه ثم يعود إلى ساحات الجهاد..
وفي صباح الليلة الأولى لوصوله؛ أحاطت القوات الباسلة (على شعوبها) بمنزل مجاهدنا..
تهمة إرهابٍ ألقوها عليه، ليقتحموا منزله ويأخذونه أسيراً من بين زوجته وابنته..
أم أمل؛؛ لا تبتأسي.. وتذكري عبارةً رددها زوجك وهو على باب المنزل:
" صبراً أم أمل.. فموعدنا -إن شاء الله- جنةً عرضها السماء والأرض "
انتهت
تعليق