Unconfigured Ad Widget

Collapse

الحسد

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • احمد البشيري
    عضو مميز
    • Jun 2002
    • 1513

    الحسد

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    الحمد لله تعالى على ما أنعم، و له الشكر على ما وفق له و ألهم، نحمده سبحانه على ما تفضل به و تكرم، هو ربي لا إله إلا هو، و هو الإله الواحد المعظم، أرسل نبيه محمد صلى الله عليه و سلم فهدى الله به من هذه الأمة من أراد به خيراً من جميع الأمم، و حرم الهداية أهل الغي و الحسد و حيل بينهم و بين هذا الفضل و الكرم.

    و بعد:

    فهذه رسالة كتبتها في الحسد و آثاره و أضراره و ما وقع بسببه من المصائب و الشرور و الفتن، و سردت بعض الأدلة التي نقلتها عن مؤلفات أهل العلم، كالآداب الكبرى لابن مفلح و تفسير الرازي الكبير و مختصره للقمي، و الترغيب و الترهيب للمنذري و نحوها، رجاء أن يستفيد منه من قرأه بإنصاف و تمعن، حتى يخف أثر هذا الداء العضال الذي فشا و تمكن حتى في طلبة العلم و حملته، فإن الحسود لا يسود و لا ينال من حسده إلا الهم و الغم و النكد و الكبد، فمن عرف أن الله تعالى هو المنعم على عباده بما فيه خيرهم و صلاحهم، أو فيه اختبارهم و ابتلاؤهم، فلا يجوز له أن يحسدهم على ما أعطاهم الله تعالى و إنما عليه أن يغبطهم إذا أدوا حقوق الله تعالى وعملوا بما يرضيه، و يحرص على أن يحصل على مثل ما حصلوا عليه، فأما السعي في إزالة النعمة و تنغيصها على أهلها فهو من الكبائر، و الله المتفضل على عباده، و له الحمد و الشكر و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.


    تعريف الحسد:

    الحسد لغة: قال في لسان العرب: الحسد معروف، حسده يَحْسِدُه و يَحْسُدُه حسداً و حسَّده إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته و فضيلته أو يسلبهما هو، و قال: الحسد أن يرى الرجل لأخيه نعمة فيتمنى أن تزول عنه و تكون له دونه.

    و الغَبْطُ: أن يتمنى أن يكون له مثلها و لا يتمنى زوالها عنه (لسان العرب لابن منظور 3/148-149).

    و اصطلاحاً: هو تمني زوال نعمة المحسود و إن لم يَصِرْ للحاسد مثلها. أو تمني عدم حصول النعمة للغير.

    حقيقة الحسد:

    و حقيقة الحسد أنه ناتج عن الحقد الذي هو من نتائج الغضب.

    أولاً: الأدلة من القرآن:

    · قال الله تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم))(البقرة:109)، و هذا تحذير للمؤمنين عن طريق اليهود الذين يحاولون رد المؤمنين إلى الكفر، يحملهم على ذلك الحسد الدفين في أنفسهم لما جاء هذا النبي من غيرهم، فحسدوا العرب على إيمانهم، و حاولوا أن يردوهم كفاراً و لكن الحق واضح فتمسكوا به.

    · و قال تعالى: ((أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله))(النساء:54). و ذلك هو حسدهم النبي صلى الله عليه و سلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة، و منعهم الناس من تصديقهم له حسداً له لكونه من العرب، روى الطبراني عن ابن عباس في قوله ((أم يحسدون الناس))، قال: نحن الناس دون الناس. يعني: إننا معشر العرب أو معشر قريش نحن الناس المذكورون في هذه الآية، و لا شك أن هذا ذم لهم على هذه الخصلة، و هي الحسد الذي حملهم على إعمال الحيلة في صد الناس عن الحق المبين.

    · و قال تعالى: ((و من شر حاسد إذا حسد))(الفلق:5)، فالحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن أخيه المحسود، و لابد أنه سوف يبذل جهده في إزالتها إن قدر، فهو ذو شر و ضرر بمحاولته و سعيه في إيصال الضرر، و منع الخير.

    · و قد حكى الله تعالى أمثلة من الحسد كقصة ابني آدم فإن أحدهما قتل أخاه حسداً لما تقبل قربانه، فأوقعه الحسد في قتل أخيه بغير حق، و كقصة إخوة يوسف في قولهم: ((ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا))(يوسف:8). ثم عملوا على التفريق بينه و بين أبيه بما فعلوا.

    · و كقصة المنافقين في قوله تعالى: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم))(آل عمران:120). و ذلك مما يحملهم على إعمال الحيل في إبعاد المؤمنين عن الخيرات.

    · و قد قال تعالى: ((و لا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض))(النساء:32). فهذا التمني المنهي عنه قد يكون الدافع له الحسد من المفضول للفاضل، مع أن الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، و الله ذو الفضل العظيم، فعلى المفضول أن يطلب الفضل من الله تعالى، و لا ينافس أخاه و يضايقه فيما أعطاه الله و تفضل به عليه.

    ثانياً: الأدلة من السنة:

    · ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه و سلم: "إياكم و الظن فإن الظن أكذب الحديث، و لا تحسسوا، و لا تجسسوا، و لا تنافسوا، و لا تحاسدوا" الحديث، و هذا النهي للتحريم بلا شك، لما في التحاسد من الأضرار و المفاسد، و قطع الصلات بين المسلمين.

    · و روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "لا يجتمع في قلب بعد الإيمان و الحسد".

    · و ثبت في السنن عن أبي هريرة و أنس قول النبي صلى الله عليه و سلم: "إياكم و الحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب".

    · و عن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا" رواه الطبراني و رواته ثقات.

    · و عن الزبير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد و البغضاء، و البغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، و لكن تحلق الدين" رواه البزار و البيهقي بإسناد جيد.

    · و عن أنس قال: قال لي النبي صلى الله عليه و سلم: "يا بني إن قدرت على أن تصبح و تمسي و ليس في قلبك غش لأحد فافعل" رواه الترمذي و حسنه.

    · و عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قيل فما المخموم؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه و لا بغي، و لا غل و لا حسد" رواه ابن ماجه بإسناد صحيح.

    · و روي أنه صلى الله عليه و سلم قال: "إن لنعم الله أعداء، الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".

    · و في حديث مرفوع: "ستة يدخلون النار قبل الحساب، ذكر منهم: العلماء بالحسد".

    · و قال ابن الزبير: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا، إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا و هي حقيرة في الجنة؟! و إن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا و هو يصير إلى النار؟!

    · و روي عن الأصمعي أنه قال: الحسد داء منصف، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود. يعني: أن الحاسد إذا رأى أخاه في نعمة و صحة و رفاهية حسده و قام بقلبه حقد و بغض له، فهو كلما رآه في هذه النعمة اغتاظ لذلك، فيبقى دائماً مهموم القلب حزيناً، يتمنى ما لا يقدر عليه من إزالة تلك النعم، فهو يتقلب على فراشه من الغيظ، مع أن المحسود لا يشعر بألم، بل هو قرير العين مسرور لم يصل إليه في الغالب شيء من الضرر الذي في قلب الحاسد، و إن وصل إليه فإنه لا يتأثر به إلا قليلاً، و الله أعلم.

    العين هي: النظر إلى الشيء على وجه الإعجاب و الإضرار به، و إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة، و هي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت و احتدت، فإنها تتكيف بكيفية الغضب و الخبث، فتحدث فيها تلك الكيفية السم، فتؤثر في الملسوع، و ربما قويت تلك الكيفية و اتقدت في نوع منها، حتى تؤثر بمجرد نظرة، فتطمس البصر، و تسقط الحبل، فإذا كان هذا في الحيات، فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة، إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية، و توجهت إلى المحسود، فكم من قتيل! و كم من معافى عاد مضني البدن على فراشه! يتحير فيه الأطباء الذين لا يعرفون إلا أمراض الطبائع، فإن هذا المرض من علم الأرواح، فلا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح، بل هو أعظم و أوسع و عجائبه أبهر، و آياته أعجب، فإن هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح أصبح كالخشبة، أو القطعة من اللحم، فالعين هي هذه الروح التي هي من أمر الله تعالى، و لا يدرك كيفية اتصالها بالمعين، و تأثيرها فيه إلا رب العالمين.

    و أما الحسد: فهو خلق ذميم، و معناه تمني زوال النعمة عن المحسود، و السعي في إضراره حسب الإمكان و هو الخلق الذي ذم الله به اليهود بقوله تعالى: ((ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم))(البقرة:109). أي أنهم يسعون في التشكيك و إيقاع الريب، و إلقاء الشبهات حتى يحصلوا على ما يريدونه من صد المسلمين عن الإسلام، و لا شك أن الحسد داء دفين في النفس، و تأثيره على الحاسد أبلغ من تأثيره على المحسود، حيث إن الحاسد دائماً معذب القلب، كلما رأى المحسود و ما هو فيه من النعمة و الرفاهية تألم لها، فلذلك يقال:

    أصبر على كيد الحسود إن صبرك قاتلــه

    النار تأكل نفسهـــا إن لم تجد ما تأكله

    و قال بعض السلف: الحسد داء منصف، يعمل في الحاسد أكثر مما يعمل في المحسود.

    الفرق بين العائن و الحاسد


    قال ابن القيم في بدائع الفوائد: العائن والحاسد يشتركان في شيء، و يفترقان في شيء، فيشتركان في أن كلاً منهما تتكيف نفسه، و تتوجه نحو من يريد أذاه، فالعائن، تتكيف نفسه عند مقابلة المعين و معاينته، و الحاسد: يحصل له ذلك عند غيبة المحسود و حضوره، و يفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده: من جماد، أو حيوان، أو زرع أو مال، و إن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه، و ربما أصابت عينه نفسه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب و تحديق، فمع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين. ا.هـ.

    فالحاصل أن الحاسد هو: الذي يهمه ما يرى في إخوانه المسلمين من النعمة و الخير، و الصحة و المنزلة الراقية فيحقد عليهم، و يغتم لذلك، ثم يسعى في زوالها، و يبذل ما في وسعه من وشاية و كذب، و افتراء عليه، و يؤلب عليه من له سلطة أو ولاية، حتى تزول تلك النعمة التي يتمتع بها أخوه، و ليس هناك دافع له على إزالتها سوى الحقد و البغض، فلا يقر قراره حتى يتلف المال، أو يفتقر الرجل، أو يمرض، أو يحرم من حرفته أو عمله.

    أما العائن فهو: إنسان قد تكيفت نفسه بالخبث و الشر، فأصبحت تمتد إلى ما يلفت النظر، و ترسل إليها ما يحطمها و يغيرها، فيسقط الطائرة من الهواء، و يعطب الوحش البري، بمجرد كلمته و نظرته السامة، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن منهم من تمر به الناقة أو البقرة السمينة فيعينها، ثم يقول لخادمه: خذ المكتل و الدرهم، و آتنا بشيء من لحمها، فما تبرح حتى تقع فتنحر.

    و قال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة، لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلاً و لا غنماً أحسن من هذه. فما تذهب إلا قليلاً حتى يسقط منها طائفة.

    و قد حكى بعض الإخوان أن منهم من يريد السفر على الطائرة أو الحافلة فيعينها، فتتوقف حتى يتفرغ فيأتي و يتكلم بما يبطل ما بها فتصلح مع بذل العمال ما يستطيعون في إصلاحها، و الحكايات عن أهل العين كثيرة مشهورة.

    و مع ذلك قد أنكرها بعض المشايخ الكبار بسبب أنهم لا يعلمون لها سبباً مباشراً، و ذلك لجهلهم بتأثير الأرواح و ما تختلف به عن الأجساد، كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى في البدائع و غيره.

    مراتب الحسد


    ذكر ابن سليمان في الموارد أنها خمس:

    المرتبة الأولى: أن يتمنى زوال النعمة عن الغير، و يسعى في الوسائل المحرمة لإزالتها بكل ما يستطيع، و هي الغاية في الخبث و النذالة، و هما الغالب في الحساد، خصوصاً المتزاحمين في صفة واحدة، كالتجار و العمال، و أهل الوظائف الحكومية، فمتى ربح أخوه ربحاً كثيراً أو حصل له لذة مما يتمناه، أو حصل على عمل أو منصب أرفع من غيره، فإن الحاسد يعمل في الإساءة إليه، و يسعى في حرمانه، و يلصق به العيوب، و يولد عليه الأكاذيب، ليزيحه عن ذلك العمل، و ينصب نفسه مكانه.

    المرتبة الثانية: أن يتمنى زوال تلك النعمة، و يحب ذلك، و إن كان لا يريدها لنفسه، و لا يطمع فيها، لكن من باب الحقد على أخيه و البغض له.

    المرتبة الثالثة: أن يجد من نفسه الرغبة في زوال النعمة عن المحسود، سواء انتقلت إليه أو إلى غيره، و لكنه لا يعمل شيئاً في إزالتها إلا أنه في جهاد مع نفسه، و كفها عما يؤذي أخاه، خوفاً من الله تعالى، و كراهة لظلم عباد الله، فهذا قد كفي شر غائلة الحسد، و دفع عن نفسه العقوبة الأخروية، و لكن ينبغي له أن يعالج نفسه عن هذا الوباء الذي هو بغض النعمة، و محبة زوالها عن أخيه المسلم.

    المرتبة الرابعة: أن يتمنى زوال النعمة عن غيره بغضاً لذلك الشخص، لسبب شرعي، كأن يكون ظالماً يستعين على ظلمه بذلك المنصب، أو ذلك الجاه و المال، فيتمنى زوالها ليريح الناس من شره، و كالفاسق الذي يستعين بالمال أو المنصب على فسقه و فجوره، فتمني زوال ذلك و السعي فيه لا إثم فيه، بل قد يكون مثاباً إذا عمل على إراحة المسلمين من الشر و العسف، و الظلم و التجبر الذي يتسلط به ذلك الظالم بسبب منصبه أو جاهه.

    المرتبة الخامسة: أن يتمنى لنفسه مثلها، و لا يحب زوالها عن أخيه، و لا يسعى في ذلك، سواء كانت تلك النعمة من مباح متاع الدنيا كالمال و الجاه، أو من النعم الدينية كالعلم الشرعي، و العبادة الدينية، و قد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه و سلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، و رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يعلمها"، و هذا لا يسمى حسداً إلا من حيث الظاهر، و إلا فهو غبطة و منافسة، و محبة للحصول على الخير الدنيوي، و الأجر الأخروي، فهو يحب أن يكون مثل أخيه، و يغبطه بذلك، و له مثل أجره على حسن نيته و قصده.

    أسباب الحسد و دوافعه

    يمكن أن نلخص ذلك في سبعة أسباب:

    أولها: العداوة و البغضاء، فمن آذاه إنسان و أوصل إليه ضرراً، فلا بد أن يبغضه، و يغضب عليه، و يتولد من ذلك الحقد المقتضي للتشفي و الانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، قال تعالى: ((إن تمسسكم حسنة تسؤهم و إن تصبكم سيئة يفرحوا بها))(آل عمران:120). و ربما أفضى هذا الحسد إلى التقاتل و التنازع.

    ثانيها: التعزز، فإنَّ واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً، يترفع به عليه، و هو لا يمكنه تحمل ذلك، أراد زوال ذلك المنصب عنه، و ليس غرضه التكبر، بل يريد أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته.

    ثالثها: أن يكون من طبعه أن يستخدم غيره، فيريد زوال النعمة من ذلك الغير، ليقدر على ذلك الغرض، ليكون تابعاً له، و منه قوله تعالى عن المشركين: ((و قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم))(الزخرف:31). يعني أنهم يتكبرون عن أن يكونوا تابعين، بدل ما كانوا متبوعين، و قال تعالى: ((أهؤلاء من الله عليهم من بيننا))(الأنعام:53). كأنهم احتقروا المسلمين الذين كانوا أتباعاً فاستقلوا عنهم.

    و رابعها: التعجب من أن يفضلهم رجل من أمثالهم، كما في قوله تعالى: ((أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم))(الأعراف:63). فكأنهم عجبوا من رجل مماثل لهم، ينزل عليه الوحي دونهم، فلذلك حسدوه.

    و خامسها: الخوف من فوات المقاصد، و ذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد كتحاسد الضرائر على مقاصد الزوجية، و تحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين، و تحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة و في ذلك قال الشاعر:

    حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له و خصوم

    كضرائر الحسناء قلن لوجههـا حسداً و بغياً إنه لدميـم

    و سادسها: حب الرئاسة، كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك، و أحب موته، فإن الكمال محبوب لذاته و هذا المحبوب مكروه، و من أنواع الكمال التفرد به، لكن هذا ممتنع إلا لله تعالى، و من طمع في المحال خاب و خسر.

    و سابعها: شح النفس بالخير على عباد الله، فإنك تجد من لا يشتغل برئاسة و لا تكبر، و لا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك، و إذا وصف اضطراب الناس و إدبارهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، و يبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه و خزائنه، و هذا ليس له سبق ظاهر سوى خبث النفس، كما قيل: البخيل من بخل بمال غيره.

    أثر الحسد على المجتمع


    لقد أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر الحاسد، في قوله: ((و من شر حاسد إذا حسد))(الفلق:5)، و هذا دليل على أن له شر و فيه ضرر، و لا يتحصن منه إلا بالاستعاذة بالله تعالى حيث إن الحسد من أعظم الأمراض الفتاكة بالمجتمع، فهو يجبر صاحبه على أصعب الأمور، و يبعده عن التقوى، فيضيق صدر الحسود، و يتفطر قلبه إذا رأى نعمة الله على أخيه المسلم، و لقد كثر الحسد بين الأقران و الإخوان و الجيران، و كان من آثار ذلك التقاطع و التهاجر،و البغضاء والعداوة، فأصبح كل من الأخوين أو المتجاورين يتتبع العثرات، و يفشي أسرار أخيه، و يحرص على الإضرار به، و الوشاية به عند من يضره أو يكيد له، و لا شك أن ذلك من أعظم المفاسد في المجتمعات الإسلامية، فإن الواجب على المسلمين أن يتحابوا و يتقاربوا و يتعاونوا على الخير و البر و التقوى، و أن يكونوا يداً واحدة على أعدائهم من الكفار و المنافقين، فمتى أوقع الشيطان بينهم العداوة و البغضاء، و تمكنت من قلوبهم الأحقاد والضغائن، حصل التفرق و التقاطع، و صار كل فرد يلتمس من أخيه عثرة أو ذلة فيفشيها، و يعيبه بها، و يكتم ما فيه من الخير، و يسيء سمعته، و يجعل من الحبة قبة، و يقوم الثاني بمثل ذلك و كل منهما يوهم أن الصواب معه، و أن صاحبه بعيد عن الصواب، ثم إن كلا منهما يحرص على الإضرار بالآخر و يعمل على حرمانه من الخير، فيصرف عنه المنفعة العاجلة و يحول بينه و بين المصالح المطلوبة، من فائدة مالية، أو حرفة أو أرباح أو معاملات مفيدة، و نحو ذلك، و لا شك أن هذا يضر المجتمعات و يقضي على المصالح، و يتمكن الأعداء من المنافع و من استغلال الفوائد، و بتمكنهم يضعف المسلمون المخلصون، و لا ينالون مطلوبهم من ولاية أو رئاسة، أو شرف أو منفعة، و سبب ذلك هذه المنافسات التي تمكنت من النفوس، حتى حرموا إخوانهم و أنفسهم من الخير، و سلطوا عليهم أعداءهم. أفلا يرعوي المؤمن، و يعرف مصلحته و يحب الخير لإخوانه، و يوصل إليهم ما يستطيع، حتى يعم الأمن و يصلح أمر الدين و الدنيا والآخرة، و الله المستعان، و عليه التكلان، و لا حول و لا قوة إلا بالله و صلى الله على محمد و آله و صحبه و سلم.

    كيفية علاج الحسد

    يمكن أن يلخص علاجه في أمرين: العلم و العمل:

    أما العلم: ففيه مقامان: إجمال، و هو أن يعلم أن الكل بقضاء الله و قدره، و أن ما شاء الله كان، و ما لم يشأ لم يكن، و أن رزق الله لا يجره حرص حريص، و لا يرده كراهية كاره.

    و تفصيل: و هو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان، حيث كره حكم الله و قسمته في عباده، فهو غش للإخوان، و عذاب أليم، و حزن مقيم، و مورث للوسواس، و مكدر للحواس، و لا ضرر على المحسود في دنياه، لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، و لا في دينه، بل ينتفع به، لأنه مظلوم من جهتك، فيثيبه الله على ذلك، و قد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه، و لا يزال يزيد غمومك و أحزانك، إلى أن يقضي بك إلى الدنف و التلف، قال الشاعر:

    اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتـله

    النار تأكل نفسهــــــا إن لم تجد ما تأكله

    و قد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل، قال الشاعر: لا مات أعداؤك بل خلـدوا و حتى يروا منك الذي يكمد

    لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحســـد

    و الحاسد مذموم بين الخلائق، ملعون عند الخالق، مشكور عند إبليس و أصدقائه، مدحور عند الخالق و أوليائه، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله، فرجع حجره إليه فقلع حدقته اليمنى، فغضب فرماه ثانياً فرجع ففقأ عينه الأخرى، فازداد غيظه فرماه ثالثاً فرجع إلى نفسه فشدخ رأسه، و عدوه سالم، و أعداؤه حواليه يفرحون و يضحكون: ((و لعذاب الآخرة أشد و أبقى))(طه:127).

    و أما العمل: فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له، و إن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له، و إن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه، حتى يصير المحسود محبوباً محباً له، على حد قوله تعالى: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم))(فصلت:34). فذلك التكلف يصير في النهاية طبعاً.

    و قد ذكر ابن القيم أن شر الحاسد يندفع عن المحسود بعشرة أسباب:

    أحدها: التعوذ بالله من شره، و التحصن به واللجوء إليه.

    الثاني: تقوى الله و حفظه عند أمره و نهيه، فمن اتقى الله حفظه و لم يكله إلى غيره.

    الثالث: الصبر على عدوه، فلا يقاتله و لا يشتكيه، و لا يحدث نفسه بأذاه، فما نصر على حاسده بمثل الصبر، و التوكل على الله، و لا يستطيل الإمهال له، و تأخير الانتقام منه.

    الرابع: التوكل على الله، فمن توكل على الله فهو حسبه، فالتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق و ظلمهم و عدوانهم، فمن كان الله كافيه و واقيه فلا مطمع فيه لعدوه و لا يضره.

    الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، و الفكر فيه، فيمحوه من باله، و لا يلتفت إليه، و لا يخافه، و لا يشغل قلبه بالفكر فيه، فمتى صان روحه عن الفكر فيه، و التعلق به، فإن خطر بباله بادله إلى محو ذلك الخاطر، و الاشتغال بما هو أنفع له، بقي الحاسد يأكل بعضه بعضاً.

    السادس: الإقبال على الله، و الإخلاص له، و جعل محبته و رضاه و الإنابة إليه في محل خواطر نفسه و أمانيها، بحيث تبقى خواطره و هواجسه كلها في محاب الله، و التقرب إليه، فيشغل بذلك عن الحاسد و حسده، و يكون قلبه معموراً بذكر ربه و الثناء عليه، غير متشاغل بغيره.

    السابع: تحريه التوبة من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فما سلط على العبد أحد إلا بذنبه، فعليه المبادرة إلى التوبة و الاستغفار، فما نزل بالعبد بلاء إلا بذنب، و لا رفع إلا بتوبة.

    الثامن: الصدقة و الإحسان مهما أمكن فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء، و شر الحاسد، فلا يكاد الأذى و الحسد يتسلط على متصدق، فإن أصابه شيء كان معاملاً باللطف و المعونة و التأييد.

    التاسع: إطفاء نار الحاسد و الباغي والظالم بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذاه و شره و بغيه، ازددت إليه إحساناً و له نصيحة، و عليه شفقة لقوله تعالى: ((ادفع بالتي هي أحسن السيئة))(المؤمنون:96).

    العاشر: تجريد التوحيد لله تعالى، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، و العلم بأنها بيد الله تعالى، فهو الذي يعرفها عنه و حده إلى آخر كلامه، و قد لخصت هذا من كلامه على آخر سورة الفلق في بدائع الفوائد فليراجع.



    عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله الجبرين

    21/3/1419هـ


    اخوكم/احمد البشيري
    [/TABLE]
    سبحان الله العظيم عدد خلقـــه
    سبحان الله العظيم مداد كلماتـــه
    سبحان الله العظيم زنة عرشـــه
    سبحان الله العظيم رضى نفســـه










  • العامري
    عضو نشيط
    • Jun 2002
    • 406

    #2
    وفقك الله الى كل خير يا احمد
    [ALIGN=LEFT][SIZE=5]" أبـو نـا صــــر "

    تعليق

    Working...