Unconfigured Ad Widget

Collapse

الحج في الجاهلية

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • احمد السريفي
    عضو مميز
    • Sep 2001
    • 1688

    الحج في الجاهلية

    "إنما تُنقَض عُرى الإسلام عُروةً عُروةً إذا نشأ في الإسلام مَن لم يعرف الجاهلية"

    (عمر بن الخطاب).

    قبل الإسلام كانت للبيت الحرام عند العرب مكانة ومنزلة خاصة، بها صارت قريش أعز العرب وأكثرها امتلاكا لآيات الفخر وأسبابه، من حجابة البيت، وسقاية الحجيج ورفادتهم، وتحلق بيوتهم حول الكعبة.

    وما كان وضعهم حشود الأصنام والأوثان حول الكعبة إلا اختيارًا لأعظم بقعة لديهم، حتى ينصبوا فيها الوسائط التي يتقربون بها إلى الله زلفى.

    وقد كانت للعرب في الجاهلية مناسك يؤدونها في موسم حجهم، ولم يكن الأمر متروكًا لاختيار كل شخص يفعل ما يشاء؛ فتعارفوا بينهم على مناسك محددة هي في أصلها بقية مما تركه إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام.

    وحين جاء الإسلام احترم البيت الحرام، وعد الحج واحدًا من أعظم الطاعات التي يتقرب بها المسلمون إلى الله- تعالى.

    ولكن كان لا بد للإسلام من اقتلاع جذور الوثنية والجاهلية التي زحفت حتى طوقت البيت الحرام، وشوهت فريضة الحج العظيمة.

    بيت للتوحيد فقط:

    اختار العرب ساحة البيت العتيق ليجعلوا منها أكبر مُجمَّع لأصنامهم حتى غدا المسجد الحرام أكبر معبد للوثنية في جزيرة العرب، فحَوْل الكعبة ثلاثمائة وستون نصبًا، وبعدد أيام السنة القمرية؛ ولذلك ارتباط بعبادة النجوم التي جسمت الأوثان لتكون بديلاً أرضيًّا عنها، ونقل العرب ذلك عن أصحاب هياكل الأصنام في الشام والعراق وأدخلوه على ملة إبراهيم فشوهوها به.

    وأوصل المشركون وثنيتهم إلى الكعبة من داخلها، ولم يكفهم ما نصبوه حولها، فوضعوا فيها ضمن ما وضعوا صورة إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- وفي أيديهما الأزلام وهي قداح يضربونها لمعرفة هل يفعلون الشيء أم يتركونه؟!.

    ولعل هذه الصورة جاءت تأثرًا بالأيقونات التي صنعها النصارى لعيسى ابن مريم وأمه- عليهما السلام- وعبدوها، خاصة أن النصرانية كانت تحيط بالجزيرة العربية من أطرافها؛ فالروم والغساسنة في الشمال الغربي، والمناذرة حلفاء الفرس وكانوا نصارى في الشمال الشرقي ونصارى اليمن في الجنوب، وفي الغرب على ضفاف بحر القلزم الغربية (البحر الأحمر) نصارى الحبشة أصحاب التجارات البحرية الواسعة، وكل هؤلاء لم يكن يخفى حالهم على أهل مكة؛ بل كانت للمكيين تجارات معهم.

    وقد مكث النبي- صلى الله عليه وسلم- فترة الدعوة في مكة اثنا عشر عامًا وبضعة أشهر يطوف بالبيت، ويصلي عنده، دون أن يحطم شيئًا مما أحاط به من أصنام، أو يزيل ما بداخله من صور، ودخل- صلى الله عليه وسلم- مكة ومعه أصحابه في عمرة القضاء سنة 7هـ وطاف بالبيت والطواغيت قابعة حوله فلم يمسها للعهد الذي بينه وبين قريش (صلح الحديبية).

    وكان ذلك كله طبيعيا؛ إذ لا بد من هدم الوثنية في النفوس قبل إزالة مظاهرها المادية من الوجود ولو بدأ بإزالة هذه المظاهر لخالف سنة التدرج، ولكان أكثر مدعاة لتمسك الوثنيين بوثنيتهم، وعنادهم أمام الدعوة الجديدة.

    ولم يسبق تكبيل البيت بالأصنام طويلا؛ فالرسالة التي جاءت تحريرًا للإنسان من قيود الشرك تستهدف أيضًا تحرير المكان من هذه الوثنية، وأي مكان أولى بذلك من محضن التوحيد الأعظم البيت الحرام؟!

    وكان الموعد في رمضان من العام الثامن للهجرة أي بعد عشرين عامًا من بدء البعثة النبوية، وهو عام الفتح الأعظم؛ حيث عاد مَن طُرِدُوا من بيوتهم، وأُخرِجُوا من أموالهم بالأمس إلى رحاب مكة وكلهم عزة وقوة بالله وبدينهم، وأُزِيلَت الأصنام من المكان الطاهر.

    وصف عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- ذلك فقال: "دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، وجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: "جَاءَ الحقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كانَ زهوقًا"، ".. جاءَ الحقُّ وما يُبدِئُ الباطلُ وما يُعيدُ" رواه البخاري.

    وكانت الأصنام مشدودة بالرصاص فما أشار- صلى الله عليه وسلم- إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه؛ حتى ما بقي منها صنم إلا وقع (سيرة ابن هشام 4/44).

    وأما الصور التي في داخل الكعبة؛ فقد أدركها ما أدرك سابقاتها من الهلاك، يقول ابن عباس- رضي الله عنهما-: "إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما قَدِمَ أبي أن يدخل البيت وفيه الآلهة؛ فأمَرَ بها فأُخرِجَت؛ فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "قاتلهم الله! أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها قط؛ فدخل البيت فكبَّر في نواحيه" رواه البخاري.

    وذكر ابن إسحاق أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما دخل الكعبة وجد فيها حمامة من عيدان؛ فكسرها بيده، ثم طرحها.

    إنها ثورة أبت أن تتصالح مع أي مظهر من مظاهر الوثنية؛ فطردتها من القلوب، وطاردت كل أشكالها في عادات الناس، وأفنت رموزها ومعابدها التي وصلت إليها.

    إنما المشركون نَجَس:

    حرَّم الإسلام اقتراب المشركين من المسجد الحرام؛ ولذلك تعليل جليل يلتقي فيه الظاهر والباطن؛ فالمشرك قد يكون نظيف الثياب والبدن، ولكن هذا لا يُحِلُّ له الاقتراب من المسجد الحرام، إلا أن يتطهر من شركه، وينفي عن نفسه أدران الكفر بشهادة الإيمان والإسلام.

    ولعل حكمة ذلك هي أن المكان- أي مكان- مشارِكٌ في ترنيمة التسبيح والعبادة الكبرى، والتي يشترك فيها الخَلق كلهم. يقول الله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرضِ والطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهَ وَتَسْبِيحَهُ واللهُ عليمٌ بِمَا يَفعَلُونَ" (سورة النور: 41)؛ فإذا تواجد الكافر في مكان ما، حدث تناقض وتنافر بينه وبين المكان، ولولا سنن الله في خلقه للفظ المكان هذا الكافر الذي يأكل من رزق الله ويشرك به غيره؛ فَتَرَّهَ الله البيت الحرام أن يقع فيه هذا التناقض.

    لقد كان الوفود إلى البيت الحرام في الجاهلية مباحًا لكل أحد، ولم تكن قريش تصد عنه أحدًا، وقد وقع المكيون في حرج شديد حين أتى المسلمون في العام السادس للهجرة حيث كانت العداوة بين الفريقين مستحكمة لحج البيت وليس معهم إلا الهَدْي وسلاح قليل يجزم بأنهم لا ينوون حربًا؛ فلا قريش تستطيع أن تصد المسلمين، ولا يسمح لها كبرياؤها بأن يدخلوا البيت هكذا أعزة مكرمين؛ فاختارت التوسط بمصالحتهم على زيارة البيت في العام التالي.

    وحرم الإسلام على المشركين الاقتراب من البيت الحرام بداية من العام التاسع للهجرة، حين حج أبو بكر- رضي الله عنه- بالناس، ونزلت سورة براءة، وذهب علي بن أبي طالب يقرأها بأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- على الناس في الموسم، ومنها: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوفَ يُغنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (سيرة ابن هشام 4/141-142)، كما أرسل أبو بكر مَن يؤذن في الناس: "أن لا يحجَّ بعد العام مُشرِك" (رواه البخاري).

    لبيك اللهم حقا:

    تلبية الحجيج- كما أقرتها شريعة الإسلام- هي نشيد الحج وترنيمته العذبة؛ تلخص نظرة المُوَحِّدين إلى الوجود وخالقه، وأنهم أسرع ما يكونون استجابةً وتلبيةً لنداء مولاهم ودعوته إيَّاهم، يفعلون ذلك طاعة مِن عبد لربه، من مُعوز لمُستَغْنٍ.. وهم لا يفعلون ذلك مع كل أحد؛ بل لا يفعلونه إلا مع الواحد الأحد، مُستحِق الحمد كله، وواهب النعم كلها.. كل شيء في الوجود من خلقه، وواقع تحت سلطانه وسيطرته: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" (حديث التلبية متفق عليه).

    أقر الإسلام هذه التلبية، وألغى تخرصات الجاهلية وأناشيدها الشركية التي عبرت عن اتخاذهم الوسائط، يزعمون أنها تقربهم إلى الله: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك" وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا قالوا: لبيك لا شريك لك قال: "قدٍ قدٍ" (رواه مسلم) أي "كفاكم هذا الكلام، فاقتصروا عليه، ولا تزيدوا" (شرح النووي على مسلم 8/90).

    وكان الجاهليون أيضا يَصْفِرون ويُصفِّقون عند طوافهم البيت، ويعدون ذلك نسكًا من النسك فنعى عليهم الإسلام ذلك، يقول ابن عباس وكثير من السلف في قوله- تعالى-: "وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ البيتِ إلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً" (سورة الأنفال 35) يقولون: "كانت قريش تطوف البيت عراة تَصفِر وتُصفِّق" (تفسير ابن كثير: 293-294).

    الحمس وعنصرية التدين:

    رتب الإسلام على شرف المكانة الاجتماعية وسعة العيش التزامات شرعية وخُلُقية أكثر، أو على الأقل جعل أصحابهما أولى وأكثر حاجة إلى الالتزام بالتكاليف الشرعية من غيرهم؛ فزوجات النبي- صلى الله عليه وسلم- يُخَاطَبْنَ دون النساء جميعا: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا" (سورة الأحزاب: 32).. وهكذا.

    وأما الجاهليون فقد كان الشرف عندهم مدعاة للتسلط والتكبر، بل والتميز العنصري في العبادة نفسها؛ فقريش كانت أعلى العرب مكانةً، وأكثرهم مجدًا، وكانت تعلم ذلك من نفسها وتقول: "نحن بنو إبراهيم، وأهل الحرمة، وولاة البيت، وقاطنو مكة وساكنوها؛ فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلنا، ولا تعرف العرب مثلما تعرف لنا" (تفسير الطبري 2/170).

    وقد دفعت هذه المنزلة قريشًا إلى تمييز نفسها على غيرها حتى في العبادة، وظهرت فيهم "الحُمْس" وهي ظاهرة غريبة في عالم التدين والحُمْس هم قريش وقبائل أخرى لها مع قريش صلة قرابة أو مصاهرة؛ مثل: كنانة، وخزاعة، والأوس، والخزرج، وثقيف.

    ومعنى "الحُمْس" من التحمس، وهو التشدد، ومفردها أحمَس؛ أي أنهم قوم تشددوا في دينهم، على أنهم- برغم تفسير العلماء هذا- قد شددوا على الناس، ولم يشددوا على أنفسهم -كما سيأتي- وقيل سُمُّوا حُمْسًا بالكعبة؛ لأنها حَمْساء: حجرها أبيض يضرب إلى السواد (فتح الباري 3/603-604، وسيرة ابن هشام 1/184-185).

    وقد ظهرت عنصرية الحُمْس في الحج في أمور منها:

    1- الإفاضة دون الناس من مزدلفة لا من عرفات:

    فعرفات هو موقف الناس الجامع الذي لا حج بدونه، حتى سُمِّي يوم التاسع من ذي الحجة يوم عرفة، وبعد غروب الشمس هذا اليوم يفيض الحجيج، أي يدفعون وينتقلون من عرفات إلى مزدلفة، وبعد شروق شمس العاشر يفيضون إلى مِنى.

    لكن "الحُمْس" ميَّزوا أنفسهم عن الناس، وأفاضوا من مزدلفة، تاركين الوقوف بعرفة لغيرهم.

    وجاء الإسلام فصحح الوضع، ووحد موضع إفاضة الناس، يقول ابن عباس: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.." فرفع النبي- صلى الله عليه وسلم- الموقف إلى موقف العرب بعرفة (تفسير الطبري 2/170).

    كما غيّر الإسلام موعد الإفاضة من المشعر الحرام (مزدلفة) حيث كانت العرب تنتظر طلوع الشمس، ثم تفيض؛ فأفاض النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل طلوعها. يقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه: "إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أَشْرِقْ ثَبير (جبل بمكة) وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- خالفهم، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس" (رواه البخاري)، وفي هذا تثبيت لكراهية العبادة في هذا التوقيت؛ ابتعادًا عن شبه الوثنية والصابئة.

    2- الطواف في ثيابهم هم أو عرايا:

    وهذا "حق" آخر أعطاه الحُمْس أنفسهم من دون الناس؛ حيث لا يجوز لغيرهم أن يطوف إلا في ثيابهم هم، فإن خالفوا، وطافوا في غير ثياب الحُمْس، ألقوها بعد ذلك ولم ينتفعوا بها!! (انظر ابن هشام: 1/187).

    قال عروة بن الزبير: "كان الناس يطوفون في الجاهلية عراة إلاَّ الحُمْس- والحُمْس قريش وما ولدت- وكانت الحُمْس يحتسبون على الناس، يعطي الرجلُ الرجلَ الثيابَ يطوف فيها، وتعطي المرأةُ المرأةَ الثيابَ تطوف فيها، فمَن لم يعطه الحُمْس طاف بالبيت عريانًا" (صحيح البخاري).

    كان هذا نوعًا غريبًا من بدع الجاهلية؛ إذ يتناقض مع كرامة الإنسان وشرفه، وهما مما حرص عليه العرب في الجاهلية بقوة؛ ولكن ماذا نفعل وهذا شأن الإنسان إذا شرع لنفسه؟!.

    وجاء الإسلام ليمحو تلك الأقذار، ويجعل الحج صورةً للمساواة بين الناس، بدلاً من كونه صورةً للعنصرية والتمييز بين العباد؛ فقد راح المؤذنون عام حجة أبي بكر بالناس (سنة 9 هجرية) يبلغونهم بتحريم الحج عرايا "ولا يطوف بالبيت عريان" (صحيح البخاري)؛ بل مُنِعَ الناس أيضًا من الحج في ثيابهم المعتادة، وفُرِضَ عليهم أن يلبسوا ملابس واحدة متشابهة، وهي ثياب الإحرام: رداء وإزار، ليست مُحِيطَة ولا مَخِيطة، كما نُهُوا عن تغطية رءوسهم إلاَّ النساء؛ فيلبسن ما اعتدْنَه من الملابس، ولا يكشِفْنَ سوى الوجه والكفين.

    3- الحاج من أهل الحِلِّ لا يأكل من طعام جلبه من الحِلِّ إلى الحرم:

    فقد ذكر ابن إسحاق عن الحُمْس أنهم قالوا: "لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحِلِّ إلى الحرم، إذا جاءوا حُجَّاجًا أو عُمَّارًا". ونزل القرآن يلغي هذه العادات الجاهلية في قول الله- عز وجل-: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّه لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ للَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَومَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ" فوضع الله- تعالى- أمر الحُمْس (سيرة ابن هشام 1/186-188).

    4- الصفا والمروة:

    السعي بين الصفا والمروة هو أحد أركان الحج الأربعة مع الإحرام والطواف بالكعبة والوقوف بعرفة، وقد سجّل الله هذا الركن في قوله: "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِمَا…" (سورة البقرة 158).

    وقد روى البخاري أن هذه الآية نزلت "في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين كانوا يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله أمَرَ بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا.." (كتاب الحج من صحيح البخاري).

    ويبدو من الأحاديث والآثار العديدة الواردة في هذه المسألة، أن الذين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الجاهلية والإسلام، إنما فعلوا ذلك لأنهم كانوا في الجاهلية إذا بدءوا فأَهَلُّوا لبعض أصنامهم تحرجوا من السعي فامتد ذلك بهم إلى الإسلام فكان في الأنصار وغسان كما تقول عائشة- رضي الله عنها- أن "مَن أحرم لمناة لم يَطُفْ بين الصفا والمروة" (رواه مسلم).

    وأما الذين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام وحده فذلك- كما يوضح حديث البخاري السابق- أتى مِن "أن الله- تعالى- أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا"، ولعل مما قوَّى ذلك لديهم ما ارتبط بالصفا والمروة في الجاهلية من مظاهر وثنية؛ فقد قال عامر الشعبي: "كان على الصفا في الجاهلية صنم يُسمَّى "إسافا"، وعلى المروة صنم يسمى "نائلة"؛ فكانوا يمسحونهما إذا طافوا؛ فامتنع المسلمون من الطواف بينهما لأجل ذلك، فنزلت الآية" (تفسير القرطبي 1/560).

    5- فلسفة التغيير:

    حينما جاء الإسلام واجه ضراوة الجاهلية في محاولتها الحفاظ على كيانها دون أن تتعقل ما جاءها به الرسول من نهج يضبط سير الحياة وإيقاعها منفصلا عن المواريث الخاطئة، ويطلب الحق من منبعه الأصيل (الوحي الإلهي)، ويعد أصول المفاضلة بين الناس هي ما نبع من جهد الفرد وتميزه في التعامل الصحيح مع الكون وخالقه والناس من حوله.

    أراد الإسلام حينما جاء أن يمحو الجاهلية وحساباتها من قلوب الناس، ويلغي الأفعال والعادات التي يرفضها الطبع المستقيم، مثل: وأد البنات، والطواف بالبيت عرايا.. ويحل محلها كل ما هو عظيم وسامٍ.

    وحينما غيّرت الرسالة الإسلامية الحياة، عمدت إلى الانحرافات العقائدية والشرور الأخلاقية؛ فمحتها، واحتفظت بالفضائل والأخلاق الحسنة، وأتم الإسلام ذلك كله، وأسَّسَه على الاعتقاد الصحيح الذي يحدد أسس التوجه الإنساني وغاياته.

Working...