جاء إسقاط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين يوم التاسع من أبريل/ نيسان عند دخول الدبابات الأميركية ساحة الفردوس بطريقة استدعت إلى بعض الأذهان –أو هكذا أريد له- سقوط جدار برلين حينما انهالت عليه معاول الألمان بعدما ظل جاثما على صدر المدينة فاصلا بين شرقها وغربها منذ إنشائه عام 1961.
ورغم أن بغداد تنقسم هي الأخرى إلى قسمين شرقي وغربي مثلها مثل مدينة برلين تماما التي كان يفصل جزأيها ذلك الجدار الذي يثقل الذاكرة الألمانية، فإن الاختلاف يكمن بالنسبة لمدينة الرشيد في أن الحد الفاصل بين جزأيها (الرصافة والكرخ) هو نهر دجلة الذي كانت أمواجه وشواطئه وبساتينه ومروجه مرتعا لخيال الشعراء العراقيين وملاذا لهم من حمى الاحتراق والقلق الإبداعي.
ولعل دجلة بما تحمله من معنى واسع لم تخالط وجدان شاعر عراقي وعربي ومكنونات قصائده كما خالطت عاطفة الشاعر محمد مهدي الجواهري. ويتضح ذلك جليا في رسمه لكل ما يدور الآن في العراق وكأنه كان يراه ويشهد عليه دجلة.. تلك النائمة على سكر أبي نواس ووشي حضارة الرشيد ودل الأمين وقوة المعتصم وجبروت الحجاج وحزم المنصور وأنغام الموصلي.
يبدأ الجواهري قصيدته "دجلة الخير" كأنه ينادي محبوبته -وكما نادى المجنون جبل التوباد– فيقول:
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآنا ألوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين
ويعترف الجواهري بأن ظمأه الأبدي لا تجليه إلا دجلة، الأمر الذي يجعلنا نجزم أن هذا الظمأ هو من نوع آخر.. ظمأ الشوق والبعد والاغتراب وظمأ الظلم والحب والذكريات وظمأ الحرية:
يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية نبعا فنبعا فما كانت لترويني
ويزيد عطش الجواهري إلى الأرض والحنين إلى الماء حتى يغلبه الغياب عن اللحظة الحياتية ويدخل عالم اللاوعي لنجده يتمنى أن تكون دجلة بعمقها قبره, وشراع قاربها الذي تلعب به الرياح -مثله مثل مصير الشاعر في اغترابه- كفنه، ويقول:
وأنت يا قاربا تلوي الرياح به ليّ النسائم أطراف الأفانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني يحاك منه غداة البين, يطويني
ولا نجد مبررا لهذا الإصرار على التوحد مع كل مفردات دجلة سوى غلبة اليأس على أمل لقاء الحبيبة أو إحساس الجواهري الشديد بالألم والحسرة والخوف مما هو قادم حيث يقول:
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماح غير مضمون
وهذا اليأس السياسي الذي سكبه الجواهري شعرا لا يبعد أصابع الاتهام عن دجلة العاشق والمعشوق سليل أبي نواس المجنون الذي راهن ما ألبسته وخلعته عليه الملوك في شربة زق حيث يقول:
يا مستجم النواسي الذي لبست به الحضارة ثوبا وشي هارون
الغاسل الهم في ثغر وفي حبب والملبس العقل أزياء المجانين
والراهن السابري الخز في قدح والملهم الفن من لهو أفانين
يا سكتة الموت يا أطياف ساحرة يا خنجر الغدر يا أغصان زيتون
غير أنه تجريم ولوم من ولهان محب لا يلبث أن يمتطي صهوة المجد الممجد لمحبوبته وذكر محاسنها وأصلها الضارب في العمق، ليبث ألمه مع ألمها ومشاركته لها ما يعتريها من شحوب وما عليها من غبار صروف الدهر بل ما يخبئه لها آنذاك المستقبل-الحاضر:
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج متى التبغدد حتى في الدهاقين
يا أم تلك التي من ألف ليلتها للآن يعبق عطر في التلاحين
يا دجلة الخير ما يغليك من حنق يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني
ما إن تزال سياط البغي ناقعة في مائك الطهر بين الحين والحين
ووالغات خيول البغي مصبحة على القرى –آمنات- والدهاقين
ويأتي البيت التالي في شكل إجابة غريبة على سؤال ربما لم نقرأه لكننا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إن دجلة -المسجونة بالرصافة والكرخ وبأشياء أخرى- ربما أسرت بمعاناتها لشاعرها بلغة لا نفهمها نحن ليقول:
يا دجلة الخير أدري بالذي طفحت به مجاريك من فوق إلى دون
أدري على أي قيثار قد انفجرت أنغامك السمر عن أنات محزون
أدري بأنك من ألف مضت هدرا للآن تهزين من حكم السلاطين
تهزين من خصب جنات منثرة على الضفاف ومن بؤس الملايين
تهزين من عتقاء يوم ملحمــة أضفوا دروع مطاعيم مطاعين
الضارعين لأقدار تحل بهــم كما تلوى ببطن الحوت ذو النون
يرون سود الرزايا في حقيقتها ويفزعون إلى حدس وتخمين
يا دجلة الخير والدنيا مفارقـة وأي شر بخير غير مقرون
لعل يوما عصوفا جارفا عرسا آت فترضيك عقبان وترضيني
وعلينا أن نسأل هنا هل لدى الشاعر قوة حدس وبعد سياسي يختزل الزمن ويمتلك القدرة على صياغة أحداث المستقبل كما هي قبل أن تقع؟ لماذا أسر الجواهري لدجلة بما نعيشه الآن في شكل خوف وتوجس وتعميم لم نفهمه أو بالأحرى لم ندركه، إلا بعد أن عايشنا الحرب وما يحدث الآن؟
وربما كان بيته التالي فيه توضيح لهذا السؤال حينما يشرح أن الشعر ليس سوى بعض قراءة للغيبيات والأقدار منذ الأزل:
يا دجلة الخير كان الشعر مذ رسمت كف الطبيعة لوحا سفر تكوين
وفي هذه الرحلة مع الشاعر الخالد بنهره والنهر الخالد بشاعره ومنابعه ومصابه لا ننسى أن هناك أيضا نوعا من الحب لمخلوقات ذلك النهر لدى الجواهري الذي تكلم حتى عن ضفادع دجلة، واصفا نقيقها بمراسيل مشفرة بين العاشقين قائلا في قصيدة أخرى:
سلام على جاعلات النقيق على الشاطئين بريد الهوى
لعنتن من صبية لا تشيخ ومن شيخة دهرها تصطفى
ولئن فاق الجواهري بمذاق العصر, وفتنة المغايرة, والقدرة الفذة على إبداع الصورة الشعرية في منمنماتها، وتنويعاتها الإيقاعية، وبنَفَس شعري هو الأبعد مدى وغاية بالنسبة لأقرانه الكبار من شعراء العصر فلقد سبقه في هذا العشق لدجلة ولبغداد ابن زريق عندما يهيم وهو بعيد بقمر دجلة المتراقص على وجهها:
أستودع الله في بغداد لي قمرًا بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه.
________________________
*منقول من موقع ( الجزيرة )
*الشاعر محمد مهدي الجواهري : شاعر عراقي معاصر توفي في المنفى منذ عامين تقريبًا .
ورغم أن بغداد تنقسم هي الأخرى إلى قسمين شرقي وغربي مثلها مثل مدينة برلين تماما التي كان يفصل جزأيها ذلك الجدار الذي يثقل الذاكرة الألمانية، فإن الاختلاف يكمن بالنسبة لمدينة الرشيد في أن الحد الفاصل بين جزأيها (الرصافة والكرخ) هو نهر دجلة الذي كانت أمواجه وشواطئه وبساتينه ومروجه مرتعا لخيال الشعراء العراقيين وملاذا لهم من حمى الاحتراق والقلق الإبداعي.
ولعل دجلة بما تحمله من معنى واسع لم تخالط وجدان شاعر عراقي وعربي ومكنونات قصائده كما خالطت عاطفة الشاعر محمد مهدي الجواهري. ويتضح ذلك جليا في رسمه لكل ما يدور الآن في العراق وكأنه كان يراه ويشهد عليه دجلة.. تلك النائمة على سكر أبي نواس ووشي حضارة الرشيد ودل الأمين وقوة المعتصم وجبروت الحجاج وحزم المنصور وأنغام الموصلي.
يبدأ الجواهري قصيدته "دجلة الخير" كأنه ينادي محبوبته -وكما نادى المجنون جبل التوباد– فيقول:
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآنا ألوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين
ويعترف الجواهري بأن ظمأه الأبدي لا تجليه إلا دجلة، الأمر الذي يجعلنا نجزم أن هذا الظمأ هو من نوع آخر.. ظمأ الشوق والبعد والاغتراب وظمأ الظلم والحب والذكريات وظمأ الحرية:
يا دجلة الخير يا نبعا أفارقه على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية نبعا فنبعا فما كانت لترويني
ويزيد عطش الجواهري إلى الأرض والحنين إلى الماء حتى يغلبه الغياب عن اللحظة الحياتية ويدخل عالم اللاوعي لنجده يتمنى أن تكون دجلة بعمقها قبره, وشراع قاربها الذي تلعب به الرياح -مثله مثل مصير الشاعر في اغترابه- كفنه، ويقول:
وأنت يا قاربا تلوي الرياح به ليّ النسائم أطراف الأفانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني يحاك منه غداة البين, يطويني
ولا نجد مبررا لهذا الإصرار على التوحد مع كل مفردات دجلة سوى غلبة اليأس على أمل لقاء الحبيبة أو إحساس الجواهري الشديد بالألم والحسرة والخوف مما هو قادم حيث يقول:
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماح غير مضمون
وهذا اليأس السياسي الذي سكبه الجواهري شعرا لا يبعد أصابع الاتهام عن دجلة العاشق والمعشوق سليل أبي نواس المجنون الذي راهن ما ألبسته وخلعته عليه الملوك في شربة زق حيث يقول:
يا مستجم النواسي الذي لبست به الحضارة ثوبا وشي هارون
الغاسل الهم في ثغر وفي حبب والملبس العقل أزياء المجانين
والراهن السابري الخز في قدح والملهم الفن من لهو أفانين
يا سكتة الموت يا أطياف ساحرة يا خنجر الغدر يا أغصان زيتون
غير أنه تجريم ولوم من ولهان محب لا يلبث أن يمتطي صهوة المجد الممجد لمحبوبته وذكر محاسنها وأصلها الضارب في العمق، ليبث ألمه مع ألمها ومشاركته لها ما يعتريها من شحوب وما عليها من غبار صروف الدهر بل ما يخبئه لها آنذاك المستقبل-الحاضر:
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج متى التبغدد حتى في الدهاقين
يا أم تلك التي من ألف ليلتها للآن يعبق عطر في التلاحين
يا دجلة الخير ما يغليك من حنق يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني
ما إن تزال سياط البغي ناقعة في مائك الطهر بين الحين والحين
ووالغات خيول البغي مصبحة على القرى –آمنات- والدهاقين
ويأتي البيت التالي في شكل إجابة غريبة على سؤال ربما لم نقرأه لكننا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إن دجلة -المسجونة بالرصافة والكرخ وبأشياء أخرى- ربما أسرت بمعاناتها لشاعرها بلغة لا نفهمها نحن ليقول:
يا دجلة الخير أدري بالذي طفحت به مجاريك من فوق إلى دون
أدري على أي قيثار قد انفجرت أنغامك السمر عن أنات محزون
أدري بأنك من ألف مضت هدرا للآن تهزين من حكم السلاطين
تهزين من خصب جنات منثرة على الضفاف ومن بؤس الملايين
تهزين من عتقاء يوم ملحمــة أضفوا دروع مطاعيم مطاعين
الضارعين لأقدار تحل بهــم كما تلوى ببطن الحوت ذو النون
يرون سود الرزايا في حقيقتها ويفزعون إلى حدس وتخمين
يا دجلة الخير والدنيا مفارقـة وأي شر بخير غير مقرون
لعل يوما عصوفا جارفا عرسا آت فترضيك عقبان وترضيني
وعلينا أن نسأل هنا هل لدى الشاعر قوة حدس وبعد سياسي يختزل الزمن ويمتلك القدرة على صياغة أحداث المستقبل كما هي قبل أن تقع؟ لماذا أسر الجواهري لدجلة بما نعيشه الآن في شكل خوف وتوجس وتعميم لم نفهمه أو بالأحرى لم ندركه، إلا بعد أن عايشنا الحرب وما يحدث الآن؟
وربما كان بيته التالي فيه توضيح لهذا السؤال حينما يشرح أن الشعر ليس سوى بعض قراءة للغيبيات والأقدار منذ الأزل:
يا دجلة الخير كان الشعر مذ رسمت كف الطبيعة لوحا سفر تكوين
وفي هذه الرحلة مع الشاعر الخالد بنهره والنهر الخالد بشاعره ومنابعه ومصابه لا ننسى أن هناك أيضا نوعا من الحب لمخلوقات ذلك النهر لدى الجواهري الذي تكلم حتى عن ضفادع دجلة، واصفا نقيقها بمراسيل مشفرة بين العاشقين قائلا في قصيدة أخرى:
سلام على جاعلات النقيق على الشاطئين بريد الهوى
لعنتن من صبية لا تشيخ ومن شيخة دهرها تصطفى
ولئن فاق الجواهري بمذاق العصر, وفتنة المغايرة, والقدرة الفذة على إبداع الصورة الشعرية في منمنماتها، وتنويعاتها الإيقاعية، وبنَفَس شعري هو الأبعد مدى وغاية بالنسبة لأقرانه الكبار من شعراء العصر فلقد سبقه في هذا العشق لدجلة ولبغداد ابن زريق عندما يهيم وهو بعيد بقمر دجلة المتراقص على وجهها:
أستودع الله في بغداد لي قمرًا بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه.
________________________
*منقول من موقع ( الجزيرة )
*الشاعر محمد مهدي الجواهري : شاعر عراقي معاصر توفي في المنفى منذ عامين تقريبًا .
تعليق