Unconfigured Ad Widget

Collapse

الأسير من كتاب بقايا حصون

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • قينان
    أدعو له بالرحمه
    • Jan 2001
    • 7093

    الأسير من كتاب بقايا حصون

    الأسير
    ارتفع صوت الحق من مئذنة المسجد الجامع المجاور مبددا السكون المخيم على المدينة ،الله أكبر .. الله أكبر..الصلاة خير من النوم.. الصلاة خير من النوم..ترامت هذه العبارات الروحانية إلى مسامع السيدة عائشة التي كانت تغط في نوم عميق فأيقظتها. رددت مع المؤذن ما قاله ودعت لرسول الرحمة والهدى بالوسيلة والفضيلة، ثم نهضت من فراشها ووضعت يدها بحنان على كتف زوجها السيد؟حمد،ونادته ثلاثا وطلبت منه القيام للصلاة .توضأت وعادت إليه فوجدته لا يزال جالسا على سرير نومه"متربعا" فبادرته بالسلام قائلة له:مالك يا أبا صالح هذه الليلة متكاسلا على غير عادتك؟
    إنها الأحلام المزعجة يا عائشة،فقد رأيت فيما يرى النائم أن هناك وحشا كاسرا هجم علينا وشتت شملنا.
    قالت له :قم يا رجل وتوكل على الله،ودعك من هذه المخاوف فما هي إلا أضغاث أحلام إن شاء الله.تعوذ من الشيطان وقام وتوضأ واخذ عكازه ولبس عباءته وطرق أبواب النائمين فأيقظهم للصلاة،وتوجه إلى المسجد وهو يردد:يا فتاح يا عليم ..يا رزاق يا كريم.
    عندما عاد وجد زوجته عائشة في انتظاره كعادتها كل صباح وقد أعدت القهوة وأحضرت طبقا من الرطب ،جلست بجانبه وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث عن الماضي والحاضر والذكريات الجميلة.صمتا قليلا ،نظر إليها وقال مازحا: كبرت، لقد كبرت يا عائشة فأنا على أبواب التقاعد. أرخت ناظريها وقالت بلهجة يشوبها شيء من الدلال والابتسامة العذبة:أنت مازلت شابا يا أبا صالح،وقد أديت ما عليك في الحياة وآن الأوان كي تستريح والبركة في الأولاد.في هذه الأثناء دخلت "موضي" ابنة السبعة عشر ربيعا،و"صالح" ابن الخامسة عشر،وقبلا والديهما واستأذناهما فقد حان موعد الذهاب للمدرسة.أذنا لهما ودعوا لهما بالنجاح والتوفيق..أما "نورة"و"طلال"فهما لا يزالان يدرسان في الصفوف الأولى وموعد دراستهما يتأخر بعض الشيء.قبل مغادرته دعاهما وقبلهما وقال:أنا ذاهب لعملي وعليكما الاهتمام بدروسكما وابشرا بهدية النجاح ثم التفت إلى زوجته وقال:هل تريدين شيئا؟شكرته على لطفه واهتمامه،لكنها لمحت على وجهه شيئا من الحزن والقلق فعزت ذلك إلى الأحلام المزعجة في الليلة الماضية.أما هو فقد غادر البيت منقبض القلب مكسور الخاطر.وصل إلى مكتبه وجلس على كرسيه.ومع أول فنجان من قهوة الصباح دق جرس الهاتف،تملكه شعور غريب ،تردد في الإجابة ،لكن الهاتف أصر بصوته المتواصل على الرد،كانت يده ترتجف خوفا..مدها ورفع السماعة وقال:نعم ،كان على الطرف الآخر زوجته عائشة تبكي بكاء مرا وتردد:"الحقنا يا حمد" .."الحقنا يا أبا صالح".لم تزد على ذلك،سمع صوت السماعة وقد سقطت من يدها على الأرض..أدرك انه أمر خطير، هب من مقعده وتوجه إلى المنزل وقلبه على راحته،دخل فوجد زوجته عند الباب جاثية على ركبتيها تنتحب،ثنى ركبته اليمنى على الأرض ومد يده إلى ذقنها ورفع رأسها باستعجال ،ماذا حدث يا عائشة؟أجيبي ماذا حدث؟
    قالت وهي واهية الجأش: جارنا هارون المعتوه الذي تخاصمت معه بالأمس على المزرعة..صمتت لكي تستعيد أنفاسها الذاهبة،
    ما به ؟تكلمي.
    سطا على منزلنا ومعه مجموعة من الأشرار واقتادوا نورة وطلال إلى جهة غير معلومة.تشبثت بهم لكنهم أوسعوني ضربا،انظر إلى جسدي!!
    وضع يده على جبهته وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون.اعتصمي بحبل الله،اطمئني،سنعمل ما في وسعنا لإنقاذهما.قفز إلى ذهنه موضي وصالح وأحس أنهما في خطر..التفت إليها وقال:سأذهب إلى الجيران للتشاور معهم عما يجب علينا فعله...لم يرد أن يبلغها بمخاوفه حتى لا يزيد الأمر من جزعها واحتمال انهيار أعصابها.خرج من البيت مسرعا نحو المدرسة ،لكنه كان متأخرا إذ وجدها خالية من الطلبة فيما كان الحارس يقبع على كرسيه،سأله في حرقة واستعجال.
    أين الطلبة؟
    أجاب الحارس:لقد انصرفوا قبل وقتهم.
    نعم؟لماذا؟!
    سمعت الإدارة أن طفلين قد اختطفا فرأت تعطيل الدراسة اليوم خوفا عليهم وأضاف: انه الحقد الأسود يا سيدي وإلا فما ذنب الأطفال الأبرياء؟
    نعم ما ذنبهم؟أرسل آهات عدة ،واتبعها بكلمة "دنيا".
    دنا منه وقال: أنت الوحيد الذي جاء يسأل!خيراً إن شاء الله؟وما صلتك بهذين الطفلين المخطوفين؟
    لم يرد عليه فقد انعقدت غصة في حلقة.عاد إلى المنزل وكان خبر اختطاف موضي وصالح من أمام بوابة المدرسة سبقه إلى أمهما.دخل وقبل أن يسأل صاحت الأم بوجهه وبلهجة تفض الحجارة الصم:أين موضي؟ أين صالح؟واحسرتاه ..تشبثت بردائه فأبعدها عنه برفق وقال:اذكري الله يا عائشة وصلي على النبي ،رمت نفسها على الكرسي المجاور ومدت يديها إلى خديها لتلطمهما أسى وحسرة على أولادها ،لكنه منعها قائلا:
    اتق الله يا امرأة،هذا حرام..حرام..وأنا برئ من ذلك.انه ابتلاء وامتحان لقوة إيماننا فلنصبر ولنرضى بقضاء الله وقدره.
    كان الناس قد تجمهروا أمام المنزل ينادون بأصوات مرتفعة: يا أبا صالح..
    يا أبا صالح..خرج وأشار إليهم بالهدوء وخطب فيهم وذكرهم بالصبر وفائدته، وطلب تغليب العقل على العاطفة وأوصاهم بحسن التصرف حفاظا على الأبرياء وأرواحهم.كانت الأصوات جميعها تطالب بالتوجه إلى منازل الأشرار وإحراقها بمن فيها،لكنه اعترض بشدة وطلب التروي.بعد التفكير المتأني استقر الرأي على محاصرة منزل رئيس العصابة ومراقبته عن بعد ومحاولة إنقاذ الأبرياء في الوقت المناسب.
    في وكر العصابة الظالمة كان يحدث ما يدمي القلوب.كتفت الأيدي خلف الظهور،وكممت الأفواه،وجلدت الأجساد الفضة بالسياط،وقطعت المعيشة إلا ما يكفي لبقاء هؤلاء المساكين على قيد الحياة لضمان استمرارية التعذيب والتنكيل.
    كان هارون هذا رجل ضخم الجثة ذو شارب كثيف وطويل منظره يخيف الرجال الأشداء فضلا عن الأطفال الأبرياء،يبدو من قسمات وجهه انه يملك قلبا لا يعرف الرحمة والشفقة..يحمل في يده سوطا من الأسلاك القوية المبرومة..يمر على ضحاياه فيضرب بسوطه هذا،ويرفس بمشط قدمه ذاك...وهم يتوسلون إليه طالبين الرحمة.لم يستطع طلال وهو الطفل الصغير أن يحتمل كل هذه المعاناة فقال ببراءة الأطفال:أريد أمي...اتركوني أروح لأمي..أنا جائع..أنا متعب..نظر إليه بحدة وانتهره فتجمد الدم في عروقه..أثناء تجواله بينهم سمع أحدهم يقول:ما الذنب الذي ارتكبناه؟
    أليس جارنا وجاركم ذلك الرجل المتمرد على المدينة العاصي لأنظمتها وقوانينها،والذي أذل الكبير قبل الصغير"ولم يجرؤ أن يقول:وجه إليكم بالأمس القريب صفعة كبيرة"..أليس هو أحق منا بالتعذيب؟
    هزه هذا القول هزاً عنيفاً وقد أدرك مغزاه وشعر بضعفه أمام ذلك الرجل ،لكنه كابر وعاند.
    التفت إليهم وقال بعصبية وتشنج:أيها الأشقياء لا أريد مزيدا من الكلام وإلا سحبت ألسنتكم ورميتها للكلاب.
    في اليوم الثاني جاء إليهم ووقف على رأس صالح ووضع سوطه تحت ذقنه وقال:سوف أطلق سراحك وأختيك لتبلغ أبيك بأن عليه التخلي عن المزرعة وإلا...
    أما هذا الشقي الصغير فسوف يبقى في ضيافتي..
    تعالت أصوات أفراد العصابة بالنفاق والولاء المصطنع،تجمعوا في احد أركان الغرفة يتبادلون أعقاب السجائر والضحكات الهستيرية فيما صراخ الأسير الصغير. اخذ يخبو شيئاً..فشيئاًً.

    الكاتب محمد زياد الزهراني
    sigpic
Working...