بن مشري عبد العزيز رحمه الله ,وهذه المره مع رائعته ((حد الاسفلت )) لا تتوقف عن قراءتها , ارجوا ان تقرأها كاملة ثم تكتب رائك وتعليقك الا ان كنت تظن انها لاتستحق منك عناء التعليق
أقوال تتناسج في المجلس ، وأصوات تكاد تلمس سقف الخشب .. بالإيمان والحلفان ، وبين لحظة ولحظة تزداد لفائف الدخان الصاعد من سجائر المدخنين المتضاربين بالكلام في شأن يبدو كبيراً .
رجل قليل الكلام، في الجزء الأخير من العمر، يعتقل عقالاً ليلزم عمامته على الرأس، مال إلى الخلف، بنظارتين لاشك في أنهما طبيتين بذراعين سوداوين ، شدتا خلف أذنيه بخيطين خوف الانزلاق.. تبدو العينان المتحركتان سريعاً كعيني قط حذر.
فوق الثوب الأبيض الترابي معطف مندلع الصدر، وكان يعني بلا تردد للناظر ان أحد أزاريره قد شد في غير ثقبه فانقطع .
لزم مطير ركن المجلس، وأهمل يده الممدودة فوق ركبته كالعصا القصيرة ، وقال ببطء الواثق :
يا جماعة الخير، الطريق إلى بيت سعيد من عهد الأجداد معروفة للصغير والكبير .
معروفة للرجل الهابطة والصادرة ، وليست معروفة للسيارة .
ماكان عند الأولين سيارات .
يعني من حق سعيد اليوم ، أن يفتح للسيارة خط .
كانت الأقوال تتصارع حول هذا المعنى . وسمع على الباب الداخلي نقرة، فقام صاحب الدار، وجاء بإبريق شاي كبير ذي معلق، عاد وجاء بصحن في حوضه فناجين زجاجية، قعد على ركبه ونصف وانهمك يصب الشاي في الفناجين ويحاذر إلا يسلخ يده .
تطلع إلى الجالسين فرأى أكبرهم مطير فقدم له فنجاناً . على يمين الداخل وقرب سرير خشبي متهالك بأثر البطاطين والبسط القصيرة العتيقة والملونة ، قعد صبي ، يداعب قطة نمرية الفرو كبيرة، تتملص من يديه وتحوم ثم تعود بلطف، وتقعد في حجره الدافئ، تجرجر قرقرتها المسموعة ، فيزيلها بعنف خوفا ان تسرق ما تعلمه من قرآن (كما تحذره الجدة) .
كان مطير يرشف الشاي بصوت عال، ويرسل نظرات مقننة إلى الصبي والقطة وكان الجالسون ينصرفون في انشغال بالفناجين الساخنة، ويذهب بعضهم بدخن وكأنهم قد اتفقوا على صلح ما، فأسكت الضجيج.
لم يخل المجلس من فقيه يكتب الصكوك وسينال بعد الوفاق، ثمن التعب والحبر والورق، وسيكتب في ذيل الحجة الموثقة شهادته ضمن الهشود، ويضيف : كتبه مغرم بن علي .. غفر الله له ولوالديه بخط بين الفارسي والديواني .
أما و أنه يدرك إدراك العالم أن مطير ضعيف النظر وقد تعرض معه هذا العمر إلى هجيان جمله الحاقد ذات يوم قريب فأهلك بعض ضلوعه، وكاد لولا عناية الله يعجنه بكل قوته، فإنه سيقوم بالورقة إليه ، ويحبر إبهام يده اليسرى ليثبت شهادته ضمن الحاضرين .
كان القوم بالاتفاق قد سمعوا ملء الآذان من مغرم أن سعيداً يستحق إيجاد طريق للسيارة إليه بيته، وكل بيت كانت له طريق للرجل والحافر، سيغدو له طريق للسيارة لو أراد ، ويشهد الله وهو خير الشاهدين .
قام كل إلى شأنه ، وكان خارج الدار يحتقن بضباب الشتاء، وصاح أحدهم راجياً ان يخلف هذا الضباب المطر : فرج الله قريب ، وتقافزت النظرات إليه داعية راجية .
وحينما دلفت الأقدام إلى خارج الساحة ، كانت تلك القطة تهز ذيلها ، وتقود خلفها ثلاث قطط صغيرة كثيرة المواء. وإلى قرب قرص أخضر كبير من التين الشوكي قعد واحد يريق الماء ويوزع الالتفات ، ليطمئن إلى أنه لا أحد حوله، ولا خوف على حواف الثوب المتهدل من البلل .
حيث كان مطير قد خرج مع الخارجين، واتبع قدميه اللتين تعرفان كل طرق القرية بالخطوة ، وهبط إلى الوادي المقابل، وجعل بعينيه المختبئتين خلف زجاج النظارة، يطوف مزرعته، فتختلط قدماه بالأعشاب والنباتات المتطفلة التي عاثت بالأرض، وها هو بناء المدرج الذي لا يكاد يرى من تشابك النباتات، يهدم خطوة القدم، وينزلق مطير ويسقط على يده ذات العظام الصلبة ولكن لضخامة صاحبنا واعتماده على يده انكسرت يد مطير.
و.. تستبطئ زوجته شريفة عودته، فتحدث خاطرها بحديث كان مطير يحدثها به في الصباح، عن رغبته في زيارة المزرعة المهملة في الوادي، وتدفعها نيتها على ذاك المكان، عله يكون قد تأخر لسبب .
عندما بلغ صوتها أقرب دور القرية .. كان الرجال يحملونه من تحت كتفيه، ويقعدونه على لين الفراش في ركن الدار، ويستدعون ابن حسين مجبر العظام، ليعيد مفصل اليد إلى مكانه، يوصيه بالسمن والبيض، و كل ذي طعم مر، وينهاه عن التمر، وما حلى طعمه من الطعام، ثم يكرر الوصية على شريفة المسؤولة الأولى عما يحدث لليد المكسورة من خلل .
وبما أن ابن حسين مجبر الكسور، لم يمد يده ليقبض وسخ الدنيا من الريالات فلن يقبض من مطير .
زار أهل القرية مطير أفراداً وغير أفراد، وكانت شريفة تحرص على اليد المعلقة في الرقبة بالقماش الأبيض المندى بالسمن، ونتين البدن الراكد في الفراش، فتجعل للبخور في البيت عجاجاً، أكثر مما تفعل عند نفاسها. وكانت تحاذر أن تهمل دخان الحطب الحارق، لكي لا يأتي إلى عيني الزوج الضعيفتين، فتشب نارها على العجين حين وقت النوم، وكان هذا ما يسهرها بعد نوم كل العيال .
اشتهى مطير حبة تمر مع القهوة ، فأبت شريفة وقال : وين أنت يا مخلوق ؟ ، ابن حسين .. منعك عن التمر ؟ ، وقامت إلى الداخل وجاءت بحافة من خبزة العيال وعليها صفار بيض تملأ لمعته العين، وقالت تطمئنه : بعد أيام تطيب، وتأكل اللي تبغي ، لا تعجل .
يا شق بطنك يا شريفة .
هكذا صرخت زوجة مطير حين باغتها وباغت زوجها وعيالها الخبر، فقد جاء رجل غريب عن القرية ، وسأل عن دار مطير السعدوي حتى دخل من العتبة وقعد إلى جانب رجل كبير السن، يضع على عينيه نظارة بزجاج أبيض مكبر، وقرأ عليه ورقة صغيرة، في يده، علم مطير بعدها أن عليه ترك بيته، والبحث عن سكن بديل يؤويه، فـ خط الأسفلت تقرر أن يأتي على داره، وكما سمع عمن حدث لهم مثل هذا .. فإن التعويض بالريالات سيبلغ جيبه ذات يوم، غير أن وضع الحال، وندمه على تاريخ حياته الذي سيذبح منذ الطفولة في داره مع زوجته وأولاده، جعل قطر عينيه يتحدر من خلف الزجاج بصمت .
أقوال تتناسج في المجلس ، وأصوات تكاد تلمس سقف الخشب .. بالإيمان والحلفان ، وبين لحظة ولحظة تزداد لفائف الدخان الصاعد من سجائر المدخنين المتضاربين بالكلام في شأن يبدو كبيراً .
رجل قليل الكلام، في الجزء الأخير من العمر، يعتقل عقالاً ليلزم عمامته على الرأس، مال إلى الخلف، بنظارتين لاشك في أنهما طبيتين بذراعين سوداوين ، شدتا خلف أذنيه بخيطين خوف الانزلاق.. تبدو العينان المتحركتان سريعاً كعيني قط حذر.
فوق الثوب الأبيض الترابي معطف مندلع الصدر، وكان يعني بلا تردد للناظر ان أحد أزاريره قد شد في غير ثقبه فانقطع .
لزم مطير ركن المجلس، وأهمل يده الممدودة فوق ركبته كالعصا القصيرة ، وقال ببطء الواثق :
يا جماعة الخير، الطريق إلى بيت سعيد من عهد الأجداد معروفة للصغير والكبير .
معروفة للرجل الهابطة والصادرة ، وليست معروفة للسيارة .
ماكان عند الأولين سيارات .
يعني من حق سعيد اليوم ، أن يفتح للسيارة خط .
كانت الأقوال تتصارع حول هذا المعنى . وسمع على الباب الداخلي نقرة، فقام صاحب الدار، وجاء بإبريق شاي كبير ذي معلق، عاد وجاء بصحن في حوضه فناجين زجاجية، قعد على ركبه ونصف وانهمك يصب الشاي في الفناجين ويحاذر إلا يسلخ يده .
تطلع إلى الجالسين فرأى أكبرهم مطير فقدم له فنجاناً . على يمين الداخل وقرب سرير خشبي متهالك بأثر البطاطين والبسط القصيرة العتيقة والملونة ، قعد صبي ، يداعب قطة نمرية الفرو كبيرة، تتملص من يديه وتحوم ثم تعود بلطف، وتقعد في حجره الدافئ، تجرجر قرقرتها المسموعة ، فيزيلها بعنف خوفا ان تسرق ما تعلمه من قرآن (كما تحذره الجدة) .
كان مطير يرشف الشاي بصوت عال، ويرسل نظرات مقننة إلى الصبي والقطة وكان الجالسون ينصرفون في انشغال بالفناجين الساخنة، ويذهب بعضهم بدخن وكأنهم قد اتفقوا على صلح ما، فأسكت الضجيج.
لم يخل المجلس من فقيه يكتب الصكوك وسينال بعد الوفاق، ثمن التعب والحبر والورق، وسيكتب في ذيل الحجة الموثقة شهادته ضمن الهشود، ويضيف : كتبه مغرم بن علي .. غفر الله له ولوالديه بخط بين الفارسي والديواني .
أما و أنه يدرك إدراك العالم أن مطير ضعيف النظر وقد تعرض معه هذا العمر إلى هجيان جمله الحاقد ذات يوم قريب فأهلك بعض ضلوعه، وكاد لولا عناية الله يعجنه بكل قوته، فإنه سيقوم بالورقة إليه ، ويحبر إبهام يده اليسرى ليثبت شهادته ضمن الحاضرين .
كان القوم بالاتفاق قد سمعوا ملء الآذان من مغرم أن سعيداً يستحق إيجاد طريق للسيارة إليه بيته، وكل بيت كانت له طريق للرجل والحافر، سيغدو له طريق للسيارة لو أراد ، ويشهد الله وهو خير الشاهدين .
قام كل إلى شأنه ، وكان خارج الدار يحتقن بضباب الشتاء، وصاح أحدهم راجياً ان يخلف هذا الضباب المطر : فرج الله قريب ، وتقافزت النظرات إليه داعية راجية .
وحينما دلفت الأقدام إلى خارج الساحة ، كانت تلك القطة تهز ذيلها ، وتقود خلفها ثلاث قطط صغيرة كثيرة المواء. وإلى قرب قرص أخضر كبير من التين الشوكي قعد واحد يريق الماء ويوزع الالتفات ، ليطمئن إلى أنه لا أحد حوله، ولا خوف على حواف الثوب المتهدل من البلل .
حيث كان مطير قد خرج مع الخارجين، واتبع قدميه اللتين تعرفان كل طرق القرية بالخطوة ، وهبط إلى الوادي المقابل، وجعل بعينيه المختبئتين خلف زجاج النظارة، يطوف مزرعته، فتختلط قدماه بالأعشاب والنباتات المتطفلة التي عاثت بالأرض، وها هو بناء المدرج الذي لا يكاد يرى من تشابك النباتات، يهدم خطوة القدم، وينزلق مطير ويسقط على يده ذات العظام الصلبة ولكن لضخامة صاحبنا واعتماده على يده انكسرت يد مطير.
و.. تستبطئ زوجته شريفة عودته، فتحدث خاطرها بحديث كان مطير يحدثها به في الصباح، عن رغبته في زيارة المزرعة المهملة في الوادي، وتدفعها نيتها على ذاك المكان، عله يكون قد تأخر لسبب .
عندما بلغ صوتها أقرب دور القرية .. كان الرجال يحملونه من تحت كتفيه، ويقعدونه على لين الفراش في ركن الدار، ويستدعون ابن حسين مجبر العظام، ليعيد مفصل اليد إلى مكانه، يوصيه بالسمن والبيض، و كل ذي طعم مر، وينهاه عن التمر، وما حلى طعمه من الطعام، ثم يكرر الوصية على شريفة المسؤولة الأولى عما يحدث لليد المكسورة من خلل .
وبما أن ابن حسين مجبر الكسور، لم يمد يده ليقبض وسخ الدنيا من الريالات فلن يقبض من مطير .
زار أهل القرية مطير أفراداً وغير أفراد، وكانت شريفة تحرص على اليد المعلقة في الرقبة بالقماش الأبيض المندى بالسمن، ونتين البدن الراكد في الفراش، فتجعل للبخور في البيت عجاجاً، أكثر مما تفعل عند نفاسها. وكانت تحاذر أن تهمل دخان الحطب الحارق، لكي لا يأتي إلى عيني الزوج الضعيفتين، فتشب نارها على العجين حين وقت النوم، وكان هذا ما يسهرها بعد نوم كل العيال .
اشتهى مطير حبة تمر مع القهوة ، فأبت شريفة وقال : وين أنت يا مخلوق ؟ ، ابن حسين .. منعك عن التمر ؟ ، وقامت إلى الداخل وجاءت بحافة من خبزة العيال وعليها صفار بيض تملأ لمعته العين، وقالت تطمئنه : بعد أيام تطيب، وتأكل اللي تبغي ، لا تعجل .
يا شق بطنك يا شريفة .
هكذا صرخت زوجة مطير حين باغتها وباغت زوجها وعيالها الخبر، فقد جاء رجل غريب عن القرية ، وسأل عن دار مطير السعدوي حتى دخل من العتبة وقعد إلى جانب رجل كبير السن، يضع على عينيه نظارة بزجاج أبيض مكبر، وقرأ عليه ورقة صغيرة، في يده، علم مطير بعدها أن عليه ترك بيته، والبحث عن سكن بديل يؤويه، فـ خط الأسفلت تقرر أن يأتي على داره، وكما سمع عمن حدث لهم مثل هذا .. فإن التعويض بالريالات سيبلغ جيبه ذات يوم، غير أن وضع الحال، وندمه على تاريخ حياته الذي سيذبح منذ الطفولة في داره مع زوجته وأولاده، جعل قطر عينيه يتحدر من خلف الزجاج بصمت .
تعليق