الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إخوة الإسلام، حين تكثر الأزماتُ على الأمّة وتشتدّ عليها وطأة الحوادث فإنَّها تتلمّس طريقَ النصر، والذي ينبغي أن نعيشَ به دائماً مهما اشتدَّت المحن هو الثقةُ بنصر الله، وأنَّه آتٍ لا شكَّ فيه، قال : ((والله، ليتِمّنّ هذا الأمر)) أخرجه البخاري[1]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ [الأنعام:34]. وفي مكّة حيث الشدائد والأهوالُ ترى الرسولَ يذكّر أصحابَه بضرورة التحمّل والصبر، وفي نفس الوقتِ يطمئِنهم إلى المستقبل الزاهر للإسلام، ويبثّ الثّقةَ في نفوسهم، وأنَّ دينَهم سيُنير الدنيا من مشرقها إلى مغربِها؛ لتستقرَّ في الأعماق روح التفاؤل والاستبشار والأمَل، وأنَّ المجتمعات لا تسعَد إلا في ظلِّ هذه المعاني. ذلك أنَّ الهزيمة النفسيةَ مِن أنكى وأمرّ وأشدّ الهزائم خطراً على مستقبل الأمّة، وإنَّ واقع الذلّ والهوان هذا لا ينبغي أن يكونَ مسوِّغًا لليأس والقنوط.
إنَّ الثقةَ بنصر الله تولِّد السكينةَ في المحن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار، واقترَب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى شاهرِين سيوفَهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو أنَّ أحدَهم رفع قدمَه رآنا، فردّ عليه رسولنا بكل ثقة: ((ما ظنّك باثنَين اللهُ ثالثُهما)) أخرجه البخاري[2]. ثقةٌ بالله ونصرِه، يقينٌ برفع البلاء، شعورٌ بمعيَّة الله تعالى.
ومن قبلُ يقِف موسى وجنوده عند شاطئ البحر، فيقول بعضهم: إنَّ فرعونَ مِن ورائنا، والبحر من أمامِنا، فأين الخلاص؟! قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فيردّ نبي الله موسى عليه السلام في ثقة كاملةٍ بموعود الله: إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فكان بعدها النصرُ والتمكين.
حينَ ينظر الإنسان إلى المكر الكُبَّار الذي يُكاد للإسلام والمسلمين في عهودٍ متطاولة، قتلٌ وتشريدٌ وتعذيبٌ، ومع ذلك يبقى الإسلام صامدًا والإيمان قويًّا، حين ينظرُ المسلم إلى هذا الواقع لا يساوِره شكّ في تحقُّق نصر الله، وأنَّ المستقبل لهذا الدين ولو بعدَ حين، والمبشِّرات لهذا الدّين شرعًا وواقعًا أكثر من أن تُحصَى، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ فِى ٱلأَذَلّينَ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51].
عبادَ الله، إنَّ الدين محفوظٌ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [الحجر:9]، فلا تخشَ على الإسلام، ولكن اخشَ على نفسك وإيمانِك وثباتك، قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم [محمد:23].
إنَّ المبشِّرات بنصر الله لا تَعني تركَ العمَل والتواكُل والخلودَ إلى الدَّعة والكسَل، فنصرُ الله لا يتنزَّل على نفوسٍ لُوِّثت بالمعاصي، وقلوبٍ مستعبَدَة للشهوات، مدنَّسةٍ بالحِقد والغلِّ والحسَد، وأُخوَّةٍ دبّ فيها داء الفرقة والتنازع والتناحر والتمزّق، هذه سنّة الله التي يجِب أن نفقهَها ونتعامل معها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم كانوا موقنِين بالنصر، وكان وعد الله وَقودًا لمزيد عملٍ وعطاء، عبادةٌ وبَذل في سبيل الله وتضحية، يبذل أحدُهم مالَه كلَّه في سبيل الله قائلاً: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله[3]، قال تعالى: وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
قد يحصل أصحابُ الباطل على انتصارٍ مؤقَّت، لكن البناء الذي أُسِّس على قواعدَ فاسدةٍ لا بدَّ أن ينهار، ثمَّ تكون العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، قال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، وعندما هاجر رسول الله وعده الله بقوله: إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ [القصص:85]، فعاد إلى مكّة سالمًا غانمًا منتصرًا، وتحقّق وعد الله.
عبادَ الله، يُخطئ من يحصُر معنَى النصر في صورةٍ واحدة، ذلك أنَّ للنّصر مفهومًا أوسَع وصوَرًا أشمَل، فالذي يلتزم بالإسلام ويتغلّب على لذَّاتِه المحرَّمة ونفسِه الأمّارة بالسّوء يغدو منتصِراً. ومِن معاني النصرِ أن يلقى المسلم ربَّه وهو راضٍ عنه. ومن معاني النّصر الثباتُ على الدّين في المِحن والعزّة بالإيمان في المِحن، فإبراهيم عليه السلام ألقي في النّار بعدَ أن كشف زيفَ الباطل وثبَت على عقيدتِه، وكان هذا أنصارًا، قال تعالى: قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلأخْسَرِينَ [الأنبياء:69، 70].
سحرةُ فرعون هدّدهم بالقتل هدَّدهم بالتعذيب، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ [آل عمران:146]، وكان هذا نصرًا للعقيدة والدّين، قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـٰيَـٰنَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:50، 51].
الغلامُ المؤمن في قومِه ماتَ منتصرًا، فقد أحيى الله بموتِه أمّةً مِن النّاس حين آمنوا بالله ربِّ الغلام، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51].
يقول المفسِّرون: إنَّ الله سبحانه ينصُر رسلَه والمؤمنين به في الحياة الدنيا وإن اختلفت صورُ النصر، فمنهم من يمكِّنهم الله سبحانه حتى يظهَروا على عدوّه ويغلبوه وينتصروا عليه، ومِنهم من يعجِّل الله العذاب لأقوامِهم المكذّبين لهم، ومنهم من يسلّط الله عليه القتل، ومِنهم مَن يسلَّط عليهم بعد قتلهم أنبياءَهم من ينتقِم للأنبياءِ وينتصرُ لهم.
ويقول المفسِّرون: ولهذا أهلك الله عزَّ وجلّ قومَ نوح وعادٍ وثمود وأصحابَ الرسّ وقومَ لوط وأهلَ مدين وأشباههم وأحزابَهم ممّن كذّب الرسلَ وخالف الحقَّ، وأنجى الله تعالى مِن بينهم المؤمنين، فلم يُهلك منهم أحداً.
ويقول المفسِّرون: لم يبعث الله عزّ وجلّ رسولاً إلى قومه فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتَلون، فيذهب ذلك القَرن حتّى يبعثَ الله تبارك وتعالى لهم من ينصُرهم، فيطلب بدمائهم ممَّن فعَل ذلك في الدنيا، فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتَلون في الدنيا، وهم منصورون فيها. انتهى.
لقد كان الله سبحانه قادرًا أن يمنَح النصرَ لنبيِّه ولدعوته ولدينه منذ اللحظةِ الأولى مِن غزوة أحُد بلا كللٍ ولا ملل، بلا كلل من المؤمنين ولا عناء، ولكن المسألة ليسَت هي النصر فحَسب، إنّما هي التربية على الثبات، إنّما هي الصّبر على البلاء والشدّة، إنّما هي تزكية النّفوس وإصلاحها.
إنَّ إيمانَنا بأنَّ المستقبَل لهذا الدين يمنحُنا الأمَل الذي يدفعنا إلى العِلم والعمَل للوصول إلى النصر بترسيخ العقيدةِ والإخلاص في العبادة، وتصحيح معاملاتِنا، وسموّ أخلاقِنا، مع إعداد العدّة، وإذا ظلّ الإيمان ـ عبادَ الله ـ لم يتحقَّق في القلب ولم ترسَخ العقيدة في النّفوس فإنَّ الطغيان يغلِب والباطلَ ينتفش؛ لأنهما يملِكان قوَّة ماديّة.
إذا أراد المسلمون نصرَ الله فسبيل ذلك أن ينصُروا اللهَ أولاً في أنفسِهم، أن ينصروا اللهَ في أُسرِهم وبيوتِهم، أن ينصُروا لله في مجتمَعهم وفي معاملاتِهم، فيحكِّموا شرعَه ويطبِّقوا شريعتَه. إنَّك بهذا تهزِم عدوَّك نفسيًّا من داخِله باعتزازِك بدينك وثباتِك على منهجك والدعوةِ إلى الله، إنّه يريدك أن تكون من حزبِه، قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ [النساء:89]، وقال تعالى: فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الزخرف:43].
إخوةَ الإسلام، إنَّ أساسَ النّصر الحقيقيّ تحقيقُ العبوديّة في القلب والانتصار على النفس، قال تعالى: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، ولكنَّنا نُغلب حين نختلِف ونتنازَع فنفشل وتذهَب ريحنا، ونُهزَم حين تفسد النيات والمقاصِد، وتحلّ الدنيا في قلوبنا محلَّ الآخرة، قال تعالى: إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
لقد تحوّل نصرُ المؤمنين إلى هزيمةٍ في أحُد لمخالفةِ نفَرٍ من أصحاب رسول الله لأمرٍ من أوامِره دونَ قصدٍ منهم أو فسادٍ منهم، وكان الدّرس أليماً والعقاب قاسياً، ولذا لا تعجَب لِما حلّ بالمسلمين في هذه الأيّام العصيبَة من تمزيقِ الشّمل وذهابِ الشوكة، قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
لهذا كان عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه يقول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لمّا أمَّره على أحدِ الجيوش الإسلامية: (أمّا بعد: فإنِّي آمرُك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله في كلِّ حال، فإنّ تقوى الله أفضلُ العدّة على العدوّ وأقوى المكيدَة على الحرب، وآمرُك ومن مَعك أن تكونوا أشدّ احتراساً منكم من عدوِّكم، فإنَّ ذنوبَ الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم، وإنّما ينتصِر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوّة؛ لأنَّ عددَنا ليس كعددِهم، وعدّتنا ليست كعدَّتهم، فإن استوينَا في المعصيَة كان لهم الفضل علينا في القوّة، وإن لم نُنْصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوَّتنا، واعلموا أنَّ عليكم في سيركم حفظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا عدوّنا شرٌّ منّا فلن يسلَّط علينا، فربّ مسلَّط عليهم من هو شرّ منهم)[4]، ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً للجُند: (إنّكم لن تنتصِروا على عدوِّكم إلا بعدَ تقرّبكم من الله وبُعدِهم عنه، فإذا تساويتم ـ أي: في المعاصي ـ كانت الغلبَة لأكثرِكم عدّةً وعتادًا) انتهى كلامه رحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعَمه التي لا تعدّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الذي لا ينطِق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
قد تهتزّ بعض النفوس فتستبطئ نصرَ الله وتساوِرها شبهةٌ في خضَمّ الأحداث، يظنّون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية، لماذا يُصابُ الحقّ وينجو الباطِل؟ لماذا لا ينتصِر المسلمون؟! أسئلةٌ تتردَّد في أذهان من لا يفقهون سنّةَ الله تعالى في النّصر والهزيمة، ولا يفقَهون سنتَه في الابتلاء والمِحن، وأنَّ الأمورَ تجري بحِكمةٍ ولحكمة.
منها: أنَّ الله يُملي للباطل والظالم لينال أشدَّ العذاب بالاستحقاق، قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ومِن الحِكَم أنَّ الله يميز الخبيث من الطيِّب، ويعظم الأجرَ لمَن ابتُلي فصبَر كما قال تعالى: مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران:179].
ومِن الحِكم أن تتجرّد النفوس ويصفوَ الإيمان ويتميّزَ الصّفّ ويتماسَك المؤمنون، ويتماسك البنيان بين المؤمنين.
ومنها: أن يتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الأذى والصبرَ على المِحن، ويتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الهزيمة والصبرَ على النّصر، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ [آل عمران:140].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَ صلِّ وسلَم على عبدك ورسولك محمَّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إخوة الإسلام، حين تكثر الأزماتُ على الأمّة وتشتدّ عليها وطأة الحوادث فإنَّها تتلمّس طريقَ النصر، والذي ينبغي أن نعيشَ به دائماً مهما اشتدَّت المحن هو الثقةُ بنصر الله، وأنَّه آتٍ لا شكَّ فيه، قال : ((والله، ليتِمّنّ هذا الأمر)) أخرجه البخاري[1]، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِ [الأنعام:34]. وفي مكّة حيث الشدائد والأهوالُ ترى الرسولَ يذكّر أصحابَه بضرورة التحمّل والصبر، وفي نفس الوقتِ يطمئِنهم إلى المستقبل الزاهر للإسلام، ويبثّ الثّقةَ في نفوسهم، وأنَّ دينَهم سيُنير الدنيا من مشرقها إلى مغربِها؛ لتستقرَّ في الأعماق روح التفاؤل والاستبشار والأمَل، وأنَّ المجتمعات لا تسعَد إلا في ظلِّ هذه المعاني. ذلك أنَّ الهزيمة النفسيةَ مِن أنكى وأمرّ وأشدّ الهزائم خطراً على مستقبل الأمّة، وإنَّ واقع الذلّ والهوان هذا لا ينبغي أن يكونَ مسوِّغًا لليأس والقنوط.
إنَّ الثقةَ بنصر الله تولِّد السكينةَ في المحن، فعندما لجأ رسولنا إلى الغار، واقترَب الأعداء حتى كانوا قابَ قوسين أو أدنى شاهرِين سيوفَهم، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو أنَّ أحدَهم رفع قدمَه رآنا، فردّ عليه رسولنا بكل ثقة: ((ما ظنّك باثنَين اللهُ ثالثُهما)) أخرجه البخاري[2]. ثقةٌ بالله ونصرِه، يقينٌ برفع البلاء، شعورٌ بمعيَّة الله تعالى.
ومن قبلُ يقِف موسى وجنوده عند شاطئ البحر، فيقول بعضهم: إنَّ فرعونَ مِن ورائنا، والبحر من أمامِنا، فأين الخلاص؟! قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فيردّ نبي الله موسى عليه السلام في ثقة كاملةٍ بموعود الله: إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فكان بعدها النصرُ والتمكين.
حينَ ينظر الإنسان إلى المكر الكُبَّار الذي يُكاد للإسلام والمسلمين في عهودٍ متطاولة، قتلٌ وتشريدٌ وتعذيبٌ، ومع ذلك يبقى الإسلام صامدًا والإيمان قويًّا، حين ينظرُ المسلم إلى هذا الواقع لا يساوِره شكّ في تحقُّق نصر الله، وأنَّ المستقبل لهذا الدين ولو بعدَ حين، والمبشِّرات لهذا الدّين شرعًا وواقعًا أكثر من أن تُحصَى، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ فِى ٱلأَذَلّينَ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51].
عبادَ الله، إنَّ الدين محفوظٌ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [الحجر:9]، فلا تخشَ على الإسلام، ولكن اخشَ على نفسك وإيمانِك وثباتك، قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم [محمد:23].
إنَّ المبشِّرات بنصر الله لا تَعني تركَ العمَل والتواكُل والخلودَ إلى الدَّعة والكسَل، فنصرُ الله لا يتنزَّل على نفوسٍ لُوِّثت بالمعاصي، وقلوبٍ مستعبَدَة للشهوات، مدنَّسةٍ بالحِقد والغلِّ والحسَد، وأُخوَّةٍ دبّ فيها داء الفرقة والتنازع والتناحر والتمزّق، هذه سنّة الله التي يجِب أن نفقهَها ونتعامل معها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إنَّ الصحابةَ رضوان الله عليهم كانوا موقنِين بالنصر، وكان وعد الله وَقودًا لمزيد عملٍ وعطاء، عبادةٌ وبَذل في سبيل الله وتضحية، يبذل أحدُهم مالَه كلَّه في سبيل الله قائلاً: أبقيتُ لهم اللهَ ورسوله[3]، قال تعالى: وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
قد يحصل أصحابُ الباطل على انتصارٍ مؤقَّت، لكن البناء الذي أُسِّس على قواعدَ فاسدةٍ لا بدَّ أن ينهار، ثمَّ تكون العاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين، قال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، وعندما هاجر رسول الله وعده الله بقوله: إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ [القصص:85]، فعاد إلى مكّة سالمًا غانمًا منتصرًا، وتحقّق وعد الله.
عبادَ الله، يُخطئ من يحصُر معنَى النصر في صورةٍ واحدة، ذلك أنَّ للنّصر مفهومًا أوسَع وصوَرًا أشمَل، فالذي يلتزم بالإسلام ويتغلّب على لذَّاتِه المحرَّمة ونفسِه الأمّارة بالسّوء يغدو منتصِراً. ومِن معاني النصرِ أن يلقى المسلم ربَّه وهو راضٍ عنه. ومن معاني النّصر الثباتُ على الدّين في المِحن والعزّة بالإيمان في المِحن، فإبراهيم عليه السلام ألقي في النّار بعدَ أن كشف زيفَ الباطل وثبَت على عقيدتِه، وكان هذا أنصارًا، قال تعالى: قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلأخْسَرِينَ [الأنبياء:69، 70].
سحرةُ فرعون هدّدهم بالقتل هدَّدهم بالتعذيب، فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ [آل عمران:146]، وكان هذا نصرًا للعقيدة والدّين، قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـٰيَـٰنَا أَن كُنَّا أَوَّلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:50، 51].
الغلامُ المؤمن في قومِه ماتَ منتصرًا، فقد أحيى الله بموتِه أمّةً مِن النّاس حين آمنوا بالله ربِّ الغلام، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [غافر:51].
يقول المفسِّرون: إنَّ الله سبحانه ينصُر رسلَه والمؤمنين به في الحياة الدنيا وإن اختلفت صورُ النصر، فمنهم من يمكِّنهم الله سبحانه حتى يظهَروا على عدوّه ويغلبوه وينتصروا عليه، ومِنهم من يعجِّل الله العذاب لأقوامِهم المكذّبين لهم، ومنهم من يسلّط الله عليه القتل، ومِنهم مَن يسلَّط عليهم بعد قتلهم أنبياءَهم من ينتقِم للأنبياءِ وينتصرُ لهم.
ويقول المفسِّرون: ولهذا أهلك الله عزَّ وجلّ قومَ نوح وعادٍ وثمود وأصحابَ الرسّ وقومَ لوط وأهلَ مدين وأشباههم وأحزابَهم ممّن كذّب الرسلَ وخالف الحقَّ، وأنجى الله تعالى مِن بينهم المؤمنين، فلم يُهلك منهم أحداً.
ويقول المفسِّرون: لم يبعث الله عزّ وجلّ رسولاً إلى قومه فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتَلون، فيذهب ذلك القَرن حتّى يبعثَ الله تبارك وتعالى لهم من ينصُرهم، فيطلب بدمائهم ممَّن فعَل ذلك في الدنيا، فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتَلون في الدنيا، وهم منصورون فيها. انتهى.
لقد كان الله سبحانه قادرًا أن يمنَح النصرَ لنبيِّه ولدعوته ولدينه منذ اللحظةِ الأولى مِن غزوة أحُد بلا كللٍ ولا ملل، بلا كلل من المؤمنين ولا عناء، ولكن المسألة ليسَت هي النصر فحَسب، إنّما هي التربية على الثبات، إنّما هي الصّبر على البلاء والشدّة، إنّما هي تزكية النّفوس وإصلاحها.
إنَّ إيمانَنا بأنَّ المستقبَل لهذا الدين يمنحُنا الأمَل الذي يدفعنا إلى العِلم والعمَل للوصول إلى النصر بترسيخ العقيدةِ والإخلاص في العبادة، وتصحيح معاملاتِنا، وسموّ أخلاقِنا، مع إعداد العدّة، وإذا ظلّ الإيمان ـ عبادَ الله ـ لم يتحقَّق في القلب ولم ترسَخ العقيدة في النّفوس فإنَّ الطغيان يغلِب والباطلَ ينتفش؛ لأنهما يملِكان قوَّة ماديّة.
إذا أراد المسلمون نصرَ الله فسبيل ذلك أن ينصُروا اللهَ أولاً في أنفسِهم، أن ينصروا اللهَ في أُسرِهم وبيوتِهم، أن ينصُروا لله في مجتمَعهم وفي معاملاتِهم، فيحكِّموا شرعَه ويطبِّقوا شريعتَه. إنَّك بهذا تهزِم عدوَّك نفسيًّا من داخِله باعتزازِك بدينك وثباتِك على منهجك والدعوةِ إلى الله، إنّه يريدك أن تكون من حزبِه، قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ [النساء:89]، وقال تعالى: فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الزخرف:43].
إخوةَ الإسلام، إنَّ أساسَ النّصر الحقيقيّ تحقيقُ العبوديّة في القلب والانتصار على النفس، قال تعالى: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً [النور:55]، ولكنَّنا نُغلب حين نختلِف ونتنازَع فنفشل وتذهَب ريحنا، ونُهزَم حين تفسد النيات والمقاصِد، وتحلّ الدنيا في قلوبنا محلَّ الآخرة، قال تعالى: إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
لقد تحوّل نصرُ المؤمنين إلى هزيمةٍ في أحُد لمخالفةِ نفَرٍ من أصحاب رسول الله لأمرٍ من أوامِره دونَ قصدٍ منهم أو فسادٍ منهم، وكان الدّرس أليماً والعقاب قاسياً، ولذا لا تعجَب لِما حلّ بالمسلمين في هذه الأيّام العصيبَة من تمزيقِ الشّمل وذهابِ الشوكة، قال تعالى: أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
لهذا كان عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه يقول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لمّا أمَّره على أحدِ الجيوش الإسلامية: (أمّا بعد: فإنِّي آمرُك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله في كلِّ حال، فإنّ تقوى الله أفضلُ العدّة على العدوّ وأقوى المكيدَة على الحرب، وآمرُك ومن مَعك أن تكونوا أشدّ احتراساً منكم من عدوِّكم، فإنَّ ذنوبَ الجيش أخوفُ عليهم من عدوّهم، وإنّما ينتصِر المسلمون بمعصية عدوّهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوّة؛ لأنَّ عددَنا ليس كعددِهم، وعدّتنا ليست كعدَّتهم، فإن استوينَا في المعصيَة كان لهم الفضل علينا في القوّة، وإن لم نُنْصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوَّتنا، واعلموا أنَّ عليكم في سيركم حفظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا عدوّنا شرٌّ منّا فلن يسلَّط علينا، فربّ مسلَّط عليهم من هو شرّ منهم)[4]، ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً للجُند: (إنّكم لن تنتصِروا على عدوِّكم إلا بعدَ تقرّبكم من الله وبُعدِهم عنه، فإذا تساويتم ـ أي: في المعاصي ـ كانت الغلبَة لأكثرِكم عدّةً وعتادًا) انتهى كلامه رحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهَدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعَمه التي لا تعدّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الذي لا ينطِق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الأحلام والنهى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
قد تهتزّ بعض النفوس فتستبطئ نصرَ الله وتساوِرها شبهةٌ في خضَمّ الأحداث، يظنّون بالله غيرَ الحق ظنَّ الجاهلية، لماذا يُصابُ الحقّ وينجو الباطِل؟ لماذا لا ينتصِر المسلمون؟! أسئلةٌ تتردَّد في أذهان من لا يفقهون سنّةَ الله تعالى في النّصر والهزيمة، ولا يفقَهون سنتَه في الابتلاء والمِحن، وأنَّ الأمورَ تجري بحِكمةٍ ولحكمة.
منها: أنَّ الله يُملي للباطل والظالم لينال أشدَّ العذاب بالاستحقاق، قال تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ومِن الحِكَم أنَّ الله يميز الخبيث من الطيِّب، ويعظم الأجرَ لمَن ابتُلي فصبَر كما قال تعالى: مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران:179].
ومِن الحِكم أن تتجرّد النفوس ويصفوَ الإيمان ويتميّزَ الصّفّ ويتماسَك المؤمنون، ويتماسك البنيان بين المؤمنين.
ومنها: أن يتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الأذى والصبرَ على المِحن، ويتعلّمَ المؤمنون الصبرَ على الهزيمة والصبرَ على النّصر، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ [آل عمران:140].
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمَ صلِّ وسلَم على عبدك ورسولك محمَّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...