حكايات الحب المجنون تصحر عاطفي عربي أم تطهر على الطريقة الإغريقية؟
قيس وليلى وصفة نفسية مجربة لمجتمعات مكبوتة تقف ضد الحب وتحشر العذول والحرمان في معظم أغانيها وقصصها العاطفية.
الحب أجمل الأوهام، لذا لا يجوز التعامل مع القصص العاطفي بميزان الصحيح والمنحول فتلك عقلية نظار مدارس ومراقبي امتحانات، وان كنا قد اضطررنا اليها في بعض الأحيان تحت إلحاح اسئلة كثيرة عن حقيقة الحب العذري فها نحن نحاول ان نكحلها ونأمل ألا نعميها.
ان خيط التوهم ليس كخيط الكذب، ففي الأول الذي نجده بغزارة في قصص الحب لا توجد نوايا خبيثة ولا رغبات دفينة في الايذاء والاخفاء، لكنه مجرد خيال يعمل على خلق ما هوغير موجود وغير معقول ثم يبهره ويزينه ويحسن نكهته ليبدو معقولا وموجودا عند مستمعين متعطشين، فهو والحالة هذه، وصفة مجربة وناجحة لأنه يقدم خدمات نفسية مجانية لمن يحتاجونها، ومن هو أكثر حاجة من المكبوت عاطفيا الى قصة حب تبل ريقه ليفرح ويتفاءل ان كانت نهايتها سعيدة أو يسكت ويتعزى حين يسمع عمن يشاركه الهموم ذاتها.
ان التوهم والتأليف الخيالي حاجة ماسة للمجتمعات البدائية فانت ان ضجرت اليوم تذهب الى السينما او المسرح أو تقرأ كتابا او تكتفي بالتلفزيون، لكن ماذا يفعل بضجره وكبته من ليس عنده غير الرمل دوما وضوء القمر أحيانا وبينهما تقاليد أكثر قسوة من الجلاميد.
وقبل ان نخوض في تفاصيل أكبركذبة جميلة اخترعها الرواة العرب، دعونا نتذكر ان القصص الواقعي لا يصلح لشحذ الخيال، وان القصة المتوهمة تحتاج الراوي اكثر من حاجة الراوي للقصة فما بين الخيال والواقع مساحة وهم استولى عليها الرواة وحرروها وحولوها الى واحات سياحة روحية يقصدهم الناس من أجلها، فالراوي الجيد في هذه الواحات ليس من يصدق وينقل التفاصيل بدقة بل من يخترع ويضيف ويسربل الحقائق بالأوهام التي يدرك ان حاجة مستمعيه اليها كحاجة القمح للمطر.
وانطلاقا من هذه الخلفيات فاننا لا نؤذي التراث العربي ولا نحاربه حين نقول ان حكاية مجنون ليلي أكبر كذبة اخترعها الرواة بل نضع القصة في سياقها الصحيح فهي في الحكم النهائي ـ ومهما تأسينا لصاحبها وصاحبتها ـ محصلة وهم جماعي اخترعه البدو ليرطبوا به جفاف الصحراء وليعزوا أنفسهم بالايحاء، ان كل مصيبة تهون أمام فقدان الحبيب فنحن هنا مع شكل من اشكال التطهر الاغريقي الذي يغسل ضمائر البشر بإغراقهم بالتراجيديا.
وكما اكثر الاغريق من المسرحيات التراجيدية أكثر العرب من قصص الحب المحطم والتعيس والمنكود الى درجة انك لا تجد قصة حب واحدة بنهاية سعيدة، وان سألت نفسك لماذا يوجد العذول في كل قصة حب و في واحدة من كل ثلاث من أغاني الحب عندنا على الأقل فسوف تجيبك تلك النفس الحلوة الذكية. ان تلك الظاهرة نشأت لأننا مجتمعات تقف ضد الحب وتضع في وجهه الحراس والبوابات والأسوار وكل ما يكرهه محمد عبده في واحدة من اجمل أغانيه التي تلعب على هذه الاوتار المعروفة في النفس العربية.
ان قصة قيس بن الملوح مع ليلى العامرية لا يمكن تفسيرها الا بهذه الحاجة الجماعية للتطهر النفسي وكل من يقرأ اخباره بدقة يكتشف ـ وان لم يكن من اصحاب الخبرة بالبحث العلمي ـ تناقضها وعدم اتساقها وهي مشكلة شغلت من قبلنا فاضطروا لوضعها في اطار الصحيح والمنحول لان مناهج دراسة علم النفس لم تكن قد وجدت لتساعدهم على فهم الغنى العاطفي في تلك النصوص وحاجة المجتمعات اليها كشكل من أشكال العزاء في وجه التصحر العاطفي، فالبشر أيضا يتصحرون ويجفون وتقل المساحات الخضراء في قلوبهم حين لا يحبون ولا يجدون حولهم من يحب او يحكي عن الحب ولو من باب التحذير و التراجيديا.
* شكوك ابن الكلبي
أول مشاكل قيس ليلى ان الرواة لا يتفقون على اسمه فهو تارة قيس واخرى مزاحم وثالثة معاذ ورابعة مهدي والشك بوجوده قائم منذ عصره فابن الكلبي يشير صراحة الى وضع القصة حين يقول: أخبروني ان حديث المجنون وشعره وضعهما فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له وكان يكره ان يظهر ما بينه وبينها فقال تلك الاشعار ونسبها للمجنون.
وعلى خلاف من جلس ليخبره فان هناك من ذهب ليحقق ويتحقق وهو ايوب بن عبادة الذي قال بعد جولة مضنية على مضارب العامريين:
سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه.
وتطول حكايات من سألوا فخذا فخذا وقلبوها ظهرا لبطن فما وجدوا ما تطمئن اليه عقولهم لكن قلوبهم كانت مطمئنة ومستمتعة بقصائد عاطفية مليئة باللوعة والشجن وحب يرافق الإنسان من المهد للحد:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت اننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
وهناك من يعتمد بنفي حكايات ليلى والمجنون ليس استنادا الى التناقض بالاسماء وسؤال سكان الحارات والاحياء بل الى طبيعة القبائل التي ينسبون اليها رقة عاطفية ليست منها ولم تسمع عنها، فابن دأب الاخباري يطرق الاناء من جانب آخر ويقول سألت رجلا من بني عامر أتعرف مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق؟ فقال: هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذلك انما يكون هذا في اليمانية الضعاف قلوبها الصعلة رؤوسها، فإما نزار فلا.
ونزارهذا الجد الأكبر لقيس وليلى فهم حسب رواية التوهم من قبيلة واحدة من قبائل الاصل النزاري القديم الذي يختلف عن الفرع النزاري الجديد، الذي اسسه نزار قباني استاذ علم التوهم والايهام في المسائل العاطفية والذي ادرك اكثر من غيره اننا لا نعيش ويستحيل ان نعيش دون حب أو وهم حب، وان ذلك الحب يظل كبيرا طالما امتلكنا القدرة على عدم تأطيره وتقنينه وتحويله الى فيلم هندي أو مصري حيث يعيش الجميع في سبات ونبات، ويخلفون البنين والبنات، وخير ما يمثل المذهب النزاري الحديث في جعل الحب يرقص حافي القدمين على حد الوهم والترقب قصيدته الذائعة ـ الى تلميذة:
قل لي ولو كذبا كلاما ناعما
قد كاد يقتلني بك التمثال
كلماتنا في الحب تقتل حبنا
ان الحروف تموت حين تقال
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الابطال
لكنه الابحار دون سفينة
وشعورنا ان الوصول محال
هو ان تظل على الأصابع رعشة
وعلى الشفاه المطبقات سؤ
هو هذه الايام تسحقنا معا
فنموت نحن وتزهر الآمال
ان قصة مجنون ليلى تحقق كل العناصر المطلوبة للحب العربي المشروحة نظما في هذه القصيدة فالوصول محال والنهاية التقليدية مرفوضة والرعشة على الاصابع والشفاه والسفينة تبحر الى ما لا نهاية في بحر لا يحده غير حلم وجنون.
هل تذكرون خاتمة رواية ماركيز (حب في زمن الكوليرا)؟ عاشقان يلتقيان آخر العمر على ظهر قارب ويحيط بهما الحرس والطاعون ولا مهرب الا ان تظل السفينة مبحرة الى ما لا نهاية فهذا ما يتمناه كل عاشق حين تكون حبيبته معه، أما حين لا تكون كما في حالة قيس وليلى ـ مجازيا ـ فلا مانع عند مجتمعات تحت كل خيمة فيها مأساة عاطفية من خلق عشرات المآسي المماثلة للتعويض النفسي، فاذا اشتاق احدهم الى أرض كان يقابل فيها الحبيبة وحن اليها حنين الابل الى المرتع الخصب، وذهب يتنشق عند اطلالها ريح الحبيب وجد في قصائد قيس الافتراضي ما يعزيه:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
واذا وجد من يلومه كثيرا على تضييع نفسه في حب يائس محروم، وكل انواع الحب بائسة ومحرومة في مجتمعات الكبت، سارع الى أقوى الأسلحة ليزعم كما زعم قيس ان الحب اصعب من الجنون وهذه رخصة جاهزة لتفعل ما تشاء كلما زادوا في تبكيتك ولومك فهذا عين ما فعله الراوي العربي الذي تخيل ان ام قيس ذهبت الى ليلى تسألها المساعدة في ان يثوب اليه رشده وبعض عقله فأتته ليلا خوفا من اهلها وقالت له: يا قيس ان أمك تزعم انك جننت من اجلي فأتق الله وابق على نفسك فبكى وأنشد:
قالت جننت على رأسي فقلت لها
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
واذا نهشت الغيرة قلب عاشق زوجوا حبيبته من غيره قسرا وجد العزاء عند مجنون سارع ذات يوم يستوقف زوج حبيبته ليسأل ذلك السؤال الغريب الحزين:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وطبعا فعل، فالرواق الصباحي خلق للقبل، ولما هو أبهى واجمل لكن هذا ليس مما يتحدث عنه الازواج ولا المحبون ولا العقلاء، اذن لا بأس ان يأتي السؤال على لسان مجنون اختلطت عليه الامور جاز له كالشعراء ما لا يجوز لغيره.
* عشق الأثافي
واذا اضطررت ان تخفي اسرارك وتظهر غير ما تبطن حرصا على من تحب وخوفا على سمعتها وربما حياتها وجدت الجواب هذه المرة عند ليلى وليس قيس فقد وضع رواة الأوهام الجميلة على لسانها اشعارا لا بأس بها من بعضها قولها لهكذا مناسبة:
كلانا مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون مقالتينا
وفي القلبين ثم هوى دفين
وبالمناسبة فإن الحالات الوحيدة التي تسامح فيها المجتمع مع خيانة الزوجات مهما كان نوعها ـ حسية أو روحية ـ كانت مع المجانين والعذريين، فليلى العامرية متزوجة وكذلك ليلى الأخيلية ولبنى وبثينة والقائمة تطول، وكلهن عاشقات استمرت قصص حبهن بعد الزواج السعيد.
ان الحب عند الاعراب وسواء كان تصحرا عاطفيا عربيا او تطهرا على الطريقة الاغريقية ينهض كالأثفية التي يطبخون عليها على ثلاث قوائم العاشق والمعشوقة والعذول ـ يا عواذل فلفلوا ـ ومن شاء ان يقوي اثفيته ويجعل قصته اكثر اثارة يضيف العمود الرابع وهو الزوج وغالبا ما يختاره الرواة ليبهجوا مستمعيهم دميما بخيلا جبانا حتى يظل التعاطف محجوزا كليا للعاشق الجسور:
من راقب الناس لم يظفر بغايته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
اذن ليكن العاشق على جنونه فاتكا لهجا مقداما فصيحا ناظما ناثرا وليظل كل ما هو عكس هذه الصفات للزوج العاقل المسكين الذي يدخل القصة مرغما ويفوت المجالس كشخص غير مرغوب فيه ـ بيرسونا ننا كراتا ـ ففي سهرات السمر على ضوء القمر لا تحلو غير أحاديث الحب والغرام بين قوم قاوموا جفاف الطبيعة وقتامة التقاليد بالقفز الى منطقة التوهم العاطفي، حيث كل شيء في حكم المباح حتى يدرك شهرزاد الصباح وتنام غرائز المحرومين على قناعة اننا لسنا في هذا الهم وحدنا.... ألم أقل لكم ان اختراع الحب في مجتمعات تقف ضد الحب حاجة نفسية ماسة وعملية ضرورية مباركة، فحين لا ينزل المطر لا ننتحر، لكننا نعزي أنفسنا بوفرة العطشى حولنا ونظل نحلم بخرير شلالات رخيم لأنهار طويلة وقصية.
تنبيه :
هذه القطعة مختارة مما يكتبه محيي الدين اللاذقاني بدون تعليق .
قيس وليلى وصفة نفسية مجربة لمجتمعات مكبوتة تقف ضد الحب وتحشر العذول والحرمان في معظم أغانيها وقصصها العاطفية.
الحب أجمل الأوهام، لذا لا يجوز التعامل مع القصص العاطفي بميزان الصحيح والمنحول فتلك عقلية نظار مدارس ومراقبي امتحانات، وان كنا قد اضطررنا اليها في بعض الأحيان تحت إلحاح اسئلة كثيرة عن حقيقة الحب العذري فها نحن نحاول ان نكحلها ونأمل ألا نعميها.
ان خيط التوهم ليس كخيط الكذب، ففي الأول الذي نجده بغزارة في قصص الحب لا توجد نوايا خبيثة ولا رغبات دفينة في الايذاء والاخفاء، لكنه مجرد خيال يعمل على خلق ما هوغير موجود وغير معقول ثم يبهره ويزينه ويحسن نكهته ليبدو معقولا وموجودا عند مستمعين متعطشين، فهو والحالة هذه، وصفة مجربة وناجحة لأنه يقدم خدمات نفسية مجانية لمن يحتاجونها، ومن هو أكثر حاجة من المكبوت عاطفيا الى قصة حب تبل ريقه ليفرح ويتفاءل ان كانت نهايتها سعيدة أو يسكت ويتعزى حين يسمع عمن يشاركه الهموم ذاتها.
ان التوهم والتأليف الخيالي حاجة ماسة للمجتمعات البدائية فانت ان ضجرت اليوم تذهب الى السينما او المسرح أو تقرأ كتابا او تكتفي بالتلفزيون، لكن ماذا يفعل بضجره وكبته من ليس عنده غير الرمل دوما وضوء القمر أحيانا وبينهما تقاليد أكثر قسوة من الجلاميد.
وقبل ان نخوض في تفاصيل أكبركذبة جميلة اخترعها الرواة العرب، دعونا نتذكر ان القصص الواقعي لا يصلح لشحذ الخيال، وان القصة المتوهمة تحتاج الراوي اكثر من حاجة الراوي للقصة فما بين الخيال والواقع مساحة وهم استولى عليها الرواة وحرروها وحولوها الى واحات سياحة روحية يقصدهم الناس من أجلها، فالراوي الجيد في هذه الواحات ليس من يصدق وينقل التفاصيل بدقة بل من يخترع ويضيف ويسربل الحقائق بالأوهام التي يدرك ان حاجة مستمعيه اليها كحاجة القمح للمطر.
وانطلاقا من هذه الخلفيات فاننا لا نؤذي التراث العربي ولا نحاربه حين نقول ان حكاية مجنون ليلي أكبر كذبة اخترعها الرواة بل نضع القصة في سياقها الصحيح فهي في الحكم النهائي ـ ومهما تأسينا لصاحبها وصاحبتها ـ محصلة وهم جماعي اخترعه البدو ليرطبوا به جفاف الصحراء وليعزوا أنفسهم بالايحاء، ان كل مصيبة تهون أمام فقدان الحبيب فنحن هنا مع شكل من اشكال التطهر الاغريقي الذي يغسل ضمائر البشر بإغراقهم بالتراجيديا.
وكما اكثر الاغريق من المسرحيات التراجيدية أكثر العرب من قصص الحب المحطم والتعيس والمنكود الى درجة انك لا تجد قصة حب واحدة بنهاية سعيدة، وان سألت نفسك لماذا يوجد العذول في كل قصة حب و في واحدة من كل ثلاث من أغاني الحب عندنا على الأقل فسوف تجيبك تلك النفس الحلوة الذكية. ان تلك الظاهرة نشأت لأننا مجتمعات تقف ضد الحب وتضع في وجهه الحراس والبوابات والأسوار وكل ما يكرهه محمد عبده في واحدة من اجمل أغانيه التي تلعب على هذه الاوتار المعروفة في النفس العربية.
ان قصة قيس بن الملوح مع ليلى العامرية لا يمكن تفسيرها الا بهذه الحاجة الجماعية للتطهر النفسي وكل من يقرأ اخباره بدقة يكتشف ـ وان لم يكن من اصحاب الخبرة بالبحث العلمي ـ تناقضها وعدم اتساقها وهي مشكلة شغلت من قبلنا فاضطروا لوضعها في اطار الصحيح والمنحول لان مناهج دراسة علم النفس لم تكن قد وجدت لتساعدهم على فهم الغنى العاطفي في تلك النصوص وحاجة المجتمعات اليها كشكل من أشكال العزاء في وجه التصحر العاطفي، فالبشر أيضا يتصحرون ويجفون وتقل المساحات الخضراء في قلوبهم حين لا يحبون ولا يجدون حولهم من يحب او يحكي عن الحب ولو من باب التحذير و التراجيديا.
* شكوك ابن الكلبي
أول مشاكل قيس ليلى ان الرواة لا يتفقون على اسمه فهو تارة قيس واخرى مزاحم وثالثة معاذ ورابعة مهدي والشك بوجوده قائم منذ عصره فابن الكلبي يشير صراحة الى وضع القصة حين يقول: أخبروني ان حديث المجنون وشعره وضعهما فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له وكان يكره ان يظهر ما بينه وبينها فقال تلك الاشعار ونسبها للمجنون.
وعلى خلاف من جلس ليخبره فان هناك من ذهب ليحقق ويتحقق وهو ايوب بن عبادة الذي قال بعد جولة مضنية على مضارب العامريين:
سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه.
وتطول حكايات من سألوا فخذا فخذا وقلبوها ظهرا لبطن فما وجدوا ما تطمئن اليه عقولهم لكن قلوبهم كانت مطمئنة ومستمتعة بقصائد عاطفية مليئة باللوعة والشجن وحب يرافق الإنسان من المهد للحد:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت اننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
وهناك من يعتمد بنفي حكايات ليلى والمجنون ليس استنادا الى التناقض بالاسماء وسؤال سكان الحارات والاحياء بل الى طبيعة القبائل التي ينسبون اليها رقة عاطفية ليست منها ولم تسمع عنها، فابن دأب الاخباري يطرق الاناء من جانب آخر ويقول سألت رجلا من بني عامر أتعرف مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق؟ فقال: هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذلك انما يكون هذا في اليمانية الضعاف قلوبها الصعلة رؤوسها، فإما نزار فلا.
ونزارهذا الجد الأكبر لقيس وليلى فهم حسب رواية التوهم من قبيلة واحدة من قبائل الاصل النزاري القديم الذي يختلف عن الفرع النزاري الجديد، الذي اسسه نزار قباني استاذ علم التوهم والايهام في المسائل العاطفية والذي ادرك اكثر من غيره اننا لا نعيش ويستحيل ان نعيش دون حب أو وهم حب، وان ذلك الحب يظل كبيرا طالما امتلكنا القدرة على عدم تأطيره وتقنينه وتحويله الى فيلم هندي أو مصري حيث يعيش الجميع في سبات ونبات، ويخلفون البنين والبنات، وخير ما يمثل المذهب النزاري الحديث في جعل الحب يرقص حافي القدمين على حد الوهم والترقب قصيدته الذائعة ـ الى تلميذة:
قل لي ولو كذبا كلاما ناعما
قد كاد يقتلني بك التمثال
كلماتنا في الحب تقتل حبنا
ان الحروف تموت حين تقال
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الابطال
لكنه الابحار دون سفينة
وشعورنا ان الوصول محال
هو ان تظل على الأصابع رعشة
وعلى الشفاه المطبقات سؤ
هو هذه الايام تسحقنا معا
فنموت نحن وتزهر الآمال
ان قصة مجنون ليلى تحقق كل العناصر المطلوبة للحب العربي المشروحة نظما في هذه القصيدة فالوصول محال والنهاية التقليدية مرفوضة والرعشة على الاصابع والشفاه والسفينة تبحر الى ما لا نهاية في بحر لا يحده غير حلم وجنون.
هل تذكرون خاتمة رواية ماركيز (حب في زمن الكوليرا)؟ عاشقان يلتقيان آخر العمر على ظهر قارب ويحيط بهما الحرس والطاعون ولا مهرب الا ان تظل السفينة مبحرة الى ما لا نهاية فهذا ما يتمناه كل عاشق حين تكون حبيبته معه، أما حين لا تكون كما في حالة قيس وليلى ـ مجازيا ـ فلا مانع عند مجتمعات تحت كل خيمة فيها مأساة عاطفية من خلق عشرات المآسي المماثلة للتعويض النفسي، فاذا اشتاق احدهم الى أرض كان يقابل فيها الحبيبة وحن اليها حنين الابل الى المرتع الخصب، وذهب يتنشق عند اطلالها ريح الحبيب وجد في قصائد قيس الافتراضي ما يعزيه:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
واذا وجد من يلومه كثيرا على تضييع نفسه في حب يائس محروم، وكل انواع الحب بائسة ومحرومة في مجتمعات الكبت، سارع الى أقوى الأسلحة ليزعم كما زعم قيس ان الحب اصعب من الجنون وهذه رخصة جاهزة لتفعل ما تشاء كلما زادوا في تبكيتك ولومك فهذا عين ما فعله الراوي العربي الذي تخيل ان ام قيس ذهبت الى ليلى تسألها المساعدة في ان يثوب اليه رشده وبعض عقله فأتته ليلا خوفا من اهلها وقالت له: يا قيس ان أمك تزعم انك جننت من اجلي فأتق الله وابق على نفسك فبكى وأنشد:
قالت جننت على رأسي فقلت لها
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
واذا نهشت الغيرة قلب عاشق زوجوا حبيبته من غيره قسرا وجد العزاء عند مجنون سارع ذات يوم يستوقف زوج حبيبته ليسأل ذلك السؤال الغريب الحزين:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وطبعا فعل، فالرواق الصباحي خلق للقبل، ولما هو أبهى واجمل لكن هذا ليس مما يتحدث عنه الازواج ولا المحبون ولا العقلاء، اذن لا بأس ان يأتي السؤال على لسان مجنون اختلطت عليه الامور جاز له كالشعراء ما لا يجوز لغيره.
* عشق الأثافي
واذا اضطررت ان تخفي اسرارك وتظهر غير ما تبطن حرصا على من تحب وخوفا على سمعتها وربما حياتها وجدت الجواب هذه المرة عند ليلى وليس قيس فقد وضع رواة الأوهام الجميلة على لسانها اشعارا لا بأس بها من بعضها قولها لهكذا مناسبة:
كلانا مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون مقالتينا
وفي القلبين ثم هوى دفين
وبالمناسبة فإن الحالات الوحيدة التي تسامح فيها المجتمع مع خيانة الزوجات مهما كان نوعها ـ حسية أو روحية ـ كانت مع المجانين والعذريين، فليلى العامرية متزوجة وكذلك ليلى الأخيلية ولبنى وبثينة والقائمة تطول، وكلهن عاشقات استمرت قصص حبهن بعد الزواج السعيد.
ان الحب عند الاعراب وسواء كان تصحرا عاطفيا عربيا او تطهرا على الطريقة الاغريقية ينهض كالأثفية التي يطبخون عليها على ثلاث قوائم العاشق والمعشوقة والعذول ـ يا عواذل فلفلوا ـ ومن شاء ان يقوي اثفيته ويجعل قصته اكثر اثارة يضيف العمود الرابع وهو الزوج وغالبا ما يختاره الرواة ليبهجوا مستمعيهم دميما بخيلا جبانا حتى يظل التعاطف محجوزا كليا للعاشق الجسور:
من راقب الناس لم يظفر بغايته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
اذن ليكن العاشق على جنونه فاتكا لهجا مقداما فصيحا ناظما ناثرا وليظل كل ما هو عكس هذه الصفات للزوج العاقل المسكين الذي يدخل القصة مرغما ويفوت المجالس كشخص غير مرغوب فيه ـ بيرسونا ننا كراتا ـ ففي سهرات السمر على ضوء القمر لا تحلو غير أحاديث الحب والغرام بين قوم قاوموا جفاف الطبيعة وقتامة التقاليد بالقفز الى منطقة التوهم العاطفي، حيث كل شيء في حكم المباح حتى يدرك شهرزاد الصباح وتنام غرائز المحرومين على قناعة اننا لسنا في هذا الهم وحدنا.... ألم أقل لكم ان اختراع الحب في مجتمعات تقف ضد الحب حاجة نفسية ماسة وعملية ضرورية مباركة، فحين لا ينزل المطر لا ننتحر، لكننا نعزي أنفسنا بوفرة العطشى حولنا ونظل نحلم بخرير شلالات رخيم لأنهار طويلة وقصية.
تنبيه :
هذه القطعة مختارة مما يكتبه محيي الدين اللاذقاني بدون تعليق .
تعليق