من المعلوم في قواعد الشريعة ودلالاتها أن أحكامها شاملة كاملة، بل ومن كمالها الذي لا يعتريه نقص أنها تتعامل مع الحال والمكان والزمان بحسب تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وأوضح مثال في هذا المقام ما حدث من نازلة في هذه الأيام، وهو ما يتعلق بمسألة الكافر: فمن المقرر في الدين أن البراءة من الكافر من أعظم مسائل المعتقد، والنصوص في هذا المبحث أشهر من أن تحصر، فلا محبة لمن كفر، ولا مداهنة مع من كفر، ولا سلام على من كفر، ولا موالاة لمن كفر، إلا أنه مع ذلك كله فلا ظلم لمن كفر، ولا خيانة لمن كفر، ولا نقض ميثاق لمن كفر، وهذا لا يناقض ما سبق بل يوافقه، بل هو من لوازمه، وقبل بيان ذلك يقال: إن أصول الاستدلال مبنية على أمرين:
الأول: صحة الدليل، والثاني: منهجية الاستدلال، فمتى ما اختل أحد الشرطين ظهر الفساد والعوار في معالجة الأمور؛ فصحة الدليل تنفي ما لم يثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر عن سلف الأمة، ومنهجية الاستدلال تنفي أخذ النصوص مبتورة، أو عدم التفريق بين خاصتها وعامها ومطلقها ومقيدها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومفصلها، وتنفي كذلك الجهل بقرائن الأحوال، وما يتبع ذلك من عدم تنبيه للمفاسد والسعي في درئها ودفعها، وتتبع للمصالح والسعي في طلبها واستجلابها.
إن مجرد التعامل مع نص، والأخذ به علماً وعملاً دون النظر في أصل المسألة ونصوصها، يدل -كما سلف- على خلل في المنهج العلمي، مما يترتب عليه -بل وهو من لوازمه- فساد للنتائج المترتبة عليه، ولذا أكثر أئمة العلم من التنبيه على هذا المسلك، وبينوا شططه وخلله.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقض، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ كذلك" مقدمة التفسير 1/10.
وعوداً على أصل المسألة يقال: لقد قسًَم أهل العلم الكفار إلى أربعة أنواع بحسب ما جاءت به النصوص والآثار، قسموهم إلى: حزبيين ومعاهدين ومستأمنين وذميين، وميزوا كل نوع من هؤلاء بخصائص يعرف بها؛ حتى يعطى ما له من حق، ويمنع مما ليس مستحقاً له.
فالكافر الذمي: هو الذي يستوطن بلاد الإسلام، ويلتزم بدفع الجزية، وتجري أحكام الإسلام عليه، وهم رعايا في بلاد الإسلام.
والكافر المعاهد: هو من بين دولة الإسلام ودولته عهد وصلح على وضع الحرب مدة معينة أو مطلقة، كما عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً على وضع الحرب عشر سنين، فصاروا بهذا الصلح معاهدين.
والكافر المستأمن: هو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد الإسلام بأمان وإذن من مسلم،كما دل على ذلك قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هاني". وهؤلاء الثلاثة معصومو الدم والمال لا يحل التعرض لهم ما داموا على هذه الحال، ومن أدلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" أخرجه البخاري. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهدة " أخرجه الحاكم، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف يقال فيمن قتل عمداً !، فلا شك ولا ريب أن الإثم أعظم. إذاً فالأصناف الثلاثة من ذمي ومعاهد ومستأمن داخلون تحت قوله تعالى في النفس المعصومة: "ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق".
وأما القسم الرابع: فهو الكافر الحربي، وهو كل كافر ليس بذمي ولا معاهد ولا مستأمن، وهذا النوع هو الذي يقتل إذا وجد في بلاد المسلمين بغير أمان، ولم يترتب على قتله مفسدة أكبر، وهذا التقسيم وأحكامه مشهور معروف في كتب أهل العلم، إضافة إلى ما ذكروه حول أن العهد لأولئك لا يكون إلا من الإمام أو من نائبه، أما الأمان فيجوز من آحاد المسلمين، كما دل عليه حديث أم هاني.
وإن مما يحتج به بعض الناس على عدم رعاية عهود ومواثيق أولئك قوله : إن دول أولئك الكفار قد حاربت بعض دول المسلمين، وقتلت العباد وأفسدت البلاد، وهذا التعليل عليل؛ لأنه يخالف الدليل الشرعي والعقلي، فكون تلك الدول قد حاربت المسلمين لا يشفع للمسلمين أن يعتدوا على من أدخلوه بلادهم بإذنهم وأمانهم، ففي ذلك نكث للعهد وخيانة للوعد، وهذا لا يرضاه الإسلام ولا تقره الفطرة وتستقبحه العقول!، وإذا كان ذلك المسلك غير جائز من خيانتهم والغير بهم فلم يتركوا على كفرهم دون فعل ما تبرأ به ذمتنا، لم لا نسلك سبيل دعوتهم إلى الخير فإن استجابوا فلنا ولهم، وإن أعرضوا فلنا وعليهم ؟.
لماذا لا يستغل وجود هؤلاء النصارى في بلادنا وبين أظهرنا، فيما أن البلوى وقعت بمجيئهم إلينا؟ فحري بنا أن نجتهد في دعوتهم إلى الإسلام.
لماذا لا تحاول -من باب أدنى الكمال- أن تزيل من أذهانهم ما شاع عندهم بأن الإسلام دين إرهاب بسبب ما رسخته وسائل إعلامهم، وكذا ما وقع من بعض الحوادث التي حسبت على الإسلام، والإسلام بريء من إقرارها، ناهيكم عن الأمر بها؟. لماذا لا يستحضر بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، وإن مما يسهِّل دعوتهم ما يسر الله تعالى، وهيأ من الوسائل الدعوية المترجمة بلغتهم من المقروء والمسموع والمرئي، فذلك لا يكلف أحدنا جهداً يذكر من مال أو وقت، فلنحرص على إيصال تلك الوسائل إليهم، فربما أن جهداً يسيراً يغير شراً كبيراً، وحسبكم من تغيير معتقد شخص من كفر إلى إيمان.
إن دعوتهم في هذا الزمن أولى بكثير؛ لما في ذلك من الخير لنا ولهم، لماذا نجعل مبدأ الإرهاب والغدر يزداد رسوخاً في أذهانهم بسبب تصرفات لا يرضاها دين ولا يقبلها عقل؟. لماذا لا يذكر أولئك الكفرة عند بعض الناس إلا باستصحاب تمني البطش بهم والاعتداء عليهم؟. لماذا لا نُعمل جميع النصوص في شأنهم، لماذا ينسى -أو يتناسى- بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم زار غلاماً يهودياً؟. فقد اقتطع صلى الله عليه وسلم جزءاً من وقته الذي يعتبر أغلى وقت يمتلكه بشر، ومع هذا كله قام صلى الله عليه وسلم -مع شريف مرتبته ورفيع منزلته وعظيم مكانته- بزيارة ذلك الغلام اليهودي المريض الذي ليس له حظ من مال أو جاه، والله لو زار النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر زعماء يهود لكانت زيارته له مفخرة، يرتفع بها ذلك اليهودي على قومه ويفاخر بها بين عشيرته.
وقد كانت عاقبة تلك الزيارة النبوية فاتحة خير لذلك الغلام اليهودي، فإنه أسلم بحضور النبي صلى الله عليه وسلم .
لماذا لا نحبب الإسلام إلى أولئك دون إعطاء الدنية في الدين، ولا يظن أحد أن ذلك يتنافى مع مبدأ (الولاء والبراء)، فذاك ظن في غير محله، فدعوتهم إلى الإسلام وتحبيبهم إليه من الولاء لدين المسلمين، ومن البراء لدين الكافرين، وخير شاهد لذلك دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيارته لذلك الغلام اليهودي، وبكل حال فدعوة أولئك أمرها يسير وأجرها عظيم.
ألم تذكر كتب التاريخ أن بعض الأقطار دخلها الإسلام بسبب أخلاق التجار المسلمين الذين وفدوا إليها، رأى أهل تلك الديار في أولئك التجار المسلمين صدقاً في القول ووفاء بالوعد، وبياناً بجيد السلع من رديئها، ورداً لما كان معيباً منها، فلما رأى أولئك تلك الخصال التي تشهد بحسنها عقولهم سألوا عن ذلك، فأخبرهم أولئك التجار أن دينهم الإسلامي يأمرهم بهذا، ويرتب لهم عليه أجرا،ً وينهاهم عن ضده، ويرتب لهم عليه وزراً، فما كان من كثير من أولئك الكفار إلا أن دخلوا في الإسلام، فقل لي بربكم كم يجري من الأجور والثواب على أولئك التجار إلى هذه الساعة، بل إلى قيام الساعة ؟.
إن دعوة أولئك إلى الإسلام ودخولهم فيه، فيه مصالح كثيرة للداعي والمدعو، فإن لم يدخل أولئك في الإسلام، فلا أقل من كسب أصوات أولئك وتنازعهم ببطلان ما تزعمه تلك الحكومات الكافرة من الافتراء والاعتداء على الإسلام وأهله.
ألم يدافع بعض أرباب الكنائس عن دين الإسلام، وردوا نهاراً جهاراً على أبناء جلدتهم وزعماء حكومتهم الزاعمين أن الإسلام دين إرهاب؟، ألم يصرِّح أولئك المدافعون عن الإسلام من غير أهله بأن دولهم ظلمت واعتدت على مصالح المسلمين بدءاً بأرض فلسطين وانتهاءً بالعراق، لماذا لا يستغل مثل أولئك الكتبة، ويسأل علماؤنا هل يستحق أولئك شكراً فيشكروا على صنيعهم، مع دعوتهم إلى الإسلام مراسلة أو مشافهة، بحسب الفترة العلمية والمصلحة الشرعية.
أليس من حبائل الكفر في بلاد الإسلام أنهم عنوا بالبعثات التعليمية الوافدة من بلاد المسلمين إلى بلادهم، فاختاروا أناساً من المسلمين وصنعوهم على أعينهم، ولوثوا فكرهم وشككوهم في ثوابتهم، فرجع أولئك إلى بلادهم -بلاد المسلمين- فكانوا معاول هدم في دينهم ومعتقدهم، فكان ضررهم بالغاً وفسادهم متعدياً، فزاد بذلك شر أولئك الكفرة وشر من وظفوهم من أبناء الإسلام، فلماذا لا نسلك ذلك السبيل بقصد الخير والإصلاح كما سلكوه بقصد الشر والإفساد؟، فمتى بلغ المسلمين خبر -بأن أحد أولئك الكفرة ردَّ على افتراءات قومه، وبين فضل الإسلام- فمن الأولى -بعد سؤال أهل العلم- أن يشكر ويُدعى؛ ليزداد قوة، وربما فتح الله تعالى عليه بالإسلام.
ولقد أتت بعض الجهود ثمارها، فقد أسلم عدد كثير من أولئك الكفرة، والفضل لله تعالى، ثم لأولئك الداعين الذين بذلوا جهوداً مشكورة مع أولئك، فعلم الله صدق الداعين، فأوصل دعوتهم إلى قلوب أولئك، وعلم خيراً في قلوب المدعوين، فأسمعهم فكان ما كان من الخير، فهذا طبيب سويدي يعد من أشهر الأطباء الاستشاريين في أوروبا الغربية، وكان قد رأى قبل ذلك تردد المسلمين على المسجد بانتظام، ورأى حركاتهم وسكناتهم في صلاتهم كأنهم رجل واحد فأعجبه ذلك، ثم رزق بمن أثر فيه خلقاً وتعاملاً فدخل في الإسلام راغباً متشوقاً، ثم قال -بعدما استشعر طمأنينة الإسلام وسكينته- ما نصه: "إن الأوروبيين يطلقون على مجتمعاتهم لقب المجتمعات المتحضرة، فأين هي تلك الحضارة وأبناء أوروبا يقبلون على الرذيلة أو ينغمسون فيها"؟. ثم يقول: "إن الفضيلة والصدق والأمانة التي يدعو إليها الإسلام هي صفات يقرها ويدعو إليها كل من يريد إقامة مجتمع متحضر حقيقي". ثم يختم كلامه قائلاً : "إن من إعجاز الإسلام أنه دين يحرم الخمر التي هي أساس البلاء في معظم المجتمعات الأوروبية".
لذا أوصي أن تستشعر مثل هذه الأمور، وأن يحرص على نشر الخير قدر الوسع.
وأوصي شباب الإسلام أن يلزم الضراعة إلى الله في أن يسلك بكم طريق الهداية في موطن الخلاف، ثم اعلموا أن دعوة أولئك ليست مشاعة لكل أحد وبخاصة الدخول مع بعضهم في حوار لا يسلكه إلا من علم القدرة من نفسه، أما الذي يستطيعه كل أحد فهو إيصال وسائل دعوتهم من مسموع ومقروء ومرئي.
الأول: صحة الدليل، والثاني: منهجية الاستدلال، فمتى ما اختل أحد الشرطين ظهر الفساد والعوار في معالجة الأمور؛ فصحة الدليل تنفي ما لم يثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤثر عن سلف الأمة، ومنهجية الاستدلال تنفي أخذ النصوص مبتورة، أو عدم التفريق بين خاصتها وعامها ومطلقها ومقيدها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومفصلها، وتنفي كذلك الجهل بقرائن الأحوال، وما يتبع ذلك من عدم تنبيه للمفاسد والسعي في درئها ودفعها، وتتبع للمصالح والسعي في طلبها واستجلابها.
إن مجرد التعامل مع نص، والأخذ به علماً وعملاً دون النظر في أصل المسألة ونصوصها، يدل -كما سلف- على خلل في المنهج العلمي، مما يترتب عليه -بل وهو من لوازمه- فساد للنتائج المترتبة عليه، ولذا أكثر أئمة العلم من التنبيه على هذا المسلك، وبينوا شططه وخلله.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقض، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ كذلك" مقدمة التفسير 1/10.
وعوداً على أصل المسألة يقال: لقد قسًَم أهل العلم الكفار إلى أربعة أنواع بحسب ما جاءت به النصوص والآثار، قسموهم إلى: حزبيين ومعاهدين ومستأمنين وذميين، وميزوا كل نوع من هؤلاء بخصائص يعرف بها؛ حتى يعطى ما له من حق، ويمنع مما ليس مستحقاً له.
فالكافر الذمي: هو الذي يستوطن بلاد الإسلام، ويلتزم بدفع الجزية، وتجري أحكام الإسلام عليه، وهم رعايا في بلاد الإسلام.
والكافر المعاهد: هو من بين دولة الإسلام ودولته عهد وصلح على وضع الحرب مدة معينة أو مطلقة، كما عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً على وضع الحرب عشر سنين، فصاروا بهذا الصلح معاهدين.
والكافر المستأمن: هو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد الإسلام بأمان وإذن من مسلم،كما دل على ذلك قوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله"، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هاني". وهؤلاء الثلاثة معصومو الدم والمال لا يحل التعرض لهم ما داموا على هذه الحال، ومن أدلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" أخرجه البخاري. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهدة " أخرجه الحاكم، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف يقال فيمن قتل عمداً !، فلا شك ولا ريب أن الإثم أعظم. إذاً فالأصناف الثلاثة من ذمي ومعاهد ومستأمن داخلون تحت قوله تعالى في النفس المعصومة: "ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق".
وأما القسم الرابع: فهو الكافر الحربي، وهو كل كافر ليس بذمي ولا معاهد ولا مستأمن، وهذا النوع هو الذي يقتل إذا وجد في بلاد المسلمين بغير أمان، ولم يترتب على قتله مفسدة أكبر، وهذا التقسيم وأحكامه مشهور معروف في كتب أهل العلم، إضافة إلى ما ذكروه حول أن العهد لأولئك لا يكون إلا من الإمام أو من نائبه، أما الأمان فيجوز من آحاد المسلمين، كما دل عليه حديث أم هاني.
وإن مما يحتج به بعض الناس على عدم رعاية عهود ومواثيق أولئك قوله : إن دول أولئك الكفار قد حاربت بعض دول المسلمين، وقتلت العباد وأفسدت البلاد، وهذا التعليل عليل؛ لأنه يخالف الدليل الشرعي والعقلي، فكون تلك الدول قد حاربت المسلمين لا يشفع للمسلمين أن يعتدوا على من أدخلوه بلادهم بإذنهم وأمانهم، ففي ذلك نكث للعهد وخيانة للوعد، وهذا لا يرضاه الإسلام ولا تقره الفطرة وتستقبحه العقول!، وإذا كان ذلك المسلك غير جائز من خيانتهم والغير بهم فلم يتركوا على كفرهم دون فعل ما تبرأ به ذمتنا، لم لا نسلك سبيل دعوتهم إلى الخير فإن استجابوا فلنا ولهم، وإن أعرضوا فلنا وعليهم ؟.
لماذا لا يستغل وجود هؤلاء النصارى في بلادنا وبين أظهرنا، فيما أن البلوى وقعت بمجيئهم إلينا؟ فحري بنا أن نجتهد في دعوتهم إلى الإسلام.
لماذا لا تحاول -من باب أدنى الكمال- أن تزيل من أذهانهم ما شاع عندهم بأن الإسلام دين إرهاب بسبب ما رسخته وسائل إعلامهم، وكذا ما وقع من بعض الحوادث التي حسبت على الإسلام، والإسلام بريء من إقرارها، ناهيكم عن الأمر بها؟. لماذا لا يستحضر بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، وإن مما يسهِّل دعوتهم ما يسر الله تعالى، وهيأ من الوسائل الدعوية المترجمة بلغتهم من المقروء والمسموع والمرئي، فذلك لا يكلف أحدنا جهداً يذكر من مال أو وقت، فلنحرص على إيصال تلك الوسائل إليهم، فربما أن جهداً يسيراً يغير شراً كبيراً، وحسبكم من تغيير معتقد شخص من كفر إلى إيمان.
إن دعوتهم في هذا الزمن أولى بكثير؛ لما في ذلك من الخير لنا ولهم، لماذا نجعل مبدأ الإرهاب والغدر يزداد رسوخاً في أذهانهم بسبب تصرفات لا يرضاها دين ولا يقبلها عقل؟. لماذا لا يذكر أولئك الكفرة عند بعض الناس إلا باستصحاب تمني البطش بهم والاعتداء عليهم؟. لماذا لا نُعمل جميع النصوص في شأنهم، لماذا ينسى -أو يتناسى- بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم زار غلاماً يهودياً؟. فقد اقتطع صلى الله عليه وسلم جزءاً من وقته الذي يعتبر أغلى وقت يمتلكه بشر، ومع هذا كله قام صلى الله عليه وسلم -مع شريف مرتبته ورفيع منزلته وعظيم مكانته- بزيارة ذلك الغلام اليهودي المريض الذي ليس له حظ من مال أو جاه، والله لو زار النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر زعماء يهود لكانت زيارته له مفخرة، يرتفع بها ذلك اليهودي على قومه ويفاخر بها بين عشيرته.
وقد كانت عاقبة تلك الزيارة النبوية فاتحة خير لذلك الغلام اليهودي، فإنه أسلم بحضور النبي صلى الله عليه وسلم .
لماذا لا نحبب الإسلام إلى أولئك دون إعطاء الدنية في الدين، ولا يظن أحد أن ذلك يتنافى مع مبدأ (الولاء والبراء)، فذاك ظن في غير محله، فدعوتهم إلى الإسلام وتحبيبهم إليه من الولاء لدين المسلمين، ومن البراء لدين الكافرين، وخير شاهد لذلك دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وزيارته لذلك الغلام اليهودي، وبكل حال فدعوة أولئك أمرها يسير وأجرها عظيم.
ألم تذكر كتب التاريخ أن بعض الأقطار دخلها الإسلام بسبب أخلاق التجار المسلمين الذين وفدوا إليها، رأى أهل تلك الديار في أولئك التجار المسلمين صدقاً في القول ووفاء بالوعد، وبياناً بجيد السلع من رديئها، ورداً لما كان معيباً منها، فلما رأى أولئك تلك الخصال التي تشهد بحسنها عقولهم سألوا عن ذلك، فأخبرهم أولئك التجار أن دينهم الإسلامي يأمرهم بهذا، ويرتب لهم عليه أجرا،ً وينهاهم عن ضده، ويرتب لهم عليه وزراً، فما كان من كثير من أولئك الكفار إلا أن دخلوا في الإسلام، فقل لي بربكم كم يجري من الأجور والثواب على أولئك التجار إلى هذه الساعة، بل إلى قيام الساعة ؟.
إن دعوة أولئك إلى الإسلام ودخولهم فيه، فيه مصالح كثيرة للداعي والمدعو، فإن لم يدخل أولئك في الإسلام، فلا أقل من كسب أصوات أولئك وتنازعهم ببطلان ما تزعمه تلك الحكومات الكافرة من الافتراء والاعتداء على الإسلام وأهله.
ألم يدافع بعض أرباب الكنائس عن دين الإسلام، وردوا نهاراً جهاراً على أبناء جلدتهم وزعماء حكومتهم الزاعمين أن الإسلام دين إرهاب؟، ألم يصرِّح أولئك المدافعون عن الإسلام من غير أهله بأن دولهم ظلمت واعتدت على مصالح المسلمين بدءاً بأرض فلسطين وانتهاءً بالعراق، لماذا لا يستغل مثل أولئك الكتبة، ويسأل علماؤنا هل يستحق أولئك شكراً فيشكروا على صنيعهم، مع دعوتهم إلى الإسلام مراسلة أو مشافهة، بحسب الفترة العلمية والمصلحة الشرعية.
أليس من حبائل الكفر في بلاد الإسلام أنهم عنوا بالبعثات التعليمية الوافدة من بلاد المسلمين إلى بلادهم، فاختاروا أناساً من المسلمين وصنعوهم على أعينهم، ولوثوا فكرهم وشككوهم في ثوابتهم، فرجع أولئك إلى بلادهم -بلاد المسلمين- فكانوا معاول هدم في دينهم ومعتقدهم، فكان ضررهم بالغاً وفسادهم متعدياً، فزاد بذلك شر أولئك الكفرة وشر من وظفوهم من أبناء الإسلام، فلماذا لا نسلك ذلك السبيل بقصد الخير والإصلاح كما سلكوه بقصد الشر والإفساد؟، فمتى بلغ المسلمين خبر -بأن أحد أولئك الكفرة ردَّ على افتراءات قومه، وبين فضل الإسلام- فمن الأولى -بعد سؤال أهل العلم- أن يشكر ويُدعى؛ ليزداد قوة، وربما فتح الله تعالى عليه بالإسلام.
ولقد أتت بعض الجهود ثمارها، فقد أسلم عدد كثير من أولئك الكفرة، والفضل لله تعالى، ثم لأولئك الداعين الذين بذلوا جهوداً مشكورة مع أولئك، فعلم الله صدق الداعين، فأوصل دعوتهم إلى قلوب أولئك، وعلم خيراً في قلوب المدعوين، فأسمعهم فكان ما كان من الخير، فهذا طبيب سويدي يعد من أشهر الأطباء الاستشاريين في أوروبا الغربية، وكان قد رأى قبل ذلك تردد المسلمين على المسجد بانتظام، ورأى حركاتهم وسكناتهم في صلاتهم كأنهم رجل واحد فأعجبه ذلك، ثم رزق بمن أثر فيه خلقاً وتعاملاً فدخل في الإسلام راغباً متشوقاً، ثم قال -بعدما استشعر طمأنينة الإسلام وسكينته- ما نصه: "إن الأوروبيين يطلقون على مجتمعاتهم لقب المجتمعات المتحضرة، فأين هي تلك الحضارة وأبناء أوروبا يقبلون على الرذيلة أو ينغمسون فيها"؟. ثم يقول: "إن الفضيلة والصدق والأمانة التي يدعو إليها الإسلام هي صفات يقرها ويدعو إليها كل من يريد إقامة مجتمع متحضر حقيقي". ثم يختم كلامه قائلاً : "إن من إعجاز الإسلام أنه دين يحرم الخمر التي هي أساس البلاء في معظم المجتمعات الأوروبية".
لذا أوصي أن تستشعر مثل هذه الأمور، وأن يحرص على نشر الخير قدر الوسع.
وأوصي شباب الإسلام أن يلزم الضراعة إلى الله في أن يسلك بكم طريق الهداية في موطن الخلاف، ثم اعلموا أن دعوة أولئك ليست مشاعة لكل أحد وبخاصة الدخول مع بعضهم في حوار لا يسلكه إلا من علم القدرة من نفسه، أما الذي يستطيعه كل أحد فهو إيصال وسائل دعوتهم من مسموع ومقروء ومرئي.