تمهيـد:
تحت عنوان: ( مشكلات الحضارة) أصدر المفكر الجزائري مالك بن نبي كتبه، سواء التي كتبها بالفرنسية أم بالعربية، وهذا العنوان كان جواباً لسؤال ما يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا بالحضارة الغربية، وهي تطرق الأبواب وتسد عليهم المنافذ وكان السؤال: ما هي أسباب تقهقر المسلمين، وما هي شروط النهضة؟ والإجابة عن هذا السؤال كانت محور كتابات وأقوال الذين تصدوا للإصلاح، ولكن مالك بن نبي يرى أن هؤلاء كانوا ( لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه) والمرض الحقيقي هو في داخل شخصية المسلم أو العربي، فهو يحمل بين جنبيه أمراضاً اجتماعية ونفسية وفكرية تعيقه عن النهوض: إذن كيف نصوغ عقله وشخصيته؛ حتى يعود إلى فعاليته؟ والجواب عند مالك: " مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلة ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها) والمسلم اليوم -كما يرى مالك- لا يعيش حالة حضارة، وإنما هو من بقايا حضارة، ولا بد من إدخاله مرة ثانية في دورة الحضارة، فالإنسان السابق على الحضارة (العربي قبل البعثة المحمدية مثلاً) هو مثل جزيء الماء قبل أن ينحدر بقوة لينتج طاقة كهربائية، فهذا جزيء منطوٍ على طاقة مذخورة، ولكنه يفقد طاقته بعد أن استنفذها في إنتاج الكهرباء، وهذا يعني أننا بحاجة لرفعه مرة ثانية كي يستطيع الإنتاج، والمشكلة أن إنسان ما قبل الحضارة أقرب للفطرة والقوة، وهو بعد الحضارة يحمل أمراضاً كثيرة.
الإسلام نقل العرب إلى حضارة وأنتج الفرد أشياء كثيرة، ولكن في عصر التخلف وغياب المناخ العلمي لم يستفد المسلمون من اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية، فلم تتراكم المعلومات والمعارف ولم يتقدم بعده علم الطب.
ما هي الحضارة:
ليس هذا المقال في مجال الدخول في معترك تعريف الحضارة عند من كتبوا حولها، فبعضهم يعتبر الحضارة آخر مراحل المدنية والرفاهية، ولذلك يعتبرها بداية للانحدار، فالحضارة عند ابن خلدون هي ( معاناة فنون الملاذ والفتن في الترف واستجادة أحواله) وقريب منه تعريف المؤرخ الألماني (شبنجلر) الذي يرى أن (الثقافة هي مرحلة النمو، فإذا وصل الأمر إلى الحضارة فهي النهاية) وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح، فحسب تعريف المفكر أو المؤرخ للحضارة يمكن أن تقول إن هناك حضارة غربية وحضارة صينية وحضارة إسلامية ... وقد يقصرها البعض على ثقافة معينة حسب تعريفه.
يعرف مالك بن نبي الحضارة بأنها: " مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد في كل طور من أطوار حياته المساعدة الضرورية " أو هي : " إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ " فالحضارة عند مالك هي الحاضنة للتقدم، والمحيط المناسب لإشاعة ثقافة العلم، حين تعطي الفكرة المبررات الدافعة لليد والعقل للاستفادة من الوقت.
وأضرب مثالاً يوضح فكرة ابن بني : قد يكون العربي ( قبل الإسلام) على درجة كبيرة من الذكاء، وعنده من أخلاق الشجاعة والكرم والوفاء الشيء الكثير، ولكن بغير الحد الأدنى من الثقافة فإنه ينفق ذكاءه في البحث عن القوت، فالحضارة تبدأ حين يتعلق الإنسان بمبدأ سماوي، وحيث ينتهي الترحيل والقلق والاضطراب، أي لا بد من الاستقرار في الحضر، فإذا أمن الإنسان تطلعت نفسه نحو الإبداع والإنشاء، وقد امتن الله -سبحانه وتعالى- على قريش بنعمة الأمن، وهي القبيلة التي سيخرج منها الجيل الذي التف حول الرسول – صلى الله عليه وسلم- وقاد الدولة الإسلامية قال – تعالى- " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف" [ قريش: 4.3]. وقد صنعت الحضارة الإسلامية لأول عهدها ثقافة مشتركة جعلت العرب يقبلون على العلم بنهم عظيم، حتى إننا نجد الواحد منهم يطلب العلم ويجالس العلماء عشرات السنين.
عوامل تشكيل الحضارة:
صاغ مالك بن نبي العوامل التي تشكل الحضارة بالمعادلة التالية:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت، ولكن هذه المعادلة لا تعطي ثمارها إلا بمفاعل أو مركب يدمج هذه العناصر ويعطيها غاية، وهذا المفاعل هو الدين أو ما أسماه الفكرة الدينية أو العنصر الأخلاقي، وسواء كان هذا الدين سماوياً حقاً كالإسلام أو عقيدة ومبدأ يبلغ عند أصحابه مبلغ الدين، وحسب تعريفه فإن الصين أقلعت باتجاه حضارة، وقبلها اليابان والاتحاد السوفييتي (سابقاً) والحضارة لا تكون بأن نكدس ونشتري منتجات الآخرين، وإنما بحل هذه المشكلات الثلاث: الإنسان، التراب، الوقت، وإذا بدأنا بالإنسان فإن المسلم تخصيصاً، وحتى يدخل في دورة حضارية جديدة لا بد أن يدرك أهمية شبكة العلاقات الاجتماعية، ويتعلم كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص) إن تدين هذا المسلم تدين فردي لإنقاذ نفسه في الآخرة، ولم يوظف هذا التدين للبناء الاجتماعي، ونرى هذا المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يحسن حل مشاكله؛ لأنه تعلم وأخذ الشهادات، ولكنه لم يتعلم ليكون فعالاً، وهناك خلل في طريقة تفكيره تشله عن التخطيط لنهضة قادمة، ومن أمثلة هذا الخلل:
01 مرض السهولة: فالمسلم في تقويمه للأشياء إما أن يغلو فيها أو يحط من قيمتها، إما أن الأمور سهلة جداً أو مستحيلة، فهناك من يظن أن خطبة نارية تحل كل المشاكل، وشراء منتجات الآخرين أسهل بكثير من الحصول على الأفكار الضرورية لصنعها، وهناك من ينتظر البطل وينتظر المعجزة للخروج من المأزق الذي نحن فيه.
02 طغيان الأشياء: عندما يكون مجتمع في حالة نهوض فإنه يحقق التوازن بين الأشياء والأفكار والأشخاص، ولكنه في حالة التخلف تصبح القيمة للأشياء، وتتغلب النـزعة الكمية، فالمؤلف يفتخر بأنه ألف كتاباً من كذا صفحة، ولا يهم بعد ذلك ما هو المضمون، والموظف الكبير يحب أن يكون في غرفته أربعة هواتف، ويميل الناس إلى تكديس الأشياء ويقبلون على الاستهلاك، ويظنون أن هذه هي الحضارة، والمحاكاة الحضارية هي دوماً محاكاة لما هو أسوأ ولما هو أبعث على الضحك، وهذا يفسر لنا لماذا اجتاحت موجة الإسمنت الصحاري مع أنه جاذب للسخونة!
03 طغيان الأفكار: عندما لا يستطيع المسلم أن يقوم بعمل مثمر فإنه يلجأ للأفكار المجردة التي لا تمس الواقع المعاش، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها ولتعطيه المبرر للهروب من الواقع.
04 الحق والواجب: أن أهون الأشياء عند الأمة التي تصاب بمرض السهولة أن تطالب بحقوقها وتنسى واجباتها، وهكذا تلجأ مساندة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، والمطالبة بالحقوق فقط هو منشأ سياسة الدجل التي مارسها السياسيون؛ لأنها تجذب النفعين كما يجذب الحلوى الذباب.
05 العقلية الذرية: والمقصود النظرة الجزئية للأحداث والوقائع مجزأة منفصلة فردية وكأنها كوماً من الأحداث، ولا يشكل مجموعها حلقة في التاريخ، والأعمال لا تتسم بالجهد المتواصل بل بالتتابع المنفصل، وهذه عقلية طارئة، فالمسلم في العصور الأولى تتبع الجزئيات ليشكل منها قواعد عامة ونظرة شمولية؛ وذلك عندما أنتج ( علم أصول الفقه). لم يكتف مالك بن نبي بالحديث عن الحضارة وعناصر تكوينها، بل تكلم عن النهضة والإقلاع الحضاري كما يسميه، ومن مقومات هذه النهضة:
1- الإيمان العميق بالمبدأ ( حيثما فقدت الروح سقطت الحضارة).
2- القدرة على التعاون وقوة التماسك بفضل الأخلاق وإحكام شبكة العلاقات الاجتماعية، ففي حالة التخلف كان المجتمع مليئاً بالكتب والمكتبات ولكن الشبكة كانت قد تمزقت.
3- توجيه الثقافة والعمل ورأس المال لتكون هذه الأمور في خدمة النهضة، فالاقتصاد القوي لا يكون بتكديس الثروة بل بتحريك رأس المال وتوجيهه.
المعادلة الحضارية:
رغم هذه التحليلات الدقيقة للفرد والمجتمع عند مالك بن نبي ومحاولته علاج أمراض ما بعد الحضارة، ورغم حديثه القوي عن النهضة والتقدم، إلا أننا نلمح من تعريفه للحضارة ومكوناتها: إنسان + تراب+ وقت، نلمح جانباً مادياً واضحاً، وتأثراً واستلهاماً لأفكار علماء الاجتماع والتاريخ وعلماء النفس في الغرب؛ فهؤلاء لهم تفسيرهم للحضارات ومكوناتها، فجاء مالك وأنزل هذا التفسير على الحضارة الإسلامية، وحسب تعريفه فإن الاتحاد السوفييتي أقلع باتجاه حضارة، وما ذلك إلا لتبنيه مبدأ الاشتراكية والبدء بنهضة صناعية، مع أنه نظام غير إنساني ولا أخلاقي، فقد قتل الملايين وشرد الملايين لفرض مبادئه بالقوة؛ وذلك في عصر لينين وستالين في حين أن مالكاً يعتبر عصرهما عصر بناء عظيم، وهو يعتبر الماركسية فكرة مركبة للمعادلة التي وضعها، بل ويشيد بهذه الماركسية عندما تكلم عن مؤتمر "باندونغ" وأنه (يضم تراثاً فكرياً فيه روحانية الإسلام على طرف وماركسية الصين على الطرف الآخر). وراح يؤيد دولاً ديكتاتورية عسكرية مثل ثورة يوليو في مصر ( التي تحقق في هذا النظام التقدم الإنساني في أعظم أشكاله، هذا التقدم الذي نشهد تحققه في الجمهورية العربية المتحدة، كما أيد حكومة بومدين في الجزائر لتبنيها الحل الاشتراكي.
إن فكرة المفاعل أو المركب لعناصر الحضارة قد قال بها (كسرلنج) ويسميها: (Ethice) ويعتبر أن حضارة أوروبا ترتكز على روحها الدينية، نعم إن فكرة (كسرنلج) تنطبق على أوروبا الحديثة التي تكونت من بقايا المجتمع الروماني، تكونت من عناصر سياسية واقتصادية وجغرافية، ثم جاءت النصرانية فأعطتها بعداً قوياً، ولكنها جاءت عاملاً مضافاً إلى العوامل الأخرى، فالمجتمع الروماني كان مؤسساً بروابط عرقية وسياسية وإقليمية، ودخلت النصرانية على مجتمع مركب، وهذا لا ينطبق على المجتمع الإسلامي الذي تكون أساساً بالدين، والعوامل الأخرى جاءت مرتكزة إلى الدين مثل السياسة والاقتصاد والنسب ... فالخطاب الإلهي في القرآن لم يتوجه إلى أمة معينة ولا إلى قبيلة معينة، وإنما توجه إلى الناس جميعاً أفراداً وجماعات، ولكن من حيث كونهم (ناساً) لقوله تعالى " يا أيها الناس" فالذين استجابوا لهذا النداء تكون منهم مجتمع بإرادتهم وتوافقهم وكانت الرابطة ترجع إلى الدين، وبذلك تكون شبكة العلاقات الاجتماعية- التي يهتم بها مالك كثيراً – هي أقوى ما تكون؛ لأنها مرتبطة بالمعنى العبادي، وكذلك الأخلاق فهي مرتبطة بالعقيدة وهذا أدوم لها وأبقى، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه الحديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وإن كانت الحضارة جزءاً من الدين ففي الدين تركيز واضح، على حقائق وأحكام ثابتة، بينما في التتابع الحضاري إيحاء بوجوب التنقل من طور إلى طور، فالإسلام ليس عنصراً مساعداً كأي فكرة يتحمس لها البشر، بل هو دين يصبغ المجتمع بصبغته الخاصة وحضارة الإسلام لا تنتهي لأن أساسها ليس عنصراً بشرياً يناله الضعف أو البلى، ولكن أسسها العقيدة" والتمدن الحقيقي مكافئ للدين، فالدين هو الذي يتيح للإنسان الارتقاء فوق مراتب البهيمية الدنيا، والدين هو الذي يسمح ببناء نظام اجتماعي متماسك يسعى لخير المجموع، وإذا كان مالك بن نبي يعتبر أي فكرة تبلغ مبلغ الدين عند أصحابها مثل الماركسية أو مبدأ اللاعنف عند غاندي يصلح لأن يكون مركباً لعناصر الحضارة، فإن المؤرخ( ول ديوارنت) كان أكثر دقة منه حين ذكر أن من عناصر الحضارة: الإيمان بما هو كائن وراء الطبيعة.
كما أخذ مالك عن المؤرخ الألماني ( شبنجلر) تقسيمه لدورة الحضارة إلى مراحل ثلاث: روحية، عقلية، غرائزية. وقريب منه تقسم المؤرخ الإيطالي (فيكو) لدورة التاريخ لكل أمة: المرحلة الدينية، مرحلة البطولة، مرحلة التمدن والنضج ثم الانحدار، والحقيقة أن هذه التقسيمات يمكن أن تصدق على شعوب مثل الفرس أو اليونان، أما الأمة الإسلامية فليس الدين مرحلة من مراحلها، وهي أمة غير منقطعة وإن كانت تمر بفترة ضعف أو تقهقر، إلا أنها تتجدد ولا يخلو قرن من تجديد.
وأما قول مالك إن الإنسانية بلغت رشدها في هذا العصر، وأنها تتجه نحو حل مشاكلها على أساس نظم الأفكار فهذه مثالية قريبة من مثالية "هيغل" الذي يعتقد أن البشرية في حالة تقدم دائم. والحقيقة يجب أن نكون على حذر من مفاهيم التقدم والتخلق، والبدائية والحضارة؛ لأنها قد تعني التقدم المادي بشكل عام، والعبرة في منجزات البشر هو ما ينفع الناس وييسر لهم سبل الاستقرار والأمن " فرغيف الخبز مثلاً أنفع للبشر من الوصول إلى القمر، والصاروخ الذي دفع مركبة القمر هو الصاروخ الذي يعبر القارات ويقضي على الناس، وقد نجد مجتمعاً خالياً من الأشياء الكثيرة، ولكنه أقرب للفطرة والأخلاق الأساسية، فقد جاء سيدنا يوسف – عليه السلام- من البادية، وكان هذا المكان الذي نشأ فيه أشد صفاء ونقاء من المجتمع الذي انتقل إليه، وكان إنقاذ هذا المجتمع الأخير على يديه، فهل المهم هو التقدم ولو على حساب عذاب الإنسانية والأزمات الخانقة والحروب المدمرة؟
تحت عنوان: ( مشكلات الحضارة) أصدر المفكر الجزائري مالك بن نبي كتبه، سواء التي كتبها بالفرنسية أم بالعربية، وهذا العنوان كان جواباً لسؤال ما يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا بالحضارة الغربية، وهي تطرق الأبواب وتسد عليهم المنافذ وكان السؤال: ما هي أسباب تقهقر المسلمين، وما هي شروط النهضة؟ والإجابة عن هذا السؤال كانت محور كتابات وأقوال الذين تصدوا للإصلاح، ولكن مالك بن نبي يرى أن هؤلاء كانوا ( لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه) والمرض الحقيقي هو في داخل شخصية المسلم أو العربي، فهو يحمل بين جنبيه أمراضاً اجتماعية ونفسية وفكرية تعيقه عن النهوض: إذن كيف نصوغ عقله وشخصيته؛ حتى يعود إلى فعاليته؟ والجواب عند مالك: " مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلة ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها) والمسلم اليوم -كما يرى مالك- لا يعيش حالة حضارة، وإنما هو من بقايا حضارة، ولا بد من إدخاله مرة ثانية في دورة الحضارة، فالإنسان السابق على الحضارة (العربي قبل البعثة المحمدية مثلاً) هو مثل جزيء الماء قبل أن ينحدر بقوة لينتج طاقة كهربائية، فهذا جزيء منطوٍ على طاقة مذخورة، ولكنه يفقد طاقته بعد أن استنفذها في إنتاج الكهرباء، وهذا يعني أننا بحاجة لرفعه مرة ثانية كي يستطيع الإنتاج، والمشكلة أن إنسان ما قبل الحضارة أقرب للفطرة والقوة، وهو بعد الحضارة يحمل أمراضاً كثيرة.
الإسلام نقل العرب إلى حضارة وأنتج الفرد أشياء كثيرة، ولكن في عصر التخلف وغياب المناخ العلمي لم يستفد المسلمون من اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية، فلم تتراكم المعلومات والمعارف ولم يتقدم بعده علم الطب.
ما هي الحضارة:
ليس هذا المقال في مجال الدخول في معترك تعريف الحضارة عند من كتبوا حولها، فبعضهم يعتبر الحضارة آخر مراحل المدنية والرفاهية، ولذلك يعتبرها بداية للانحدار، فالحضارة عند ابن خلدون هي ( معاناة فنون الملاذ والفتن في الترف واستجادة أحواله) وقريب منه تعريف المؤرخ الألماني (شبنجلر) الذي يرى أن (الثقافة هي مرحلة النمو، فإذا وصل الأمر إلى الحضارة فهي النهاية) وكما يقال: لا مشاحة في الاصطلاح، فحسب تعريف المفكر أو المؤرخ للحضارة يمكن أن تقول إن هناك حضارة غربية وحضارة صينية وحضارة إسلامية ... وقد يقصرها البعض على ثقافة معينة حسب تعريفه.
يعرف مالك بن نبي الحضارة بأنها: " مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد في كل طور من أطوار حياته المساعدة الضرورية " أو هي : " إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ " فالحضارة عند مالك هي الحاضنة للتقدم، والمحيط المناسب لإشاعة ثقافة العلم، حين تعطي الفكرة المبررات الدافعة لليد والعقل للاستفادة من الوقت.
وأضرب مثالاً يوضح فكرة ابن بني : قد يكون العربي ( قبل الإسلام) على درجة كبيرة من الذكاء، وعنده من أخلاق الشجاعة والكرم والوفاء الشيء الكثير، ولكن بغير الحد الأدنى من الثقافة فإنه ينفق ذكاءه في البحث عن القوت، فالحضارة تبدأ حين يتعلق الإنسان بمبدأ سماوي، وحيث ينتهي الترحيل والقلق والاضطراب، أي لا بد من الاستقرار في الحضر، فإذا أمن الإنسان تطلعت نفسه نحو الإبداع والإنشاء، وقد امتن الله -سبحانه وتعالى- على قريش بنعمة الأمن، وهي القبيلة التي سيخرج منها الجيل الذي التف حول الرسول – صلى الله عليه وسلم- وقاد الدولة الإسلامية قال – تعالى- " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف" [ قريش: 4.3]. وقد صنعت الحضارة الإسلامية لأول عهدها ثقافة مشتركة جعلت العرب يقبلون على العلم بنهم عظيم، حتى إننا نجد الواحد منهم يطلب العلم ويجالس العلماء عشرات السنين.
عوامل تشكيل الحضارة:
صاغ مالك بن نبي العوامل التي تشكل الحضارة بالمعادلة التالية:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت، ولكن هذه المعادلة لا تعطي ثمارها إلا بمفاعل أو مركب يدمج هذه العناصر ويعطيها غاية، وهذا المفاعل هو الدين أو ما أسماه الفكرة الدينية أو العنصر الأخلاقي، وسواء كان هذا الدين سماوياً حقاً كالإسلام أو عقيدة ومبدأ يبلغ عند أصحابه مبلغ الدين، وحسب تعريفه فإن الصين أقلعت باتجاه حضارة، وقبلها اليابان والاتحاد السوفييتي (سابقاً) والحضارة لا تكون بأن نكدس ونشتري منتجات الآخرين، وإنما بحل هذه المشكلات الثلاث: الإنسان، التراب، الوقت، وإذا بدأنا بالإنسان فإن المسلم تخصيصاً، وحتى يدخل في دورة حضارية جديدة لا بد أن يدرك أهمية شبكة العلاقات الاجتماعية، ويتعلم كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص) إن تدين هذا المسلم تدين فردي لإنقاذ نفسه في الآخرة، ولم يوظف هذا التدين للبناء الاجتماعي، ونرى هذا المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يحسن حل مشاكله؛ لأنه تعلم وأخذ الشهادات، ولكنه لم يتعلم ليكون فعالاً، وهناك خلل في طريقة تفكيره تشله عن التخطيط لنهضة قادمة، ومن أمثلة هذا الخلل:
01 مرض السهولة: فالمسلم في تقويمه للأشياء إما أن يغلو فيها أو يحط من قيمتها، إما أن الأمور سهلة جداً أو مستحيلة، فهناك من يظن أن خطبة نارية تحل كل المشاكل، وشراء منتجات الآخرين أسهل بكثير من الحصول على الأفكار الضرورية لصنعها، وهناك من ينتظر البطل وينتظر المعجزة للخروج من المأزق الذي نحن فيه.
02 طغيان الأشياء: عندما يكون مجتمع في حالة نهوض فإنه يحقق التوازن بين الأشياء والأفكار والأشخاص، ولكنه في حالة التخلف تصبح القيمة للأشياء، وتتغلب النـزعة الكمية، فالمؤلف يفتخر بأنه ألف كتاباً من كذا صفحة، ولا يهم بعد ذلك ما هو المضمون، والموظف الكبير يحب أن يكون في غرفته أربعة هواتف، ويميل الناس إلى تكديس الأشياء ويقبلون على الاستهلاك، ويظنون أن هذه هي الحضارة، والمحاكاة الحضارية هي دوماً محاكاة لما هو أسوأ ولما هو أبعث على الضحك، وهذا يفسر لنا لماذا اجتاحت موجة الإسمنت الصحاري مع أنه جاذب للسخونة!
03 طغيان الأفكار: عندما لا يستطيع المسلم أن يقوم بعمل مثمر فإنه يلجأ للأفكار المجردة التي لا تمس الواقع المعاش، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها ولتعطيه المبرر للهروب من الواقع.
04 الحق والواجب: أن أهون الأشياء عند الأمة التي تصاب بمرض السهولة أن تطالب بحقوقها وتنسى واجباتها، وهكذا تلجأ مساندة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، والمطالبة بالحقوق فقط هو منشأ سياسة الدجل التي مارسها السياسيون؛ لأنها تجذب النفعين كما يجذب الحلوى الذباب.
05 العقلية الذرية: والمقصود النظرة الجزئية للأحداث والوقائع مجزأة منفصلة فردية وكأنها كوماً من الأحداث، ولا يشكل مجموعها حلقة في التاريخ، والأعمال لا تتسم بالجهد المتواصل بل بالتتابع المنفصل، وهذه عقلية طارئة، فالمسلم في العصور الأولى تتبع الجزئيات ليشكل منها قواعد عامة ونظرة شمولية؛ وذلك عندما أنتج ( علم أصول الفقه). لم يكتف مالك بن نبي بالحديث عن الحضارة وعناصر تكوينها، بل تكلم عن النهضة والإقلاع الحضاري كما يسميه، ومن مقومات هذه النهضة:
1- الإيمان العميق بالمبدأ ( حيثما فقدت الروح سقطت الحضارة).
2- القدرة على التعاون وقوة التماسك بفضل الأخلاق وإحكام شبكة العلاقات الاجتماعية، ففي حالة التخلف كان المجتمع مليئاً بالكتب والمكتبات ولكن الشبكة كانت قد تمزقت.
3- توجيه الثقافة والعمل ورأس المال لتكون هذه الأمور في خدمة النهضة، فالاقتصاد القوي لا يكون بتكديس الثروة بل بتحريك رأس المال وتوجيهه.
المعادلة الحضارية:
رغم هذه التحليلات الدقيقة للفرد والمجتمع عند مالك بن نبي ومحاولته علاج أمراض ما بعد الحضارة، ورغم حديثه القوي عن النهضة والتقدم، إلا أننا نلمح من تعريفه للحضارة ومكوناتها: إنسان + تراب+ وقت، نلمح جانباً مادياً واضحاً، وتأثراً واستلهاماً لأفكار علماء الاجتماع والتاريخ وعلماء النفس في الغرب؛ فهؤلاء لهم تفسيرهم للحضارات ومكوناتها، فجاء مالك وأنزل هذا التفسير على الحضارة الإسلامية، وحسب تعريفه فإن الاتحاد السوفييتي أقلع باتجاه حضارة، وما ذلك إلا لتبنيه مبدأ الاشتراكية والبدء بنهضة صناعية، مع أنه نظام غير إنساني ولا أخلاقي، فقد قتل الملايين وشرد الملايين لفرض مبادئه بالقوة؛ وذلك في عصر لينين وستالين في حين أن مالكاً يعتبر عصرهما عصر بناء عظيم، وهو يعتبر الماركسية فكرة مركبة للمعادلة التي وضعها، بل ويشيد بهذه الماركسية عندما تكلم عن مؤتمر "باندونغ" وأنه (يضم تراثاً فكرياً فيه روحانية الإسلام على طرف وماركسية الصين على الطرف الآخر). وراح يؤيد دولاً ديكتاتورية عسكرية مثل ثورة يوليو في مصر ( التي تحقق في هذا النظام التقدم الإنساني في أعظم أشكاله، هذا التقدم الذي نشهد تحققه في الجمهورية العربية المتحدة، كما أيد حكومة بومدين في الجزائر لتبنيها الحل الاشتراكي.
إن فكرة المفاعل أو المركب لعناصر الحضارة قد قال بها (كسرلنج) ويسميها: (Ethice) ويعتبر أن حضارة أوروبا ترتكز على روحها الدينية، نعم إن فكرة (كسرنلج) تنطبق على أوروبا الحديثة التي تكونت من بقايا المجتمع الروماني، تكونت من عناصر سياسية واقتصادية وجغرافية، ثم جاءت النصرانية فأعطتها بعداً قوياً، ولكنها جاءت عاملاً مضافاً إلى العوامل الأخرى، فالمجتمع الروماني كان مؤسساً بروابط عرقية وسياسية وإقليمية، ودخلت النصرانية على مجتمع مركب، وهذا لا ينطبق على المجتمع الإسلامي الذي تكون أساساً بالدين، والعوامل الأخرى جاءت مرتكزة إلى الدين مثل السياسة والاقتصاد والنسب ... فالخطاب الإلهي في القرآن لم يتوجه إلى أمة معينة ولا إلى قبيلة معينة، وإنما توجه إلى الناس جميعاً أفراداً وجماعات، ولكن من حيث كونهم (ناساً) لقوله تعالى " يا أيها الناس" فالذين استجابوا لهذا النداء تكون منهم مجتمع بإرادتهم وتوافقهم وكانت الرابطة ترجع إلى الدين، وبذلك تكون شبكة العلاقات الاجتماعية- التي يهتم بها مالك كثيراً – هي أقوى ما تكون؛ لأنها مرتبطة بالمعنى العبادي، وكذلك الأخلاق فهي مرتبطة بالعقيدة وهذا أدوم لها وأبقى، وهذا هو المعنى الذي أشار إليه الحديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وإن كانت الحضارة جزءاً من الدين ففي الدين تركيز واضح، على حقائق وأحكام ثابتة، بينما في التتابع الحضاري إيحاء بوجوب التنقل من طور إلى طور، فالإسلام ليس عنصراً مساعداً كأي فكرة يتحمس لها البشر، بل هو دين يصبغ المجتمع بصبغته الخاصة وحضارة الإسلام لا تنتهي لأن أساسها ليس عنصراً بشرياً يناله الضعف أو البلى، ولكن أسسها العقيدة" والتمدن الحقيقي مكافئ للدين، فالدين هو الذي يتيح للإنسان الارتقاء فوق مراتب البهيمية الدنيا، والدين هو الذي يسمح ببناء نظام اجتماعي متماسك يسعى لخير المجموع، وإذا كان مالك بن نبي يعتبر أي فكرة تبلغ مبلغ الدين عند أصحابها مثل الماركسية أو مبدأ اللاعنف عند غاندي يصلح لأن يكون مركباً لعناصر الحضارة، فإن المؤرخ( ول ديوارنت) كان أكثر دقة منه حين ذكر أن من عناصر الحضارة: الإيمان بما هو كائن وراء الطبيعة.
كما أخذ مالك عن المؤرخ الألماني ( شبنجلر) تقسيمه لدورة الحضارة إلى مراحل ثلاث: روحية، عقلية، غرائزية. وقريب منه تقسم المؤرخ الإيطالي (فيكو) لدورة التاريخ لكل أمة: المرحلة الدينية، مرحلة البطولة، مرحلة التمدن والنضج ثم الانحدار، والحقيقة أن هذه التقسيمات يمكن أن تصدق على شعوب مثل الفرس أو اليونان، أما الأمة الإسلامية فليس الدين مرحلة من مراحلها، وهي أمة غير منقطعة وإن كانت تمر بفترة ضعف أو تقهقر، إلا أنها تتجدد ولا يخلو قرن من تجديد.
وأما قول مالك إن الإنسانية بلغت رشدها في هذا العصر، وأنها تتجه نحو حل مشاكلها على أساس نظم الأفكار فهذه مثالية قريبة من مثالية "هيغل" الذي يعتقد أن البشرية في حالة تقدم دائم. والحقيقة يجب أن نكون على حذر من مفاهيم التقدم والتخلق، والبدائية والحضارة؛ لأنها قد تعني التقدم المادي بشكل عام، والعبرة في منجزات البشر هو ما ينفع الناس وييسر لهم سبل الاستقرار والأمن " فرغيف الخبز مثلاً أنفع للبشر من الوصول إلى القمر، والصاروخ الذي دفع مركبة القمر هو الصاروخ الذي يعبر القارات ويقضي على الناس، وقد نجد مجتمعاً خالياً من الأشياء الكثيرة، ولكنه أقرب للفطرة والأخلاق الأساسية، فقد جاء سيدنا يوسف – عليه السلام- من البادية، وكان هذا المكان الذي نشأ فيه أشد صفاء ونقاء من المجتمع الذي انتقل إليه، وكان إنقاذ هذا المجتمع الأخير على يديه، فهل المهم هو التقدم ولو على حساب عذاب الإنسانية والأزمات الخانقة والحروب المدمرة؟
تعليق