Unconfigured Ad Widget

Collapse

صناعة الوعي السياسي.. مسؤولية من ؟

Collapse
X
 
  • الوقت
  • عرض
مسح الكل
new posts
  • علي الدوسي
    عضو مميز
    • Jun 2002
    • 1078

    صناعة الوعي السياسي.. مسؤولية من ؟

    في الجزائر أرغم الرأي العام الفرنسيين على الانسحاب من الأراضي الجزائرية وبخسائر فادحة أيضاً، وكذلك فعل غاندي.
    - التغني بأمجاد الماضي هروب من مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل، فهو لا يعدو أن يكون خداعاً للنفس.
    - القوة الغربية في تاريخها الحديث، انطلقت من حرية رأس المال وتحويل الإنسان إلى وحدة بضاعة خاضعة لمقاييس السوق.

    لا يختلف اثنان أن من أهم أسباب المحنة التي يعيشها المسلمون في العصر الحديث، ودخولهم تيه التخلف وعدم التمكن من الخلاص، هو فقدان جماهير الأمة وقادة الرأي فيها وصناع السياسة والقادة، للوعي الكامل برسالة الأمة، وما تحتاجه من تضحيات للتحرر والنهوض، وعدم الاستعداد لتقديم التضحيات في سبيل ذلك، وعدم المعرفة الدقيقة للعدو من الصديق .
    وفقدان الوعي بهذه الصورة العامة معناه تفشي وشيوع حالة الغفلة والوهن الذي فسره الحديث الشريف بأنه: (حب الدنيا وكراهية الموت) .
    والغفلة أبشع حالة يمكن أن تسيطر على أمة فتجعلها بلا وزن، وتجعلها تتخبط ولا تصل إلى أية غاية، فتتعطل مقاومتها لعدوها، بل تعتبره صديقها، وتحت شعار الصداقة يفعل العدو بالأمة كل شيء من شأنه الإضرار بها وتحجيمها، ولكن –للأسف- لا ترى الأمة في ذلك إلا نوعاً من الصداقة .
    والوعي هو إدراك الإنسان والمجتمع لحاله على ما هي عليه بلا تهويل أو تهوين، ومعرفته التامة والدقيقة بنقاط قوته ونقاط ضعفه، واعترافه بأمراضه وعيوبه .
    وأعلى درجات الوعي هي الوعي السياسي الذي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة .
    فالنظرة إلى العالم من غير زاوية خاصة تعتبر سطحية وليس وعياً سياسياً، والنظرة إلى المجال المحلي وحده تفاهة وليس وعياً سياسياً.
    ولا يتم وجود الوعي السياسي إلا إذا توفر فيه عنصران، أحدهما: أن تكون النظرة إلى العالم كله، والثاني: أن تنطلق هذه النظرة من زاوية خاصة محددة، أياً كانت هذه الزاوية، سواء كانت مبدأ معيناً أو فكرة معينة، إلا أن الزاوية الخاصة إن كانت مبدأً تجعل الوعي السياسي ثابتاً .
    والوعي السياسي يحتم -طبيعياً- خوض النضال في سبيل تكوين مفهوم معين عن الحياة لدى الإنسان من حيث هو إنسان، وتكوين هذا المفهوم هو المسؤولية الأولى التي ألقيت على كاهل الواعي سياسياً، والتي لا تنال الراحة إلا ببذل المشقة لأدائها .
    والوعي السياسي لا يعني الإحاطة بما في العالم، ولا الإحاطة بالمبدأ، أو بما يجب أن يتخذ زاوية خاصة للنظرة إلى العالم، وإنما يعني فقط أن تكون النظرة إلى العالم مهما كانت معارفه عنه قليلة أو كثيرة، وأن تكون هذه النظرة من زاوية خاصة مهما كانت معرفته بهذه الزاوية قليلة أو كثيرة، فمجرد وجود النظرة إلى العالم من زاوية خاصة تدل على وجود الوعي السياسي، وإن كان يتفاوت هذا الوعي قوة وضعفاً بتفاوت المعارف للعالم وللزاوية؛ لأن المقصود من النظرة إلى العالم يتركز في النظرة إلى الإنسان الذي يعيش في العالم، والمقصود من النظرة من زاوية خاصة يتركز في مفهومه عن الحياة الذي اتخذه زاوية خاصة، وعلى هذا فالوعي السياسي ليس خاصاً بالسياسيين والمفكرين، وإنما هو عام وممكن إيجاده في العوام والأميين، كما يمكن إيجاده في العلماء والمتعلمين، بل يجب إيجاده ولو إجمالاً، في الأمة بجملتها؛ لأنه بدون هذا الوعي السياسي عند الأمة -بل عند أي فرد- لا يمكن إدراك قيمة الأفكار التي لديه في حياة الأمة .
    والوعي السياسي هو الحاجة الملحة التي لا غنى عن سدها وتأمينها لدى الأمة الإسلامية . وبدون هذا الوعي السياسي لا يمكن إدراك قيمة الإسلام في حياة الأفراد والمجتمع، ولا يمكن ضمان سير الأمة مع حملة الدعوة الذين يكافحون الكفر ويكافحون الاستعمار سيراًَ دائما في جميع الظروف في الانتصار و الهزيمة سواء، وبدون الوعي السياسي تتعطل فضائل الإسلام .
    وبدون الوعي السياسي تزداد حالة الأمة سوءاًَ، وتقطع أسباب الرقي عنها، وتهدر كل الجهود التي تبذل في إنهاضها.
    وبدون الوعي السياسي عند المسلمين -بوصفهم مسلمين- يسرع الانقراض إلى الإسلام، ويزداد خطر الإبادة للمسلمين، وتنعدم الطرق والوسائل التي تمكِّن من استئناف الحياة الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية .
    ولهذا يجب أن تتأصل في نفوس الأمة كمجموعة واحدة، ثلاث خصال، إحداها : الاهتمام بمصالح الأمة اهتماما تاماًَ بشكل آلي بديهي، فيقول المسلم في دعائه: "اللهم ارحم الأمة الإسلامية" كما يقول: "اللهم ارحمني"، ويسأل هل انتصر الجيش؟ قبل أن يسأل عن ابنه في الجيش.
    ثانيها: وحدة الرأي والانتظام تجاه ما يجب القضاء عليه، وتجاه ما يجب تأييده من أفكار وأعمال وأشخاص، أي تجاه ما يجب هدمه .
    ثالثها: جعل الطاعة سجية من السجايا، والتمرد رذيلة مستقبحة ومستنكرة، ولا يسمى الخضوع للعدو طاعة، ولا الوقوف في وجه الطغيان تمرداًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًََ، وإنما الطاعة تنفيذ أمر من له الصلاحية بخضوع ورغبة ورضا واطمئنان، والتمرد عكسه.

    تشكيل الوعي عبر قيادة الرأي العام
    ولكي يتم إيجاد درجة عالية من الوعي لدى جماهير الأمة، فلابد من مخاطبة الناس عبر مختلف الوسائل، وخاصة وسائل الإعلام والتعليم والثقافة، وهذا معناه الوصول للرأي العام أينما كان، ومخاطبته وقيادته وبث الأشواق الجهادية والحضارية فيه بمضامين إسلامية .
    فالرأي العام هو "موقف جماعة من الناس تجاه قضية معينة، سلباً أو إيجاباً، كانتخاب رئيس دولة، أو مجلس استشاري، أو تجاه مشكلة ما؛ كالفقر أو الاستبداد، أو حادثة ما كالكوارث الطبيعية، أو البشرية كالحروب وغيرها".
    والمتفحص لتاريخ الشعوب، يجد أن للرأي العام تأثيراً كبيراً في مدى استقلالها وحريتها، حيث إن أغلب شعوب العالم مرت بظروف قاسية، وامتحانات واختبارات كثيرة، فبعضها اجتاز هذه الاختبارات، وتخطى الصعوبات بنجاح باهر، والبعض الآخر كانت نسبة نجاحه أقل، وبعضها فشل فشلاً ذريعاً.
    وإذا راجعنا الأمور وتحرينا الأسباب، فسوف نجد للرأي العام تأثيراً بالغاً في مثل هذه النتائج، بل هو الذي يحدد هذا التأثير أحياناً كثيرة.
    إذاً، للرأي العام دور كبير من خلال استثماره وتوجيهه يمكن اكتساح الكثير من الصعوبات في سبيل نيل الحرية والأمان والاستقرار للشعوب.
    وللوقوف على بعض التجارب التاريخية التي تبين أثر توحيد الرأي العام؛ ففي الجزائر أرغم الرأي العام الفرنسيين على الانسحاب من الأراضي الجزائرية وبخسائر فادحة أيضاً، وكذلك فعل غاندي بإمبراطورية بريطانيا العظمى، عندما استطاع توحيد الرأي العام الهندي.
    ومن النماذج السلبية التي تعبر عن كبت الرأي العام؛ الدول الرأسمالية، حيث يسيطر أصحاب رؤوس المال على صنع القرار، فيصبح الرأي العام مجرد غطاء يستغله أصحاب الأموال لمصلحتهم عن طريق الخداع أو شراء الذمم، وليس هناك تمثيل حقيقي لهم في إدارة الشعب، والمراقب لمهزلة الانتخابات في معظم البلدان الرأسمالية، يجد –بوضوح- أن جميع الذين يفوزون في هذه الانتخابات هم من أصحاب المال، أو المرتبطين بهم، وهذا أوضح دليل على زيف هذه الانتخابات. كما لا تختلف الدول الاشتراكية عن الرأسمالية في خداع الرأي العام وتضليله، وإن اختلفت الخطابات والأساليب.

    الوعي بالمستقبل والتخطيط له
    يعد الوعي بالمستقبل واستشراف آفاقه وفهم تحدياته وفرصه، من المقومات الرئيسة في صناعة النجاح، سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد الاجتماعي، أو على الصعيد الحضاري؛ فلا يمكن أن يستمر النجاح لأحد إذا لم يكن يمتلك رؤية واضحة لمعالم المستقبل، فالنجاح الدائم إنما يرتكز على الوعي بالمستقبل. أما وعي الحاضر فهو وإن كان مهماً وضرورياً إلا أنه لا يكفي لوحده لصناعة النجاح الدائم، بَيْدَ أنه قد يكفي لنجاح مؤقت، ولكنه نجاح يعقبه الفشل الذريع في غالب الأحيان، إن لم يكن مصحوباً بفهم الحاضر ووعي المستقبل.
    ولكي نُكَوِّن رؤية عن المستقبل علينا أن ندرس الماضي، ونستفيد من دروسه، كما ينبغي فهم الحاضر ومكوناته؛ كما أنه من المهم ربط المستقبل بما يحدث في الحاضر، واستيعاب دروس الماضي بما فيها من نقاط قوة أو ضعف، فغالباً -إن لم يكن دائماً- ما يكون تطور المجتمعات الإنسانية ناتجاً من عملية تراكمية. أما مجرد التغني بأمجاد الماضي كهروب من مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل، فهو لا يعدو أن يكون خداعاً للنفس، كما أنه يشكل أكبر خطورة على مستقبلنا وحاضرنا؛ إذ إن ذلك يعني أننا نعيش في الحاضر على إيقاع الماضي وبطولاته، فيما لا نبذل أي جهد من أجل صناعة الحاضر والمستقبل.
    والهدف من دراسة الماضي أن نستفيد من دروسه وعبره، فالتاريخ يعيد نفسه في غالب الأحيان، كما أن من الضروري فهم الحاضر بكل جوانبه وأبعاده ومكوناته؛ لكي نفهم كيف نتعامل معه ونستثمر نقاط القوة المتوافرة فيه..
    وإذا استطعنا استيعاب دروس الماضي واستثمارها من أجل العمل في الحاضر، وفهم الحاضر بكل جوانبه، فإن هذا سيكون خير معين لنا لنفهم آفاق المستقبل وأبعاده ومعالمه.
    كما أن عالم اليوم يموج بالكثير من التطورات والتغيرات والمستجدات على مختلف الأصعدة والمستويات؛ ولكي نفهم المستقبل لابد من متابعة جميع المستجدات والتغيرات المتلاحقة، والسعي لفهم ما يجري، وتشكيل رؤية تجاه ما يحدث وما سيحدث، وقراءة المتغيرات بروح علمية ومنهجية ومنطقية.
    ومما يؤسف له حقاً أن يعيش البعض منا الحاضر -وفي الألفية الثالثة- ولكن بعقلية قديمة، بل وموغلة في القدم، وكأنه غير معني بما يحدث في الحاضر من تغيرات سريعة لم تشهد لها البشرية مثيلاً على طول تاريخها الطويل.
    إن تكوين الوعي بالمستقبل يستلزم بالضرورة أن نفتح أعيننا وقلوبنا على كل ما يجري من حولنا من تغيرات، سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم والتربية أو الإعلام ووسائل الاتصال الأخرى، أو التكنولوجيا والتقنية المتقدمة… وغير ذلك كثير.
    ومن المفيد للغاية أن نحلل كل التغيرات، ونتابعها بدقة وموضوعية، ونرصد التحولات التي تحدث في مختلف المجتمعات الإنسانية، إذا ما أردنا أن نفهم معالم المستقبل وآفاقه.
    كما لابد من الاطلاع على قضايا المستقبل، وهي تشمل عناوين كثيرة، ومواضيع متعددة، سواء ما يتعلق بالأفراد أو المجتمعات أو الدول. وفي الغرب توجد العديد من المراكز التي تُعنى بشؤون المستقبل وقضاياه، كما توجد الكثير من الدراسات التي تتناول قضايا المستقبل، كما تصدر العديد من المجلات المتخصصة التي ترصد قضايا المستقبل ومعالمه. ومن المؤسف حقاً أنه لا يوجد -إلا نادراً- في العالم العربي أي اهتمام يذكر بقضايا وشؤون المستقبل، مما ساهم في غياب رسم استراتيجية واضحة لشؤون المستقبل، وما يرتبط به من قضايا وأبعاد سواء ما يتعلق بالدول أو المجتمعات أو الأفراد. ومن المهم لكل من يريد تكوين رؤية للمستقبل الاطلاع على الدراسات والكتب والأبحاث التي تتناول شؤون المستقبل؛ كي يتمكن من تكوين وعي دقيق به.
    ومن يعي المستقبل ويعمل من أجله هو القادر -حاضراً ومستقبلاً- على الإمساك بزمام الأمور في مختلف الجوانب؛ أما من لا يفكر إلا في اللحظة الراهنة، فإنه لن يستطيع تجاوز تلك اللحظة، أو التعامل مع غيرها. ولذلك نجد في واقعنا الاجتماعي الكثير من الناس ممن يتحسرون على ضياع الفرص التي أتيحت لهم ولم يستثمروها، كما نجد الكثير من الكهول والشيوخ ممن يتحسرون على ضياع مرحلة الشباب من دون أن يستثمروها في تأهيل أنفسهم علمياً وعملياً.. ولكن هذا الندم والتحسر يأتي بعد فوات الأوان!.

    الحركة الإسلامية وقيادة حركة الوعي
    لقد بدأت المواجهة بين الإسلام وبين الآخر، منذ لحظة الوحي الأولى، بسبب القوة العقيدية التي يحملها، وتهديد الأوضاع القائمة بما فيها من مصالح الدول ومؤسسات دينية ومدنية، تمتلك قوة السلاح والاقتصاد. ولكن النصر للإسلام كان لازماً ومضطرداً، لا بفعل القوة المادية التي امتلكها المسلمون، ولكن بفعل قوة العقيدة، التي تستطيع اختراق أنماط التفكير وأنماط السلوك البشري من داخلها. إن قوة الإسلام تتغلغل وتشادُّ العقلَ، قبل أن تجابه السيفَ وتشادَّ العلاقاتِ الماديةَ السياسيةَ والاقتصادية.
    ولكن أخذ المسلمون يشعرون بوطأة المواجهة وقسوتها في القرن العشرين، بعد انهيار وحدتهم السياسية، مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتحلل بعض المرجعيات الدينية، بعد السيطرة عليها وتدجينها من قبل المؤسسات التي حكمت بلاد المسلمين، ولأول مرة، دون الانبثاق أو الاستناد الفعلي إلى الإسلام كنظام سياسي.
    وترافقت حالة التفكك هذه مع صدمة الانبهار بالتقدم الغربي، وصدمات الانتصارات المتوالية التي حققها الآخر علينا، والتي لمسناها على جلودنا وعقولنا متمثلة في الانسحاق الحضاري أمام منظومات الأفكار والإيديولوجيات المختلفة التي غلبت على فكرنا، وفي العجز التكنولوجي، وفي قدرة الآخر على التلاعب بالمصائر السياسية لبلادنا، وكان لنشوء الدولة اليهودية أثر بالغ في إدراك مدى الهزيمة، وفي حالة العجز والتفتت، بقدر ما كان للصراع مع الصهاينة من أثر باتجاه وعي الذات والسعي الحثيث لامتلاك أسباب القوة لمواجهة خطر الصهيونية، وانبعاث الإسلام الحضاري الفاعل بفعل الصحوة الإسلامية، وبروز القوى الإسلامية على ساحة الفعل السياسي في العالمين العربي والإسلامي، أخذت الأجهزة الغربية تحاول الإطاحة بالحالة الإسلامية وتشويهها ووأدها في المهد، لإدراكها مدى الخطر الذي يهدد مصالحها إن استطاعت الحالة الإسلامية أن تحقق أيما انتصار مهما بدا قليلاً ومعزولاً. فالقوة الغربية في تاريخها الحديث، انطلقت من حرية رأس المال وتغوّلِ السوق وتحويل الإنسان إلى وحدة بضاعة خاضعة لمقاييس السوق. إن ما يحكم العالم الآن هو رأس المال المالي الذي يذهب في تقديس الأنماط الاستهلاكية في المعاش والفكر إلى أكثر حدوده تطرفاً. ولا يستقيم للقوى الموجهة لحركة رأس المال أن تهيمن وتسيطر على العالم إلا إذا خضع العقل الجماعي للبشرية لأوهام الرفاهية والقوة الفردية، أي بتفكيك وحدة الوجود البشري وتحطيم الانتماءات إلى المجموع، أيما مجموع.
    والإسلام دين جوهره التوحيد، وتغليب العام على الخاص، وبهذا المعنى فإنه يحرر الإرادة، ولا يتواءم مع الخضوع للمقاييس المادية والدنيوية، بل ينظمها ويحرر الإنسان من سطوتها.. هذا هو جوهر التناقض بين الإسلام الحركي الرسالي، وبين الواقع القائم حضارياً وسياسياً .
    ومن هنا تحاول الحركات الإسلامية المعاصرة أن تمتلك الوعي بالعالم، على المستويات العلمية والفكرية والسياسية والاقتصادية، بعد أن كان هذا الوعي محدوداً بأسباب الجهل والتخلف وحداثة عهد هذه الحركات بالعمل السياسي، وتحاول أن تمتلك الوعي بالذات عن طريق إعادة النظر في الفكر الإسلامي نفسه، بعد أن كانت أسيرة لمقولات فكرية وفقهية ليست من صلب العقيدة ولا من الثوابت ولا تمتلك قدسية ما، ولكنها بفعل التقادم التاريخي وسطوة الموروث ضغطت على العقول وتحولت إلى عبء ترزح تحته الحركة الإسلامية، فتكف عن الحركة وتتجمد في مكانها، وتتحول إلى عبء على المجتمعات الإسلامية، بعد أن نهضت لتحمل أعباء هذه المجتمعات.

    من يصنع الوعي؟
    إن القيادة هي التي تصنع الوعي في الأمة، ولكن ما العمل إذا كانت القيادة نفسها غير واعية كما هو حادث الآن في أمتنا؟. هذه إشكالية كبيرة... ولكن ربما كان حلها موجوداً في تاريخنا الإسلامي، ففي فترات كثيرة من تاريخنا الإسلامي كانت القيادة فاقدة الوعي، لكن في هذه الفترات كان الوعي يأتي من أسفل وليس من أعلى، يأتي من الأمة وليس من القيادة . كان العلماء يقودون الأمة فكرياً وثقافياً ويقودون الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء، وهذه الأمور هي عصب الحياة، وفي الوقت نفسه يطلبون من القيادة الجهاد، وما نموذج العز بن عبد السلام مع المماليك بغائب، ولم يكتف العلماء بذلك بل كانوا يحثون الناس على الجهاد ويجاهدون بأنفسهم، وما نموذج ابن تيمية في الجهاد ضد التتار بغائب .
    أثرياء الأمة كان لهم دور أيضاً، سواء في قيادة الحركة الثقافية والعلمية أو مساعدتها، مثل نموذج تلك المرأة المسلمة التي أنفقت على أحد طلبة العلم، وتحملت مصروفات سفره من أجل ترجمة مخطوط علمي جنت الأمة ثمرته في مرحلة تقدمها .
    قاد أهل الوجاهة في المجتمعات الإسلامية حركة إنشاء (البيرامستانات) أي المستشفيات، وكذلك قادوها في إنشاء المدارس. إن الأمة وليست الحكومات كانت هي التي تدير الأمور الصحية والعلمية .
    وعليه فإننا نقول: إن العلماء هم قادة حركة الوعي في الأمة من أجل تحقيق طموحها في مكانة محترمة في العالم، ولكن حركة الوعي لن تؤتي أكلها إلا إذا استجابت لها الأمة، وتحركت تحركها الكبير الواعي بكل فئاتها، أي إلا إذا تحرك الرأي العام وانضم إلى حركة الوعي، وساعتها ستتعرض القيادة الغافلة إلى ضغوط هائلة تجبرها على التفاعل والحركة، حتى لا يفوتها القطار .
    [glint][grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم[/grade][/glint]
Working...