سؤال يتكرر ويتردد كثيراً على ألسنة كثير من الناس، لاسيما الشباب
المقبلين على الله سبحانه وتعالى والحديثي العهد بالاصطلاح مع الله عز وجل، هذا السؤال يتلخص في:
كيف السبيل إلى أن يكون قلب المؤمن رقيقاً خاشعاً؟ كيف السبيل إلى أن يكون المؤمن في صلاته مقبلاً
على الله، غير معرض عنه بفكره، غير تائه عنه بقلبه؟
وإني لأحمد الله عز وجل أن هؤلاء الذين يطرحون هذا السؤال إنما يقودهم إلى سؤالهم هذا خوف مما يرون أنهم يعانون منه من الغفلة ومن القسوة، ورغبة عارمة في أن يزدادوا قرباً إلى الله عز وجل، أما الفئة العظمى والغالبية الكبرى من المسلمين فلا يخطر هذا السؤال منهم على بال، ولا يشعرون بأنهم يعانون من أمر ينبغي أن يبحثوا عن علاج له.
فما هو الجواب عن هذا السؤال؟
الدواء الذي ينقل الإنسان من حال الغفلة إلى حال الشهود، والذي يرقق القلب ويحرر صاحبه من القسوة: شيء واحد - بعد الإيمان الحقيقي بالله عز وجل طبعاً - ألا وهو الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، واتخاذ هذه الوظيفة وِرداً.
هذه القلوب تصدأ كما يصدأ أي معدن من المعادن، وجلاء هذه القلوب إذا أصابها الصدأ دواء واحد هو ذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا عرفنا هذا الدواء أدركنا السبب في هذا الذي يعاني منه جلّ المسلمين اليوم، وممَّ يعانون؟ إنهم يعانون من أنّ علاقتهم بالإسلام في الغالبية العظمى أضحت علاقة انتماء فقط، فالمسلم يعلم أنه مُنْتَمٍ إلى هذا الدين، ويعلم خلاصةً عن معنى الإسلام، وربما يعتزُّ بأنه مُنْتَمٍ إليه، أما ما وراء ذلك فهو تائه عنه وغائب.
أكثر المسلمين اليوم ينطبق عليهم هذا الحال فإِنْ صلّوا فإنّ صلاتهم وظيفة من وظائف البدن والجسم لا تتسرب إلى القلب ولا يسري سلطان منها على النفس. وإن جاء موسم الصوم فصاموا رمضان؛ فصومهم وظيفة بدنية يلزمون أنفسهم بها.. وإن أقبل موسم الحج هرعوا إلى الحج بدوافع متنوعة لا نريد أن نطيل فيها، أما القلب فهو في كل الأحوال في معزل عن التفاعل مع حقائق الإيمان والإسلام، لأنه يعاني من صدأ؛ بل يعاني من الرّان الذي تحدث عنه بيان الله عز وجل.. وسبب ذلك أن هؤلاء المسلمين منغمسون في دنيا من شأنها أن تخنق الإنسان وأن تقضي على مشاعره الإيمانية، وليس لهم مقابل ذلك أي نافذة تشدهم إلى الله عز وجل، والنافذة كما قلت لكم: معالجة القلب بذكر الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله سبحانه وتعالى له أنواع كثيرة جداً، كل ما يذكرك بالله عز وجل داخل في معنى ذكر الله سبحانه وتعالى، والمهم أن على المسلم أيّاً كان أن يتخذ لنفسه وظيفةً أيْ ورداً - كما قالوا - يثابر عليه في كل يوم، مقبلاً بواسطته إلى الله سبحانه وتعالى. ولعلنا لا نقرأ القرآن إلا لماماً أو نادراً، ومن ثَمَّ لا نعلم أرك بالله عز وجل داخل في معنى ذكر الله سبحانه وتعالى، والمهم أن على المسلم أيّاً كان أن يتخذ لنفسه وظيفةً أيْ ورداً - كما قالوا - يثابر عليه في كل يوم، مقبلاً بواسطته إلى الله سبحانه وتعالى. ولعلنا لا نقرأ القرآن إلا لماماً أو نادراً، ومن ثَمَّ لا نعلم أهمية هذا.
ولو كنا نتعهد تلاوة القرآن الذي هو نوع من أنواع الذكر لعرفنا أهمية هذا العلاج، ألا تقرأ في كتاب الله عز وجل قوله: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الكهف: 18/27] ألا تقرأ قوله عز وجل: {يا أَيُّها الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 73/1-4] ينبغي أن يكون لك ورد دائم من تلاوة القرآن في كل يوم، في كل وقت يناسبك، وإياك أن تفسر هذا الورد بصحيفة أو صحيفتين أو ثلاث صفحات تقرؤها ثم تملّ وتلقي القرآن جانباً، وتقوم وقد تخيلت أنك أديت الورد. لا، بل ينبغي أن تكون علاقتك بالقرآن أشد وأقوم وأبقى.
ألا تقرؤون في كتاب الله عز وجل قوله وهو يصف عباده الصالحين: {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 51/17-18] ينبغي للمسلم أن تكون له وظيفة من الاستغفار يتعهدها في كل يوم، وأفضل أوقات الاستغفار وقت السَّحَر، فإن عزّ عليك أن تقوم في هذا الوقت فاجعل لنفسك بديلاً عن هذا الوقت المبارك أي وقت يناسبك، ولكن ينبغي أن تتعهد نفسك بالاستغفار، ينبغي أن تستغفر الله في اليوم مئة مرة، ألم تسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الصحيح: ((إنه لَيُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة)) أفيكون رسول الله أحوج منّا إلى الاستغفار؟ ألم تقرأ في كتاب الله عز وجل قوله وهو يخاطب رسوله محمداً - وكلُّ ما خاطب الله به رسوله فهو خطاب لنا جميعاً كما هو معروف - {فَاصْبِرْ عَلَى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} [ق: 50/39-40] ألا تقرأ قول الله سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن مكانة المصطفى عند الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 33/56].
عندما يكون للمسلم ورد دائم من تلاوة القرآن، ومن الاستغفار، ومن التسبيح، ومن الصلاة على رسول الله، فلن يشكو من قسوة قلب، ولن يشكو من غفلة. عندما يقبل إلى الله عز وجل في صلاة، ذلك لأن صدأ قلبه سيذهب، ودواء الصدأ هو الذي أقوله لكم أيها الإخوة، ولكن أين هم المسلمون الذين يتخذون لأنفسهم ورداً دائماً من هذه الوظائف التي يأمرنا بها كتاب الله سبحانه وتعالى؟
الصلاة على رسول الله
وأنا أحب أن أركز في موقفي هذا على الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما كان حديثنا عن الاستغفار وعن تلاوة القرآن متكرراً، ولكن قد يكون كثير منا بعيدي عهد عن هذا الأمر الآخر، ينبغي أيها الإخوة أن نقدر معنى هذا الكلام الرباني الذي يخاطبنا به عز وجل، إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 33/56] وصلاة الله على رسوله رحمة ورفع للمنزلة، ثم يقول: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وصلاتنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء بأن يزيد الله عز وجل نبيه مكانة ورفعة، ومن وقف على الكثير والكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتحدث فيها عن قيمة الصلاة على رسول الله؛ لا يمكن أن يدع لسانه يفتر عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون مشتغلاً بورد من قراءة القرآن أو من تسبيح أو من استغفار أو عمل من الأعمال الأخرى التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى.
يروي عبد الرحمن بن عوف يقول: خرج رسول الله؛ فتبعته، فتحول إلى نخل - أي إلى بستان مليء بأشجار النخل - فتبعته؛ فسجد وأطال السجود - سجد في ذلك البستان ولعله سجد على الأرض المتربة - أطال السجود إلى أن خشيت أن يكون قد قبض، ثم رفع رأسه وأنا أنظر إليه، فقال: ((مالك يا عبد الرحمن))؟ قلت: خشيت يا رسول الله وقد أطلت السجود أن تكون قد قُبضت. قال: ((جاءني جبريل فقال: ألا أبشرك؟ يقول الله سبحانه وتعالى: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلّم عليك سلمت عليه)) والحديث يرويه النسائي ويرويه ابن حبان في صحيحه والحديث صحيح. لو لم أحدثكم إلا عن هذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهمية الصلاة عليه لكفى، ولكن انظروا إلى ما يقوله المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، يروي أُبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام أحمد والترمذي والحاكم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يبق من الليل إلا الربع قام فقال: ((أيها الناس! اذكروا الله، اذكروا الله، فقد جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)) قلت: يا رسول الله! إني أصلي عليك كثيراً فكم أجعل من صلاتي عليك؟ قال: ((ما شئت)) قلت: الربع. قال: ((ما شئت، وإن زدت فذلك خير لك)) قلت: الثلث. قال: ((ما شئت، وإن زدت فذلك خير لك)). قلت: فالنصف. قال: ((ما شئت، وإن زدت فذلك خير لك)) قلت: فسأجعل صلاتي لك كلها يا رسول الله. قال: ((إذن يكفيك الله همك، ويغفر الله لك ذنبك)). هذا لون من ألوان ذكر الله سبحانه وتعالى.
ما حاجة المصطفى إلى أن نصلي عليه؟
وبدلاً من أن أجد الناس عندما أذكرهم بذكر الله يهرعون إلى أداء هذا الورد؛ أجد من يتشدق بجدل باردٍ تافه: ما حاجة المصطفى إلى أن نصلي عليه؟ وماذا عسى أن تفيده صلاتنا؟ لم يسأل مثل هذا السؤال إنسان وعى عبوديته لله أبداً، ينبغي أن نعلم - أيها الإخوة - أن مكانة المصطفى صلى الله عليه وسلم العالية الباسقة التي سيتبوؤها عند ربه لا تتوقف على صلاتنا قط، ولن تتوقف رحمة الله لرسوله على أن نأذن بهذه الرحمة قط، لكنه الوفاء يربينا عليه مولانا وخالقنا سبحانه وتعالى، هو الوفاء يعلّمنا ربنا أن نطبقه مع حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، كم له من منّةٍ في أعناقنا. نحن اليوم مسلمون، ولولا المصطفى لما عرفنا الإسلام... نحن اليوم موحدون؛ ولولا حبيبنا المصطفى ما عرفنا معنى التوحيد.. نحن اليوم نذوق لذة عبوديتنا لله، وإنما ذقنا هذا الذي ذقناه بفضل حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. هو الوفاء يعلمنا الله عز وجل إياه، كيف نترجم وفاءنا هذا؟ بأن نقول لله عز وجل دائماً: اللهم أعط محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهل له في ما قد هدانا إليه، فيما قد دلنا عليه، اللهم اجزِ محمداً صلى الله عليه وسلم عنّا ما هو أهله، ارفع اللهم مكانته عندك، زده قرباً منك، ذلك لأنه قد تفضل علينا فضلاً كثيراً سابغاً.. هذا الذي نقوله إنما هو ترجمة الوفاء، والوفاء مبدأ مطلوب بحدّ ذاته، هذا هو الجواب..
أرأيت إلى قول الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن علاقة الولد بأبويه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً} [الإسراء: 17/23-24] أرأيت إلى أبويك، هل تظن أن الله لن يرحمهما، وقد تعبا في تربيتك، وسهرا على رعايتك؟ أفتظن أن الله لن يرحمهما إلاّ إذا دعوت الله بأن يرحمهما؟ الله سبحانه وتعالى أكثر عدلاً ورحمة من ذلك، الأبوان سيأخذان أجرهما كاملاً غير منقوص، ولكن الله يعلمك أنت يا أيها الشاب أن تكون وفياً وبارّاً تجاه أبويك، فإذا قلت: رب ارحمهما كما ربياني صغيراً، إياك أن تظن أن رحمة الله لهما متوقفة على أن تدعو بهذا الدعاء، فإن لم تدع فإن الله لن يرحمهما. صلاتنا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هذا القبيل أيها الإخوة.
السبيل إلى ترقيق القلوب
أقول لنفسي ولكم ولكل من يسأل عن السبيل الأوحد إلى ترقيق القلوب القاسية وإلى التحرر من الغفلات في الصلوات والعبادات المختلفة: السبيل هو أن نجعل لأنفسنا وظيفة دائمة كافية وافية من ذكر الله عز وجل المتنوع، نستغفر الله، ونسبحه، نهلله، نحمده، نصلي على رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونجعل من ذلك ورداً دائماً لنا، فهل نفعل هذا؟ أين هم الذين يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكل الذي يقوله المصطفى: ((أكثروا من الصلاة عليّ في اليوم والليلة الزهراوين: ليلة الجمعة ويوم الجمعة))، ((صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني)) ((إن لله ملائكة سَيَّاحين يبلغونني عن أمتي السلام)) هذا ما يقوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
كونوا مسلمين صادقين مع الله عز وجل، ونفذوا أوامر الله كما طلب، وعالجوا أنفسكم بالإكثار من ذكر الله، تلاوة كتاب الله عز وجل، الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، وانظروا كيف تتنزل الرحمات، وانظروا كيف يرد الله عز وجل عنكم الأذى والعذاب ومكر الماكرين، وانظروا كيف يجعلكم الله عز وجل في حصنه الحصين
المقبلين على الله سبحانه وتعالى والحديثي العهد بالاصطلاح مع الله عز وجل، هذا السؤال يتلخص في:
كيف السبيل إلى أن يكون قلب المؤمن رقيقاً خاشعاً؟ كيف السبيل إلى أن يكون المؤمن في صلاته مقبلاً
على الله، غير معرض عنه بفكره، غير تائه عنه بقلبه؟
وإني لأحمد الله عز وجل أن هؤلاء الذين يطرحون هذا السؤال إنما يقودهم إلى سؤالهم هذا خوف مما يرون أنهم يعانون منه من الغفلة ومن القسوة، ورغبة عارمة في أن يزدادوا قرباً إلى الله عز وجل، أما الفئة العظمى والغالبية الكبرى من المسلمين فلا يخطر هذا السؤال منهم على بال، ولا يشعرون بأنهم يعانون من أمر ينبغي أن يبحثوا عن علاج له.
فما هو الجواب عن هذا السؤال؟
الدواء الذي ينقل الإنسان من حال الغفلة إلى حال الشهود، والذي يرقق القلب ويحرر صاحبه من القسوة: شيء واحد - بعد الإيمان الحقيقي بالله عز وجل طبعاً - ألا وهو الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، واتخاذ هذه الوظيفة وِرداً.
هذه القلوب تصدأ كما يصدأ أي معدن من المعادن، وجلاء هذه القلوب إذا أصابها الصدأ دواء واحد هو ذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا عرفنا هذا الدواء أدركنا السبب في هذا الذي يعاني منه جلّ المسلمين اليوم، وممَّ يعانون؟ إنهم يعانون من أنّ علاقتهم بالإسلام في الغالبية العظمى أضحت علاقة انتماء فقط، فالمسلم يعلم أنه مُنْتَمٍ إلى هذا الدين، ويعلم خلاصةً عن معنى الإسلام، وربما يعتزُّ بأنه مُنْتَمٍ إليه، أما ما وراء ذلك فهو تائه عنه وغائب.
أكثر المسلمين اليوم ينطبق عليهم هذا الحال فإِنْ صلّوا فإنّ صلاتهم وظيفة من وظائف البدن والجسم لا تتسرب إلى القلب ولا يسري سلطان منها على النفس. وإن جاء موسم الصوم فصاموا رمضان؛ فصومهم وظيفة بدنية يلزمون أنفسهم بها.. وإن أقبل موسم الحج هرعوا إلى الحج بدوافع متنوعة لا نريد أن نطيل فيها، أما القلب فهو في كل الأحوال في معزل عن التفاعل مع حقائق الإيمان والإسلام، لأنه يعاني من صدأ؛ بل يعاني من الرّان الذي تحدث عنه بيان الله عز وجل.. وسبب ذلك أن هؤلاء المسلمين منغمسون في دنيا من شأنها أن تخنق الإنسان وأن تقضي على مشاعره الإيمانية، وليس لهم مقابل ذلك أي نافذة تشدهم إلى الله عز وجل، والنافذة كما قلت لكم: معالجة القلب بذكر الله سبحانه وتعالى.
وذكر الله سبحانه وتعالى له أنواع كثيرة جداً، كل ما يذكرك بالله عز وجل داخل في معنى ذكر الله سبحانه وتعالى، والمهم أن على المسلم أيّاً كان أن يتخذ لنفسه وظيفةً أيْ ورداً - كما قالوا - يثابر عليه في كل يوم، مقبلاً بواسطته إلى الله سبحانه وتعالى. ولعلنا لا نقرأ القرآن إلا لماماً أو نادراً، ومن ثَمَّ لا نعلم أرك بالله عز وجل داخل في معنى ذكر الله سبحانه وتعالى، والمهم أن على المسلم أيّاً كان أن يتخذ لنفسه وظيفةً أيْ ورداً - كما قالوا - يثابر عليه في كل يوم، مقبلاً بواسطته إلى الله سبحانه وتعالى. ولعلنا لا نقرأ القرآن إلا لماماً أو نادراً، ومن ثَمَّ لا نعلم أهمية هذا.
ولو كنا نتعهد تلاوة القرآن الذي هو نوع من أنواع الذكر لعرفنا أهمية هذا العلاج، ألا تقرأ في كتاب الله عز وجل قوله: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الكهف: 18/27] ألا تقرأ قوله عز وجل: {يا أَيُّها الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 73/1-4] ينبغي أن يكون لك ورد دائم من تلاوة القرآن في كل يوم، في كل وقت يناسبك، وإياك أن تفسر هذا الورد بصحيفة أو صحيفتين أو ثلاث صفحات تقرؤها ثم تملّ وتلقي القرآن جانباً، وتقوم وقد تخيلت أنك أديت الورد. لا، بل ينبغي أن تكون علاقتك بالقرآن أشد وأقوم وأبقى.
ألا تقرؤون في كتاب الله عز وجل قوله وهو يصف عباده الصالحين: {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 51/17-18] ينبغي للمسلم أن تكون له وظيفة من الاستغفار يتعهدها في كل يوم، وأفضل أوقات الاستغفار وقت السَّحَر، فإن عزّ عليك أن تقوم في هذا الوقت فاجعل لنفسك بديلاً عن هذا الوقت المبارك أي وقت يناسبك، ولكن ينبغي أن تتعهد نفسك بالاستغفار، ينبغي أن تستغفر الله في اليوم مئة مرة، ألم تسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الصحيح: ((إنه لَيُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة)) أفيكون رسول الله أحوج منّا إلى الاستغفار؟ ألم تقرأ في كتاب الله عز وجل قوله وهو يخاطب رسوله محمداً - وكلُّ ما خاطب الله به رسوله فهو خطاب لنا جميعاً كما هو معروف - {فَاصْبِرْ عَلَى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ} [ق: 50/39-40] ألا تقرأ قول الله سبحانه وتعالى وهو يتحدث عن مكانة المصطفى عند الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 33/56].
عندما يكون للمسلم ورد دائم من تلاوة القرآن، ومن الاستغفار، ومن التسبيح، ومن الصلاة على رسول الله، فلن يشكو من قسوة قلب، ولن يشكو من غفلة. عندما يقبل إلى الله عز وجل في صلاة، ذلك لأن صدأ قلبه سيذهب، ودواء الصدأ هو الذي أقوله لكم أيها الإخوة، ولكن أين هم المسلمون الذين يتخذون لأنفسهم ورداً دائماً من هذه الوظائف التي يأمرنا بها كتاب الله سبحانه وتعالى؟
الصلاة على رسول الله
وأنا أحب أن أركز في موقفي هذا على الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما كان حديثنا عن الاستغفار وعن تلاوة القرآن متكرراً، ولكن قد يكون كثير منا بعيدي عهد عن هذا الأمر الآخر، ينبغي أيها الإخوة أن نقدر معنى هذا الكلام الرباني الذي يخاطبنا به عز وجل، إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 33/56] وصلاة الله على رسوله رحمة ورفع للمنزلة، ثم يقول: {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وصلاتنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء بأن يزيد الله عز وجل نبيه مكانة ورفعة، ومن وقف على الكثير والكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يتحدث فيها عن قيمة الصلاة على رسول الله؛ لا يمكن أن يدع لسانه يفتر عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون مشتغلاً بورد من قراءة القرآن أو من تسبيح أو من استغفار أو عمل من الأعمال الأخرى التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى.
يروي عبد الرحمن بن عوف يقول: خرج رسول الله؛ فتبعته، فتحول إلى نخل - أي إلى بستان مليء بأشجار النخل - فتبعته؛ فسجد وأطال السجود - سجد في ذلك البستان ولعله سجد على الأرض المتربة - أطال السجود إلى أن خشيت أن يكون قد قبض، ثم رفع رأسه وأنا أنظر إليه، فقال: ((مالك يا عبد الرحمن))؟ قلت: خشيت يا رسول الله وقد أطلت السجود أن تكون قد قُبضت. قال: ((جاءني جبريل فقال: ألا أبشرك؟ يقول الله سبحانه وتعالى: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلّم عليك سلمت عليه)) والحديث يرويه النسائي ويرويه ابن حبان في صحيحه والحديث صحيح. لو لم أحدثكم إلا عن هذا الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهمية الصلاة عليه لكفى، ولكن انظروا إلى ما يقوله المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر، يروي أُبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام أحمد والترمذي والحاكم يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يبق من الليل إلا الربع قام فقال: ((أيها الناس! اذكروا الله، اذكروا الله، فقد جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)) قلت: يا رسول الله! إني أصلي عليك كثيراً فكم أجعل من صلاتي عليك؟ قال: ((ما شئت)) قلت: الربع. قال: ((ما شئت، وإن زدت فذلك خير لك)) قلت: الثلث. قال: ((ما شئت، وإن زدت فذلك خير لك)). قلت: فالنصف. قال: ((ما شئت، وإن زدت فذلك خير لك)) قلت: فسأجعل صلاتي لك كلها يا رسول الله. قال: ((إذن يكفيك الله همك، ويغفر الله لك ذنبك)). هذا لون من ألوان ذكر الله سبحانه وتعالى.
ما حاجة المصطفى إلى أن نصلي عليه؟
وبدلاً من أن أجد الناس عندما أذكرهم بذكر الله يهرعون إلى أداء هذا الورد؛ أجد من يتشدق بجدل باردٍ تافه: ما حاجة المصطفى إلى أن نصلي عليه؟ وماذا عسى أن تفيده صلاتنا؟ لم يسأل مثل هذا السؤال إنسان وعى عبوديته لله أبداً، ينبغي أن نعلم - أيها الإخوة - أن مكانة المصطفى صلى الله عليه وسلم العالية الباسقة التي سيتبوؤها عند ربه لا تتوقف على صلاتنا قط، ولن تتوقف رحمة الله لرسوله على أن نأذن بهذه الرحمة قط، لكنه الوفاء يربينا عليه مولانا وخالقنا سبحانه وتعالى، هو الوفاء يعلّمنا ربنا أن نطبقه مع حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، كم له من منّةٍ في أعناقنا. نحن اليوم مسلمون، ولولا المصطفى لما عرفنا الإسلام... نحن اليوم موحدون؛ ولولا حبيبنا المصطفى ما عرفنا معنى التوحيد.. نحن اليوم نذوق لذة عبوديتنا لله، وإنما ذقنا هذا الذي ذقناه بفضل حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم. هو الوفاء يعلمنا الله عز وجل إياه، كيف نترجم وفاءنا هذا؟ بأن نقول لله عز وجل دائماً: اللهم أعط محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهل له في ما قد هدانا إليه، فيما قد دلنا عليه، اللهم اجزِ محمداً صلى الله عليه وسلم عنّا ما هو أهله، ارفع اللهم مكانته عندك، زده قرباً منك، ذلك لأنه قد تفضل علينا فضلاً كثيراً سابغاً.. هذا الذي نقوله إنما هو ترجمة الوفاء، والوفاء مبدأ مطلوب بحدّ ذاته، هذا هو الجواب..
أرأيت إلى قول الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن علاقة الولد بأبويه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً} [الإسراء: 17/23-24] أرأيت إلى أبويك، هل تظن أن الله لن يرحمهما، وقد تعبا في تربيتك، وسهرا على رعايتك؟ أفتظن أن الله لن يرحمهما إلاّ إذا دعوت الله بأن يرحمهما؟ الله سبحانه وتعالى أكثر عدلاً ورحمة من ذلك، الأبوان سيأخذان أجرهما كاملاً غير منقوص، ولكن الله يعلمك أنت يا أيها الشاب أن تكون وفياً وبارّاً تجاه أبويك، فإذا قلت: رب ارحمهما كما ربياني صغيراً، إياك أن تظن أن رحمة الله لهما متوقفة على أن تدعو بهذا الدعاء، فإن لم تدع فإن الله لن يرحمهما. صلاتنا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هذا القبيل أيها الإخوة.
السبيل إلى ترقيق القلوب
أقول لنفسي ولكم ولكل من يسأل عن السبيل الأوحد إلى ترقيق القلوب القاسية وإلى التحرر من الغفلات في الصلوات والعبادات المختلفة: السبيل هو أن نجعل لأنفسنا وظيفة دائمة كافية وافية من ذكر الله عز وجل المتنوع، نستغفر الله، ونسبحه، نهلله، نحمده، نصلي على رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونجعل من ذلك ورداً دائماً لنا، فهل نفعل هذا؟ أين هم الذين يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشكل الذي يقوله المصطفى: ((أكثروا من الصلاة عليّ في اليوم والليلة الزهراوين: ليلة الجمعة ويوم الجمعة))، ((صلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني)) ((إن لله ملائكة سَيَّاحين يبلغونني عن أمتي السلام)) هذا ما يقوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
كونوا مسلمين صادقين مع الله عز وجل، ونفذوا أوامر الله كما طلب، وعالجوا أنفسكم بالإكثار من ذكر الله، تلاوة كتاب الله عز وجل، الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى، وانظروا كيف تتنزل الرحمات، وانظروا كيف يرد الله عز وجل عنكم الأذى والعذاب ومكر الماكرين، وانظروا كيف يجعلكم الله عز وجل في حصنه الحصين