الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد استيقن الآن المرتابون في سقوط نظام بغداد اللاهثون خلف سراب الأحلام أن نظام بغداد ولّى لن يعود، وأن الحربَ قد وضعت أوزارها ـ أعني الحرب بين حزب البعث وجيش التحالف.
ولكن عليهم ألا تبهتهم هذه الحقيقة المفاجئة فتنسيهم حقائقَ أخرى أهمَّ منها بكثير.
أما الحقيقة الأولى:
أن المحنة اليوم بعد سقوط نظام بغداد هي أشدُّ منها قبل سقوطه، وأن الفتنة اليوم أكبرُ منها بالأمس خلافاً لما يبدو للنظرة القريبة ، لأن هذا الاحتلال السريع يُدني العدو من غاياته، ويُغريه أكثر بالإصرار على تحقيق مخططاته، وسيزيد ـ ولا شك ـ من طغيانه وتسلُّطِه، ويجعله يمعن أكثر في احتقار الشعوب الإسلامية واستذلالها، فتزدادُ هيبتُه في قلوبها، وتحني له هامتها، وتضعف مقاومتها، ويهزمها اليأس.
ومن هنا كان هذا الاحتلال الذي لم تطل مقاومته فتنةً للغالب المستكبر، وللمغلوب المستضعف.
إن المحنة اليوم على المسلمين أشدُّ؛ لأن الحرب وإن سكنت في العراق، فها هو العدو يُوقد لها ناراً في بلد إسلاميٍ آخر، تبدو الحرب عليه في صورة أخرى مغايرة.
وإذا كان الواقع كذلك، فإن من الأمر العجَبِ أن تخفُتَ أصواتُنا في الدعاء على التحالف الصليبي، وأن يفتُر تأميننا عليه، وكأن المسألة قد حُسمتْ وانتهتْ في أول مراحلها. وكأن النصر في أول مراحل المعركة يضمن الانتصار في أواخرها.
وأعظم الخطر؛ أن يُحدِق بك الخطرُ من كل جانب وأنت لا تشعُر به، أو تظُن أنه قد ذهب عنك، فترجع إلى حياة اللهو واللعب، مطمئناً بضمانة السلامة، متوهِّماً زوال المحنة.
فينبغي أن نعي أن الحرب في مراحلها المختلفة: لا يلزم أن تقع في صور متشابهة يحويها أسلوب واحد.
إن صورة الحرب على كل بلد تتشكل بما يناسبه، فهي على بعض البلاد حربٌ عسكرية، وعلى بلد آخر حرب اقتصادية، وعلى آخر حرب سياسية نفسية.
ولذا فليس بالضرورة أن تكون المرحلة القادمة لحرب التحالف الصليبي على الإسلام كما وقعت في العراق، فواقع العراق فرض الحربَ العسكريةَ لأجل الإطاحة بنظامٍ مرد على العصيان، ثم الاستيلاء على حقول النفط.
أما المرحلة التالية فليس التحالف ـ فيما يبدوـ بحاجة إلى كل هذا، فيكفيه أن يلوِّح بالتهديد بالقوة على باقي الدول، و يمارس ضغوطاً سياسيةً واقتصادية؛ لفرض الهيمنة والوصاية عليها، ومن ثَمَّ القضاء على كل نظامٍ أو فكرٍ يعزز المدَّ الحركي للإسلام، أو نشاطٍ يهدد أمن إسرائيل.
وخطرُ هذه المرحلة يأتي في إحداث التغيير في المجتمعات الإسلامية بوصاية العدو من غير أن يشعر الناس بذلك، وهو التغيير بعد التخدير، وأن يُسوَّغ التغيير بحِيَلٍ وبواعث تنطلي على الناس، وقد يستحسنونها، فيطاوعون على التغيير وهم يظنون أن ذلك لا يمس جوهر الإسلام ولا ثوابته.
ولذا تستدعي هذه المرحلة مزيداً من الحيطة والحذر، والعمل، والمقاومة المنضبطة بالحكمة، ومراعاة المصلحة.
الحقيقة الثانية:
إذا كانت الحرب تختلف صورها وتتنوع أساليبها، فإن المقاومةَ هي الأخرى تختلف صورها تبعاً لاختلاف أساليب الحرب وصورها. فلكل حربٍ ما يناسبها من صور المقاومة.
إن المقاومة لا تعني بالضرورة المواجهةَ العسكرية لجيش العدو؛ لأنك أحياناً قد لا ترى العدو أمامك، وقد لا يكون لك قِبَلٌ به ولا طاقة.
فمعنى المقاومة إذن تخرج من مجرد المواجهة إلى الأخذ بجميع الأسباب التي تمنع العدو أن يصل إلى أطماعه في بلاد المسلمين، أو يفرض عليهم وصايته.
إن المقاومة تعني في أول ما تعنيه: حياطةَ الدين ومبادئه وقيمِه من كيد الأعداء أن يبدلوا منه شيئاً، أو يحرِّفوه، أو يُقصوه، أو يُحجِّموه.
كما تعني حفظَ البلد وثرواته من الاستعمار والنهب والاستيلاء، وهي تفرض على الأمة مزيداً من التواصي والتعاون على سدِّ كل ثغرةٍ قد يتسلل من خلالها العدوُ إلى التدخل في شئون البلاد الداخلية؛ لتغيير نُظُمِها التي لا تخلو من النظم الشرعية.
ومزيداً من التواصي على تربية المجتمع على عقيدة الإسلام وقيمه، وعلى بنائه فكرياً واقتصادياً وأمنياً؛ ليصبح قادراً على التمنع والمقاومة. والمجتمع الذي اعتاد حياة الترف واللعب والكسل والخنوع لا يقوى على مقاومة إغراء الشهوات والملذات، فكيف بمقاومة عدوٍ يملك أقوى عتاد!
إن المقاومة قد تُجدي ـ أحياناً ـ بالمواجهة في ساحة المعركة، ولكن في حين آخر وفي منطقة أخرى قد تكون المقاومةُ بتحامي المواجهة والمصادمة إلى صور أخرى هي أجدى من المواجهة نفسها، تُفوِّت على العدو فرصة التدخل والوصاية.
وكل ذلك مشروطٌ بألا يكون فيه مساومةٌ على الدين، ولا تضحيةٌ بقيمه، ونُظُمِه، ومبادئه.
وكما أن للحرب سبعين حيلةٌ، فللمقاومة سبعون مثلها.
المهم أن نستشعر الخطرَ المحدِقَ بنا، وأن تجتمع كلمتنا وقوتنا، وأن نستنفرَ مجتمعاتِنا وجهودَنا لمقاومته، وأن نوظِّف هذه الكراهية التي نجدها من الناس على أمريكا في أعمالٍ إيجابية تعزز لمقاومة وتُنوِّع طرقها، وأن نُذكي نارَ هذه الكراهيةِ والبغضاء ضدها، كلما خبت زدناها سعيراً.
وفي سبيل مقاومة هذه الحملة الصليبية على بلاد المسلمين: فإن من مقتضيات المرحلة أن تختفي كل صور الاختلاف والعداوة وإن كانت حقاً لتبرز في الساحة عداوةُ التحالف الصليبي وحدها، فهو التحالف الذي يأتمِرُ بأمر اليهود، ولا يني في تحقيق رغبات إسرائيل عدو المسلمين جميعاً.
فليست أمريكا إلا عجلةٌ كبيرةٌ تديرها عجلةٌ صغيرةٌ تُسمى إسرائيل، فهي أكبر منتفع من هذه الحرب على بلاد المسلمين، وربما كان انتفاعها من هذه الحرب أكبر من انتفاع أمريكا نفسِها.
الحقيقة الثالثة:
لقد وضعت الحرب أوزارها...حربُ التحالفِ الصليبي على حزب البعث، ولكنَّ حربَهم على الإسلام لا تزال قائمةً يشُنّونها تحت شعار (مكافحة الإرهاب)، فهي حرب طويلة لا تنتهي بإسقاط رمزٍ أو دولةٍ، فالإسلام الذي يخشونه ليس حزباً محدود الأعضاء، ولا نظاماً يحصره بلد، حتى يكون بقاؤه مرهوناً ببقاء رمز أو دولة.
إن الحرب على الإسلام ستطول؛ لأن وجوده متجذِّر في القلوب، ممتد في أقطار الأرض، له سحره الأخّاذ، وتأثيره العجيب، تنتمي إليه شعوب كثيرة مختلفة الأعراق واللغات.
ولكن أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟ هذا السؤال هو أحد الأسئلة المهمة التي لا ينبغي أن يغيب جوابُها عن الأذهانِ في هذه الأيام.
إنه ـ ولا شك ـ الإسلام الحركي العملي الذي يحكم الحياة ويصرِّفها، ويهيمن على نظمها، ويحيل العقائد المستكنّة في القلوب واقعاً ملموساً في الحياة... الإسلام الذي يستحيي عقيدة الولاء والبراء في القلوب؛ لتنطلق منها وشيجة الأخوة الإيمانية بين أتباعه، وتقيمَ بينهم رابطةً أقوى وأسمى من الرابطة القومية والوطنية والعرقية والإقليمية.
إنه الإسلام الذي يُعلِّمُ أهله أن إعداد القوة فريضة، وأنّ مقاومة الاستعمار جهادٌ مقدس، وأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نفاقٌ مخرجٌ من الملة، وصورة من أكبر صور الخيانة للأمة.
هذا هو الإسلام الذي يحذره الغرب، وتحاربه أمريكا اليوم.
أما التدين الشخصي الذي لا يحدث في الواقع تغييراً، ولا يجاوز حدودَ الشعائر التعبُّدية؛ كالصلاة والصوم والحج، فهم لا يحاربونه إن لم يكونوا يؤيدونه، ويودّون لو لم يفهم المسلمون من الإسلام إلا هذا التدين الشخصي، ونحن لا نشك بأنه تدينٌ واجبٌ مهمٌ، لكن لا يجوز أن نختصرَ الإسلام فيه.
والذين يقصرون الإسلام على هذه الشعائر التعبدية هم وحدهم الذين يتوهمون أن أمريكا لا تحارب الإسلام. وليس بمستغرَب عليهم هذا التوهم ما دام أنهم لم يخرجوا في فهم الإسلام وتطبيقه عن صورته المختزلة في بعض الطقوس، وهو الإسلام الذي لا تعارضه أمريكا إن لم تكن تؤيده؛ لأنه لا يهدد مصالحها، ولا يقاوم استعمارها.
ومع أن محاربتهم للإسلام نراه واقعاً ملموساً فيجب علينا أن نوقن إيقانَنا به أن الله ناصر دينه ومتم نوره، وأن الله يقيض لدينه أنصاراً يحوطونه ويدافعون عنه إذا تخلينا عن حمل رسالته والدفاع عنه، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) {التوبة:32}، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) {الطارق:15،16}
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ){لأنفال: من الآية30}، ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ){محمد: من الآية38}.
الحقيقة الرابعة:
لم يعد خافياً على أحد أن من أهم الأهداف التي تسعى أمريكا لتحقيقها في حربها هذه ـ والتي توالت فصولها في تسارع شديد ـ هو حماية إسرائيل من كل ما يهددها، وضمان مصالحها في المنطقة.
يدفعها لهذا معتقداتٌ دينية واضحةٌ، تُضفي على حربها مسحةَ الدين ولَبوس الصليب.
ولا ينافي كونها صليبية أن يوجد في الغرب من يعارض هذه الحرب، إما لدوافع إنسانية أو لمصالح خاصة، كما يوجد من المسلمين من يتخلف عن الجهاد أو يعارضه في توقيته أو طريقته، فلا يسلبه هذا أن يسمى جهاداً.
فليس من شرط الحروب الدينية أن يُحشَر أهل الملة كلُّهم فيها، فما قامت الحملات الصليبية إلا من بعض النصارى، ومع ذلك فالغرب والشرق لا يختلفون في تسميتها حرباً صليبية.
ولا ينفي كونها صليبية أن يكون لها دوافع اقتصادية وإغراءات دنيوية، فاجتماع الدوافع الدينية والدنيوية لا يعود على أحدهما بالإلغاء، وكم اجتمعت الدوافع المختلفة في أمثلةٍ كثيرة.
ويظن بعض الأحبة أن الخلاف في هذا خلاف لفظيٌ لا يُغيّر من الواقع شيئاً، ولو كان كذلك لما سارع بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية إلى نفي أن تكون الحرب على الإرهاب حرباً صليبية بعد أن تفوَّه بها رئيسهم في بداية حربهم على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب.
إننا محتاجون أن نؤكد هذه الحقيقة حتى يستشعر الناس أن خطر هذه الحرب أول ما يَرِدُ يرِدُ على دينهم ويقصد عقيدتَهم، وبالأخص ما يستحيل واقعاً حركياً يغيِّر حياتهم.
وحتى يعلم الناس أن هذه الحرب القائمة على دوافع دينية لا يصح أن تقاوم إلا بدوافع دينية أيضاً، وأن التخلف عن مقاومة هذه الحرب بأي صورة من صور المقاومة يقع في دائرة التخلف عن الجهاد.
وهذه الحقيقةُ لا تدعو ولا تحرِّضُ على استعجال المواجهة، وإنما تحذر من التباطؤ والتثاقل في المقاومة (التي تسمى في الشريعةِ بجهاد الدفع).
الحقيقة الخامسة:
لم يعد يجدينا الآن اجترارُ الكلام في ذم نظام حزب البعث، ولا الاسترسالُ في تعدادِ جرائمه، فقد أصبح اليوم فعلاً ماضياً ونسياً منسياً.
لنترك هذا العمل الصغير للمتأمركين العرب مثقفين وكُتَّاباً الذين لم يُبدوا أي امتعاضٍ لاحتلال قوات التحالف أرضَ العراق، ولم تؤثر فيهم صور المأساة هناك.
لقد وجدناهم يتشاغلون عن إدانة جرائم الاحتلال وكشفِ أهدافه ونواياه، بل ويتغاضون عن كل ذلك عمداً، ويتحايلون عن ذلك بممارسة اجترارِ الكلام في نظام ولى وصار في خبر كان، ويسترسلون في استعادة الذاكرة لتعداد جرائمه التي كانوا -هم أنفسهم- لا يجرؤون أن يذكروها في حينها؛ لأن سيدتهم أمريكا تباركها.
فهم يُبدِئون الكلام ويعيدونه في استبداد نظام بغداد وطغيانه ربما تسويغاً للاحتلال وعملاً في تحسين صورته لدى قرائهم ومتابعيهم.
فالذي يجدي الآن ويتعين علينا هو التوجه إلى تعرية التحالف الصليبي، وفضحِ مخططاته، وكشف جرائمه؛ حتى يظهر للناس في صورته الحقيقة التي تشوهُ في كل عين ناظرة.
والإسهام في هذا لا يختص بالمثقفين ولا المفكرين ولا العلماء، إنه الإسهامُ السهل الذي لا يُعجز أحداً يستطيع أن يعمل.
فمثلاً: في استطاعة الشاب الصغير -الذي لا يحسن قراءة الأحداث ولا متابعتها- باستطاعته أن يتعرف على جرائم أمريكا وحلفائها من خلال آثار الدمار والقتل والنهب الذي خلفته حرب التحرير الموهوم.
ولن يعجَزَ مثل هذا الشاب ذي القدرات البسيطة أن يجمعَ صورها، ويجعلها وثائق لإدانة سياسة أمريكا، وتأليبِ الناس عليها، وتحريكِ كراهيتَهم لها كلما سكنت، وتذكيرهم بجرائمهم كلما نسوها؛ لعل ذلك أن يحرضهم على مزيدٍ من مقاومتها، ويدفعهم ـ أيضاً ـ إلى أن يتداعوا إلى إغاثة إخوانهم المكلومين هناك بكل سخاء.
هذا مثال واحد يدل على أن الإسهام في هذا المشروع الجليل لا يُعجز أحداً قادراً على العمل.
أسأل الله أن يجعل لنا ولإخواننا من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
فقد استيقن الآن المرتابون في سقوط نظام بغداد اللاهثون خلف سراب الأحلام أن نظام بغداد ولّى لن يعود، وأن الحربَ قد وضعت أوزارها ـ أعني الحرب بين حزب البعث وجيش التحالف.
ولكن عليهم ألا تبهتهم هذه الحقيقة المفاجئة فتنسيهم حقائقَ أخرى أهمَّ منها بكثير.
أما الحقيقة الأولى:
أن المحنة اليوم بعد سقوط نظام بغداد هي أشدُّ منها قبل سقوطه، وأن الفتنة اليوم أكبرُ منها بالأمس خلافاً لما يبدو للنظرة القريبة ، لأن هذا الاحتلال السريع يُدني العدو من غاياته، ويُغريه أكثر بالإصرار على تحقيق مخططاته، وسيزيد ـ ولا شك ـ من طغيانه وتسلُّطِه، ويجعله يمعن أكثر في احتقار الشعوب الإسلامية واستذلالها، فتزدادُ هيبتُه في قلوبها، وتحني له هامتها، وتضعف مقاومتها، ويهزمها اليأس.
ومن هنا كان هذا الاحتلال الذي لم تطل مقاومته فتنةً للغالب المستكبر، وللمغلوب المستضعف.
إن المحنة اليوم على المسلمين أشدُّ؛ لأن الحرب وإن سكنت في العراق، فها هو العدو يُوقد لها ناراً في بلد إسلاميٍ آخر، تبدو الحرب عليه في صورة أخرى مغايرة.
وإذا كان الواقع كذلك، فإن من الأمر العجَبِ أن تخفُتَ أصواتُنا في الدعاء على التحالف الصليبي، وأن يفتُر تأميننا عليه، وكأن المسألة قد حُسمتْ وانتهتْ في أول مراحلها. وكأن النصر في أول مراحل المعركة يضمن الانتصار في أواخرها.
وأعظم الخطر؛ أن يُحدِق بك الخطرُ من كل جانب وأنت لا تشعُر به، أو تظُن أنه قد ذهب عنك، فترجع إلى حياة اللهو واللعب، مطمئناً بضمانة السلامة، متوهِّماً زوال المحنة.
فينبغي أن نعي أن الحرب في مراحلها المختلفة: لا يلزم أن تقع في صور متشابهة يحويها أسلوب واحد.
إن صورة الحرب على كل بلد تتشكل بما يناسبه، فهي على بعض البلاد حربٌ عسكرية، وعلى بلد آخر حرب اقتصادية، وعلى آخر حرب سياسية نفسية.
ولذا فليس بالضرورة أن تكون المرحلة القادمة لحرب التحالف الصليبي على الإسلام كما وقعت في العراق، فواقع العراق فرض الحربَ العسكريةَ لأجل الإطاحة بنظامٍ مرد على العصيان، ثم الاستيلاء على حقول النفط.
أما المرحلة التالية فليس التحالف ـ فيما يبدوـ بحاجة إلى كل هذا، فيكفيه أن يلوِّح بالتهديد بالقوة على باقي الدول، و يمارس ضغوطاً سياسيةً واقتصادية؛ لفرض الهيمنة والوصاية عليها، ومن ثَمَّ القضاء على كل نظامٍ أو فكرٍ يعزز المدَّ الحركي للإسلام، أو نشاطٍ يهدد أمن إسرائيل.
وخطرُ هذه المرحلة يأتي في إحداث التغيير في المجتمعات الإسلامية بوصاية العدو من غير أن يشعر الناس بذلك، وهو التغيير بعد التخدير، وأن يُسوَّغ التغيير بحِيَلٍ وبواعث تنطلي على الناس، وقد يستحسنونها، فيطاوعون على التغيير وهم يظنون أن ذلك لا يمس جوهر الإسلام ولا ثوابته.
ولذا تستدعي هذه المرحلة مزيداً من الحيطة والحذر، والعمل، والمقاومة المنضبطة بالحكمة، ومراعاة المصلحة.
الحقيقة الثانية:
إذا كانت الحرب تختلف صورها وتتنوع أساليبها، فإن المقاومةَ هي الأخرى تختلف صورها تبعاً لاختلاف أساليب الحرب وصورها. فلكل حربٍ ما يناسبها من صور المقاومة.
إن المقاومة لا تعني بالضرورة المواجهةَ العسكرية لجيش العدو؛ لأنك أحياناً قد لا ترى العدو أمامك، وقد لا يكون لك قِبَلٌ به ولا طاقة.
فمعنى المقاومة إذن تخرج من مجرد المواجهة إلى الأخذ بجميع الأسباب التي تمنع العدو أن يصل إلى أطماعه في بلاد المسلمين، أو يفرض عليهم وصايته.
إن المقاومة تعني في أول ما تعنيه: حياطةَ الدين ومبادئه وقيمِه من كيد الأعداء أن يبدلوا منه شيئاً، أو يحرِّفوه، أو يُقصوه، أو يُحجِّموه.
كما تعني حفظَ البلد وثرواته من الاستعمار والنهب والاستيلاء، وهي تفرض على الأمة مزيداً من التواصي والتعاون على سدِّ كل ثغرةٍ قد يتسلل من خلالها العدوُ إلى التدخل في شئون البلاد الداخلية؛ لتغيير نُظُمِها التي لا تخلو من النظم الشرعية.
ومزيداً من التواصي على تربية المجتمع على عقيدة الإسلام وقيمه، وعلى بنائه فكرياً واقتصادياً وأمنياً؛ ليصبح قادراً على التمنع والمقاومة. والمجتمع الذي اعتاد حياة الترف واللعب والكسل والخنوع لا يقوى على مقاومة إغراء الشهوات والملذات، فكيف بمقاومة عدوٍ يملك أقوى عتاد!
إن المقاومة قد تُجدي ـ أحياناً ـ بالمواجهة في ساحة المعركة، ولكن في حين آخر وفي منطقة أخرى قد تكون المقاومةُ بتحامي المواجهة والمصادمة إلى صور أخرى هي أجدى من المواجهة نفسها، تُفوِّت على العدو فرصة التدخل والوصاية.
وكل ذلك مشروطٌ بألا يكون فيه مساومةٌ على الدين، ولا تضحيةٌ بقيمه، ونُظُمِه، ومبادئه.
وكما أن للحرب سبعين حيلةٌ، فللمقاومة سبعون مثلها.
المهم أن نستشعر الخطرَ المحدِقَ بنا، وأن تجتمع كلمتنا وقوتنا، وأن نستنفرَ مجتمعاتِنا وجهودَنا لمقاومته، وأن نوظِّف هذه الكراهية التي نجدها من الناس على أمريكا في أعمالٍ إيجابية تعزز لمقاومة وتُنوِّع طرقها، وأن نُذكي نارَ هذه الكراهيةِ والبغضاء ضدها، كلما خبت زدناها سعيراً.
وفي سبيل مقاومة هذه الحملة الصليبية على بلاد المسلمين: فإن من مقتضيات المرحلة أن تختفي كل صور الاختلاف والعداوة وإن كانت حقاً لتبرز في الساحة عداوةُ التحالف الصليبي وحدها، فهو التحالف الذي يأتمِرُ بأمر اليهود، ولا يني في تحقيق رغبات إسرائيل عدو المسلمين جميعاً.
فليست أمريكا إلا عجلةٌ كبيرةٌ تديرها عجلةٌ صغيرةٌ تُسمى إسرائيل، فهي أكبر منتفع من هذه الحرب على بلاد المسلمين، وربما كان انتفاعها من هذه الحرب أكبر من انتفاع أمريكا نفسِها.
الحقيقة الثالثة:
لقد وضعت الحرب أوزارها...حربُ التحالفِ الصليبي على حزب البعث، ولكنَّ حربَهم على الإسلام لا تزال قائمةً يشُنّونها تحت شعار (مكافحة الإرهاب)، فهي حرب طويلة لا تنتهي بإسقاط رمزٍ أو دولةٍ، فالإسلام الذي يخشونه ليس حزباً محدود الأعضاء، ولا نظاماً يحصره بلد، حتى يكون بقاؤه مرهوناً ببقاء رمز أو دولة.
إن الحرب على الإسلام ستطول؛ لأن وجوده متجذِّر في القلوب، ممتد في أقطار الأرض، له سحره الأخّاذ، وتأثيره العجيب، تنتمي إليه شعوب كثيرة مختلفة الأعراق واللغات.
ولكن أيُّ إسلامٍ هذا الذي يعلنون الحرب عليه؟ هذا السؤال هو أحد الأسئلة المهمة التي لا ينبغي أن يغيب جوابُها عن الأذهانِ في هذه الأيام.
إنه ـ ولا شك ـ الإسلام الحركي العملي الذي يحكم الحياة ويصرِّفها، ويهيمن على نظمها، ويحيل العقائد المستكنّة في القلوب واقعاً ملموساً في الحياة... الإسلام الذي يستحيي عقيدة الولاء والبراء في القلوب؛ لتنطلق منها وشيجة الأخوة الإيمانية بين أتباعه، وتقيمَ بينهم رابطةً أقوى وأسمى من الرابطة القومية والوطنية والعرقية والإقليمية.
إنه الإسلام الذي يُعلِّمُ أهله أن إعداد القوة فريضة، وأنّ مقاومة الاستعمار جهادٌ مقدس، وأن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين نفاقٌ مخرجٌ من الملة، وصورة من أكبر صور الخيانة للأمة.
هذا هو الإسلام الذي يحذره الغرب، وتحاربه أمريكا اليوم.
أما التدين الشخصي الذي لا يحدث في الواقع تغييراً، ولا يجاوز حدودَ الشعائر التعبُّدية؛ كالصلاة والصوم والحج، فهم لا يحاربونه إن لم يكونوا يؤيدونه، ويودّون لو لم يفهم المسلمون من الإسلام إلا هذا التدين الشخصي، ونحن لا نشك بأنه تدينٌ واجبٌ مهمٌ، لكن لا يجوز أن نختصرَ الإسلام فيه.
والذين يقصرون الإسلام على هذه الشعائر التعبدية هم وحدهم الذين يتوهمون أن أمريكا لا تحارب الإسلام. وليس بمستغرَب عليهم هذا التوهم ما دام أنهم لم يخرجوا في فهم الإسلام وتطبيقه عن صورته المختزلة في بعض الطقوس، وهو الإسلام الذي لا تعارضه أمريكا إن لم تكن تؤيده؛ لأنه لا يهدد مصالحها، ولا يقاوم استعمارها.
ومع أن محاربتهم للإسلام نراه واقعاً ملموساً فيجب علينا أن نوقن إيقانَنا به أن الله ناصر دينه ومتم نوره، وأن الله يقيض لدينه أنصاراً يحوطونه ويدافعون عنه إذا تخلينا عن حمل رسالته والدفاع عنه، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) {التوبة:32}، (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) {الطارق:15،16}
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ){لأنفال: من الآية30}، ( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ){محمد: من الآية38}.
الحقيقة الرابعة:
لم يعد خافياً على أحد أن من أهم الأهداف التي تسعى أمريكا لتحقيقها في حربها هذه ـ والتي توالت فصولها في تسارع شديد ـ هو حماية إسرائيل من كل ما يهددها، وضمان مصالحها في المنطقة.
يدفعها لهذا معتقداتٌ دينية واضحةٌ، تُضفي على حربها مسحةَ الدين ولَبوس الصليب.
ولا ينافي كونها صليبية أن يوجد في الغرب من يعارض هذه الحرب، إما لدوافع إنسانية أو لمصالح خاصة، كما يوجد من المسلمين من يتخلف عن الجهاد أو يعارضه في توقيته أو طريقته، فلا يسلبه هذا أن يسمى جهاداً.
فليس من شرط الحروب الدينية أن يُحشَر أهل الملة كلُّهم فيها، فما قامت الحملات الصليبية إلا من بعض النصارى، ومع ذلك فالغرب والشرق لا يختلفون في تسميتها حرباً صليبية.
ولا ينفي كونها صليبية أن يكون لها دوافع اقتصادية وإغراءات دنيوية، فاجتماع الدوافع الدينية والدنيوية لا يعود على أحدهما بالإلغاء، وكم اجتمعت الدوافع المختلفة في أمثلةٍ كثيرة.
ويظن بعض الأحبة أن الخلاف في هذا خلاف لفظيٌ لا يُغيّر من الواقع شيئاً، ولو كان كذلك لما سارع بعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية إلى نفي أن تكون الحرب على الإرهاب حرباً صليبية بعد أن تفوَّه بها رئيسهم في بداية حربهم على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب.
إننا محتاجون أن نؤكد هذه الحقيقة حتى يستشعر الناس أن خطر هذه الحرب أول ما يَرِدُ يرِدُ على دينهم ويقصد عقيدتَهم، وبالأخص ما يستحيل واقعاً حركياً يغيِّر حياتهم.
وحتى يعلم الناس أن هذه الحرب القائمة على دوافع دينية لا يصح أن تقاوم إلا بدوافع دينية أيضاً، وأن التخلف عن مقاومة هذه الحرب بأي صورة من صور المقاومة يقع في دائرة التخلف عن الجهاد.
وهذه الحقيقةُ لا تدعو ولا تحرِّضُ على استعجال المواجهة، وإنما تحذر من التباطؤ والتثاقل في المقاومة (التي تسمى في الشريعةِ بجهاد الدفع).
الحقيقة الخامسة:
لم يعد يجدينا الآن اجترارُ الكلام في ذم نظام حزب البعث، ولا الاسترسالُ في تعدادِ جرائمه، فقد أصبح اليوم فعلاً ماضياً ونسياً منسياً.
لنترك هذا العمل الصغير للمتأمركين العرب مثقفين وكُتَّاباً الذين لم يُبدوا أي امتعاضٍ لاحتلال قوات التحالف أرضَ العراق، ولم تؤثر فيهم صور المأساة هناك.
لقد وجدناهم يتشاغلون عن إدانة جرائم الاحتلال وكشفِ أهدافه ونواياه، بل ويتغاضون عن كل ذلك عمداً، ويتحايلون عن ذلك بممارسة اجترارِ الكلام في نظام ولى وصار في خبر كان، ويسترسلون في استعادة الذاكرة لتعداد جرائمه التي كانوا -هم أنفسهم- لا يجرؤون أن يذكروها في حينها؛ لأن سيدتهم أمريكا تباركها.
فهم يُبدِئون الكلام ويعيدونه في استبداد نظام بغداد وطغيانه ربما تسويغاً للاحتلال وعملاً في تحسين صورته لدى قرائهم ومتابعيهم.
فالذي يجدي الآن ويتعين علينا هو التوجه إلى تعرية التحالف الصليبي، وفضحِ مخططاته، وكشف جرائمه؛ حتى يظهر للناس في صورته الحقيقة التي تشوهُ في كل عين ناظرة.
والإسهام في هذا لا يختص بالمثقفين ولا المفكرين ولا العلماء، إنه الإسهامُ السهل الذي لا يُعجز أحداً يستطيع أن يعمل.
فمثلاً: في استطاعة الشاب الصغير -الذي لا يحسن قراءة الأحداث ولا متابعتها- باستطاعته أن يتعرف على جرائم أمريكا وحلفائها من خلال آثار الدمار والقتل والنهب الذي خلفته حرب التحرير الموهوم.
ولن يعجَزَ مثل هذا الشاب ذي القدرات البسيطة أن يجمعَ صورها، ويجعلها وثائق لإدانة سياسة أمريكا، وتأليبِ الناس عليها، وتحريكِ كراهيتَهم لها كلما سكنت، وتذكيرهم بجرائمهم كلما نسوها؛ لعل ذلك أن يحرضهم على مزيدٍ من مقاومتها، ويدفعهم ـ أيضاً ـ إلى أن يتداعوا إلى إغاثة إخوانهم المكلومين هناك بكل سخاء.
هذا مثال واحد يدل على أن الإسهام في هذا المشروع الجليل لا يُعجز أحداً قادراً على العمل.
أسأل الله أن يجعل لنا ولإخواننا من كل هَمٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .