يعود وصف النرجسية إلى أسطورة قديمة تقول:"كان نرسيس فتى جميلا يمضي معظم وقته يتأمل جمال وجهه على صفحة الماء في إحدى البحيرات، وكان مفتونا بصورته منشغلا في تأمل ذاته حتى أنه سقط وهو مستغرق في النظر في البحيرة وغرق، وفي المكان الذي سقط فيه نبتت زهرة سميت نرسيس "نرجس" وجاءت الورود ربات الغابة إلى ضفة البحيرة العذبة ووجدتها قد تحولت إلى جرن دموع، فسألت الورود الغابة لم تبكين؟ قالت: أبكي من أجل نرسيس، فقالت الورود: لا بد أن وفاته تحزنك فهو فتى جميل وكنا نلاحقه في الغابة، ولكنك الوحيدة التي كانت تستطيع مشاهدة جماله عن كثب.
سألت البحيرة الورود : وهل كان نرسيس جميلاً؟
قالت الورود: وهل يعرف أحد جماله أكثر منك، ألم يكن ينحني على ضفافك كل يوم ساعات طويلة؟
قالت البحيرة: لم ألاحظ أن نرسيس كان جميلا، ولكني أبكي لأني كنت في كل مرة ينحني فيها ويتأمل في الماء أرى صورتي في عينيه، ولم أعد قادرة بعد اليوم على رؤية نفسي "
والنرجسية هي في تسميتها العلمية "الانشغال بالذات" أو (autism) ويعد هذا في علم النفس من اضطرابات النمو، ويشغل المرشدون النفسيون والاجتماعيون بعلاج الأطفال منه، ويصيب عادة الأطفال ولكن قد يستمر المرض مع البعض حتى يكبروا، ومن أعراض هذا المرض كما وردت في قاموس الخدمة الاجتماعية: عدم أو قلة الاهتمام بالعالم الخارجي، وعدم القدرة على التعامل مع الأشياء والناس، ويكرس المصاب بهذا المرض كل اهتمامه برغباته ومشاعره الشخصية الداخلية، وعجز المهارات الاجتماعية ومهارات الاتصال، وأسلوب غير سوي في إقامة علاقات مع الآخرين، واستجابات غير طبيعية أو غير مألوفة للمشاعر والأحاسيس.
والنرجسية مرض يؤدي إلى كراهية الناس للمريض ونفورهم منه، وقد يكون المريض خطرا على نفسه، ويوقع نفسه في الموت والأذى والعزلة والاكتئاب والهوس، فكثير من حوادث المرور الخطرة والقاتلة ترد إلى انشغال السائق بنفسه فقط، وعدم ملاحظته للآخرين، واعتقاده اللاشعوري أن الطريق له وحده ولا يشاركه فيها أحد.
ويبدو أن النرجسية أو الانشغال بالذات تفسر الكثير من المشاهد والمواقف التي نلاحظها بالجملة في حياتنا اليومية، في الشارع وطريقة قيادة السيارات والتصرفات المرافقة للقيادة، والكتابة الصحفية والعمل الإعلامي بعامة، والخطب والتصريحات والسلوك اليومي في المكاتب والإدارات والمحادثات العفوية والمجالس، وأسلوب الإدارة والعمل والعلاقات مع الآخرين والبيئة المحيطة، وفي الحوار والتعلم والتعليم والاتصال، والفيديو كليب، وهكذا فإن هذا المرض أو هذه الظاهرة تمتد إلى معظم شؤون الحياة العامة والخاصة، وليست مجرد نقص اجتماعي أو حالة تستدعي الإرشاد والتدخل.
فهي في الحياة الاجتماعية تفسر عدم قدرة الناس على الحوار والاستماع الفيزيائي بالأذن فضلا عن الإصغاء والتفكير فيما يقوله ويكتبه الآخر، ومن ثم عدم القدرة على التواصل مع الآخرين والتعلم منهم وإفادتهم وتعليمهم وتبادل المعارف والتجارب.
وفي العمل السياسي تفسر ضعف المشاركة والتفاعل مع البرامج والمواقف حتى الصائبة منها، فلا يكفي للبرامج والمشروعات أن تكون صائبة إذا لم تجد القبول والمشاركة، وما ينقص البرامج والأفكار التي تقوم عليها المؤسسات الرسمية والأهلية لا يكون دائما الصواب وسلامة التفكير والتنظير والتخطيط، ولكن قناعة الناس بها وإقبالهم عليها، والناس حين يتخذون مواقف خاطئة لا يقدمون على ذلك دائما لجهلهم بالصواب ولكنهم يمارسون احتجاجا سلبيا، وربما يكون أفضل تفسير للسلبية وضعف المشاركة والإقبال هو الاحتجاج، والمقاومة بالحيلة، ومعاقبة من يعتقد الناس أنهم يفكرون ويعملون بفوقية وأنانية حتى في عطائهم وبذلهم، فالناس ترفض العمل العام المعزول عن رأي الناس ومشاركتهم.
وهو أمر يمكن ملاحظته في الفرق بين مؤسسات ومرافق أقيمت بمبادرات ومشاركة وبين أخرى قدمت للناس جاهزة بذل فيها مال كثير وجهد وتخطيط، ولكنها مصحوبة بالوصاية على الناس وتجاهلهم.
حتى في العلاج والمستشفيات فإن تجاهل المريض ومظنة الطبيب مهما كانت خبرته وعبقريته أن المريض "شيء ما" لا حق له في الاختيار والمشاركة في العلاج يحبط المريض ويقلل استجابته للدواء والعلاج، وقد ينجح الأطباء في التشخيص وفهم المرض لكنهم يفشلون في المحصلة النهائية عندما يتجاهلون المريض تماما ولا يشعرون بوجوده، ويبالغون أحيانا بالرطن والاستعراض مع المساعدين والمتدربين المحيطين بالمريض المسكين.
وسأنقل هنا وصفا حرفيا لأحد المرضى الذين تلقوا علاجا في أحد المستشفيات الكبرى، يقول وهو رجل كبير السن أكسبته الحياة والفطرة كثيرا من الحكمة والبصيرة: "التف حولي الأطباء وهجموا علي كما الضباع التي تلتهم الفريسة" لقد شفي الرجل ونجحت العملية ولكنه بقي يشعر بالاستياء ومذلة التجاهل.
وعاد الرجل إياه بعد سنوات إلى المستشفى نفسه، وأشرف على علاجه طبيب آخر لا بأس هنا من ذكر اسمه وهو الدكتور "مجلي محيلان" وظل الرجل بعد ذلك يذكر الطبيب بالخير ويشعر نحوه بامتنان عميق، لأنه برأيه إنسان قبل أن يكون طبيبا، كان يطلعه على حالته ويشرح له ويمزح معه ويتعامل معه بصداقة واحترام، هذا برغم أن العملية أجريت له مرتين، فلم تنجح المرة الأولى بالتنظير واحتاج الأمر إلى الجراحة، وتأخر المريض في المستشفى وشعر بآلام وإحباط.
وربما تكون المأساة الأكبر حين تتحول المرآة إلى إدمان لا يمكن التخلص منه، فيستغرق فيها بعض الناس ليس جهلا وعدم معرفة بالصواب، ولكن استمتاعا بلذة الوهم، أو تتحول غيبوبة النرجسية إلى مصالح وكيانات، والحقيقة إلى عدو تجب محاربته، وقد يلتبس الأمر على المشتغلين بالإصلاح في هذه الحالة، فيغفلون عن فهم العمل العبقري الموجه لمنع الصحو واليقظة.
حوادث المرور، والغثاء في الإعلام والغناء والفن والأحزاب والبرامج العامة والثقافية، وضعف التعليم وتراجع الفكر والنشر والقراءة، والجريمة والمخدرات والانحراف، والعزوف عن المشاركة والعمل العام والتطوعي، وغير ذلك كثير يجمع بينها شيء واحد، وتحتاج في مواجهتها إلى علاج نفسي واجتماعي وتأهيل يأخذ بالحسبان حالة النرجسية، والانشغال بالذات المفشية إلى درجة الوباء.
سألت البحيرة الورود : وهل كان نرسيس جميلاً؟
قالت الورود: وهل يعرف أحد جماله أكثر منك، ألم يكن ينحني على ضفافك كل يوم ساعات طويلة؟
قالت البحيرة: لم ألاحظ أن نرسيس كان جميلا، ولكني أبكي لأني كنت في كل مرة ينحني فيها ويتأمل في الماء أرى صورتي في عينيه، ولم أعد قادرة بعد اليوم على رؤية نفسي "
والنرجسية هي في تسميتها العلمية "الانشغال بالذات" أو (autism) ويعد هذا في علم النفس من اضطرابات النمو، ويشغل المرشدون النفسيون والاجتماعيون بعلاج الأطفال منه، ويصيب عادة الأطفال ولكن قد يستمر المرض مع البعض حتى يكبروا، ومن أعراض هذا المرض كما وردت في قاموس الخدمة الاجتماعية: عدم أو قلة الاهتمام بالعالم الخارجي، وعدم القدرة على التعامل مع الأشياء والناس، ويكرس المصاب بهذا المرض كل اهتمامه برغباته ومشاعره الشخصية الداخلية، وعجز المهارات الاجتماعية ومهارات الاتصال، وأسلوب غير سوي في إقامة علاقات مع الآخرين، واستجابات غير طبيعية أو غير مألوفة للمشاعر والأحاسيس.
والنرجسية مرض يؤدي إلى كراهية الناس للمريض ونفورهم منه، وقد يكون المريض خطرا على نفسه، ويوقع نفسه في الموت والأذى والعزلة والاكتئاب والهوس، فكثير من حوادث المرور الخطرة والقاتلة ترد إلى انشغال السائق بنفسه فقط، وعدم ملاحظته للآخرين، واعتقاده اللاشعوري أن الطريق له وحده ولا يشاركه فيها أحد.
ويبدو أن النرجسية أو الانشغال بالذات تفسر الكثير من المشاهد والمواقف التي نلاحظها بالجملة في حياتنا اليومية، في الشارع وطريقة قيادة السيارات والتصرفات المرافقة للقيادة، والكتابة الصحفية والعمل الإعلامي بعامة، والخطب والتصريحات والسلوك اليومي في المكاتب والإدارات والمحادثات العفوية والمجالس، وأسلوب الإدارة والعمل والعلاقات مع الآخرين والبيئة المحيطة، وفي الحوار والتعلم والتعليم والاتصال، والفيديو كليب، وهكذا فإن هذا المرض أو هذه الظاهرة تمتد إلى معظم شؤون الحياة العامة والخاصة، وليست مجرد نقص اجتماعي أو حالة تستدعي الإرشاد والتدخل.
فهي في الحياة الاجتماعية تفسر عدم قدرة الناس على الحوار والاستماع الفيزيائي بالأذن فضلا عن الإصغاء والتفكير فيما يقوله ويكتبه الآخر، ومن ثم عدم القدرة على التواصل مع الآخرين والتعلم منهم وإفادتهم وتعليمهم وتبادل المعارف والتجارب.
وفي العمل السياسي تفسر ضعف المشاركة والتفاعل مع البرامج والمواقف حتى الصائبة منها، فلا يكفي للبرامج والمشروعات أن تكون صائبة إذا لم تجد القبول والمشاركة، وما ينقص البرامج والأفكار التي تقوم عليها المؤسسات الرسمية والأهلية لا يكون دائما الصواب وسلامة التفكير والتنظير والتخطيط، ولكن قناعة الناس بها وإقبالهم عليها، والناس حين يتخذون مواقف خاطئة لا يقدمون على ذلك دائما لجهلهم بالصواب ولكنهم يمارسون احتجاجا سلبيا، وربما يكون أفضل تفسير للسلبية وضعف المشاركة والإقبال هو الاحتجاج، والمقاومة بالحيلة، ومعاقبة من يعتقد الناس أنهم يفكرون ويعملون بفوقية وأنانية حتى في عطائهم وبذلهم، فالناس ترفض العمل العام المعزول عن رأي الناس ومشاركتهم.
وهو أمر يمكن ملاحظته في الفرق بين مؤسسات ومرافق أقيمت بمبادرات ومشاركة وبين أخرى قدمت للناس جاهزة بذل فيها مال كثير وجهد وتخطيط، ولكنها مصحوبة بالوصاية على الناس وتجاهلهم.
حتى في العلاج والمستشفيات فإن تجاهل المريض ومظنة الطبيب مهما كانت خبرته وعبقريته أن المريض "شيء ما" لا حق له في الاختيار والمشاركة في العلاج يحبط المريض ويقلل استجابته للدواء والعلاج، وقد ينجح الأطباء في التشخيص وفهم المرض لكنهم يفشلون في المحصلة النهائية عندما يتجاهلون المريض تماما ولا يشعرون بوجوده، ويبالغون أحيانا بالرطن والاستعراض مع المساعدين والمتدربين المحيطين بالمريض المسكين.
وسأنقل هنا وصفا حرفيا لأحد المرضى الذين تلقوا علاجا في أحد المستشفيات الكبرى، يقول وهو رجل كبير السن أكسبته الحياة والفطرة كثيرا من الحكمة والبصيرة: "التف حولي الأطباء وهجموا علي كما الضباع التي تلتهم الفريسة" لقد شفي الرجل ونجحت العملية ولكنه بقي يشعر بالاستياء ومذلة التجاهل.
وعاد الرجل إياه بعد سنوات إلى المستشفى نفسه، وأشرف على علاجه طبيب آخر لا بأس هنا من ذكر اسمه وهو الدكتور "مجلي محيلان" وظل الرجل بعد ذلك يذكر الطبيب بالخير ويشعر نحوه بامتنان عميق، لأنه برأيه إنسان قبل أن يكون طبيبا، كان يطلعه على حالته ويشرح له ويمزح معه ويتعامل معه بصداقة واحترام، هذا برغم أن العملية أجريت له مرتين، فلم تنجح المرة الأولى بالتنظير واحتاج الأمر إلى الجراحة، وتأخر المريض في المستشفى وشعر بآلام وإحباط.
وربما تكون المأساة الأكبر حين تتحول المرآة إلى إدمان لا يمكن التخلص منه، فيستغرق فيها بعض الناس ليس جهلا وعدم معرفة بالصواب، ولكن استمتاعا بلذة الوهم، أو تتحول غيبوبة النرجسية إلى مصالح وكيانات، والحقيقة إلى عدو تجب محاربته، وقد يلتبس الأمر على المشتغلين بالإصلاح في هذه الحالة، فيغفلون عن فهم العمل العبقري الموجه لمنع الصحو واليقظة.
حوادث المرور، والغثاء في الإعلام والغناء والفن والأحزاب والبرامج العامة والثقافية، وضعف التعليم وتراجع الفكر والنشر والقراءة، والجريمة والمخدرات والانحراف، والعزوف عن المشاركة والعمل العام والتطوعي، وغير ذلك كثير يجمع بينها شيء واحد، وتحتاج في مواجهتها إلى علاج نفسي واجتماعي وتأهيل يأخذ بالحسبان حالة النرجسية، والانشغال بالذات المفشية إلى درجة الوباء.