من فنون الأدب البارزة التي لها حضور في الذهن وموضع في المجتمع فن الرثاء
نجده يتجسد في الكلمة المؤثرة والصورة الموحية والفكرة المعبّرة، وهو يرتبط بالموهبة الأصيلة والحسِ المرهف والوفاء الخالص،
، وله امتداده عبر مختلف العصور منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحالي ويُعدُّ الرثاء من أصدق ما عبّر عنه الشعراء
وقد برع العرب في هذا الفن وأبدعوا فيه وارتقوا بفنه، وذلك لالتصاقه بشغاف النفس ولأنه ينبع من أعماق الفؤاد، ولذا كان له تأثيره و انعكاسه على العاطفة، فهو يمثل لوعة موجعة وحسرة لاذعة لفراق حبيب أو فقد عزيز.
ومعلوم أن الفراق له وقع فاجع بين المحبين وهو يعكس مشاعر الحزن، ويكرس ألم الفراق هذا إذا كان الغائب حياً تُنتظر عودته فيتجدد نحوه الشوق بحسب طول غيابه ومسافة ابتعاده، ويظل الأمل معلقاً عليه والرجاءُ مرتبطاً به في تعليل للنفس بالآمال المرتجاة لهذه العودة القريبة،
فكيف إذا كان الفراق أبدياً لا يُنتظر له إياب ولا يُؤمل بعده عودة؟
لاشك أن الفاجعة حينئذٍ ستكون فادحة والحزن أعم وأشمل. لانقطاع الأمل وتلاشي الرجاء في أوبة الراحل وعودة الغائب، وهنا يتعمق الحزن فيهزّ كيان المحزون ولا يخفف لواعج الفراق ويهدّئ من توترات المحزون سوى الدموع التي يسفحها، والرثاء الذي يخفّفها إذا كان مستطيعاً لتوظيف موهبته في هذا الجانب من هذا الفن الرثائي، وعندما سئل أحد شعراء العرب: لماذا كان شعر المراثي أشرف الأشعار؟ أجاب لأننا نقول هذا الشعر وقلوبنا محترقة، وفي هذه الاجابة ما يؤكد بواعث الحزن على فراق الأحبة وأن الرثاء بمثابة البلسم الذي يخفف من شحنة الآلام والاحزان
وقداشتهرت كثير من قصائد الرثاء في أدبنا العربي كرثاء مالك بن الريب نفسه
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بوادي الغضا أزجى القلاص النواجيا
ومراثي الخنساء التي ما فتـئت الدهر كله ترثي أخيها صخر وابن الرومي وهو يرثي إبنه
توخى حمام الموت أوسط صبيتي *** فلله كيف اختار واسطة العقد
وقد يكون المفقود أكثر من مجرد قريب للشاعر قرابة الدم ، بل ربما كانت قرابة ملة وعقيدة كما هو حال الشاعر حافظ إبراهيم راثيا الإمام محمد عبده في قصيدته الشهيرة الميمية يوم رثاه قائلا :
سلام على الإسلام بعد محمد *** سلام على أيامه النضرات
وحين نقلب صفحات شعرنا الشعبي نصاب بالأسى حين لانجد سوى شذرات قليلة
من شعر الرثاء وكأن قلوبنا قدّت من الصخر وكأننا أمـة لاتحزن ولا تعرف الأسى ولا تعرف الوفاء لمن فقدنا ومن عجائب الصدف وما جرت به الأقدار أن حتى من رثـا [ بن ثامرة ] لم يعرف له إسما وبقي مجهولاً حسب [ السلوك ]في كتابه وهاهي مرثية ابن ثامرة للشاعر المجهول عليهما رحمة الله
يبكيك ياابن ثواب عبدالله والاحلاف
كلهم مالحاف للحاف
من دوقه لامولغ الى طفة بني سار
عالذي مدحه بنا سار
وبني سليم التهم مالحجره لا ريم
عالذي في مترسه قيم
وبني عمر مالشعبه لا ويل سلمان
ليتك يا بن ثواب سلمان
هيهات يابن ثواب يا قيدوم هيهات
فالشاعر بكى وأبكى وقد بكى معه على الثوابي إبنه عبدالله وكل الأحلاف وزهران تهامة وزهران السراه كلهم دون استثناء
الجميع بكى موت الشاعر الفذ البطل الشجاع الفقيه صاحب المواقف الرجولية
والشاعرية المرهفة المبدعه الذي سارت بأشعاره الركبان وتغنى بها في ليالي
السمرالشيب والشبان وتناقلتها الأجيال وشدا بها الرعاة في رؤوس الجبال والمزارعون في بطون الأودية ورؤوس الأبار وأطرب بها الحداة إبلهم في سراهم ومغتداهم
رحمك الله أيها الشاعر المجهول ورحم من رثيته وعزاءنا إن جارت على إسمك عاديات الزمان فإن صدق مشاعرك وعمق حزنك ووقع كلماتك مازال لها ذات الأثر وكأني بك على مقربة مني تلقي روائع كلماتك المختلطة بدموعك وأنت تعيد وتكرر
هيهات يابن ثواب يا قيدوم هيهات
أمـّـا علي بن سعد[ دغسان ] أبوعالي صاحب المرثية الثانيه في صاحبه وصديقه وجاره ورفيق دربه [ سـعد بن عبد الرحمن المنشلي ] عليهم جميعا فيوض رحمة ربي ورضوانه فها هو ينتقل من وادي العلي ــ حيث كانت ملاعب صباهما ومواطن الحنين ــ إلى وادي مبــايع الوادي القريب من المنفا الاختياري لسعد أواخر عمره لا ليقف على الأطلال ولا ليسـأل الدمن ولكن ليبحث عن شقيق الروح والوجدان فهو المطلوب لاالرمال ولا الكثبان فلا يجد سعد بل يجد الجفاف والقيظ والهجير ووحشة الصحراء وقسوتها وغدرها فيسـأل مبايع بالله ســؤال الباكي وسؤال المدنف فلا يجد سوى السراب واليباب والصمت
اسايلك بالله ياوادي مبايع
وينه راع الصنايع
ربه يكن عود يسالك عن ذلوله
وعن اصحابه وعوله
والا يدور له لخطار يمدون
ربهم لاهله يودون
جزاك عني خير لو علمتني به
ولكن مهــلاً يا أبا عبد العزيز ماعهدناك إلا مؤمناً بقضاء الله وقدره وما عهدناك إلا ممن تعلقت قلوبهم بالمساجد فماذا دهــاك ..؟؟
وكأني به تفتـرّ شفتاه عن بقايا كلمات غالبها الحزن وهو يقول :
ربه يكن عود يسالك عن ذلوله
ربمـــا .......أه من ربمــا هذه يا أباعبد العزيز إنك رغم تقديمك للإسم الإلهي
في ثنايا البيت الأول وأوائل البيتين الثالث والسادس لإيمانك الحق بما يكتبه جــلّ وعــلا فإن شئ من وجدانك مازال يأمل في إطــلالة لسعد ويكشف ذلك حالة الضياع التي صورتها [ لذلول ] سعد وتمنيك المكبوت أن يبرز من وراء أحد الكثبان ليبحث عنه أو عنك أيها الخاطر ، بينما هي حالة تلبستك أنت وإلا فما معنى وقوفك في وادي مبايع لتسـأله ..؟؟
فمن يبحث منكما عن الأخر ومن يســأل أأنت أم ســعد ..؟؟
لكن بقايا أستار أحزانك ماتلبث أن تسقط دفعة واحده وأنت تردد البيت الأخير
جزاك عني خير لو علمتني به
وهنا تبرز لحظة الضعف البشري واضحة جلية للعيان وواجب اللجوء للواحد الحي الديّان فليس لك والله يا أبا عبدالعزيز وليس لنا إلاّه نلجأ إليه ليخفف المصاب
ويعصمنا بالصبر وذلك كان ديدنك وذلك كان توجهك وتلك كانت سجيتك
رحمــكم الله جميعــاً الثوابي وسعد وعلي والمجهول
ورحمنا إذا صرنا إلى ماصرتم إليه
** هناك إيقاع موسيقي عجيب للقصيدتين عسى لعودةٍ إليه من سبيل
نجده يتجسد في الكلمة المؤثرة والصورة الموحية والفكرة المعبّرة، وهو يرتبط بالموهبة الأصيلة والحسِ المرهف والوفاء الخالص،
، وله امتداده عبر مختلف العصور منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحالي ويُعدُّ الرثاء من أصدق ما عبّر عنه الشعراء
وقد برع العرب في هذا الفن وأبدعوا فيه وارتقوا بفنه، وذلك لالتصاقه بشغاف النفس ولأنه ينبع من أعماق الفؤاد، ولذا كان له تأثيره و انعكاسه على العاطفة، فهو يمثل لوعة موجعة وحسرة لاذعة لفراق حبيب أو فقد عزيز.
ومعلوم أن الفراق له وقع فاجع بين المحبين وهو يعكس مشاعر الحزن، ويكرس ألم الفراق هذا إذا كان الغائب حياً تُنتظر عودته فيتجدد نحوه الشوق بحسب طول غيابه ومسافة ابتعاده، ويظل الأمل معلقاً عليه والرجاءُ مرتبطاً به في تعليل للنفس بالآمال المرتجاة لهذه العودة القريبة،
فكيف إذا كان الفراق أبدياً لا يُنتظر له إياب ولا يُؤمل بعده عودة؟
لاشك أن الفاجعة حينئذٍ ستكون فادحة والحزن أعم وأشمل. لانقطاع الأمل وتلاشي الرجاء في أوبة الراحل وعودة الغائب، وهنا يتعمق الحزن فيهزّ كيان المحزون ولا يخفف لواعج الفراق ويهدّئ من توترات المحزون سوى الدموع التي يسفحها، والرثاء الذي يخفّفها إذا كان مستطيعاً لتوظيف موهبته في هذا الجانب من هذا الفن الرثائي، وعندما سئل أحد شعراء العرب: لماذا كان شعر المراثي أشرف الأشعار؟ أجاب لأننا نقول هذا الشعر وقلوبنا محترقة، وفي هذه الاجابة ما يؤكد بواعث الحزن على فراق الأحبة وأن الرثاء بمثابة البلسم الذي يخفف من شحنة الآلام والاحزان
وقداشتهرت كثير من قصائد الرثاء في أدبنا العربي كرثاء مالك بن الريب نفسه
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بوادي الغضا أزجى القلاص النواجيا
ومراثي الخنساء التي ما فتـئت الدهر كله ترثي أخيها صخر وابن الرومي وهو يرثي إبنه
توخى حمام الموت أوسط صبيتي *** فلله كيف اختار واسطة العقد
وقد يكون المفقود أكثر من مجرد قريب للشاعر قرابة الدم ، بل ربما كانت قرابة ملة وعقيدة كما هو حال الشاعر حافظ إبراهيم راثيا الإمام محمد عبده في قصيدته الشهيرة الميمية يوم رثاه قائلا :
سلام على الإسلام بعد محمد *** سلام على أيامه النضرات
وحين نقلب صفحات شعرنا الشعبي نصاب بالأسى حين لانجد سوى شذرات قليلة
من شعر الرثاء وكأن قلوبنا قدّت من الصخر وكأننا أمـة لاتحزن ولا تعرف الأسى ولا تعرف الوفاء لمن فقدنا ومن عجائب الصدف وما جرت به الأقدار أن حتى من رثـا [ بن ثامرة ] لم يعرف له إسما وبقي مجهولاً حسب [ السلوك ]في كتابه وهاهي مرثية ابن ثامرة للشاعر المجهول عليهما رحمة الله
يبكيك ياابن ثواب عبدالله والاحلاف
كلهم مالحاف للحاف
من دوقه لامولغ الى طفة بني سار
عالذي مدحه بنا سار
وبني سليم التهم مالحجره لا ريم
عالذي في مترسه قيم
وبني عمر مالشعبه لا ويل سلمان
ليتك يا بن ثواب سلمان
هيهات يابن ثواب يا قيدوم هيهات
فالشاعر بكى وأبكى وقد بكى معه على الثوابي إبنه عبدالله وكل الأحلاف وزهران تهامة وزهران السراه كلهم دون استثناء
الجميع بكى موت الشاعر الفذ البطل الشجاع الفقيه صاحب المواقف الرجولية
والشاعرية المرهفة المبدعه الذي سارت بأشعاره الركبان وتغنى بها في ليالي
السمرالشيب والشبان وتناقلتها الأجيال وشدا بها الرعاة في رؤوس الجبال والمزارعون في بطون الأودية ورؤوس الأبار وأطرب بها الحداة إبلهم في سراهم ومغتداهم
رحمك الله أيها الشاعر المجهول ورحم من رثيته وعزاءنا إن جارت على إسمك عاديات الزمان فإن صدق مشاعرك وعمق حزنك ووقع كلماتك مازال لها ذات الأثر وكأني بك على مقربة مني تلقي روائع كلماتك المختلطة بدموعك وأنت تعيد وتكرر
هيهات يابن ثواب يا قيدوم هيهات
أمـّـا علي بن سعد[ دغسان ] أبوعالي صاحب المرثية الثانيه في صاحبه وصديقه وجاره ورفيق دربه [ سـعد بن عبد الرحمن المنشلي ] عليهم جميعا فيوض رحمة ربي ورضوانه فها هو ينتقل من وادي العلي ــ حيث كانت ملاعب صباهما ومواطن الحنين ــ إلى وادي مبــايع الوادي القريب من المنفا الاختياري لسعد أواخر عمره لا ليقف على الأطلال ولا ليسـأل الدمن ولكن ليبحث عن شقيق الروح والوجدان فهو المطلوب لاالرمال ولا الكثبان فلا يجد سعد بل يجد الجفاف والقيظ والهجير ووحشة الصحراء وقسوتها وغدرها فيسـأل مبايع بالله ســؤال الباكي وسؤال المدنف فلا يجد سوى السراب واليباب والصمت
اسايلك بالله ياوادي مبايع
وينه راع الصنايع
ربه يكن عود يسالك عن ذلوله
وعن اصحابه وعوله
والا يدور له لخطار يمدون
ربهم لاهله يودون
جزاك عني خير لو علمتني به
ولكن مهــلاً يا أبا عبد العزيز ماعهدناك إلا مؤمناً بقضاء الله وقدره وما عهدناك إلا ممن تعلقت قلوبهم بالمساجد فماذا دهــاك ..؟؟
وكأني به تفتـرّ شفتاه عن بقايا كلمات غالبها الحزن وهو يقول :
ربه يكن عود يسالك عن ذلوله
ربمـــا .......أه من ربمــا هذه يا أباعبد العزيز إنك رغم تقديمك للإسم الإلهي
في ثنايا البيت الأول وأوائل البيتين الثالث والسادس لإيمانك الحق بما يكتبه جــلّ وعــلا فإن شئ من وجدانك مازال يأمل في إطــلالة لسعد ويكشف ذلك حالة الضياع التي صورتها [ لذلول ] سعد وتمنيك المكبوت أن يبرز من وراء أحد الكثبان ليبحث عنه أو عنك أيها الخاطر ، بينما هي حالة تلبستك أنت وإلا فما معنى وقوفك في وادي مبايع لتسـأله ..؟؟
فمن يبحث منكما عن الأخر ومن يســأل أأنت أم ســعد ..؟؟
لكن بقايا أستار أحزانك ماتلبث أن تسقط دفعة واحده وأنت تردد البيت الأخير
جزاك عني خير لو علمتني به
وهنا تبرز لحظة الضعف البشري واضحة جلية للعيان وواجب اللجوء للواحد الحي الديّان فليس لك والله يا أبا عبدالعزيز وليس لنا إلاّه نلجأ إليه ليخفف المصاب
ويعصمنا بالصبر وذلك كان ديدنك وذلك كان توجهك وتلك كانت سجيتك
رحمــكم الله جميعــاً الثوابي وسعد وعلي والمجهول
ورحمنا إذا صرنا إلى ماصرتم إليه
** هناك إيقاع موسيقي عجيب للقصيدتين عسى لعودةٍ إليه من سبيل
تعليق