Unconfigured Ad Widget

Collapse

صور من حياة الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • بن بشيتي
    عضو مميز
    • Feb 2003
    • 1335

    صور من حياة الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله

    بسم الله الرحمن الرحيم
    نقلتها من احد المنتديات ارجو ان تعم الفائده
    ((.لقد عمي أولوا الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعمّا نشرت في الكتب والمجلاّت والصحف ، وهو شيءٌ يملأ ثلاثة آلاف صفحة على أقلّ تقدير ،هب أنّ فيها كلاماً مرصوفاً لا معنى وراءه تجد أني حملت في كتابتها ورصفها عناءً ،فكيف وكلها ثمرة التأمّل الطويل ،ونتيجة كدّ الخاطر وعصر الدماغ ،وما منها شيءٌ سرقته من أديب من أدباء فرنسا ولا إنجلترا .. عمي ألوا الأمر عن هذا ولم يعدلوه بهذه الورقة السحريّة التي جاء بها أولئك من ديار العجم يشهد لهم فيها من يسكن هناك ،بأنّهم صاروا يفهمون العربية!!،وغدوا أهلاً للتدريس لها.... أفيكون ظلماً وعدواناً إذا أعلنت ما أصابني وشكوته إلى القراء وهم أصدقائي؟..لم يبق لي من صديقٍ غيرهم ...
    وهل كان ذنباً أنّي حميت للفضيلة تمتهن ، وللأخلاق تهان، فناضلت عنها وقاتلت ،وقلت لتلاميذي : ناضلوا وقاتلوا؟! وهل كان ذنبي أنّي غضبت لمحمد صلى الله عليه وسلم أن ينكر نبوّته ويجحد رسالته جاهلٌ غرير؟! وهل كان ذنباً أنّي لا أقول لسواد الليل أنت أبيض مشرق، ولا أقول لــــ( الأعور ) ما أحلى عينيك؟! .هذه ذنوبي التي خسرت من أجلها صداقات الأصدقاء وكسبت عداوات الرؤوساء ،وربحت خصومة الجاهلين ،وعددت بها من كبار المشاغبين. . فلا يغضب القرّاء إذا ودّعت الأدب بالتحدّث عن نفسي،فإنّي أرثيها قبل موتها ،أرثي مواهبي المعطّلة،لقد متّ!!! ،فدعوني لاتؤذوني بالانتقاد البارد ،اذكروا محاسن موتاكم ،وإذا لم تكن لهم محاسن فعفوا عن ذكر مساويهم.. ولاتنفّسوا على أخيكم(زفرة) تزيح بها عن صدره همّا ثقيلاً! ))

    زفرة علي الطنطاوي/ من كتابه..من حديث النفس
    ..مهلاً يا أبتي..ونم في قبرك قرير العين...لاتحفل بهم ولاتلتفت إلى شيْ من ذلك أبداً..فالأفواه المريضة لا تجد طعماً للماء الزلال..وهذا ذنبك عندي وعند غيري...فقل لي : كيف تعتذر؟!
    ..أجل لقد خذلوك...وقتلوك حيّا وميّتاً...لأنّ اسمك(علي) أسهل من قطرة الماء البارد على الظمأ..وهم يبحثون عن الأسماء التي تغصّ بها الحناجر...يبحثون عن الأسماء الطويلة الملتوية..لأنّهم يعشقون الطوابير التي تنتهي (برغيف الخبز)...وأنت أديبٌ فقير لا شىء وراءك إلاّ الصدق والوضوح الذي يعشي أبصارهم..ويهتك أستارهم!! رفقاً بنفسك يا أبتي..فما عند الله خيرٌ وأبقى..وما عند الناس إلى نفاد وزوال..ولعلّك الآن-وأسأل الله ذلك- وجدت عقبى أدبك وصدقك وإخلاصك لدينك وأمّتك .يا أبتي والله لم ننسك أبدا..لقد التهمنا كتبك سطرا سطرا..وشربناها قطرة قطرة..وإنّا لنبحث عن المزيد..فهل من مزيد؟! وثق كلَّ الثقة أنّ اسمك يتصدّر الذاكرة الواعية مذيّلا بـــ(رحمه الله وغفر الله له) في وقتٍ عاش فيه غيرك الأضواء..وانتقل الآن إلى الظلام الذي لاتنيره إلا دعوةٌ صالحة أو عملٌ خالص لوجه الله.
    دعهم يا أبتي يزمّروا ويصفّقوا ويطبّلوا ويرقصوا ونم أنت في قبرك قرير العين فنحن نقرؤك وتتشرّب عروقنا كلماتك فتضيء أساريرنا بهجة وقلوبنا إيماناً
    .ولن أنتظر يا أبتي أحداً يأتي بك إلى هنا...سأمنح أنا/ابنك/قارئك/تلميذك لك هذه الفرصة لتتنفّس هذا الفضاء..سأشرع لك الأبواب....كيف لا ، وأنت تستحق أكثر من ذلك ؟
    .هذا...هو على الطنطاوي ..يبثّ همومه ويدويّ بصرخة مكلومة ..فشاركونا إنصاف هذا الرجل الذي قتله الإعلام مرّتين....مرّة في حياته....ومرّة بعد مماته ..رحم الله علي الطنطاوي وأسكنه الجنة
    .
    (*) نـــــــــــــــبذة ..
    ولد الشيخ علي الطنطاوي في مدينة دمشق في 23 جمادى الأولى 1327 هـ ((12 يونيو 1909 م)) من أسرة علم ودين، فأبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي من أهل العلم، وجده الشيخ محمد الطنطاوي عالم كبير، وخاله الأستاذ محب الدين الخطيب الكاتب الإسلامي الكبير والصحافي الشهير.ـ
    تفتح وعيه على قنابل الحلفاء تدك عاصمة الأمويين وفلول الأتراك تغادر المدينة وديار الشام مقفرة بعد أن عز الطعام وصارت أوقية السكر(200 غرام) بريال مجيدي كان يكفي قبل الحرب لوليمة كبيرة. وكان أول درس قاس تعلمه وعاشه تفكك الدولة العثمانية وتحول ولاياتها السابقة إلى دويلات. فسوريا أصبحت أربع دول: واحدة للدروز والثانية للعلويين، والثالثة في دمشق والرابعة في حلب.ـ في أحد الأيام كان على موعد لصلاة الجمعة في مسجد القصب في دمشق فقال له أصحابه: إن المسجد قد احتشد فيه جمهور من الموالين للفرنسيين واستعدوا له من أيام وأعدوا خطباءهم فرأينا أنهم لا يقوى لهم غيرك، فحاول الاعتذار فقطعوا عليه طريقه حين قالوا له إن هذا قرار الكتلة ((كان مقاومو الاحتلال ينضوون تحت لواء تنظيم يسمى الكتلة الوطنية وكان الطنطاوي عضو فيها)) فذهب معهم وكان له صوت جهور، فقام على السّدة مما يلي ((باب العمارة)) ونادى: إليّ إليّ عباد الله، وكان نداء غير مألوف وقتها، ثم صار ذلك شعاراً له كلما خطب، فلما التفوا حوله بدأ ببيت شوقي:ـ

    وإذا أتونا بالصفوف كثيرة * * * جئنا بصف واحد لن يكسرا

    وأشار إلى صفوفهم المرصوصة وسط المسجد، وإلى صف إخوانه القليل، ثم راح يتحدث على وترين لهما صدى في الناس هما الدين والاستقلال، فلاقت كلماته استحساناً في نفوس الحاضرين، وأفسدت على الآخرين أمرهم، وصرفت الناس عنهم. ولما خرج تبعه الجمهور وراءه، وكانت مظاهرة للوطن لا عليه.
    في 1928 دعاه خاله محب الدين الخطيب للقدوم إلى مصر وكان قد أصدر مجلة "الفتح" قبل ذلك بعامين فسافر علي الطنطاوي إلى مصر للدراسة في كلية دار العلوم، لكن المناخ الثقافي في مصر في ذلك الحين شده للانخراط في العمل الصحفي الذي كان يشهد معارك فكرية وسجالات أدبية حامية الوطيس حول أفكار التقدم والنهضة والإسلام والاستعمار وغيرها، وكان طبيعياً أن يأخذ الشاب علي الطنطاوي موقعه في صفوف الذائدين عن حياض الإسلام المناوئين للاستعمار وأذنابه، وظل الطنطاوي في موقعه لم يتراجع أو يتململ أو يشكو تكالب الأعداء أو قلة الإمكانيات فكان الفارس الذي لم يؤت من ثغره.ـ
    لم يكمل دراسته في كلية دار العلوم وعاد إلى دمشق ليلتحق بكلية الحقوق التي تخرج فيها عام 1933، ثم عمل مدرساً في العراق، ولما عاد إلى دمشق عمل قاضياً شرعياً، عن علم ودراسة وتدرج في الوظائف التعليمية والقضائية حتى بلغ فيها مكانة عالية، ثم درّس في العراق سنة 1936 ورجع إلى بلده فلم يلبث أن انتقل إلى القضاء فكان القاضي الشرعي في دوما، ثم مازال يتدرج في مناصب القضاء حتى وصل إلى أعلى تلك المناصب، وكان قد ذهب إلى مصر لدراسة أوضاع المحاكم هناك.ـ
    ذهابه إلى السعودية
    ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية 1963 م فعمل في التدريس في كلية اللغة العربية وكلية الشريعة في الرياض ثم انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة في مكة المكرمة ثم تفرغ للعمل في مجال الإعلام وقدم برنامجاً إذاعياً يومياً بعنوان "مسائل ومشكلات" وبرنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً بعنوان "نور وهداية".ـ
    ويعد الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية الكبيرة في العالم الإسلامي وشخصية محببة ذائعة الصيت نالت حظاً واسعاً من الإعجاب والقبول، وله سجل مشرف في خدمة الإسلام والمسلمين.ـ
    كان يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه فيه أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مكّنه أن يعرض أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي، ويفهمه من نال أيسر قسط من التعليم.ـ
    اشتهر الشيخ الطنطاوي بسعة أفقه وكثرة تجواله وحضور ذهنه وذاكرته القوية ولذلك تجيء أحكامه متسمة بصفة الاعتدال بعيدة عن الطرفين المذمومين: الإفراط والتفريط.ـ وقد كتب في صحف بلده في الشام، فاحتل مكانة مرموقة فيها، ثم أضحى من كبار الكتاب، يكتب في كبريات المجلات الأدبية والإسلامية مثل "الزهراء" و "الفتح" و "الرسالة" و "المسلمون" و "حضارة الإسلام" وغيرها، وكانت له زوايا يومية في عدد من الصحف الدمشقية.ـ
    ومن المجالات التي سبق إليها الكتابة في أدب الأطفال والمشاركة في تأليف الكتب المدرسية. وتحقيق بعض كتب التراث، وله جولات في عالم القصة فهو من أوائل كتابها.ـ
    كانت مساجلاته تملأ الأوساط الفكرية والأدبية طولاً وعرضاً، وكان لا يكف عن إصدار رسائله التي يحذر فيها من مغبة الانخداع بالنحل الباطلة.ومن طريف ما تعرض له في إحدى مساجلاته ما يرويه عن نفسه(( كنا يوما أمام مكتبة "عرفة" فجاء رجل لا يعرفه فاندس بيننا وحشر نفسه فينا، وجعل يتكلم كلاما عجيبا، أدركنا منه أنه يدعو إلى نحلة من النحل الباطلة، فتناوشوه بالرد القاسي والسخرية الموجعة، فأشرت إليهم إشارة لم يدركها: أن دعوه لي، فكفوا عنه وجعلت أكلمه وأدور معه وألف به، حتى وصلت إلى إفهامه أني بدأت أقتنع بما يقول، ولكن مثل هذه الدعوة لا بد فيها من حجة أبلغ من الكلام، فاستبشر وقال: ما هي؟ فحركت الإبهام على السبابة، وتلك إشارة إلى النقود. قال: حاضر، وأخرج ليرتين ذهبيتين يوم كانت الليرة الذهبية شيئاً عظيماً. مد يده بالليرتين فأخذتهما أمام الحاضرين جميعاً، وانصرف الرجل بعد أن عرفنا اسمه، فما كاد يبتعد حتى انفجرت الصدور بالضحك، وأقبلوا عليّ مازحين، فمن قائل شاركنا يا أخي، وقائل: اعمل بها وليمة، أو نزهة في بستان، قلت سترون ما أنا صانع، وذهبت فكتبت رسالة، تكلمت فيها عن الملل والنحل والمذاهب الإلحادية، وجعلت عنوانها "سيف الإسلام" وكتبت على غلافها "طبعت بنفقة فلان" باسم الرجل الذي دفع الليرتين، وبلغني أنه كاد يجن ولم يدر ماذا يفعل، ولم يستطع أن ينكر أمراً يشهد عليه سبعة من أدباء البلد، وقد بلغني أن جماعته قد طردته بعد أن عاقبته ))
    كما كان الفقيد –يرحمه الله- داعية شجاعاً ثابتاً على مبدئه لا يلين، ولا يهادن، كما يقتحم الأهوال، وينازل الرجال، يلج عرين الآساد، وربما عرض نفسه –باختياره- لمخالب تمزق جلد التمساح، كل ذلك في سبيل إيمانه بفكرته الإسلامية، والتضحية من أجل إعلائها مهما كان الثمن.ـ وقد ترك الشيخ علي الطنطاوي أثراً كبيراً في الناس وساهم في حل مشكلاتهم عن طريق كتابته ورسائله وأحاديثه، وقد كان له دور طيب في صياغة قانون الأحوال الشخصية في سوريا، وهو واضع مشروع هذا القانون على أسس الشريعة الإسلامية، كما وضع قانون الإفتاء في مجلس الإفتاء الأعلى، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العراقي في بغداد. وفي كل أعماله كان يبتغي الأجر من ربه ويسعى إلى واسع مغفرته، يقول: ينجيني قانون {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إني والله أخشى ذنبي ولكني لا أيأس من رحمة ربي.. وآمل أن ينفعني إذا مت صلاة المؤمنين عليّ ودعاء من يحبني، فمن قرأ لي شيئاً أو استمع لي شيئاً فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولدعوة واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خير من كل ما حصلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه.ـ
    الطنطاوي مربياً
    رزق الشيخ الجليل خمساً من البنات، وقد كن لفقد إحداهن "بنان" –وقد قتلت اغتيالاً في مدينة "آخن" الألمانية مع زوجها عصام العطار- أكبر الأثر على نفسه ولكنه احتسب الله فيها وتمسك بالصبر والتسليم بقضاء الله، وقد كان لفضيلته أسلوبه المتميز في التربية ومعاملة البنات.ـ
    تقول حفيدته عبادة العظم: نشأت وترعرعت في كنف جدي وأمي وأنا أعتقد –كما يظن ويعتقد كل طفل- أن كل الناس يتربون ويتوجهون في بيئة إن لم تماثل بيئتي فهي مشابهة لها، وكنت أسمع الناس يمتدحون جدي فلا أدرك من الحقيقة إلا أن الناس عرفوه لنه يحدثهم في الراديو والتلفزيون، فأحبوه، فامتدحوه، وكنت أنا مثلهم أحبه كثيراً، لما أراه منه، فلم أعر الأمر اهتماما.ـ مؤلفاته
    قصص من الحياة
    من حديث النفس
    قصص من التاريخ
    مع الناس
    رجال من التاريخ
    شاعر يرثي نفسه
    من غزل الفقهاء
    بركة التقوى مع الغافلين
    لا تتزوج ملكة جمال
    ذكريات (1- 8)
    فتاوى
    تعريف عام بدين الإسلام
    أبو بكر الصديق
    أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر
    الجامع الأموي في دمشق
    هتاف المجد
    في سبيل الإصلاح
    صور وخواطر
    دمشق (صور من جمالها، وعبر من نضالها)
    فكر ومباحث
    بغداد (مشاهدات وذكريات)
    فصول إسلامية
    مقالات في كلمات
    في إندونيسيا (صور من الشرق)
    من نفحات الحرم
    صيد الخاطر للإمام بن الجوزي، تحقيق الطنطاويين
    حكايات من التاريخ(جابر عثرات الكرام، المجرم ومدير الشرطة، التاجر والقائد، قصة الاخوين، وزارة بعنقود عنب، ابن الوزيرأعلام التاريخ ( عبد الرحمن بن عوف، عبد الله بن المبارك، القاضي شريك، الإماالنووي،أحمد بن عرفان الشهيد)
    قصة حياة عمر
    من شوارد الشواهد
    القضاء في الإسلام
    يا بنتي ويا ابني
    إرحموا الشباب
    طريق الجنة وطريق النار
    صلاة ركعتين
    قصتنا مع اليهود
    طريق الدعوة إلى الإسلام
    موقفنا من الحضارة الغربية
    تعريف موجز بدين الإسلام
    المثل الأعلى للشاب المسلم
    وله مئات من البحوث والمقالات في عشرات من الصحف والمجلاتمن قصص الشيخ الرائعة .. اورد لكم مجموعة من القصص .. اولها بعنوان ..
    (( لاتتزوج ملكة الجمال )) قابلت صديقا لي فوجدته ضيق الصدر كأن به علة في جسده أو هما في قلبه فسألته أن يكشف لي أمره فتأبى ساعة وتردد ثم قال لي أنت الصديق لا يكتم عنه وأنى مطلعك على سري ومستشيرك فيه أني أريد الزواج قلت: وما فعلت ربة دارك وأم أولادك؟ قال: هي على حالها قلت: وهل أنكرت شيئا من خلقها أو من دينها أو من طاعتها لك وميلها إليك؟
    قال: لا والله
    قلت: فلم إذن؟
    قال: إني رجل أحب العصمة وأكره الفجور وقد ألفت زوجتي حتى ما أجد فيها ما يقنع نفسي عن أن تميل إلى غيرها وبصري عن أن يشرد إلى غيرها وبصري عن أن يشرد إلى سواها وأطلت عشرتها حتى مللتها وذهبت في عيني فتنتها قلت: ما أقبح والله ما جزيتها به عن صحبتها وإخلاصها وما أعجب أمرك تسمع صوت النفس وأن تظنه صوت العقل وتتبع طريق الهوى وأنت تحسبه سبيل الصلاح وهذا تلبيس إبليس أو من وساوسه
    وهل تحسب أن المرأة الجديدة تقنعك وتغنيك وإن أنت لم تقهر نفسك وتزجرها؟ إن الجديدة تمر عليها الأيام فتصير قديمة وتطول ألفتها فتصير مملولة وتستقري جمالها فلا تجد فيها جمالا فتطلب ثالثة والثالثة تجر إلى الرابعة ولو أنك تزوجت مائة ولو أنك قضيت العمر في زواج لوجدت نفسك تطلب امرأة أخرى
    وهل يمضى زوج عمره في تقبيل وعناق؟ إن لذلك لحظات؟ وباقي العمر تعاون على الحياة وتبادل في الرأي وسعي للطعام واللباس وتربية للولد.. واسترجاع الماضي وإعداد للمستقبل
    وهل تظنك تسعد بين زوجتين وتعرف إن جمعتها ما طعم الراحة؟ وهل تحسب أن ولدك يبقى معك وقد عاديت أمه وصادقت غريبة جئت بها تشاركها مالها ودارها وزوجها؟ فهل يرضيك أن تثير في أسرتك حربا تكون أنت أول ضحاياها كلا يا صاحبي لقد تغير الزمان وحكم الله في التعدد باق أبدا ولكنه مباح؟ ليس واجبا أو مندوبا.. فعليك بزوجك عد إليها وانظر إخلاصها لا تنظر إلى وجهها ولا إلى جسمها فإني قرأت كتبا في تعريف الجمال كثيرة فلم أجد أصدق من تعريف طاغور "إن الجمال هو الإخلاص" ولو أن ملكة الجمال خانتك وغدرت بك لرأيتها قبيحة في عينك ولو أخلصت لك زنجية سوداء كأن وجهها حذاء السهرة اللماع لرأيتها ملكة الجمالوثق أن ما حدثتني به سيبقى سرا بيننا ولا أفشيه أبدا ولا اطلع عليه أحدا
    وهل سمعت أديبا (أفشى) سرا!!؟؟
    (*) ..نظــــــــــــــرات في أدب علي الطنطاوي رحمه الله

    عندما أقرأ للشيخ الأديب علي الطنطاوي فإنني أتضاءل وأصغر بين دفتي الكتاب حتى أكون كنقطة صغيرة فوق حرف من حروفه ثم ما ألبث أن
    ( أنطنط ) فوق سطوره كما ( تنطنط ) تلك الكرة الصغيرة التي نشاهدها ونحن صغار في أفلام الكرتون وهي ( تنطنط ) فوق السطور الأعجمية، وعندما أقرا للشيخ فإنني أشعر أنني أضع السطر من أوله في فمي ثم أدفعه بأصابعي من الطرف الآخر حتى ألتهمه بشراهة مع جزء من إصبعي وهكذا هو الأديب , إنه الذي يجبر قارئه علي التهام السطور كما يلتهم الطفل الشره أصابع الشوكولاته .. إنني بهذه المقدمة التي هي أشبه ما تكون بالدعاية الإعلانية , لا أقصد أن أقدم فاصلا إعلانيا عن الأديب الشيخ فهو قد قدم نفسه قبل مقالتي بسنوات عديدة , كما إنني لا أريد أن أعلن عن سلعة تجارية لأصابع الشكولاته, وإنما هي عبارة عن مقدمة تسبق قراءة، ونظرات سريعة في بعض أدب الطنطاوي , ولن أقول دراسة فإن الدراسة تحتاج لتوسع ولدرجة علمية، ورسالة تليق بمكانة الطنطاوي الأديب كما تحتاج لناقد وأديب بحجم الطنطاوي لا بحجمي الضئيل الصغير.
    كما إنني لا أقول في أدب الطنطاوي لأن أدبه واسع ومؤلفاته عديدة وإنما هذه نظرات أرجو من ورائها أن أحرك أفكار أديب،و أفتق قريحة كاتب مجتهد أريب , فتكون هذه المقالة بذرة غرستها يسيقها غيري لتنبت على يديه فتصبح دوحة باسقة تظلل أدب الشيخ الطنطاوي وتحلله لئلا يبقى في أدراج المكتبات لا يعرفه إلا المتخصصون , مع أن الشيخ له باع وشهرته عريضة في الأدب .
    إن أدب الطنطاوي يرتكز على محاور عدة جعلت منه أديبا محلقا يرفرف في سماء الأدب العربي هذه المحاور لم تأت في أدب الشيخ علي الطنطاوي اعتباطا، وإنما هي تعكس مقدرة الشيخ البيانية والأدبية والثقافية والتاريخية كذلك والدينية .
    وبما أن الأدب لابد له من قالب يصاغ فيه يرتكز على اللغة والأسلوب فإن أول ما أبدأ به هو :
    أولا : اللغة والأسلوب عند الشيخ علي الطنطاوي :
    لغة الشيخ علي الطنطاوي في أدبه من السهل الممتنع، تقرؤه فتفهمه ويطربك، وتظن أنك قادر على صياغة مثله حتى إذا أمسكت القلم وشرعت في الكتابة بتلك الروعة والسهولة ندّ منك وتملّص. كما إنها لغة قريبة إلى النفس تمتاز بأجراس صوتية عذبة فلا خشن ولاغريب ولا نفور ولا تعقيد و لأن الشيخ ذو ثقافة لغوية واسعة فهو يجد لكل فكرة في رآسة لفظة في معجمه اللغوي أي أن عدة الأديب لا تنقصه بل إنه أحيانا يبتكر بعض الأساليب ويطرح بعض الصور الجديدة .أما أسلوبه فان أديبا هذه لغته فلا شك أن أسلوبه سيكون في حجم لغته فهو أسلوب سهل لذيذ , كل لفظة تنقل القارئ إلى اللفظة التي بعدها .. وهكذا حتى تصل إلى النهاية وأنت تقول هل من مزيد؟ . كما تمتاز لغته بأنها لغة تصويرية، أي أن الكلمة هي أشبه ما تكون بكاميرا لاقطة مصورة، تلتقط ما حولها لتبرزه أمام القارئ مع زيادة في الحسن والتألق وإضافة في البيان والتقريب، يقول في كتابة هتاف المجد:
    (إن النهار لنا , لقد أذن مؤذن النهضة فينا : حي على الفلاح , فقمنا وصاحت ديكة الفجر تطرد بقايا النوم من عيون الزهر .
    والمستقبل لنا الذين أدركوا أن لهم أجنحة النسر الذي خلق ليضرب في كبد السماء مشرقا يحدّق في عين الشمس، لا لمن يطير بجناحي دجاجة , يلتقط باقيا مائدة الغرب من مز ابل الحياة .للذين عرفوا أنّهم حملة رسالة الله الأخيرة إلى الدنيا،فاستعدوا ليكونوا أئمة الدنيا
    للذين حقروا الأرض وما فيها ،وطمحت بهم هممهم ليسيروا على درب المجرة الذي فرشت أرضه بالنجوم , ليصلوا بقلوبهم إلى الله.(1
    ثانيا الخيال المتزن :
    و أدب الشيخ علي الطنطاوي لا يغفل الخيال، بل هو يجنح له كثيرا ولكن خيال لا مبالغة فيه ولا إفراط , إنما خيال جمالي لا غنى للأدب عنه وبدونه لا يمكن أن تقرأ قطعة أدبية، وهو من يفترض وقوع أحداث ربما لم تقع ولكن السياق يفرضها ويدل عليها . فهو يصنع من السطرين اللذين يجدهما في أسفار التاريخ قصة أدبية رائعة لا تشعر فيها بخلل ولا مبالغة بل يتخيل الأحداث من واقع السطرين اللذين قرأهما , فلا تشعر أن خياله أقحم في القصة وكأنّ الأحداث التي تصوّرها في أجزاء القصة وقعت كما هي ! وهذه حاسة سادسة تظهر تأثّره الكتابي بالمنفلوطي الأديب البارع , وكتابه قصص من التاريخ شاهد على هذا الخيال الجمالي الرائع ولا سيما قصة معلم الصبيان والتي تتحدث عن الحجاج حيث ربت على خمسة عشر صفحة من ثلاث أسطر تاريخية , لكن القارئ إذا خاض غمار القصة شعر أن الكاتب لم يدخل بقلمه وإنما روى ما وقع دون زيادة أدبية . يقول في قصة ابن الحب :
    ( ومن حّرم الكلام في الحب والله الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة , وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشا البيضة وأدنى الجبل من الجبل حتى يولد الوادي ولوي الأرض في مسارها إلى الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار وهو الذي ربط حب القلب بالقلب يأتي الولد ولولا الحب ما التف الغصن في الغابة النائية ولا عطف الظبي على الظبية في الكناس البعيد ولا حنى الجبل على الرابية الوا دعة ولا أمد الينبوع الجدول الساعي نحو البحر . ولولا الحب مابكى الغمام لجدب الأرض ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع ولا كانت الحياة ).
    ثالثا الحجج العقلية المقنعة :
    إن الأديب الحق هو الذي يخاطب عقل قارئه كما يخاطب عاطفته فلا بد من وضع الأمرين في كفتين متوازيتين , ولو قلنا أن الأدب لا يعتمد اعتمادا كليا على العقل لان العقل يميل إلى التقرير المباشر والأدب بعيد عن هذين الامرين، إنما يعتمد على إثارة المشاعر وتحريك العواطف، لكن الشيخ علي الطنطاوي لم يغفل جانب العقل بل إن صوره الفنية في مقالاته الإصلاحية التي تحتاج إلى إقناع كثيرا ما ترتكز على الحجة والبرهان العقلي كتصويره مثلا المستقبل بحزمة الحشيش المربوطة أمام الفرس، هي تسير وهو يسير فلا تبعد عنه ولا يصل إليها، وهو تصوير رائع قائم على حجة عقلية مقنعة , وهي أن المستقبل لا يوصل إليه، لأنه يستحيل إلى حاضر, وغير هذا كثير في مقالات الشيخ الأديب الطنطاوي وتتجلى هذه كثيرا في كتابه ( مع الناس) يقول:
    ((...وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء, ومن هو أقل منه في أشياء . إن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك وإن كنت مريضا أو معذبا ففيهم من هو أشد منك مرضا، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك ولا تخفضه لتنظر من هو تحتك , إن كنت تعرف من نال من المال والحياة ما لم تنله أنت، وهو دون ذكاء ومعرفة وخلقا,فلِم لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله , وهو لم ينل بعض ما نلت؟ وفلسفة الرزق أدق من أن تدرك، وأبعد من أن تنال , وأنظر إلى الناس ترى منهم الغواصين الذين جعل الله خبزهم وخبز عيالهم في قرارات البحار فلا يصلون إليه حتى ينزلوا إلى أعماق الماء، والطيارين الذين وضع خبزهم فوق السحاب فلا يبلغونه حتى يصعدوا إلى أعالي الفضاء . ومن كان خبزه مخبوءا في الصخر الأصمّ فلا يناله إلا بتكسير الصخر )) 2
    رابعا العاطفة الصادقة :
    وبما أن الأدب لا بد أن يؤثر في النفوس ويستدر عواطفها فقد جعلت العاطفة في الأدب مرتكزا أساسيا بدونه تكون الكتابة الأدبية حروفا وكلمات وعبارات بلا روح، فالعاطفة هي التي تسري في جسد القالب الأدبي فتكسبه التألق والتأثير في الآخرين .
    والشيخ علي الطنطاوي لم يغفل جانب العاطفة في أدبه فهي عاطفة حارة صادقة لا تشعر تجاهها بزيف ولا تكلف لأنها عاطفة الأديب المسلم الذي يرجو الخير لأمته والرقي لمجتمعه والسمو للفرد وهي عاطفة الأديب الذي يحترق بعيدا عن النور والأضواء مع أنه أحق من غيره بها، وهذه الأخيرة تتمثل في الزفرات التي كتبها وضم كتابه(( من حديث النفس)) زفرتين.. زفرة وزفرة أخرى (3)(4)
    فيها يشكو أهل الزمان ويشكو أرباب الثقافة وهم يقبلون على الغث ويمجدونه ويتركون الثمين ويطرحونه كما هو حال زماننا الآن!!، كما يشكو حاله مع النقاد الذين يهملون ما كتب، ويقبلون على ما عند غيره من الأدب . قلت : وقد أصاب الطنطاوي وهو يزفر تلك الزفرات، لأنه لا أتعس من أديب يكتب ويحلق ومن حوله يغضون أبصارهم وينكرون ما كتب!! فما أتعس الأديب الذي يعيش في أمة تهمله على ما عنده من الروعة والطموح كما عند الشيخ علي الطنطاوي الذي ضن عليه النقاد سابقا وحاضرا بلقب أدبي من سلة الألقاب التي توزعها أمتنا على من يستحق ومن لم يستحق .
    خامسا الطرفة الهادفة :
    أحيانا يغلف الشيخ علي الطنطاوي هدفه الذي يسعى إليه في طرفة هادفة، ويقدمه لقارئه في قالب من السخرية فيجعل القارئ يغرق ضحكا وهو يقرأ أدبا ساخرا غير خال من هدف وهذا الأسلوب من شأنه الترويح على القارئ من السأم والملل والجدية . ومن هذه الطرف اقرأ مقالته ( أعرابي في سينما ) في كتابه صور وخواطر .
    سادسا : الهدف :
    أدب بلا هدف، كلمات مصفّفة وعباراتٌ منمقة جوفاء ،.وفرق بين أديب يكتب من أجل أن يكتب فقط وأديب يكتب من أجل أن يبني .
    وأديبنا الطنطاوي لا يكتب لأجل الكتابة , وإنما ليشيد صرحا للأمّة شامخا وليبني الأفراد والمجتمع على أساس من الأيمان والتقوى والفضائل الحسنة فهو عالم نفس يعالج ويقنن ويسبر ردود فعل النفس واستجابتها وما يثيرها !
    وهو عالم اجتماع يحلل مشكلات الأسر والمجتمعات يبسط أسبابها ويضع حلولها .
    وهو شيخ فاضل يوجه ويرشد، وناقد ومبدع يؤسس قواعد نقدية ويحلّل نصوصا أدبية.
    وهو أيضا كاتب وروائي وقاص يملك أدوات الأديب المكتمل غير أنه ليس بشاعر ولا فرق بينه وبين الشاعر إلا الوزن الذي هو العمود الفقري للشعر وما عدا ذلك فكل ما عند الشاعر عنده بل أوضح بيانا وأقوى لغة .
    وكل هذا السبيل التي يسلكها الأديب الطنطاوي إنما تصب في طريق واحد وهدف سام هو بناء الفرد والمجتمع على أسس من الفضيلة والأيمان بالله والاعتزاز بالدين وبالشخصية الإسلامية
    هوامش
    1- هتاف المجد / علي الطنطاوي / دار المنارة
    2- مع الناس / علي الطنطاوي / دار المنار ة.
    3- , 4 عنوان لمقالتين من كتابه من حديث النفس .

    (*) لم يمت الطنطاوي ما دام في الأرض من يقدر كلمة الحق..وحروف الصدق...
    أعلم لأي مدى تحب هذا العلم العلامة..دعنا نملأ هذه الصفحات بما يليق به رحمه الله
    العجوزان !
    الشيخ علي الطنطاوي
    أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء. وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب ، أو الكابوس الثقيل ، ثم انفجروا يصيحون ، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها وجود الشيخ فلم ينبسوا بها ، وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة. والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده ) يتراكضون ويتراشقون بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار ، ويتراشون بالماء ، أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار ، فيغوص الولد في أمواهها ، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه فتخرجه من بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه وتجفف خشية المرض جسده ، فإذا هو يتفلت من بين يديها ، ثم يركض وراء إخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم بالثأر ، والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض والمرمر الصافي التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج ، حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى … وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع ، وهم ينتقلون من غرفة إلى غرفة ، ومن درج إلى درج ، ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق ، من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج) وقباب الشمشير والياسمين والورد والفل ، تتوسط ذلك كله الكرمة(الدالية) التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي) الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ ، لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنبا … والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم :
    ((ولك يا ولد انت ويّاه … يقصف عمري منكم … وسختم البيت … يا ضيعة التعب والهلاك … الله يجعل عليّ بالموت حتى أخلص منكم ..))
    فيختلط صراخها بصياح الأولاد ، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين ، وهم يتضاربون ، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني الكؤوس … ولا يصغي لنداء الجدة أحد منهم …

    ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر ، فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم ، وتخافت أصواتهم ويحسبون بدنو ساعة الخطر ، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ ، أو أن يصلح ما أفسد منها ، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته ، ويتذكرون ما هشموا من أثاث المنزل حين عاثوا فيه مخربين ، فيجمع كل واحد منهم كل ما يقدر عليه من حطام الأواني فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ ، ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل . وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة ، لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها ، لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها منذ أربعين سنة … في ذلك اليوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه ، وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا ، فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية) عشر دقائق كاملات …
    وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل ، وخف (صرماية) للمسجد ، و(بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار ، (وقبقاب) للوضوء ، وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب ، ولا يخالف الشيخ عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق ، أو يتوضأ ببابوج الدرج …
    وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله ، وتهيئ (اليقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة ، من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة ، وهي لا تزال تذكر إلى الآن كيف وضع لها أسلوبه في الحياة وبين لها ما يحب وما يكره ، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب ، كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه إذا هي أتت شيئا مما نهاه عنه ، فأطاعت ولبث العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة لم تخالف إلا في ذلك اليوم وقد لقيت فيه جزاءها ، ونظرت العجوز الساعة فإذا هي منتصف الثامنة ، لقد بقي نصف ساعة … ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال ، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعداد للمعركة ، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام ، وبعثت الأخرى لتمسح أرض الدار التي وسخها الأولاد ، وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافا … ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه ، ولكل شيء في هذا الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه ، سنة سنها الشيخ لا تنال منه الغيرة ولا تبدلها الأيام ، فهو يحب أن يضع يده على كل شيء في الظلمة أو نور ،في ليل أو نهار ، فيلقاه في مكانه ، ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم ، نظرت إلى الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق … فاستعدت وغسلت يديها و وجهها ولبست ثوبا نظيفا كعهدها ليلي عرسها لم تبدل العهد ، واستعد أهل الدار بكبارهم و صغارهم.
    فلما استوى عقرب الثامنة أرهفوا أسماعهم فإذا المفتاح يدور في الباب إنه الموعد ولم يتأخر الشيخ عن موعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودات عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه سبيل . فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر ، وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها . غاضت الأصوات ، وهدأت الحركة ، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق ، فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحازم المتزن ، وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع ، وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف … وكانت غرفة الشيخ يؤثرها على يمين الإيوان العظيم ذي القوس العالية والسقف النقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق ، والذي يتوجه أبدا إلى القبلة ليكون لأهل الدار مصيفا يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف ، ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق ، يشرفون منه على الصحن المرمري وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير … وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع كسائر غرف الدور الشامية ، تغطيها (تخشيبة)مدّ عليها السجاد وفرشت في جوانبها (الطراريح) : الوسائد والمساند ، وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن(التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة . وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار ، وقد صفّ إلى جانبه علبة وأدوات ، وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد كما حرموا الدخان بلا دليل …
    وإلى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير والكتابان الذي لا ينتهي من قراءتهما : الكشكول و المخلاة ، وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر ، وكل شيء في كيسه الذي خصصه به ، وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها .
    وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين أشبه الأشياء بصندوق الحديد ، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب ، فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه ، ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علبا صغارا في كل علبة نوع من أنواع النقد : من النحاسات وأصناف المتاليك والمتاليك وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها والليرات العثمانية والإنكليزية والفرنسية ، كل نوع منها في علبة من هذه العلب ، فإذا أصبح أخذ مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية الشهر) ، ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه ، فضم كل جنس إلى جنسه ، وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان) ، الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا (وقلما كان يفعل) يستضيء به في طريق دمشق التي لم يكن بها أنوار إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم ، وأكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان ويطفأ ليلا … وفيها الكأس التي تطوى … والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار … وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة ، فأهدى إلى صاحبه قسما منها وأودع الباقي خزانته … وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها لأن حشوها(شكلاطة) … وكانت هي عجائب الدار السبع!
    وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها(السكمجاية) ، وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق ، وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة ، وهيئة غريبة ، كانت شائعة يومئذ في دمشق ، موجودة في أكثر البيوت المحترمة …
    والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه . ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بلعبة النشوق فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها ، فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ ، فكان نهار أهل المنزل أسود ، وحرموا بعده من الدنو من هذا الحمى!
    كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر ، أحاط شبابه بالعفاف والتقى ، فأحاط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة ، وكان فارع الطول عريض الأكتاف ، لم يشكُ في حياته ضعفا ، ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة ، ولم يحد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك . فهو يفيق سحرا والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخشعة والخشوع الفاتن ، والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يكبر الله في السحر يتحدر أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها ، يمازحه خرير الماء المتصل من نافورة الدار يكبر (هو الآخر) ربه ويسبح بحمده ، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ، فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان ، ثم ينطق لسانه بـ(لا إله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين ، ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طوال حياته ، لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل . وكثيرا ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده و يغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي ، ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوما واحدا ، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة ، ويرجع إلى داره فيجد الفطور معدا والأسرة منتظرة فيأكل معهم اللبن الحليب والشاي والجبن أو الزبدة والزيتون والمكدوس ، ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحا ورتبها .
    والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي . وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصف أثواب البز أمام الجدران ، ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء بسمعه وبصره ، ويدفعون إليه الثمن ، فإذا ركد السوق تلا الشيخ ما تيسر من القران أو قرأ في (دلائل الخيرات ) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة ، أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها ، وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة من أهل الحل و العقد ، وكان هؤلاء هم الحكومة(كلها) .. وكان الشيخ مهيبا في السوق كهيبته في المنزل ، تحاشى النسوة المستهترات الوقف عليه ، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه لترى البضاعة ، كما تكشف كل مستهترة ، صاح فيها فأرعبها وأمرها أن تتستر وأن تلزم أبدا حدود الدين والشرف وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهانا ، أيهم يقرع عليه بابه ، ويجعلون الرهان ريالا مجيدا أبيض ، فلا يفوز أحد منهم .
    وكان الشيخ قائما بحق أهله لا يرد لهم طلبا ، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها ، ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه ، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم ، ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا . وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج من الدار ليشتري شيئا ؟ ومالهم ولها وكل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين أيديهم ، وما اشتهوا منه يأتيهم ؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها ، إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها ، ثم فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ؟
    يلبث الشيخ في دكانه مشرفا على البيع والشراء حتى يقول الظهر : (الله أكبر) ، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح ، لأن الوضوء سلاح المؤمن ، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى ، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل ، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة . أما العصر فيصليه في مسجد الحي ، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دقّ وجل من شؤونه … اختلف أبو عبده مع شريكه فبجب أن تألف جمعية لحل الخلاف… والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له… وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وآذى السابلة فلينصح وليجبر على رفع الأذى عن الناس …
    أي أن هذه الجماعة محكمة ، ومجلس ، بلدي ، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . وكان(برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم ، فإذا رأى رجلاً غريباً عن الحي حول أحد المنازل سأله من هو؟ وماذا يريد ؟ وإذا رأى رجلاً يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا أخته ، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأة في طريق فتعرف به حيثما سارت ، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد ، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها إلى نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده . وإن فتح امرؤ شباكا على الجادة سدّوه ، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج ، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك ، ولكنها من داخل الفراديس والجنان . فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقيا من الفواحش صيناً ، أهل كأهل الدار الواحدة لا يضن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا بماله ، وإذا أقام أحدهم وليمة ، أو كان عنده عرس أو ختان ، فكل ما في الحي من طباق و(صوان) وكؤوس تحت يده وملك يمينه .
    مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف . مطردة اطراد القوانين الكونية ، حتى جاء ذلك اليوم … ودقت الساعة دقاتها الثمان ، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ لكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم ، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألماً شديدا لم يفارقها منذ الصباح . وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب ، ولم تحد هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته ، فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده ، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها ، أنها مريضة . فهز رأسه ودخل ، فلما وقع بصره عليها لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده ، فلا مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة ، وكان الشيخ على ما يبدو من شدته وحزمه وحبه للنظام ، قوي العاطفة ، محبا لزوجته مخلصا لها ، فرجع من فوره ولم يأكل ، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء لتعليل هذا الحادث الغريب ، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر عن مداره . ومضت على ذلك ساعة أو نحوها ، فدخل الشيخ وصاح : (روحوا من الطريق) ؛ فاختبأ النسوة ليدخل الضيف ، غير أنهن نظرن من شق الباب _ على عادة نساء البلد _ فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض … وكان الطبيب شيخا وكانت بينه وبين العجوز قرابة ، ومع ذلك أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وألا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره ، ثم أدخله عليها ، فجس نبضها ، وقاس حرارتها ، ورأى لسانها . وكان هذا منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام ، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب ، فودعه الشيخ وعاد ، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وأن تلزم الحمية وأن تتناول العلاج الذي يأتيها به …
    مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش ، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها ، وتغلبها الحمى فتهذي ..(( صارت الساعة الثامنة … يلاّ يا بنت ، حضري الخوان … والقبقاب؟ هل هو في مكانه..)) ، وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها ، وكانت بنتاها وكنتها يمرضانها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كعادتها أم اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها ، لا هم لها سواه . وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبراً ، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها ، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل ، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقد بالدبس ، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين ، فيجتمع لها كم أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل أمقار(كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامته ، ولا يعيقها ذلك عن تربية الأولاد ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها ، بل تصنع مع هذا كله البرغل ، وتغسل القمح تعجن العجين .
    حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة…؟ لقد آلمها وحز في كبدها ، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته و هوله ، فلم يكن من ابنتها وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها ، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز .
    واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً ، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حارا مدراراً ، وهم لا يدرون ماذا يعملون ، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدونها . ثم هدأ صياحها ، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع ، فتسلل بعض النسوة من الغرفة ، ووقف من وفق حائراً يبكي .
    ولكن العجوز عادت تنطق بعد ما ظنوها قضت ، فاستبشروا وفرحوا ، وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب … بيد أنها كانت يقظة الموت ، ثم أعقبها الصمت الأبدي . وذهبت هذه المرأة الطيبة ، وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها ، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها : زوجها ودارها … ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله ، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء . لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة فخلت حياته من الحياة ، وعادت كلمة لا معنى لها ، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام ، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه ، وامتدت إلى(الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحاً ، فلم تبق فيها تحفاً ولا مالاً ، وهو لا يأسى على شيء ضاع عد ما أضاع شقيقة نفسه . وتهافت هذا البناء الشامخ ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين ، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه ، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة ، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل !
    من قصص الحياة للطنطاوي
    كلنا نموت
    الشيخ علي الطنطاوي
    هل رأى أحد منكم يوماً جنازة؟ هل تعرفون رجلاً كان إذا مشى رج الأرض، و إن تكلم ملأ الأسماع، و إن غضب راع القلوب، جاءت عليه لحظة فإذا هو جسد بلا روح، و إذا هو لا يدفع عن نفسه ذبابة، و لا يمتنع من جرو كلب؟!!!
    هل سمعتم بفتاة كانت فتنة القلب و بهجة النظر، تفيض بالجمال و الشباب، و تنثر السحر و الفتون، تبذل الأموال في قبلة من شفتيها المطبقتين كزر ورد أحمر، و تراق الكبرياء على ساقيها القائمتين كعمودين من المرمر، جاءت عليها لحظة فإذا هي قد آلت إلى النتن و البلى، ورتع الدود في هذا الجسد الذي كان قبلة عُبّاد الجمال، و أكل ذلك الثغر الذي كانت القبلة منه تشترى بكنوز الأموال ؟!!
    هل قرأتم في كتب التاريخ عن جبار كانت ترتجف من خوفه قلوب الأبطال، ويرتاع من هيبته فحول الرجال، لا يجسر أحد على رفع النظر إليه، أو تأمل بياض عينيه، قوله إن قال شرع، و أمره إن أمر قضاء، صار جسده تراباً تطؤه الأقدام، و صار قبره ملعباً للأطفال، أو مثابة ( لقضاء الحاجات) ؟!!!.
    هل مررتم على هذه الأماكن، التي فيها النباتات الصغيرة، تقوم عليها شواهد من الحجر، تلك التي يقال لها المقابر ؟!!.
    فلماذا لا تصدقون بعد هذا كله، أنّ في الدنيا موتاً ؟!.
    لماذا تقرؤون المواعظ، و تسمعون النذر فتظنون أنها لغيركم؟ و ترون الجنائز و تمشون فيها فتتحدثون حديث الدنيا، و تفتحون سير الأمال و الأماني .. كأنكم لن تموتوا كما مات هؤلاء الذين تمشون في جنائزهم، و كأن هؤلاء الأموات ما كانوا يوماً أحياء مثلكم، في قلوبهم آمال أكبر من آمالكم، و مطامع أبعد من مطامعكم ؟.
    لماذا يطغى بسلطانه صاحب السلطان، و يتكبر و يتجبر يحسب أنها تدوم له؟ إنها لا تدوم الدنيا لأحد، ولو دامت لأحد قبله ما وصلت إليه. و لقد وطئ ظهر الأرض من هم أشد بطشاً، و أقوى قوة، و أعظم سلطاناً؟ فما هي ... حتى واراهم بطنها فنسي الناس أسماءهم !.
    يغتر يغناه الغني، و بقوته القوي، وبشبابه الشاب، و بصحته الصحيح، يظن أن ذلك يبقى له... و هيهات..! و هل في الوجود شيء لا يدركه الموت ؟!
    البناء العظيم يأتي عليه يوم يتخرب فيه، و يرجع تراباً، و الدوحة الباسقة يأتي عليها يوماً تيبس فيه، و تعود حطباً، و الأسد الكاسر يأتي عليه يوم يأكل فيه من لحمه الكلاب، و سيأتي على الدنيا يوم تغدو فيه الجبال هباءً، وتشقق السماء، و تنفجر الكواكب، و يفنى كل شيء إلا وجهه.
    يوم ينادي المنادي: { لمن الملك اليوم }
    فيجيب المجيب: { لله الواحد القهار }
    لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت.
    فاذكروا الموت لتستعينوا بذكره على مطامع نفوسكم، وقسوة قلوبكم، اذكروه لتكونوا أرق قلباً و أكرم يداً، و أقبل للموعظة، و أدنى إلى الإيمان، اذكروه لتستعدوا له، فإنّ الدنيا كفندق نزلت فيه، أنت في كل لحظة مدعو للسفر، لا تدري متى تدعى، فإذا كنت مستعداً: حقائبك مغلقة و أشياؤك مربوطة لبيت و سرت، وإن كانت ثيابك مفرقة، و حقائبك مفتوحة، ذهبت بلا زاد و لا ثياب، فاستعدوا للموت بالتوبة التي تصفي حسابكم مع الله، و أداء الحقوق، ودفع المظالم، لتصفوا حسابكم مع الناس.
    و لا تقل أنا شاب... و لا تقل أنا عظيم... و لا تقل أنا غني ....
    فإن ملك الموت إن جاء بمهمته لا يعرف شاباً و لا شيخاً، و لا عظيما و لا حقيراً و لاغنياً و لا فقيراً .. و لا تدري متى يطرق بابك بمهمته ....!!
    المُوْسِيْقِي العَاشِقْ
    قال لي أمس صديقي حسني: إني لأعلم شغفك بالموسيقى، وحبك الفن القديم، فهل لك في سماع رجل وهو أحد أعمدة هذا الفن في دمشق ومن أساطينه، وهو هامة اليوم أو غذ، فإذا انهار أوشك ألا يقوم مثله أبدا؟
    قلت ما أحوجني إلى ذلك، فمن هو هذا الموسيقي الذي لا أعرفه إلى اليوم؟
    قال: هو شوقي بك رجل تركي، كان من موسيقيي القسطنطينية أيام السلطان عبد الحميد، وانتهت إليه رياسة (العود) فيها، وله أسطوانات هي عند الموسيقيين، كرسائل الجاحظ عند جماعة الأدباء، واسمع فعندي واحدة منها
    وقام إلى (الحاكي) فأداره، ووضع أسطوانة عتيقة، فسمعت شيئا ما حسبت مثله يكون، وبدا لي كل ما سمعت إلى اليوم من ضرب الموسيقيين كأنه إلى جانبه لعب أطفال، وخربشة مبتدئين
    قلت: ويحك قم بنا إليه الآن
    فقمنا وأخذنا معنا شيخ الموشحات في دمشق الشيخ صبحي واثنين من مجودي المغنين، وذهبنا إليه ضربنا في الجبل حتى جاوزنا الدور الفخمة والقصور العامرة، ووصلنا إلى طائفة من المساكن هي أشبه بأكواخ، قد بنيت من الطين وقامت دوين الصخر، فوقفنا عند واحد منها، وقرع الباب دليلنا الأستاذ حسني كنعان، ففتح لنا رجل طويل، عريض الألواح، حليق الوجه محمره، ولكن الكبر ظاهر عليه، قد جعد وجهه وإن لم يحن ظهره، ولم يهصر عوده، ورحب بنا على الطريقة التركية، وبالغ في الترحيب بنا ودعانا إلى الدخول فدخلنا، فإذا رحبة نظيفة خالية من الأثاث، ما فيها إلا أشباه كراسي، وسدة من الخشب مفروشة ببساط هي السرير وهي المجلس، وإذا الفقر باد، ولكن مع الفقر ذوقا ونظافة… فقعدنا، وحلفنا عليه أن لا يصنع لنا شيئا، فما نريد إكراما منه إلا بإسماعنا ضربه أخذ قيثارته (كمانه) وقسم (تقاسيم) هزت حبة قلبي، فأحسست بلذة ما عرفتها من قبل، ومع اللذة شيء من السحر، يجعلك تتطلع إلى المجهول، وتسمو إلى عالم الروح، ويوقظ فيك ذكرياتك وآمالك كلها دفعة واحدة فلما انتهى، عرض عليه حسني العود، فابى واعتذر وقال: إنه لا يضرب عليه قال حسني: كيف وأنت إمام الضاربينقال: إنني لا أستطيع فلما ألحفنا عليه وألححنا قال: إن لذلك قصة ما قصصتها على أحد، فاسمعوها، ولو أني وجدت ما أكرمكم به لما قصصتها عليكم، ولكني لا أملك شيئا، ولن اجمع عليكم حرمان السماع وكتمان السبب
    وهذه هي القصة مترجمة إلى لغة القلم:
    قال: كان ذلك منذ أمد بعيد نسيه الناس وأدخلوه في منطقة التاريخ المظلمة، فلا يرون منه إلا نقطا مضيئة مثلما يرى راكب الطيارة من مدينة يمر بها ليلا. أما أنا فلا أزال أحس به بجوارحي كلها، ولا يزال حيا في نفسي، بل أنا لا أزال أحيا فيه، وما عشت بعده قد إلا بذكراه. ولقد مر على قصتي زمن طويل عندكم لأنكم تقدرونه بعدد السنين، نصف قرن… أما أنا فأقدره بذكراه الحية في نفسي فأجده ساعة واحدة… لحظة… إني أنظر الآن إلى عينيها، وأشم عطرها، وأجلس في مجلسها. إن ما أراه حولي ظلال، وتلك المشاهد هي الحقيقية. أفعلمتم من قبل أن ذكرى قد تضح وتظهر حتى تطمس المرئيات، وتغطي على الحقائق، هذه هي ذكرياتي
    كان أبي من الباشوات الكبار المقربين من السلطان، فلما علم أني اشتغلت
    بالموسيقى، كره ذلك مني، وصرفني عنه، وعاقبني عليه، فلما أصررت عليه، أهملني واطرحني، وطردني من داره، فلبثت أتنقل في بيوت أقربائي وأصدقاء أبي، أمارس تعليم الموسيقى لأبناء الأسر الكبيرة، وكان (فلان) باشا من الآخذين بأسباب الحياة الجديدة، يحب أن يقبس عن أوروبا طرائقها في معيشتها ويقلدها في السير عليها لا يدري أنه لا يأخذ عاداتها لحياته، بل سمومها لدينه وخلقه، فدعاني لأعلم ابنته، وكنت يومئذ في الثلاثين، ولكنهم كانوا يقولون عني: ((إنه أجمل شاب في حاضرة الخلافة))… وأحسب أني كنت كذلك، ولكني –ولست أكذبكم- ما عرفت طريق الحرام، والحلال ما استطعت سلوك طريقه
    قابلت الباشا، فأدخلني على ابنته لأعلمها، فنظرت إليها، فإذا هي ملتفة بـ (يمشق) من الحرير الأبيض، لا يبدو منه إلا وجهها، وإنه لأشد بياضا ولينا من هذا الحرير، لا البياض الذي تعرفونه من النساء، بل بياض النور، لا، لم أستطع الإبانة عما في نفسي، إنه ليس كذلك، هو شيء ثمين عذب مقدس، يملأ نفسك عاطفة لا شهوة، وإكبارا لا ميلا، وتقديسا لا رغبة، وكانت عيناها مسبلتين حياء وخفرا، تظهر على خديها ظلال أهدابها الطويلة فلم أر لونها، وكانت في نحو السادسة عشرة من عمرها، مثل الفلة الأرجة إبان تفتحها
    وانصرف أبوها بعدما عرفني بها وعرفها بي، وبدأ الدرس على استحياء مني ومنها. ورفعت عينيها مرة، فمشى بي منهما مثل الكهرباء إن لمست سلكتها… عينين واسعتين، فيهما شيء لا يوصف أبدا، ولكنك تنسى إن رأيتهما أن وراءك دنيا… إنها تصغر دنياك حتى تنحصر فيهما، فلا تأمل إن رأيتهما في شيء بعدهما… العفو يا سادة أنا لست أديبا، ولا أحسن رصف الكلام، ففسروا أنتم كلامي، وترجموه إلى لسان الأدب، وأين الأديب الذي يملك من الكلام ما يحيط بأسرار العيون؟ إنه العلم أوسع وأعمق من الفلسفة والكيمياء والفلك… أعندكم في وصفها إلا أن تقولوا: عينان سوداوان أو زرقاوان، واسعتان أو ضيقتان، حوراوان دعجاوان، وتخلطوا ذلك بشيء من تشبيهاتكم؟ اعرضوا عيون الفتيات تروا أنكم لم تصفوا شيئا، هاتان عينان متشابهتان في سعتهما ولونهما وأهدابهما، ولكن في هذه، الجمال الوادع الحالم، وفي تلك الجمال الشرس الأخاذ، وفي أخرى العمق والرهبة، وفي هذه الأمل، وعين فيها فتنة، وعين فيها خشوع، وعيون فيها شيء لا تعرف ما هو على التحقيق، ولكنه يبدل حياتك، ويقلب عليك دنياك باللمحة الخاطفة ولا تكلمت سمعت صوتها كأنما هو… مالي وللتشبيهات التي لا أحسنها؟ وأين ما يشبه به صوتها، وفيه الخفر وفيه الرقة وفيه فتنة وفيه رفاهية؟ لا تعجبوا فإن من الأصوات الصوت المهذب والصوت الوقح، والصوت المرفه، والصوت البائس، وصوتا خليعا وآخر صينا. إن الصوت لينطلق من غير حروف. ورب ناطقة بلا إله إلا الله، وصوتها يدعو إلى الفحشاء، وقائلة كلمة الفجور وصوتها ينهى عنه، وإنك لتستطيع أن تتخيل المرأة من صوتها. ولم يكن في زماننا هذا الهاتف (التلفون) ولكني أعذر من أسمع عنهم أنهم يعشقون بالتلفون. فالأذن تعشق قبل العين أحيانا لم أجاوز الدرس ولم أقل فوقه كلمة واحدة. وكنت أشد منها حياء وخجلا، ولم يكن أبناء زماننا أولي وقاحة وجرأة كهذه الجرأة التي نراها اليوم، وندر فيهم من كان مثل (الباشا) يسمح لابنته الناهد أن تتلقى العلم عن الرجال –وهو يعلم أن الشاب والشابة في الطريق أو المدرسة يتخاطبان بلغة العيون خطاب الرجل والمرأة، قبل أن يتحرك اللسانان بحديث المعلم والتلميذة. وانقضى الدرس بسلام، ولكني لما فارقتها رأيت كل شيء قد تبدل، فقد تعلقت بالحياة وكنت بها زاهدا، ورأيت ضوء الشمس اشد نورا وأحسست بالوجود من حولي وقد كنت أنظر إليه غافلا، وكان لي أصحاب لم أكن أعدل بمجلسهم وصحبتهم شيئا ففارقتهم تلك الليلة وهربت منهم، وذهبت إلى غرفتي لم أطق فيها قرارا، ولا اشتهيت طعاما ولا شرابا، ووجدتني أخرج على الرغم مني، فأؤم دارها، فيردني بابها فاهيم حولها، أوغل السير في التلال الشجراء عند (بيوغلي) لا أستطيع النأي عن دارها.
    صارت هي كوني ودنياي، قد تبدلت قيم الأشياء في نظري، فعز ما كان منها يمت بصلة إليها، وهان كل شيء سواه، وانطويت على نفسي أفكر فيها وأتصور أدق حركة أو سكنة منها. وكلما ذكرتها يهز شيء قلب فيخفق كجناح طائر علقت رجله بالفخ، ثم يندفع الشيء إلى عيني فيفيضان بالدمع. ولا أدري كيف أمضيت ليلتي، حتى أزف موعد الدرس الثاني شعرت كأني عدت إلى جنتي التي خرجت منها، وعشت ساعة في لذة لو جمعت لذاذات الأرض كلها ما بلغت نقطة من بحرها. وعندما ودعتها نظرت إلي نظرة شكت كبدي وزلزلتني زلزالا، وكدت من سروري بها أطير فوق رؤوس الناس خفة وفرحا، فقد علمت أن لي عندها مثل الذي لها عندي، على أني ما كلمتها في غير موضوع الدرس كلمة ولا لمست لها طرف ثوبها، وما هي إلا نظرة واحدة ولكنها قالت فأبلغت، وحدثت فأفهمت
    وسكت الموسيقي وجال الدمع في عينيه، ثم قال وهو يكاد يشرق بدمعه وقد ضاع في رنة البكاء صوته:ِ أتدرون ما عمري اليوم؟ أنا فوق الثمانين، وقد مر على هذا الحب دهر، ولكني أراه كأنه كان أمس، وكأني لا أزال شابا ينطوي صدره على قلب صبي. ولقد حسبت أني أستطيع أن أتحدث عنه كما يتحدث الشيوخ عن ماضيات لياليهم فوجدتني لا أستطيع، لا أستطيع فاعذروني. إن هذه الذكرى قد خالطت شغاف قلبي، ومازجت لحمي وعظمي، وإني لأحس وأنا أحدثكم أني أمزق جسدي لأستل منه هذه الذكريات
    قلت: فأخبرنا ماذا كان بعد ذلك؟ِ
    قال: كان ما أخشى التحدث عنه، إني لا أحب أن أهيج الذكرى وأثيرها، إنكم لا تدرون ماذا تصنع بي؟ إنها تحرقني، تنتزع روحي
    كان يا سادة، أني تدلهت بحبها، وهمت بها، وجعلتها هي كل شيء لين إن كنت معها لم أذكر غيرها، وإن فارقتها ذكرتها وفكرت فيها. فهي ماضي وحاضري ومستقبلي، وهي ذكرياتي كلها وآمالي، أراها طالعة علي من كل طريق أسير فيه، وأرى صورتها في صفحة البدر إن طلع علي البدر، وفي صحيفة (النوطة) إن جلست إلى (البيان)، ومن سطور الكتاب إن عمدت إلى القراءة في كتاب، فإذا جلست إليها والعود في حجري، وعيناها في عيني، وأذناها إلى عودي، تخيلت أني معانقها هي، لا العود، وغبت عني، وسمت روحي إلى عالم أعرفه ولا أعرف ما اسمه، فرجعت منه بالسحر فجرت به يدي على العود، فمن هناك تلك (الأسطوانات) التي كنتم تعرفونها لي
    لا، لا تلحفوا علي (سألتكم بالله)، لن أذكر لكم هذه التفاصيل، إنني انتزعتها من لحمي ودمي، فدعوها لي، إنها حظي من حياتي أتعلل بها وحدي. لا أحب أن تلوكها الأفواه ويلتهي بها قراء المجلات. لقد كانت الخاتمة أن أصدقاء أبي عطفوا علي، فخطبوها لي وكان العقد وصارت زوجتي، ولكن الله لم يشأ أن تتم سعادتي فمرضت ثم …ِ
    وغلب عليه البكاء، فلم يستطع أن يخرج الكلمة، فأداها بإشارة مبتلة بالدمع، محروقة بأنفاس الألم وسكتنا –فقال بعد هنية:ِ
    وقد ذهبت أودعها، فأخذت يدها بيدي، كأني أنازع الموت إياها، وأسحبها منه، فقالت لي:ِ
    إنك غذا، تحب غيري، وتضرب لها على عودك
    قلت: لك علي عهد الحب، لا نظرت بعدك إلى امرأة، ولا أجريت يدي على عود
    وسكت، ونظر إلى العود كأنه يريد أن يعتنقه لينطقه بالمعجزات، ويترجم به لواعجه، ثم غلبه البكاء مرة ثانية فقام، وانسللنا واحدا بعد واحد، وأغلقنا الباب ونحن نسمع نشيجه
    أنا .. وعلى الطنطاوي
    لمحات من ذكريات
    الأستاذ عصام عطار
    سمعت بالطنطاوي وسمعت به أوّل مرة في الجامع الأموي في دمشق وأنا في نحو الثامنة من العمر مات من كان يلقبونه بالمحدّث الأكبر في الشّام : الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى، فسعتْ دمشق إلى الجامع الأموي، وسعينا مع الناس، وكنّا تلاميذَ صغاراً في مدرسة ابتدائية تدعى "مدرسة الحبّال" أغلقت في ذلك اليوم أبوابها كما أغلقت دمشقُ أسواقها للمشاركة في تشييع العالم الجليل وكتظّ الجامعُ الأموي بالألوف بل بعشرات الألوف من الناس الذاهلين أو الباكين أو المكبّرين، وارتفع من أعماق المسجد، من على منبره، صوتٌ قويّ مؤثّر، دون مكبّر، وصل إلى جميع المسامع، فسكن الناس بعض السكون، وأنصتوا لكلام الخطيب الذي تحدّث – كما لا أزال أتذكّر – عن فداحة المصاب بالمحدّث الأكبر : الشيخ بدر الدين، وفداحة المصاب بالعلماء الأعلام عندما يموت العلماء الأعلام، فنفذ إلى قلوب الناس ومشاعرهم، بصدقه وعلمه وبلاغته، وجمال إلقائه وصفاء صوته وقوّته، وحرّكها كما يريد
    و سألت : من هذا الخطيب ؟
    قالوا : إنه الشيخ علي الطنطاوي
    وعلمتُ من بعد أن علماء البلاد الكبار هم الذين اختاروه وقدّموه لهذا الموقف
    كان ذلك في سنة 1935 م وله من العمر زهاء ستٍّ وعشرين سنة
    في الثانية عشرة من عمري، عرفت "مجلة الرسالة" التي كان أصدرها أحمد حسن الزيّات في القاهرة سنة 1933 م، وكان يكتب فيها شيوخ الأدب وروّادُه الكبار، واتريت بعض أعدادها القديمة من إحدى المكتبات، فقرأت الرافعي والزيات والمازني وطه حسين وأحمد أمين، وعباس محمود العقّاد بعدَ وفاة الرافعي .. رحمهم الله جميعاً
    وفي مجلة الرسالة قرأت علي الطنطاوي، وأعجبت به وبما قرأته له
    أعجبُ بروحه العربية والإسلامية الصافية، وحماسته الصادقة للدين والفضيلة والمُثل العليا، وحربه المستعرة على الفرنسيين والإنجليز والغزو الثقافي والفكريّ، وانتصاره للعرب والمسلمين المستضعفين في كل مكان، ودفاعه عن حقوق شعوبنا وأبنائها المضطهَدين أو المستغَلّين أو المحرومين .. وإعجبتُ بما كان يجلوه على قرّائه من صور تاريخنا العربيّ والإسلاميّ المشرق التي تبهرُ العقول، وتحرّك النفوس، وتحفزها إلى رفض الواقع والحاضر الحقير، والسّموّ بالمطامحِ والمشاعر، والأفكار والمآمل، والعلم والعمل، إلى واقع أسمى، ومستقبل أفضل كلُّ ذلك بأسلوب جَزْلٍ سليمٍ جميلٍ رائعِ التصوير، بارع التعبير، وإن شابَهُ أحياناً شيءٌ من المبالغة والتطويل وما زال أسلوب علي الطنطاوي يبتعد عن المبالغة والتكلّف، ويغلب عليه القَصدُ والصّدق والطّبْعُ، حتى غدا هو الطنطاويَّ نفسَه بلا زيادة ولا نقصان، فإذا قرأتَ الطمطاويَّ، رأيتَه من خلال سطوره وكلماته كما هو في واقع الحياة، وهذه مرتبة لا يبلغها إلا الأُصَلاءُ البُلَغاءُ المتميّزون من أمراء البيان
    وإذا أردتَ يا قارئيأن تعرف ما هو "السّهل الممتنع" حقيقةً لا وصفاً، فقرأ الطنطازيّ أو اسمعه، فأسلوبه هو السهل الممتنع في صورة من أندر صوره، في سهولته وسلاسته، وسلامته وبلاغته، وسحره وحلاوته، ودقّته المدهشة في التصوير والتعبير، وقدرته الفائقة على تيسير العسير، وتقريب البعيد، والوصول بالأفكار والمشاعر، والحقائق والمعارف، بطريقة بسيطة مفهومة محكمة محبّبة، إلى الكبير والصغير، والمرأة والرجل، والمتعلّم والعامّيّ، من مختلف طبقات الناس ولا أنسى للشيخ علي – كما تعوّدنا أن نقول – مقالاته الطريفة الساخرة، التي كانت تحمل خفة ظلّه، وحلاوة فُكاهته، ولُطف دُعابته، ولواذع سخريّته ؛ وإنك لتقرأ هذه المقالات الساخرة فلا تملك نفسك من الابتسام بعد الابتسام، ومن القهقهة مرةً أو مرّات علي الطنطاوي – دون شك – واحد من كبار أمراء البيان في هذا العصر ؛ بل إن بعض صفحاته لترفعه مكاناً عليّاً بين أمراء البيان في سائر العصور وفي سنة 1945 أو 46 افتتح المعهد العربي الإسلامي في دمشق، وحضرتُ فيه بعض الدّروس. ودعت إدارةُ المعهد مرة الأستاذ الطنطاوي لإلقاء درس أو محاضرة أدبيّة على طلبة صفوفه العليا وبعض أساتذته، وحصر الأستاذ الطنطاوي وألقى الدرس أو المحاضرة، ثم طلب إلى الحضور أن يسألوا أو أن يعقّبوا على ما قال، وتكلّمتُ كما طلب، وكان لي نظرة غيرُ نظرته، ورأيٌ غير رأيه في بعض ما سمعناه منه، وبعد نحو دقيقتين أو ثلاث استوقفني، وطلب إليّ أن أقف بدَلهعلى المنبر، وأن يجلس بدلي على مقعد الدّرس، فأبيت واستحييت، فأقسم عليّ أن أفعل، وقال لي بحرارة وحبّ : أنت أحقُّ بأن يُتلَقّى عنك، ثم التفت إلى الحضور وبينهم بعض الأساتذة وقال : والله لا أدري كيف يأتون بمثلي وعندهم هذا العالِمُ الأديب ووقفتُ على المنبر، ولم أتابع الحديث فيما كنت فيه ؛ ولكنني تحدثت عن الأستاذ الطّنطاوي، وعن آثاره، وخصائص أدبه، حديث العارف المستوعب النتعمّق، وهو ينظر إليّ بدهشة ولا يكاد يصدّق، فلمّا انتهيت قال لي : من أنت ؟ قلت عصام العطّار. قال : هل تعرف الشيخ رضا العطّار ؟ قلت : هو أبي، وكان أبي أيضاً من رجال القضاء. ومنذ ذلك الوقت بدأت معرفتنا الشخصية المباشرة، وأخذت خطاي طريقَها إلى بيته في الجادة الخامسة في المهاجرين، وخطاه طريقها إلى بيتنا في "الزهراء" قرب الجسر الأبيض، واتصلت حبال الودّ بين الأسرتين، الرجال بالرجال، والنساء مع النساء، كان محمد سعيد، الأخ الأصغر لعلي الطنطاوي، أخاً لي وصديقاً أثيراً، ووالله ما رأيتُ على طول ما عشت، وكثرة من قابلتُ على هذه الأرض، أزهد منه ولا أكرم ولا أعبد، فألف سلامٍ وسلامٍ على أخي الحبيب، وصديقي الصدوق/ محمد سعيد الطنطاوي، في شيخوخته ومرضه ووحدته في مكة المكرّمة
    ولم أذكر ما ذكرتُه من حديثي مع الأستاذ الطنطاوي للتفاخر به، وقد جاوزتُ الآن السبعين من العمر، وليس من عادتي – كما يعلم المقرّبون من أصدقائي – أن أتفاخر بمثل هذه الأمور، وإنما ذكرته لأمرين : أولهما أن أدلَّ على أريحية الأستاذ وخلقه وكرمه، وحرصه على تربية الملكات، وتفتيح الإمكانات، وتشجيع من يقدّرُ فيهم الخير، فأنا لا أعرف أستاذاً له شيءٌ يسيرٌ من علم الطنطاوي ومنزلته وشهرته يمكن أن يعامل تلميذاً لم يكن يعرفه، بمثل ما فعل الطنطاوي. ثانيهما أن أسجل اللحظة والمناسبة التي وُلِدت فيها معرفتنا الشخصية المباشرة، وأخوتنا وصداقتنا التي نمت وازدهرت مع الأيّام وليس بسرّ أنني والشيخ علي الطنطاوي لم نكن نتفق دوماً في كل أمر، وفي كل موقف، وفي تقويمنا للأشخاص والأوضاع، بل ربما اختلفنا في بعض ذلك أشدّ اختلاف ؛ ولكن اختلافنا لم يضعف أخوتنا ومحبّتنا، ولم يوهن صداقتنا ورابطتنا، وتعاوننا الوثيق على البر والتقوى في كثير من الأمور سنة 1947 رشح علي الطنطاوي وهو في مصر نفسه للانتخابات النيابية التي جرت في سورية، ثم حضر متأخراً إلى دمشق. كانت شعبيته قوية واسعة ؛ ولكن التزوير الصارخ عمل عمله في تلك الانتخابات، وكانت هنالك أيضاً ظروف سياسية، وتحالفات حزبية، ومصالح شخصية واقتصادية، جعلت عدداً من إخوانه وأصدقائه يقفون ضدّه أو يتخلون عنه. أشار إلى ذلك بمرارة في ذكرياته، ومن ذلك قوله في بعض من خذلوه : "لقد أعرض عني أقري أصدقائي ممن أسمّيهم أصدقاء العمر، وكانوا رفاقي في المدرسة، وكانوا أصحابي في حياتي، نسوا ما بيننا وبينهم ..."، ولكنّه ذكر من وفَواْ له بالخير : "لقد رأيت الوفاء من جيراننا في الحيّ، ورأيت الوفاء من تلاميذي وتلاكيذ أبي، حين أقام لي الشيخ محمود العقّاد رحمة الله عليه حفلةً في مدرسته "المدرسة التجارية العلمية" جمعَتْ وجوه البلد، وفي هذه الحفلة ظهر خطيب جديد كان يومئذ شابّاً في العشرين، فبهر الناسَ بخطبة ارتجلها، وبهرني مع الناس هذا الذي صار من بعدُ نابغةَ الخطباء، وهو عصام العطّار."
    لم أصِرْ "نابغة الخطباء" كما ذكر الأستاذ رحمه الله، ولكن – وأقولها للحقيقة – لم تكن هذه أول خطبة لي، وإن كانت أوّل خطبة سمعها الأستاذ مني، فقد تعودت الخطابة وأنا في المدرسة الابتدائية. كانوا في إدارة المدرسة إذا زارتنا مدرسة أخرى، وتكلّم بعض أساتذتها، طلبوا إليّ، بل ألحّوا عليّ، أن أردّ على غير رغبة مني – باسم الإدارة والأساتذة والطلاب جميعا
    ذكرت الانتخابات وما كتبه الشيخ علي الطنطاوي وعن خطبتي، لابيّن أن هذه المناسبة وأمثالها قد زادت الشيخ محبة لي، وتقديراً واحتراماً، وجعلت صلتنا وصداقتنا تقوم على أساس أرسخ من مجرّد الأخوّة أو الحبّ الأبويّ سافرت سنة 1951 أو 52 م إلى القاهرة مع أخي وصديقي المجاهد الجليل محمد زهير الشاويش، لأسباب منها أنني كنت أهاجم دكتاتور سورية في ذلك الحين العقيد أديب الشيشكلي في خطبي في مسجد الجامعة السوريّة، وفي مواطن ومحافل أخرى، فألزمني بعض كبار علمائنا – ومنهم الأستاذ الطنطاوي – بأن أسافر إلى مصر، لتفادي الصدام، وتخفيف حدّة التوتّر، وللدراسة فيها إن أحببت، أو لقضاء بعض الوقت خارج سوريّة على الأقلّ وفي غيابي مرض أبي، واتشتدّ به المرض، ولم بخبرني بذلك أحد. كان – رحمة الله عليه – يستحلف كل كسافر إلى مصر يزوره يعرفني، ألاّ يخبرني بمرضه، خوفاً عليّ من بطش الشيشكلي إذا عدت } ولكن عندما أحسّ إخوانه وإخواني بدنوّ أجله، أبرق الأستاذ علي الطنطاوي إلى خاله العلاّمة المجاهد الرائد : السيد محب الدّن الخطب – رحمه الله تعالى – بأن يتلطّف بإخباري بمرض أبي، وضرورة عودتي إلى دمشق، وعدت إلى دمشق قبل وفاة والدي بأيّام وفي دمشق رأيت حول سرير أبي عدداً من الإخوة والأصدقاء، ما فارقوه يوماً من الأيّام، على امتداد شهور مرضه، إخوة وأصدقاء انطبعت صورهم في قلبي، وغدوا عندي كأهل بدر : "اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم" فكيف وهم قد طوّقوا من بعدُ بمحبّتهم ووفائهم وعونهم عنقي، ولم يكن منهم إلا الجميل من القول والفعل، من هؤلاء أخي وصديقي، أستاذنا، وأستاذ جيلنا بل أجيالنا : علي الطنطاوي
    وتولّى الأستاذ الطنطاوي أمر الجنازة لتكونبكل ما فيها وفق السنّة المطهّرة، رغم احتجاج كثير من أهلنا ومعارفنا، فكانت أول جنازة في الشام لعالِم من العلماء لا يكون فيها أيُّ بدعة من بدع الجنائز، وذلك كلّه بفضله
    وفي المقبرة وقف على قبر أبي يرثيه، فبكيتُ بعينيه، وأبكيتُ بلسانه الناس، وتكلّم أيضاً الأستاذ الجليل أحمد مظهر العظمة رحمه الله، وتكلّم آخرون، لم أعد أتذكر تماماً كلّ من تكلّم، فلم أكن معظم وقتي خلال تشييع أبي ودفنه ورثائه في هذه الدّنيا
    وقد بلغت محبّة علي الطنطاوي لي، وثقته بي، وبلغت أخوتنا وصداقتنا ذروتها العالية عندما اختارني زوجا لابنته "بنان"، وتجاوزت هذه الأخوّةُ والصّداقةُ كل ذروة من الذّرى عندما استشهدت "بنان" الحبيبة في 17/03/1981 م في مدينة آخن في ألمانيا، فالتقت منه ومني إلى الأبد جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع، زذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات
    ولم تندمل قطّ جراح علي الطنطاوي لفقد بنان، ولم تندمل جراحي، ولم يرقأ دمعه ولم يرقأ دمعي، ولم يسكت حزنه، ولم يسكت حزني، إلى أن اختاره الله إلى جواره
    كتبَ في الحلقة "199" من ذكرياته، بعد سنوات من استشهاد ابنته، بمناسبة يوم عيد : "أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم المرّ.. فأنّى لي الآن، وهذا يومُ عيد، أن أقوم بهذا الذي كنتُ أراه واجباً عليّ ؟ كيف أصل إلى القبرين الذين ضمّا أحب اثنين إليّ : أمّي وأبي، وبيني وبينهما ما بين مكّة والشّام، وكيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة آخن في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها ؟ ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكزن في قائمة من أزور أجداثَهم بنتي، ويا ليتني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكون أنا المقتولَ دونها، وهل في الدّنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بنته ؟ إذن لمتُّ مرّة واحدة ثم لم أذق بعدها الموت أبداً، بينما أنا أموت الآن كل يوم مرّة أو مرّتين، أموت كلّما خطرَتْ ذكراها على قلبي"
    وفي أيّامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركّزة بين الحضور والغياب، كان يُحِسّ مَن يحفّون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّصِ إخوانه، أنه يفتقد بينهم شخصا لا يراه، ويرمز إليهم رمزا واضحاً إلى بنان، ولا يُسعِفُه اللسان، وارتفعت يدُه لتعانق حفيده "أيمن" ابن بنته الشهيدة، وقد حضر إليه من ألمانيا، عندما رآه، ثمّ سقطت اليد الواهنة على السرير، وافترّت شفتاه عن ابتسامة حزينة سعيدةٍ حلوةٍ، امتزج فيها الحزن والسرور والشكوى، ونطقت عيناه وأسارير وجهه بما لا يوصف من الحنان والشكر والأسى، مما لا يعبّر عنه – كما قالوا – قلمٌ ولا لغةٌ ولا كلام
    لعلّك يا قارئي الكريم تكون الآن، وقد مررتَ بهذه السطور، قد لمحتَ خلالها لمحةً خاطفةً شيئاً من علي الطنطاوي الخطيب، والكاتب الأديب، والمعلّم الفريد، والصديق الوفي، والولد البارّ، والأب النّادر بين الآباء
    رحمه الله رحمةً واسعةً، وجزاه عنّا أحسن الجزاء، فهيهات أن يجود بأمثاله الزمان
    غزل الفقهاء
    بقلم : الشيخ علي الطنطاوي
    قال لي شيخ من المشايخ المتزمتين، وقد سقط إليه عدد من الرسالة، فيه مقالة لي في الحب
    مالك والحب، وأنت شيخ وأنت قاض، وليس يليق بالشيوخ والقضاة أن يتكلموا في الحب، أو يعرضوا للغزل؟! إنما يليق ذلك بالشعراء، وقد نزه الله نبيّه عن الشعر، وترفع العلماء وهم ورثة الأنبياء عنه، وصرح الشافعي أنه يزري بهم، ولولا ذلك كان أشعر من لبيد
    فضحكت، وقلت له
    أما قمت مرة في السحر، فأحسست نسيم الليل الناعش، وسكونه الناطق... وجماله الفاتن، فشعرت بعاطفة لا عهد لك بمثلها، ولا طاقة لك على وصفها؟
    أما سمعت مرة في صفاء الليل نغمة عذبة، من مغنّ حاذق قد خرجت من قلبه، فهزّت منك وتر القلب، ومسّت حبّة الفؤاد؟
    أما خلوت مرة بنفسك تفكر في الماضي فتذكر أفراحه وأتراحه، وإخوانا كانوا زينة الحياة فطواهم الثرى، وعهدا كان ربيع العمر فتصرم الربيع، فوجدت فراغا في نفسك، فتلفت تفتش عن هذا الماضي الذي ذهب ولن يعود؟
    أما قرأت مرة قصة من قصص الحب، أو خبراً من أخبار البطولة فأحسست بمثل النار تمشي في أعصابك، وبمثل جناح الطير يخفق في صدرك؟
    أما رأيت في الحياة مشاهد البؤس؟ أما أبصرت في الكون روائع الجمال؟ فمن هو الذي يصور مشاعرك هذه؟ من الذي يصف لذائذك النفسية وآلامك، وبؤسك ونعماءك؟ لن يصورها اللغويون ولا الفقهاء ولا المحدثون، ولا الأطباء ولا المهندسون. كل أولئك يعيشون مع الجسد والعقل ، محبوسين في معقلهما، لا يسرحون في فضاء الأحلام، ولا يوغلون في أودية القلب، ولا يلجون عالم النفس... فمن هم أهل القلوب؟
    إنهم الشعراء يا سيدي، وذلك هو الشعر!ـ
    إن البشر يكدّون ويسعون، ويسيرون في صحراء الحياة، وقيد نواظرهم كواكب ثلاثة، هي هدفهم وإليها المسير، ومنها الهدي وهي السراج المنير، وهي الحقيقة والخير والجمال، وإن كوكب الجمال أزهاها وأبهاها، إن خفي صاحباه عن بعض الناس فما يخفى على أحد، وإن قصرت عن دركهما عيون فهو ملء كل عين، والجمال بعد أسّ الحقائق وأصل الفضائل، فلولا جمال الحقيقة ما طلبها العلماء، ولولا جمال الخير ما دعا إليه المصلحون. وهل ينازع في تفضيل الجمال إنسان؟ هل في الدنيا من يؤثر الدمنة المقفرة على الجنة المزهرة؟ والعجوز الشوهاء على الصبية الحسناء؟ والأسمال البالية على الحلل الغالية؟
    فكيف يكون فيها من يكره الشعر (أعني الشعر الحق، الذي يجمع سمو المعنى، وموسيقى اللفظ، لا هذا الهذيان الذي نقرؤه الآن -الذي يدعونه الشعر الحديث- شعر الحدأثة أي الحدث الأكبر الذي لا يتطهر منه صاحبه إلا بالغسل)، وهو جمال القول، وفتنة الكلام؟ وهو لغة القلب فمن لم يفهمه لم يكن من ذوي القلوب. وهو صورة النفس، فمن لم يجد فيه صورته لم يكن إلا جماداً. وهو حديث الذكريات والآمال، فمن لم يذكر ماضيا، ولم يرج مستقبلا، ولم يعرف من نفسه لذة ولا ألما، فليس بإنسان
    إنه شاعر" لأن الشاعر يأتيه الوحي من داخل نفسه، والنبي يجيئه من السماء، وهذا الذي لم تدركه العرب، فقالوا قولتهم التي ردها الله عليهم!.ـ
    وأين وجدت حرمة الشعر، أو مذمته من حيث هو كلام جميل، يصف شعورا نبيلا؟ إنما يقبح إذا اشتمل على الباطل، كما يقبح كل كلام يشتمل عليه.ـ
    ومن أين عرفت أن العلماء قد ترفعوا عنه، والكتب مملوءة بالجيد من أشعارهم، في الحب والغزل ووصف النساء؟
    أو ما سمعت بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصغى إلى كعب وهو يهدر في قصيدته التي يتغزل فيها بسعاد… ويصفها بما لو ألقي عليك مثله لتورّعت عن سماعه… وتصاممت عنه ، وحسبت أن التقى يمنعك منه وذهبت تلوم عليه، وتنصح بالإقلاع عن قائله...ـ
    وما سعاد غدة البين إذ برزت * * * كأنها منهل بالـراح معلـول
    هيفـاء مقبلة عجـزاء مدبرة * * * لا يشتكي قصر منها ولا طول
    وأن عمر كان يتمثّل بما تكره أنت.. من الشعر، وأن ابن عباس كان يصغي إلى إمام الغزلين عمر بن أبي ربيعة، ويروي شعره؟ وأن الحسن البصري كان يستشهد في مجلس وعظه، بقول الشاعر:ـ
    اليوم عندك دلها وحديثها * * * وغدا لغيرك كفها والمعصم
    وأن سعيد بن المسيب سمع مغنيا يغني:ـ
    تضوع مسكا بطن نعمان إن مشت * * * به زينب في نسوة خفرات
    فضرب برجله وقال: هذا والله مما يلذ استماعه، ثم قال:ـ
    وليست كأخرى أوسعت جيب درعها * * * وأبدت بنـان الكف للجمـرات
    وعالت فتات المسد وخفـاً مرجّـلا * * * على مثل بدر لاح في الظلمات
    وقامت تراءى يـوم جمـع فأفتنت * * * برؤيتها من راح من عرفـات
    فكانوا يرون هذا الشعر لسعيد بن المسيب!.ـ
    وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا أسرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.ـ
    هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:ـ
    إن التي زعمـت فـؤادك ملها * * * خلقت هواك كما خلقت هوى لها
    فبك الذي زعمـت بها وكلاكما * * * يبدي لصاحبه الصبـابـة كلها
    ويبيت بين جوانحي حـبٌّ لهـا * * * لو كان تحـت فراشهـا لأقلها
    ولعمرها لو كان حبـك فوقها * * * يوماً وقد ضحيـت إذن لأظلهـا
    وإذا وجدت لها وساوس سلـوة * * * شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
    بيضاء باكرها النعيـم فصاغها * * * بلبـاقـة فـأدقهـا وأجلهـا
    منعـت تحيتها فقلـت لصاحبي * * * ما كان أكثـرها لنـا وأقلها
    فدنا فقـال ، لعلهـا معـذورة * * * من أجل رقبتها، فقلت : لعلها
    هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل!.ـ
    وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليدا، وإنما قال عن شعور، ونطق عن ححب، فما يخفى كلام المحبين:ـ
    قالت ( وأبثثتها وجدي فبحت به ): * * * قد كنت عندي تحب السعر، فاستتر
    ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: * * * غطى هواك وما ألقى على بصري
    هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه نارا لا يطفئها إلا الوصال:ـ
    إذا وجدت أوار الحب في كبدي * * * عمدت نحو سقاء الماء أبترد
    هبني بردت ببرد الماء ظاهره * * * فمن لحر على الأحشاء يتّقد!؟
    وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لمجلس من عبيد الله لو كان حيا، أحب إلي من الدنيا وما فيها. وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف. وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء!.ـ
    وهو مع ذلك الشاعر الغزل الذي يقول:ـ
    شققت القلب ثم ذررت فيـه * * * هواك فليم فالتمام الفطور
    تغلغل حب عشمة في فؤادي * * * فباديه مع الخافي يسيـر
    تغلغل حيث لم يبلغ شـراب * * * ولا حزن ولم يبلغ سرور
    أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: "لا بد للمصدور من أن ينفث" فلا ينكر عليه ابن المسيب. وهو القائل:ـ
    كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم * * * ولامـك أقـوام ولومهـم ظلـم
    ونمّ عليـك الكاشحون و قبلهـم * * * عليك الهـوى قد نم لو نفع النم
    وزادك إغـراء بها طـول بخلها * * * عليك وأبلى لحم أعظمك الهـم
    فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة * * * على إثر هند أو كمن سقي السم
    ألا من لنفس لا تمـوت فينقضي * * * شقاها ولا تحيا حياة لها طعـم
    تجنبـت إتيـان الحبيـب تأثمـا * * * ألا إن هجران الحبيب هو الإثـم
    فـذق هجـرها إن كنت تزعم أنه * * * رشاد ألا يا ربما كذب الزعـم
    ألا إن هذا هو الشعر!.ـ
    واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره. هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 622 هـ فاسمع من شعره ما ترقص منه القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له:ـ
    وهـواك ما خطر السلو ببالـه * * * ولأنـت أعلـم في الغـرام بحالـه
    ومتى وشى واش إليـك بأنـه * * * سـال هـواك فـذاك مـن عذالـه
    أوليس للكلـف المعـنى شاهد * * * من حالـه يغنيـك عـن تسـآلـه
    جددت ثوب سقامـة، وهتكـت * * * ستر غرامه، وصرمت حبل وصاله
    أفزلـة سبقـت لـه أم خلـة * * * مـألـوفـة من تيـهـه ودلالـه
    أوما سمعت شعر الشيخ الشهرزوري الصوفي هاك منه قوله:ـ
    فعاودت قلبـي أسأل الصبـر وقفـة * * * عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
    وغابت شموس الوصل عني وأظلمت * * * مسالكه حتى تحيـرت في أمري
    وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي أسحق الشيرازي:ـ
    وإني لأبدي في هواك تجلدا * * * وفي القلـب مني لوعة وغليل
    فلا تحسبن أني سلوت فربما * * * ترى صحة بالمرء وهو عليل
    وقول أبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم:ـ
    لو كنت ساعة بيننا ما بيننا * * * ورأيت كيف تكـرر التوديعـا
    لعلمت أن من الدموع محدثا * * * وعلمت أن من الحديث دموعا
    والبيت الثاني من مرقصات الشعر.ـ
    وكان مع ذلك علامة في الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحويين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:ـ
    ومن كان في طول الهوى ذاق لذة * * * فإني من ليلي لها غير ذائق
    وأكثر شيء نلتـه من وصالهـا * * * أماني لم تصدق كخطفة بارق
    ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور المتوفى سنة 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفا كل يوم ما فارقتكم. ويقول:ـ
    سلام على بغداد في كل موطن * * * وحق لها مني سلام مضاعف
    فوا الله ما فارقتها عن قلى لها * * * وإني بشطي جانبيها لعـارف
    ولكنها ضاقـت علي بأسرهـا * * * ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
    وكانت كخل كنت أهـوى دنوه * * * وأخلاقـه تنأى به وتخالـف
    ويقول فيها:ـ
    بغداد دار لأهل المـال طيبـة * * * وللمفاليس دار الضنك والضيق
    ظللت حيران أمشي في أزقتها * * * كأنني مصحف في بيت زنديق
    وهو معنى جيد وتشبيه عجيب. وهو القائل:ـ
    متى يصل العطاش إلى ارتواء * * * إذا استقت البحـار من الركايا
    ومن يثني الأصاغر عن مـراد * * * وقد جلس الأكابـر في الزوايا
    وإنَّ ترفـع الوضعـاء يومـا * * * على الرفعاء من إحدى الرزايا
    إذا استوت الأسـافل والأعالي * * * فقد طابـت منادمـة المنايـا
    ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله:ـ
    ونائمة قبّلتها فتنبهت * * * وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
    فقلت لها إني (فديتـك) غاصـب * * * وما حكموا في غاصب بسوى الرد
    خذيهـا وكفي عن أثيـم ظلامـة * * * وإن أنت لم ترضي فألفا على العد
    فقـالت قصاص يشهد العقـل أنه * * * على كبد الجاني ألـذ من الشهـد
    فباتت يميني وهي هميان خصرها! * * * وباتت يساري وهي واسطة العقد
    فقـالت ألم تخبـر بأنـك زاهـد؟ * * * فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
    وهاك القاضي الجرجاني مؤلف (الوساطة) علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء صاحب الأبيات المعلمة المشهورة:ـ
    يقولون: لي فيـك انقباض، وإنما * * * رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
    أرى الناس من داناهم هان عندهم * * * ومن أكرمته عزة النفـس أكرما
    وما كل بـرق لاح لي يستفـزني * * * ولا كل من لاقيت أرضـاه منعما
    وإني إذا فاتني الأمـر لـم أبـت * * * أقلـب طـرفي إثـره متنـدمـا
    ولكنه إن جـاء عفـواً قبلـتـه * * * وإن مال لـم أتبعـه لولا وربمـا

    وأكرم نفسي أن أضاحك عابسـاً * * * وأن أتلقى بـالـمـديـح مذمما
    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * * * ولو عظمـوه في النفـوس لعَظّما
    ولكن أهانـوه فهـان ودنسـوا * * * محيـاه بالأطمـاع حتى تجهمـا
    أأشقى به غرساً وأجنيـه ذلـة؟ * * * إذن فاتباع الجهـل قد كان أحزما
    ويا ليت كل عالم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!.ـ
    والأبيات الأخرى:ـ
    وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى * * * وما علموا أن الخضوع هو الفقر وبيني وبين المـال شيئان حرمـا * * * عليّ الغنى: نفسي الأبية والدهـر
    إذا قيل هذا اليسـر أبصـرت دونه * * * مواقف خير من وقوفي بها العسر
    وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غزله فسهل حلو ومنه قوله:ـ
    ما لي وما لك يا فراق * * * أبداً رحيل وانطلاق
    يا نفس موتي بعدهـم * * * فكذا يكون الاشتياق
    وقوله:ـ
    قد بـرح الـحـب بمشتاقـك * * * فـأَوْلِهِ أحـسـن أخـلاقـك
    لا تجـفـه وارع لـه حـقـه * * * فـإنـه آخـر عـشـاقـك
    وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من أهل القرن الثالث الذي يقول:ـ
    سلبـت عظامي لحمهـا فتركتهـا * * * عـوارى في أجلادهـا تتكسـر
    وأخليـت منهـا مخّهـا فكـأنهـا * * * أنابيب في أجوافها الريح تصفر
    إذا سمعـت باسم الفـراق ترعّدت * * * مفاصلها من هـول ما تتحـذر
    خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري * * * بلى جسـدي لكنني أتستـر
    وليس الذي يجري من العين ماءها * * * ولكنهـا روح تـذوب فتقطـر
    وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق ابن الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيمه حبه، قال القاضي التبريزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت ههنا. وألقى علي فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما:ـ
    أنـا والله هـالـك * * * آيس من سلامتي
    أو أرى القامة التي * * * قد أقامت قيـامتي
    ولما فشا أمره، منع الملك ابنه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال:ـ
    إن لم تجودوا بالوصـال تعطفاً * * * ورأيتـم هجـري وفـرط تجنبي
    لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى * * * يوم الخميس جمالكم في الموكب
    لو كنت تعلم يا حبيـبي ما الذي * * * ألقـاه من كمـد إذا لم تركـب
    لرحمتني ورثيـت لي من حالة * * * لولاك لم يك حملهـا من مذهبي
    ومن البـلـيـة والرزية أنني * * * أقضي ولا تدري الذي قد حل بي*
    قسماً بوجهك وهو بـدر طالع * * * وبـلـيـل طرَّتك التي كالغيهـب لو لم أكن في رتبـة أرعى لها * * * العهـد القديـم صيانة للمنصب
    لهتكت ستري في هواك ولذ لي * * * خلـع العـذار ولو ألـح مؤنبي
    لكن خشيـت بأن يقول عواذلي * * * قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
    ـ((*بل البلية والله أن يكون قاضيا ويعشق الغلمان، هذا مع الثقة بدينه، وأنه لا يطلب حراما ولا يأتيه مختارا -غفر له الله))ـ
    فارحم فديتك حرقة قد قاربت * * * كشف القناع بحق ذِيَّاك النبي
    لا تفضحن بحبك الصبَّ الذي * * * جرعته في الحب أكدر مشرب
    وله فيه شعر كثير جدا.ـ
    ومن شعر محمد بن داوود الظاهري، مؤلف كتاب (الزهرة) في الحب، وكان فقيها على مذهب أبيه داوود وكان شاعرا:ـ
    أنزه في روض المحاسن مقلتي * * * وأمنع نفسي أن تنال محرما
    وأحمد من ثقل الهوى ما لو أنه * * * يصب على الصخر الأصم تهدما
    ومن شعر أبي الفضل الحصكفي الفقيه الشافعي:ـ
    أشكو إلى الله من نارين: واحـدة * * * في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
    ومن سقامين: سقم قد أحـل دمي * * * من الجفون وسقم حل في جسدي ومن نمومين: دمعي حين أذكـره * * * يذيع سري وواش منه بالرصـد
    ومن ضعيفين: صبري حين أبصره * * * ووده ويـراه النـاس طوع يدي
    ولو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين هذا مما يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟
    أما إنها لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر... فهل لعلمائنا عودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟! مع الديانة والصيانة وأنهم (يقولون ما لا يفعلون) وما لا يدفع إلى ما يأباه الدين
    شيــخ في المرقص
    بقلم : الشيخ علي الطنطاوي
    كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير في السن وذات يوم التفت الشيخ الى المصلين وقال لهم ما بال أكثر الناس خاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه ، فأجابه المصلون إنهم في المراقص والملاهي قال الشيخ ماهي المراقص والملاهي ؟
    فرد عليه أحد المصلين وقال المرقص صالة كبيرة فيها خشبة مرتفعة تصعد عليها الفتيات عاريات أو شبه عاريات يرقصن والناس حولهن ينظرون اليهن.
    قال الشيخ : والذين ينظرون اليهن من المسلمين ، قالوا نعم ، قال لا حول ولا قوة إلا بالله يجب أن ننصح الناس ، قالوا له يا شيخ أتعض الناس وتنصحهم في المرقص ، فقال نعم هيا بنا الى تلك المراقص
    فحاولوا أن يثنوه عن عزمه وأخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء وسينالهم الاذى ، فقال وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص ، وعندما وصلوا اليه سألهم صاحب المرقص ماذا تريدون؟
    قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص ، تعجب صاحب المرقص وأخذ يمعن النظر فيهم ورفض السماح لهم فأخذوا يساومونه ليأذن لهم حتى دفعوا له مبلغ من المال يعادل دخله اليومي ، فوافق صاحب المرقص وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدأ العرض اليومي!
    قال الشاب : فلما كان الغد كنت موجودا في المرقص ، فبدأ الرقص من أحدى الفتيات فلما إنتهت ،أسدل الستار ، ثم فتح فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي ، فبدأ بالبسملة والحمدلله والثناء عليه وصلى على الرسول عليه الصلاة والسلام ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة ، وتمالكهم العجب ، وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية ، فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم ، فأخذوا يسخرون منه ويرفعون أصواتهم بالضحك ، والاستهزاء وهو لا يبالي بهم ، واستمر في نصحه ووعظه حتى قام أحد الحضور وأسكت الناس وطلب منهم الانصات لما يريد قوله ذلك الشيخ فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص ، حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل ، تلى علينا آيات من القرآن الكريم ، وأحاديث نبوية وقصص لتوبة بعض الصالحين ، وكان مما قاله ، يا أيها الناس إنكم عشتم طويلا وعصيتم الله كثرا ، فأين ذهبت لذة المعصية لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ، ستسألون عنها يوم القيامة ، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى ، يا أيها الناس هل نظرتم الى اعمالكم والى أين ستؤدّي بكم إنكم لا تتحملون النار في الدنيا وهي جزء من سبعين جزاء من نار جهنم ، فبادروا بالتوبة قبل فوات الاوان ، فبكا الناس جميعاً ، وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه ، وكانت توبتهم وتوبتي اناأيضاً على يد ذلك الشيخ ، حتى صاحب المرقص .
  • ابن مرضي
    إداري
    • Dec 2002
    • 6171

    #2
    بن بشيتي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
    أثابك الله ووفقك على مانقلته عن الشيخ على الطنطاوي ، وأتمنى أن تثبت له هذه الصفحة لنعود اليها كلما أحتجنا لها ، وياكثر ماسنحتاج اليها .
    كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى = وحنينه أبدا لأول منزل

    تعليق

    • حديث الزمان
      عضوة مميزة
      • Jan 2002
      • 2927

      #3

      رحم الله شيخنا الجليل واسكنه فسيح جناته


      مع طلب بن مرضي نتمنى تثبيت الموضوع .




      مشكور

      لكل بداية .. نهاية

      تعليق

      Working...