الجهاد في اللغة بذل الجهد والوسع والطاقة، من الْجُهْد بمعنى الوُسع، أو من الْجَهْد بمعنى المشقة، كلا المعنيين في الجهاد .
وفي الشرع، أو في اصطلاح القرآن والسنة، يأتي بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها، ولهذا يُسمى حينئذ " الجهاد الأكبر "، وله معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله، وهذا يشغل مساحة أصغر من الأولى، ولهذا سُمِّيَ "الجهاد الأصغر " وهو يشبه في هذا " الإيمان " و " الإسلام " لكل منهما معنى خاص ومعنى عام .
الجهاد بمعناه العام يشمل حياة الفرد والمجتمع كلها، بجوانبها المختلفة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والصراع فيه يشمل أعداء كثيرين، يشمل النفس وشهواتها، والهوى، ووساوس الشياطين كلِّهم؛ شياطين الجن والإنس، ووساوس هؤلاء الشياطين على نوعين: نوع هدفه زرع الشبهات، وآخر هدفه اتباع الشهوات؛ ومكافحة الأول بنشر العلم والعقيدة الصحيحة، ومقاومة الثاني بنشر الفضائل والأخلاق الحميدة وموعظة الناس لتقوية إيمانهم.
وكلُّ من هذا وهذا من الجهاد الأكبر؛ خاصة أن أهل الشبهات وأهل الشهوات أصبحوا اليوم يستخدمون مختلف الوسائل المؤثرة: الإعلامية، والتعليمية، والاقتصادية، وفي غالب الأحيان يتم ذلك بدعم وتخطيط من أهل السياسة والحكم والتنفيذ.
انظر إلى مدى اتساع هذه الجبهة، أليس مصارعة كل ذلك سياسياً وإعلامياً، وتعليمياً، مصارعتُهُ بالدعوة، أكبر من المصارعة العسكرية ؟ إن الجهاد بـ " الكلاشنكوف " هو أسهل أنواع الجهاد ، لكنه أكثرها خطراً.
ولذلك فإن تسمية الأول بـ " الجهاد الأكبر " صحيح المعنى، تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وإن لم يصح الحديث الوارد فيه بخصوصه (1) .
إن حصر مفهوم " الجهاد " في القتال خطأ في فهم الكتاب والسنة، فإن الجهاد فيهما جاء بمعنى القتال، وجاء بمعنى أكبر من ذلك وأشمل :
قال تعالى: ( فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) [ 52/الفرقان] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وجاهدهم به ) أي القرآن (2).
فالجهاد الكبير هنا ليس هو القتال، إنما هو الدعوة والبيان بالحجة والبرهان وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه، ومعه تفسيره وبيانه الذي هو السنة.
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ . . ) [ 73/التوبة ].
في هذه الآية ليس المراد بجهاد المنافقين القتال، لأن المنافقين يظهرون الإسلام يتخذونه جُنَّةً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم بل عاملهم بظواهرهم وحتى من انكشف كفره منهم كعبدالله بن أبي بن سلول لم يقتله سياسة منه ، صلى الله عليه وسلم وقال لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) (3) ولكن جهاد المنافقين يكون بالوسائل الأخرى، مثل كشف أسرارهم ودواخلهم وأهدافهم الخبيثة، وتحذير المجتمع منهم، كما جاء في القرآن .
وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) [ 69 / العنكبوت]
لا شك أن المراد بالجهاد هنا مفهومه الشامل المتضمن نوعيه الأكبر والأصغر، نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم بإسناده عن عباس الهمداني قال في تفسير هذه الآية : " الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون ) (4).
فتفسير الآية إذن: ( الذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا في ذات الله أنفسَهم وشهواتِهِم وأهواءَهم وجاهدوا العراقيلَ والعوائقَ، وجاهدوا الشياطين، وجاهدوا العدو من الكفار المحاربين، فالمقصود الجهادُ في معترك الحياة كلِّها، وفي حلبةِ الصراع الشاملِ.
وفي السنة النبوية بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد بمفهومه الشامل فقال: ( ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(5).
المراد بجهاد القلب هنا هو بغضهم وبغض حالهم، التي هي عقيدة الولاء والبراء؛ بدونها لا يصير الإنسان مؤمناً ؛ سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ القلب هذا جهاداً، كما سمَّى فعل اللسان جهاداً، ومن باب أولى أن يسمي فعل اليد جهاداً؛ أليس هذا مفهوماً شاملاً للجهاد ووسائله؟
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجاهد ؟ قالألك أبوان ؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (6).
انظر كيف سمَّى بِرَّ الوالدين ورعايتَهُمَا جهاداً في هذا الموقف، فكلٌّ جهادُهُ بحَسَبِِه، وهذا الرجل كان والداه بحاجة إليه ، وهو مشتاق للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، فبين له صلى الله عليه وسلم أن جهاده هو رعاية أبويه.
وأمثلة هذا من السنة كثيرة يسمي فيها بعض العمال الصالحة جهاداً أو يجعلها بمنزلة الجهاد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)(7)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد والعمرة تطوع)(8)، وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: (جهادكن الحج)(9) وقوله صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه)(10).
وهذا كله يوضح مدى اتساع دائرة الجهاد، وأنها ليست محصورة في القتال، بل هي مرتبطة بمجالات الحياة كلها.
وهكذا حتى عندما يكون هناك قتال صحيح مع العدو، فإن جهاد كل واحد بحسبه، الطبيب بخبرته الطبية، وأهل الإغاثة بإغاثتهم، وأهل الإعلام بإعلامهم، وأهل الأموال بأموالهم، ويبقى في بقية البلد يقومون بشؤونها ويخلفون المجاهدين في أهليهم بالخير والرعاية والحراسة، وتستمر عجلة الحياة .
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جَهَّزَ غازياً في سبيل الله فقد غَزَا، ومن خَلَفَهُ في أهلِهِ بخيرٍ فقد غَزَا) (11).
بعض الناس نظر إلى الجهاد نظرة ضيقة فحصره في جانب القتال، وهذا قصور في فهم الشرع وفي فهم نصوص الكتاب والسنة.
إن من أشد آفات الحركات الإسلامية فتكاً، جزئية النظر والفهم للدين، كلٌّ أَخَذَ جانباً واستغرق فيه حتى صار لا يرى غيره، أصيب بالعمى عن رؤية غير ما هو فيه، وقد يستفحل هذا الداء فلا يرون في الميدان أحداً غيرهم فيتصرفون حينئذٍ على أنهم الذين يمثلون وحدهم المسلمين، وأنهم وحدهم الذين يحملون الراية، وعلى الآخرين أن يتبعوهم وينقادوا إليهم.
ومن أسباب هذا الداء الانغلاق على أنفسهم ، والجهل بواقع مجتمعهم وبواقع المسلمين، والجهل بالحركات الإسلامية وبرجال الدعوة وعدم التواصل والتحاور معهم، وعدم التواصل والتحاور مع العلماء، مع أنهم في أمس الحاجة إلى علماء الدعوة، وذلك لقلة بضاعتهم في الفقه في الدين.
مثلاً: " الجهاديون " أخذوا جانباً من الدين هو القتال في سبيل الله، واستغرقوا فيه حتى صاروا لا يرون غيره، وظنوا أن القتال هو الحل لكل مشكلات الأمة وأنه الواجب الأساسي، و"الاستراتيجية " الوحيدة، والفريضة الغائبة، وأصابهم نفس الداء فلم يعودوا يرون غير ذلك .
و" التحريريون " أخذوا جانباً آخر هو " الخلافة " وصار تنصيب " الخليفة " هَدَفَهُم الوحيد، ورأوا في ذلك حلاً لجميع مشكلات الأمة، وأصابهم العمى عن ما سوى ذلك ، أجَّلوا تطبيق الشريعة حتى يُنَصَّبَ الخليفةُ، كالروافض الذين كانوا قد علَّقُوا تطبيقَ الشريعة حتى يخرج صاحب السرداب، حتى جاءهم " الخميني " فَأَنْهَى هذا الانتظار، واقتبس من فقه أهل السنة فكرة " ولاية الفقية " وأنشأ لهم بذلك دولة في هذا العصر. .
وأغرب من كل هذه الحركات الإسلامية : " التبليغيون " الذين حصروا الدين في جانب واحد هو " الخروج للتبليغ " وأَلْغَوْا في سبيل ذلك كلَّ ما سواه أو جَمَّدُوه ، أَلْغَوْا " الجهاد " بمعنى القتال، وأَلْغُوا حتى عملية " التعلُّم " واعتبروا صرف الأوقات في طلب العلم ترفاً ومشغلة عن الدعوة، وانغلقوا على ما عندهم ولم يعودوا يرون غيره، أصابهم العمى عن بقية الدين.
وهناك حركات اختارت العمل السياسي، فعلقت عليه آمالها، وحصرت فيه برامجها، فخاضت الانتخابات، وأقامت التحالفات حتى مع الشياطين، ومارست المناورات السياسية بكل صورها.
والعجيب أن أحداً من هؤلاء وأولئك لا نية عندهم أبداً لمراجعة ما هم عليه وتقويمه، لا تقويمَ للعمل ولا للخطط ولا للبرامج فما بالك بالمناهج، كلٌّ جَمَدَ على ما عنده ، وعجيبٌ من حركات نشأت للتغيير فإذا بها هي نفسها تصاب بالداء الذي أرادت معالجته.
يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله : " .. السبب في ذلك أن هذه الحركات فقدت عنصر النمو والقدرة على استعراض المحيط وطبيعة العصر وقضاياه المتجددة، والقدرة على التطبيق بين المنهج الإصلاحي وواقع الحياة ومتطلباته ومن الحقائق أن الإسلام استطاع أن يساير كل زمن ويثبت جدارته لقيادة المجتمع البشري والتطبيق بين تعاليمه وحاجات العصر؛ لوجود العلماء والقادة الذين لم يفقدوا قط النمو الفكري والذكاء الممتاز والقدرة على الاجتهاد واستنباط الأحكام من الأصول الدينية ومصادر الشريعة الأولى في كل زمان ومواجهة كل تحد في عصرهم ومصرهم، وتحقيق كل ما يطلبه الزمان وتحتاج إليه الأمة بقدرة فائقة وعبقرية باهرة، ولم يغمضوا عيونهم عن واقع الحياة ولم يصموا آذانهم عن نداء العصر فبقي هذا الدين حياً خالداً مقبولاً سائغاً قادراً على قيادة المجتمع وترشيده . ." (12).
إن فقدان الحركات الإسلامية القدرة على فهم الدين فهماً شاملاً كاملاً، مع جمودهم على ما عندهم، وفقدانهم الرغبة في المراجعة والتقويم، كل ذلك يشكل خللاً خطيراً.
وأخطر منه ضعف القيادات، أكثر هذه القيادات التي تقود هذه الحركات قليلة البضاعة من الفقه بالدين، ليسوا من العلماء ولم يتلقوا العلم من العلماء، ومع ذلك لا يتواصلون مع العلماء ولا يشاورونهم، العلم شرط في الولاية فإذا تولى الجاهلُ القضاء مثلاً وكان شرط العدالة متوفراً فيه، قال بعض الفقهاء يصح قضاؤه إذا كان يستشير الفقيهَ فيفتيه فيحكم بفتواه (13).
قد يُقَال: هل تُلْغَى كلَّ تلك الحركات من الساحة ؟
كلا، فهي موجودة ولا يستطيع أحد إلغاءها، وموجود غيرها، كحركة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية بالهند وباكستان، والمدارس الديوبندية في الهند والباكستان، وموجود السلفيون بمختلف أشكالهم وأسمائهم، فالساحة تعج بالتيارات والحركات، والمدارس والاتجاهات، والأفكار والاجتهادات؛ وهذا من خصائص هذا الدين، أنه يشجع على التفكير ويحث على الاجتهاد، ويجتهد المجتهدون فيصيبون ويخطئون، وقد يجتهد من لا أهلية له ولا علم، من يستطيع أن يمنعه ؟
المقصود أن هذا الاختلاف في نمط التفكير من المجتهدين يدل على الحيوية الفكرية إذا كان من العلماء: كسيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، وعبد الحميد باديس، ومحمد بن عبد الوهاب، وكعلماء المدرسة الديوبندية في الهند وباكستان؛ فإنهم أصحاب دعوة كبرى اعتمدت على العلم والتربية، ولذلك نشروا المدارس ونجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً، اسهموا بذلك مع الجماعة الإسلامية في الحفاظ على الهوية الإسلامية هناك، وكعلماء تركيا الذين اعتمدوا نفس هذا الأسلوب. .
من يظن أنه وحده في الساحة فهذا أول علامات الجهل، لا ننكر على أحد أن ينزل في الساحة ويدلي بدلوه، ولكن بشرطين:
أولهما: أن يوقن انه ليس وحده في الساحة، وأنه ليس وحده الذي يحمل الراية ، وأن يتواضع لإخوانه ويتواصل معهم، لو كان هناك تواصل بين هذه الحركات وتحاور لربما حققوا شيئاً من التكامل والتنسيق.
ثانيهما: أن يكف شره عن الآخرين، ولا يخرب عليهم، فبعض من في الساحة يتصرف على أنه وحده الذي يمثل الأمة – هكذا بدون تفويض – فيقترف من الأعمال الخطرة، أو المقولات الشاذة ما يعود ضرره على الأمة كلها، دون أن يستشير أحداً، يستبد في الرأي، ويستبد في الفعل، ويلغي حق الآخرين في الرأي والمشورة، بل إن بعضهم ربما ألغى كل من في الساحة غيره وأخرجهم من الدعوة، وربما من الملة .
ومع ذلك فإننا نرى من حقنا ومن حق الآخرين أن نناقش من في ساحة الدعوة والجهاد ن ونُقوِّم مناهجهم وأعمالهم وأفكارهم ونسدي لهم النصح، وعلينا وعلى الآخرين أن تتسع صدورنا للنقد البنَّاء، وأن نعطي الفرصة للمجادلة بالتي هي أحسن.
إن الدعوة والجهاد بحاجة إلى ذلك، وجميع الحركات الإسلامية التي في ساحة الدعوة أو في ساحة الجهاد هي بأمس الحاجة إلى ذلك.
ومن يرفض ذلك ويرى نفسه فوق النقد، ولا يرى أنه بحاجة إلى المراجعة والتقويم، ولا بحاجة إلى نصح الآخرين فقد أشبه أهل البدع والأهواء، الذين ملؤا تاريخ أمتنا وشغبوا عليها في مسيرتها، وكانوا من أسوأ العوائق أمـام تقدمها، ومن أبرز عوامل ضعفها وتضعضع كيانها.
المقالة التالية
(الدعوة وقضاياها)
وفي الشرع، أو في اصطلاح القرآن والسنة، يأتي بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها، ولهذا يُسمى حينئذ " الجهاد الأكبر "، وله معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله، وهذا يشغل مساحة أصغر من الأولى، ولهذا سُمِّيَ "الجهاد الأصغر " وهو يشبه في هذا " الإيمان " و " الإسلام " لكل منهما معنى خاص ومعنى عام .
الجهاد بمعناه العام يشمل حياة الفرد والمجتمع كلها، بجوانبها المختلفة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والصراع فيه يشمل أعداء كثيرين، يشمل النفس وشهواتها، والهوى، ووساوس الشياطين كلِّهم؛ شياطين الجن والإنس، ووساوس هؤلاء الشياطين على نوعين: نوع هدفه زرع الشبهات، وآخر هدفه اتباع الشهوات؛ ومكافحة الأول بنشر العلم والعقيدة الصحيحة، ومقاومة الثاني بنشر الفضائل والأخلاق الحميدة وموعظة الناس لتقوية إيمانهم.
وكلُّ من هذا وهذا من الجهاد الأكبر؛ خاصة أن أهل الشبهات وأهل الشهوات أصبحوا اليوم يستخدمون مختلف الوسائل المؤثرة: الإعلامية، والتعليمية، والاقتصادية، وفي غالب الأحيان يتم ذلك بدعم وتخطيط من أهل السياسة والحكم والتنفيذ.
انظر إلى مدى اتساع هذه الجبهة، أليس مصارعة كل ذلك سياسياً وإعلامياً، وتعليمياً، مصارعتُهُ بالدعوة، أكبر من المصارعة العسكرية ؟ إن الجهاد بـ " الكلاشنكوف " هو أسهل أنواع الجهاد ، لكنه أكثرها خطراً.
ولذلك فإن تسمية الأول بـ " الجهاد الأكبر " صحيح المعنى، تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وإن لم يصح الحديث الوارد فيه بخصوصه (1) .
إن حصر مفهوم " الجهاد " في القتال خطأ في فهم الكتاب والسنة، فإن الجهاد فيهما جاء بمعنى القتال، وجاء بمعنى أكبر من ذلك وأشمل :
قال تعالى: ( فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ) [ 52/الفرقان] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وجاهدهم به ) أي القرآن (2).
فالجهاد الكبير هنا ليس هو القتال، إنما هو الدعوة والبيان بالحجة والبرهان وأعظم حجة وبيان هو هذا القرآن، إنه حجة الله على خلقه، ومعه تفسيره وبيانه الذي هو السنة.
وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ . . ) [ 73/التوبة ].
في هذه الآية ليس المراد بجهاد المنافقين القتال، لأن المنافقين يظهرون الإسلام يتخذونه جُنَّةً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم بل عاملهم بظواهرهم وحتى من انكشف كفره منهم كعبدالله بن أبي بن سلول لم يقتله سياسة منه ، صلى الله عليه وسلم وقال لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ) (3) ولكن جهاد المنافقين يكون بالوسائل الأخرى، مثل كشف أسرارهم ودواخلهم وأهدافهم الخبيثة، وتحذير المجتمع منهم، كما جاء في القرآن .
وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) [ 69 / العنكبوت]
لا شك أن المراد بالجهاد هنا مفهومه الشامل المتضمن نوعيه الأكبر والأصغر، نقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم بإسناده عن عباس الهمداني قال في تفسير هذه الآية : " الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون ) (4).
فتفسير الآية إذن: ( الذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا في ذات الله أنفسَهم وشهواتِهِم وأهواءَهم وجاهدوا العراقيلَ والعوائقَ، وجاهدوا الشياطين، وجاهدوا العدو من الكفار المحاربين، فالمقصود الجهادُ في معترك الحياة كلِّها، وفي حلبةِ الصراع الشاملِ.
وفي السنة النبوية بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع الجهاد بمفهومه الشامل فقال: ( ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤْمَرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(5).
المراد بجهاد القلب هنا هو بغضهم وبغض حالهم، التي هي عقيدة الولاء والبراء؛ بدونها لا يصير الإنسان مؤمناً ؛ سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ القلب هذا جهاداً، كما سمَّى فعل اللسان جهاداً، ومن باب أولى أن يسمي فعل اليد جهاداً؛ أليس هذا مفهوماً شاملاً للجهاد ووسائله؟
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أجاهد ؟ قالألك أبوان ؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (6).
انظر كيف سمَّى بِرَّ الوالدين ورعايتَهُمَا جهاداً في هذا الموقف، فكلٌّ جهادُهُ بحَسَبِِه، وهذا الرجل كان والداه بحاجة إليه ، وهو مشتاق للخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد معه، فبين له صلى الله عليه وسلم أن جهاده هو رعاية أبويه.
وأمثلة هذا من السنة كثيرة يسمي فيها بعض العمال الصالحة جهاداً أو يجعلها بمنزلة الجهاد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)(7)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد والعمرة تطوع)(8)، وقوله صلى الله عليه وسلم في النساء: (جهادكن الحج)(9) وقوله صلى الله عليه وسلم: (المجاهد من جاهد نفسه)(10).
وهذا كله يوضح مدى اتساع دائرة الجهاد، وأنها ليست محصورة في القتال، بل هي مرتبطة بمجالات الحياة كلها.
وهكذا حتى عندما يكون هناك قتال صحيح مع العدو، فإن جهاد كل واحد بحسبه، الطبيب بخبرته الطبية، وأهل الإغاثة بإغاثتهم، وأهل الإعلام بإعلامهم، وأهل الأموال بأموالهم، ويبقى في بقية البلد يقومون بشؤونها ويخلفون المجاهدين في أهليهم بالخير والرعاية والحراسة، وتستمر عجلة الحياة .
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جَهَّزَ غازياً في سبيل الله فقد غَزَا، ومن خَلَفَهُ في أهلِهِ بخيرٍ فقد غَزَا) (11).
بعض الناس نظر إلى الجهاد نظرة ضيقة فحصره في جانب القتال، وهذا قصور في فهم الشرع وفي فهم نصوص الكتاب والسنة.
إن من أشد آفات الحركات الإسلامية فتكاً، جزئية النظر والفهم للدين، كلٌّ أَخَذَ جانباً واستغرق فيه حتى صار لا يرى غيره، أصيب بالعمى عن رؤية غير ما هو فيه، وقد يستفحل هذا الداء فلا يرون في الميدان أحداً غيرهم فيتصرفون حينئذٍ على أنهم الذين يمثلون وحدهم المسلمين، وأنهم وحدهم الذين يحملون الراية، وعلى الآخرين أن يتبعوهم وينقادوا إليهم.
ومن أسباب هذا الداء الانغلاق على أنفسهم ، والجهل بواقع مجتمعهم وبواقع المسلمين، والجهل بالحركات الإسلامية وبرجال الدعوة وعدم التواصل والتحاور معهم، وعدم التواصل والتحاور مع العلماء، مع أنهم في أمس الحاجة إلى علماء الدعوة، وذلك لقلة بضاعتهم في الفقه في الدين.
مثلاً: " الجهاديون " أخذوا جانباً من الدين هو القتال في سبيل الله، واستغرقوا فيه حتى صاروا لا يرون غيره، وظنوا أن القتال هو الحل لكل مشكلات الأمة وأنه الواجب الأساسي، و"الاستراتيجية " الوحيدة، والفريضة الغائبة، وأصابهم نفس الداء فلم يعودوا يرون غير ذلك .
و" التحريريون " أخذوا جانباً آخر هو " الخلافة " وصار تنصيب " الخليفة " هَدَفَهُم الوحيد، ورأوا في ذلك حلاً لجميع مشكلات الأمة، وأصابهم العمى عن ما سوى ذلك ، أجَّلوا تطبيق الشريعة حتى يُنَصَّبَ الخليفةُ، كالروافض الذين كانوا قد علَّقُوا تطبيقَ الشريعة حتى يخرج صاحب السرداب، حتى جاءهم " الخميني " فَأَنْهَى هذا الانتظار، واقتبس من فقه أهل السنة فكرة " ولاية الفقية " وأنشأ لهم بذلك دولة في هذا العصر. .
وأغرب من كل هذه الحركات الإسلامية : " التبليغيون " الذين حصروا الدين في جانب واحد هو " الخروج للتبليغ " وأَلْغَوْا في سبيل ذلك كلَّ ما سواه أو جَمَّدُوه ، أَلْغَوْا " الجهاد " بمعنى القتال، وأَلْغُوا حتى عملية " التعلُّم " واعتبروا صرف الأوقات في طلب العلم ترفاً ومشغلة عن الدعوة، وانغلقوا على ما عندهم ولم يعودوا يرون غيره، أصابهم العمى عن بقية الدين.
وهناك حركات اختارت العمل السياسي، فعلقت عليه آمالها، وحصرت فيه برامجها، فخاضت الانتخابات، وأقامت التحالفات حتى مع الشياطين، ومارست المناورات السياسية بكل صورها.
والعجيب أن أحداً من هؤلاء وأولئك لا نية عندهم أبداً لمراجعة ما هم عليه وتقويمه، لا تقويمَ للعمل ولا للخطط ولا للبرامج فما بالك بالمناهج، كلٌّ جَمَدَ على ما عنده ، وعجيبٌ من حركات نشأت للتغيير فإذا بها هي نفسها تصاب بالداء الذي أرادت معالجته.
يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله : " .. السبب في ذلك أن هذه الحركات فقدت عنصر النمو والقدرة على استعراض المحيط وطبيعة العصر وقضاياه المتجددة، والقدرة على التطبيق بين المنهج الإصلاحي وواقع الحياة ومتطلباته ومن الحقائق أن الإسلام استطاع أن يساير كل زمن ويثبت جدارته لقيادة المجتمع البشري والتطبيق بين تعاليمه وحاجات العصر؛ لوجود العلماء والقادة الذين لم يفقدوا قط النمو الفكري والذكاء الممتاز والقدرة على الاجتهاد واستنباط الأحكام من الأصول الدينية ومصادر الشريعة الأولى في كل زمان ومواجهة كل تحد في عصرهم ومصرهم، وتحقيق كل ما يطلبه الزمان وتحتاج إليه الأمة بقدرة فائقة وعبقرية باهرة، ولم يغمضوا عيونهم عن واقع الحياة ولم يصموا آذانهم عن نداء العصر فبقي هذا الدين حياً خالداً مقبولاً سائغاً قادراً على قيادة المجتمع وترشيده . ." (12).
إن فقدان الحركات الإسلامية القدرة على فهم الدين فهماً شاملاً كاملاً، مع جمودهم على ما عندهم، وفقدانهم الرغبة في المراجعة والتقويم، كل ذلك يشكل خللاً خطيراً.
وأخطر منه ضعف القيادات، أكثر هذه القيادات التي تقود هذه الحركات قليلة البضاعة من الفقه بالدين، ليسوا من العلماء ولم يتلقوا العلم من العلماء، ومع ذلك لا يتواصلون مع العلماء ولا يشاورونهم، العلم شرط في الولاية فإذا تولى الجاهلُ القضاء مثلاً وكان شرط العدالة متوفراً فيه، قال بعض الفقهاء يصح قضاؤه إذا كان يستشير الفقيهَ فيفتيه فيحكم بفتواه (13).
قد يُقَال: هل تُلْغَى كلَّ تلك الحركات من الساحة ؟
كلا، فهي موجودة ولا يستطيع أحد إلغاءها، وموجود غيرها، كحركة الإخوان المسلمين، والجماعة الإسلامية بالهند وباكستان، والمدارس الديوبندية في الهند والباكستان، وموجود السلفيون بمختلف أشكالهم وأسمائهم، فالساحة تعج بالتيارات والحركات، والمدارس والاتجاهات، والأفكار والاجتهادات؛ وهذا من خصائص هذا الدين، أنه يشجع على التفكير ويحث على الاجتهاد، ويجتهد المجتهدون فيصيبون ويخطئون، وقد يجتهد من لا أهلية له ولا علم، من يستطيع أن يمنعه ؟
المقصود أن هذا الاختلاف في نمط التفكير من المجتهدين يدل على الحيوية الفكرية إذا كان من العلماء: كسيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، وعبد الحميد باديس، ومحمد بن عبد الوهاب، وكعلماء المدرسة الديوبندية في الهند وباكستان؛ فإنهم أصحاب دعوة كبرى اعتمدت على العلم والتربية، ولذلك نشروا المدارس ونجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً، اسهموا بذلك مع الجماعة الإسلامية في الحفاظ على الهوية الإسلامية هناك، وكعلماء تركيا الذين اعتمدوا نفس هذا الأسلوب. .
من يظن أنه وحده في الساحة فهذا أول علامات الجهل، لا ننكر على أحد أن ينزل في الساحة ويدلي بدلوه، ولكن بشرطين:
أولهما: أن يوقن انه ليس وحده في الساحة، وأنه ليس وحده الذي يحمل الراية ، وأن يتواضع لإخوانه ويتواصل معهم، لو كان هناك تواصل بين هذه الحركات وتحاور لربما حققوا شيئاً من التكامل والتنسيق.
ثانيهما: أن يكف شره عن الآخرين، ولا يخرب عليهم، فبعض من في الساحة يتصرف على أنه وحده الذي يمثل الأمة – هكذا بدون تفويض – فيقترف من الأعمال الخطرة، أو المقولات الشاذة ما يعود ضرره على الأمة كلها، دون أن يستشير أحداً، يستبد في الرأي، ويستبد في الفعل، ويلغي حق الآخرين في الرأي والمشورة، بل إن بعضهم ربما ألغى كل من في الساحة غيره وأخرجهم من الدعوة، وربما من الملة .
ومع ذلك فإننا نرى من حقنا ومن حق الآخرين أن نناقش من في ساحة الدعوة والجهاد ن ونُقوِّم مناهجهم وأعمالهم وأفكارهم ونسدي لهم النصح، وعلينا وعلى الآخرين أن تتسع صدورنا للنقد البنَّاء، وأن نعطي الفرصة للمجادلة بالتي هي أحسن.
إن الدعوة والجهاد بحاجة إلى ذلك، وجميع الحركات الإسلامية التي في ساحة الدعوة أو في ساحة الجهاد هي بأمس الحاجة إلى ذلك.
ومن يرفض ذلك ويرى نفسه فوق النقد، ولا يرى أنه بحاجة إلى المراجعة والتقويم، ولا بحاجة إلى نصح الآخرين فقد أشبه أهل البدع والأهواء، الذين ملؤا تاريخ أمتنا وشغبوا عليها في مسيرتها، وكانوا من أسوأ العوائق أمـام تقدمها، ومن أبرز عوامل ضعفها وتضعضع كيانها.
المقالة التالية
(الدعوة وقضاياها)