" سقوط بغداد " حزن جلل، ونازلة كبرى آلمت كل مسلم وهاهو الأخ أحمد سميح سعيدان يحاول أن يداوي بعض الجراح .
(المشرف على النافذة)
***********
قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11]
إذا أُصيب العبد بمصيبة ، فليحمد الله، وليصبر وليحتسب، وليرجع إلى ربه، فإن الله هو الذي قدّرها وشاءها، فيجب على العبد الصبر، فحينئذ ينشرح صدر المصاب، ويطمئن ويسكن قلبه، وهو مع ذلك يؤجر أجراً كبيراً، قال تعالىمَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ، وقال تعالى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: من الآية10].
وإذا لم يصبر المصاب على مصيبته فإنه يتحسر ويشقى، وتكبر مصيبته، ويُخشى عليه أن يتسخط على القدر، ويعترض على تقدير الله؛ فيقع في محظور عظيم، ففي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال:" أتيت أُبيّ بن كعب فقلت له: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: "لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار".
فالإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بها كلها، فإذا آمن الإنسان بالقدر إيماناً كاملاً، لا يعتريه شك؛ اطمأن في حياته، فإذا أصابه شيء علم أنه بقضاء الله وقدره، فيطمئن قلبه.
يقول الحق جل وعلاقُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ) [الأنعام:12]، فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء، فهو يبتليهم ليُعِدَّ طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، وليَمِيز الخبيث من الطيب في صفوف المسلمين، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليُكسب المؤمن الطمأنينة بما قدّر له ربه؛ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء التي تزيغ فيها القلوب والأبصار إلا أنه يعلم أن ربه معه بنصره وتأييده، فتنقلب المحنة إلى منحة، وينقلب الخوف إلى رجاء، وينقلب القلق إلى طمأنينة.
ومن حكمة الابتلاء والمصيبة أنها تذكّر العبد بذنوبه، وتزيل قسوة القلب، وترجع العبد إلى الله ؛ ليقف ببابه ويتضرع إليه ويستكين، وتقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين والإقبال على الله وحده، وأن المصيبة تعرّف المصاب قدر نعمة العافية؛ لأن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدانها.
إن ما حصل في العراق ـ من احتلال بغداد ـ قد فاجأ الجميع.. ، ولكن السبب لا يزال غامضاً! وهذا مما يزيد من حالة الذهول ، ويعمق الشعور بالإحباط والأسى، ويوسع دائرة التأثير ..، وهذا ما يريده العدو!
قال (رامسفيلد) عن هذه الحرب إنها حرب إعلامية نفسية ، ولقد رأينا التضليل الإعلامي الذي مارسته وتمارسه أمريكا ، وكيف أنها قتلت الإعلاميين المنصفين بالصواريخ والدبابات !!
والنتيجة أن الحرب ليست صراع أبدان ؛بل صراع إرادات وعقول ، يريدون كسر الإرادة الإسلامية، سواء كانت عراقية أوجميع الشعوب الإسلامية .
لقد جاء سقوط بغداد على أسرع مماتخيلته أفلام الهوليود ، ومعلوم أن الهوليود سهم حاد من السهام النفسية لمحاربة الإرادة الحرة ، تحارب بالوهم والتخييل نفسيا ،وتبسط الهيمنة الأمريكية ، والتعاون معروف بين الأجهزة الأمريكية الثلاثة :المخابرات CIA ، والبنتاغون ، والهوليود .
وهذا الأسلوب من وجهة نظر العدو له الأفضلية، وأكثر فاعلية لأنه يحفظه من المخاطرة في ميدان المعركة ، ويخفي وجهه الوحشي العنجهي القبيح إذا مااستخدم الآلة العسكرية.
نقول هذا من باب التشخيص حتى نصل إلى خطورة مايريده العدو بنا ، وهو إيصال الطعنة إلى القلب ! وهي أعظم تأثيرا من الطعن في الجوارح والأبدان . فيفتن المسلم عن دينه ، ويسيء الظن بربه ، ويرى أنه لا منقذ له إلا أمريكا ، ولا يمكن له بأية حال أن يواجه القوة العظمى الأمريكية ، وأنها بلغت مبلغ الإله الذي يُدعى رغبا ورهبا .
ومن مظاهر ذلك : الشعور بالإحباط ، واليأس من روح الله ـ وهو خطير مآله إلى الكفر ـ وتجد الشخص يعترض على القدر، ويجزع فلا يصبر، ويعجز فلا يعمل ، عدا أنه يتنازل عن معاداة أمريكا والبراء منها، وقد ينقلب إلى موالاتها، وهذا تحطيم للعقيدة الإسلامية وتفتيت لها، وهي بحق الفتنة ، الفتنة عن الدين التي قال الله فيها: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )[البقرة: من الآية191]، فمن يفتن عن دينه ينال ذل الدنيا وخزي الآخرة ، أما الذي يقتل مؤمناً فإنه يغادر الدنيا عزيزاً، ويستقبل الفردوس الأعلى في الآخرة .
هذا ما يراد بنا ولنا ، وهذه هي الشباك التي تنصب لنا ..،فهل نستجيب لها ؟ ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والعياذ بالله ؟!
نعم إن المصيبة قد حصلت . أولا : بشن الحرب على العراق ، و ثانيا : بوقوع الاحتلال؛ والمصيبة بعد الاحتلال أخطر، إنها تفتح أبواب الفتن...، وهذا ما يؤدي بنا إلى أن نعي طبيعة المعركة والصراع ، وأنها في كل الميادين والمجالات، وليست في المجال العسكري فحسب.
إن أمريكا تريد أن تغير المنطقة، هكذا قال (كولين باول) في الكونجرس، قال: "إننا بعد الانتصار على صدام سنعيد ترتيب المنطقة ترتيباً جذرياً، سنرسم خارطتها من جديد، سنبنيها على أسس جديدة لمصلحة أمريكا".
هم يريدون تغيير هوية المنطقة، يريدون تغيير هوية التعليم الديني، يريدون أن يحذفوا من القرآن ما يريدون، ويحذفوا من التاريخ ما يحذفون، ويحذفوا من أبواب الفقه أبواب الجهاد، ويحذفوا من التاريخ خالداً وأبا عبيدة وصلاح الدين وعمر المختار، وكل هؤلاء....، إنـهم يريدون أن يغيرونا ويسلخونا من جلدنا، ولكنا نقول لهم :
" إنـكم تريدون أن تدمروا القوة المادية للعراق، القوة العسكرية للعراق، القوة البشرية للعراق، فمن المعروف أن العراق كوّن قاعدة علمية بشرية طوال هذه العقود من السنوات، وأنتم لا تريدون أن يبقى للعراق أي قوة، ولذلك تريدون أن تلتقوا بالعلماء وأن تروا العلماء، تريدون نزع الأدمغة، نزع العلم من الأدمغة لا نزع الأسلحة فقط- هذا واحد الأهداف- ، كما تطول أهدافكم المجاهدين في فلسطين، وإخراج الكيان الصهيوني من أزمته الخانقة بسبب الانتفاضة، ثم تعقب ذلك بتغيير جذري في كل البلاد الإسلامية ،تغيير يسمح باجتثاث كل ماله علاقة بإسلام الجهاد والعزة ، وفرض إسلام (أمريكاني) مشوه خانع ، مستعد للتنازل لليهود عن كل حقوق الأمة ، ومقدساتها ؛ خاصة القدس".
إن المعركة بيننا وبين أهل الكتاب وأعداء هذا الدين مستمرة، لم تهدأ ولم تنقطع، وربما تكون لها أولويات في مكان دون آخر، ولكنها مستمرة إلى أن تقوم الساعة.
فلا ترتبط قضية الواجب بأن يحدث العدو عدواناً جديداًَ، أو يهاجم بلداً أو عاصمة إسلامية كما قد نظن ، وإن من الخطأ الشديد حصر المعركة في ميدان واحد.
إن المعركة شاملة الميادين ، معركة في الميدان الثقافي ، وفي الميدان الإعلامي ، والميدان الاجتماعي، والاقتصادي ، وكل ميدان يخدم بعضاً من هذه الميادين ويرتبط به. وما دمنا نعلم أن العدو بهذه الشراسة، والمعركة بهذه السعة ، فلا بد أن نستعد للمواجهة في كل هذه الميادين ، وتُواجه مواجهةً عامة، وتحتاج المواجهة إلى الصدق مع الله ، والبعد عن الترف واللهو، والبعد عن الوهن(حب الدنيا وكراهة الموت).
وبقدر طردنا للوهن من قلوبنا؛ بقدر انقلابه إلى قلوب أعدائنا ، وبقدر ما نتلبس به ، يستأسد أعداؤنا علينا.
وسيأتي اليوم الذي يقول فيه الذين خذلوا العراق :" أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض" ، ولا أقول تؤكل دنياهم ، فالدنيا عرض زائل ، يأكل منه البر والفاجر ، بل أقول : يؤكل دينهم الذي هو عصمة أمرهم ، وعزهم ، وشرفهم، ولكن أكثر الناس لايعلمون . فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله ، إن الله بصير بالعباد .
وإنهم يمكرون مكراً كُبّاراً، مكر الليل والنهار، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
إن مما ينبغي التأكيد عليه أن سقوط بغداد لم يكن بسبب القوة الأمريكية أو قدرتها...، -ولاشك في ذلك-، إنما ينبغي ربط السقوط والهزيمة بالسنن الربانية التي تحكم النصر والهزيمة
أما وإن سبب غياب واختفاء القيادة العراقية المفاجيء في أحرج الأوقات مازال غامضاً؛ فيصعب تعيين أي السنن الربانية التي حصل فيها الخلل، هل هي:
سُنّة ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)؟
أم سُنّة ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)؟
أم سُنّة ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ )؟
وأسباب وسنن أخرى في النصر والهزيمة بينتها سورة (آل عمران)، وغيرها من السور في تحليل أحداث ومصيبة (غزوة أحد).
ومع ألم المصيبة لا ننسى الآية التي خفف الله بها على الصحابة مصيبتهم في (أُحد) حيث قال وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ...) [آل عمران: 139،140]
ولنتذكر أنه من الجحود لنعم الله : أن نعيش في ألم المصيبة لتسيطر علينا، ونقول: أنَََى هذا؟ ولا نتذكر نعم الله علينا الكثيرة ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا )..نعم قريبة... أليس من النعم الصمود ـ تدميرهم في تدبيرهم ـ كشف زيف القوة الأمريكية ، والرعب الذي في قلوبهم ،و.... ، ومشاعر النصر والعزة والتمكين أثناء الصمود في أول المعركة ؟؟ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165] وليست أمريكا على كل شئ قدير ،( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: من الآية120]
إذا ابتليت فثق بالله وارض به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
ما لامرئ حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحيانا بصـاحبه
لا تيأسـن فنعـم القـادر الله
أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام، ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين؛ فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف: 8]، وعن تميم الداري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًا يعزُّ الله به الإسلامَ، وذلاّ يذلّ الله به الكفر" (أخرجه أحمد)[1]، وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ أمّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها" (أخرجه مسلم)[2].
هذا وعد الله،( إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً )[مريم: 61]،( وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولا[النساء:47]، وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف: 98]، هذا وعد الله، (فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ) [البقرة: 80]، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ [آل عمران: 9]،( فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ) [إبراهيم :47] ، هذا وعدُ الله، ( وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً)[الإسراء: من الآية51].
(المشرف على النافذة)
***********
قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11]
إذا أُصيب العبد بمصيبة ، فليحمد الله، وليصبر وليحتسب، وليرجع إلى ربه، فإن الله هو الذي قدّرها وشاءها، فيجب على العبد الصبر، فحينئذ ينشرح صدر المصاب، ويطمئن ويسكن قلبه، وهو مع ذلك يؤجر أجراً كبيراً، قال تعالىمَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ، وقال تعالى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: من الآية10].
وإذا لم يصبر المصاب على مصيبته فإنه يتحسر ويشقى، وتكبر مصيبته، ويُخشى عليه أن يتسخط على القدر، ويعترض على تقدير الله؛ فيقع في محظور عظيم، ففي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال:" أتيت أُبيّ بن كعب فقلت له: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: "لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار".
فالإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بها كلها، فإذا آمن الإنسان بالقدر إيماناً كاملاً، لا يعتريه شك؛ اطمأن في حياته، فإذا أصابه شيء علم أنه بقضاء الله وقدره، فيطمئن قلبه.
يقول الحق جل وعلاقُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ) [الأنعام:12]، فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء، فهو يبتليهم ليُعِدَّ طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، وليَمِيز الخبيث من الطيب في صفوف المسلمين، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليُكسب المؤمن الطمأنينة بما قدّر له ربه؛ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء التي تزيغ فيها القلوب والأبصار إلا أنه يعلم أن ربه معه بنصره وتأييده، فتنقلب المحنة إلى منحة، وينقلب الخوف إلى رجاء، وينقلب القلق إلى طمأنينة.
ومن حكمة الابتلاء والمصيبة أنها تذكّر العبد بذنوبه، وتزيل قسوة القلب، وترجع العبد إلى الله ؛ ليقف ببابه ويتضرع إليه ويستكين، وتقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين والإقبال على الله وحده، وأن المصيبة تعرّف المصاب قدر نعمة العافية؛ لأن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدانها.
إن ما حصل في العراق ـ من احتلال بغداد ـ قد فاجأ الجميع.. ، ولكن السبب لا يزال غامضاً! وهذا مما يزيد من حالة الذهول ، ويعمق الشعور بالإحباط والأسى، ويوسع دائرة التأثير ..، وهذا ما يريده العدو!
قال (رامسفيلد) عن هذه الحرب إنها حرب إعلامية نفسية ، ولقد رأينا التضليل الإعلامي الذي مارسته وتمارسه أمريكا ، وكيف أنها قتلت الإعلاميين المنصفين بالصواريخ والدبابات !!
والنتيجة أن الحرب ليست صراع أبدان ؛بل صراع إرادات وعقول ، يريدون كسر الإرادة الإسلامية، سواء كانت عراقية أوجميع الشعوب الإسلامية .
لقد جاء سقوط بغداد على أسرع مماتخيلته أفلام الهوليود ، ومعلوم أن الهوليود سهم حاد من السهام النفسية لمحاربة الإرادة الحرة ، تحارب بالوهم والتخييل نفسيا ،وتبسط الهيمنة الأمريكية ، والتعاون معروف بين الأجهزة الأمريكية الثلاثة :المخابرات CIA ، والبنتاغون ، والهوليود .
وهذا الأسلوب من وجهة نظر العدو له الأفضلية، وأكثر فاعلية لأنه يحفظه من المخاطرة في ميدان المعركة ، ويخفي وجهه الوحشي العنجهي القبيح إذا مااستخدم الآلة العسكرية.
نقول هذا من باب التشخيص حتى نصل إلى خطورة مايريده العدو بنا ، وهو إيصال الطعنة إلى القلب ! وهي أعظم تأثيرا من الطعن في الجوارح والأبدان . فيفتن المسلم عن دينه ، ويسيء الظن بربه ، ويرى أنه لا منقذ له إلا أمريكا ، ولا يمكن له بأية حال أن يواجه القوة العظمى الأمريكية ، وأنها بلغت مبلغ الإله الذي يُدعى رغبا ورهبا .
ومن مظاهر ذلك : الشعور بالإحباط ، واليأس من روح الله ـ وهو خطير مآله إلى الكفر ـ وتجد الشخص يعترض على القدر، ويجزع فلا يصبر، ويعجز فلا يعمل ، عدا أنه يتنازل عن معاداة أمريكا والبراء منها، وقد ينقلب إلى موالاتها، وهذا تحطيم للعقيدة الإسلامية وتفتيت لها، وهي بحق الفتنة ، الفتنة عن الدين التي قال الله فيها: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )[البقرة: من الآية191]، فمن يفتن عن دينه ينال ذل الدنيا وخزي الآخرة ، أما الذي يقتل مؤمناً فإنه يغادر الدنيا عزيزاً، ويستقبل الفردوس الأعلى في الآخرة .
هذا ما يراد بنا ولنا ، وهذه هي الشباك التي تنصب لنا ..،فهل نستجيب لها ؟ ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والعياذ بالله ؟!
نعم إن المصيبة قد حصلت . أولا : بشن الحرب على العراق ، و ثانيا : بوقوع الاحتلال؛ والمصيبة بعد الاحتلال أخطر، إنها تفتح أبواب الفتن...، وهذا ما يؤدي بنا إلى أن نعي طبيعة المعركة والصراع ، وأنها في كل الميادين والمجالات، وليست في المجال العسكري فحسب.
إن أمريكا تريد أن تغير المنطقة، هكذا قال (كولين باول) في الكونجرس، قال: "إننا بعد الانتصار على صدام سنعيد ترتيب المنطقة ترتيباً جذرياً، سنرسم خارطتها من جديد، سنبنيها على أسس جديدة لمصلحة أمريكا".
هم يريدون تغيير هوية المنطقة، يريدون تغيير هوية التعليم الديني، يريدون أن يحذفوا من القرآن ما يريدون، ويحذفوا من التاريخ ما يحذفون، ويحذفوا من أبواب الفقه أبواب الجهاد، ويحذفوا من التاريخ خالداً وأبا عبيدة وصلاح الدين وعمر المختار، وكل هؤلاء....، إنـهم يريدون أن يغيرونا ويسلخونا من جلدنا، ولكنا نقول لهم :
" إنـكم تريدون أن تدمروا القوة المادية للعراق، القوة العسكرية للعراق، القوة البشرية للعراق، فمن المعروف أن العراق كوّن قاعدة علمية بشرية طوال هذه العقود من السنوات، وأنتم لا تريدون أن يبقى للعراق أي قوة، ولذلك تريدون أن تلتقوا بالعلماء وأن تروا العلماء، تريدون نزع الأدمغة، نزع العلم من الأدمغة لا نزع الأسلحة فقط- هذا واحد الأهداف- ، كما تطول أهدافكم المجاهدين في فلسطين، وإخراج الكيان الصهيوني من أزمته الخانقة بسبب الانتفاضة، ثم تعقب ذلك بتغيير جذري في كل البلاد الإسلامية ،تغيير يسمح باجتثاث كل ماله علاقة بإسلام الجهاد والعزة ، وفرض إسلام (أمريكاني) مشوه خانع ، مستعد للتنازل لليهود عن كل حقوق الأمة ، ومقدساتها ؛ خاصة القدس".
إن المعركة بيننا وبين أهل الكتاب وأعداء هذا الدين مستمرة، لم تهدأ ولم تنقطع، وربما تكون لها أولويات في مكان دون آخر، ولكنها مستمرة إلى أن تقوم الساعة.
فلا ترتبط قضية الواجب بأن يحدث العدو عدواناً جديداًَ، أو يهاجم بلداً أو عاصمة إسلامية كما قد نظن ، وإن من الخطأ الشديد حصر المعركة في ميدان واحد.
إن المعركة شاملة الميادين ، معركة في الميدان الثقافي ، وفي الميدان الإعلامي ، والميدان الاجتماعي، والاقتصادي ، وكل ميدان يخدم بعضاً من هذه الميادين ويرتبط به. وما دمنا نعلم أن العدو بهذه الشراسة، والمعركة بهذه السعة ، فلا بد أن نستعد للمواجهة في كل هذه الميادين ، وتُواجه مواجهةً عامة، وتحتاج المواجهة إلى الصدق مع الله ، والبعد عن الترف واللهو، والبعد عن الوهن(حب الدنيا وكراهة الموت).
وبقدر طردنا للوهن من قلوبنا؛ بقدر انقلابه إلى قلوب أعدائنا ، وبقدر ما نتلبس به ، يستأسد أعداؤنا علينا.
وسيأتي اليوم الذي يقول فيه الذين خذلوا العراق :" أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض" ، ولا أقول تؤكل دنياهم ، فالدنيا عرض زائل ، يأكل منه البر والفاجر ، بل أقول : يؤكل دينهم الذي هو عصمة أمرهم ، وعزهم ، وشرفهم، ولكن أكثر الناس لايعلمون . فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله ، إن الله بصير بالعباد .
وإنهم يمكرون مكراً كُبّاراً، مكر الليل والنهار، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
إن مما ينبغي التأكيد عليه أن سقوط بغداد لم يكن بسبب القوة الأمريكية أو قدرتها...، -ولاشك في ذلك-، إنما ينبغي ربط السقوط والهزيمة بالسنن الربانية التي تحكم النصر والهزيمة
أما وإن سبب غياب واختفاء القيادة العراقية المفاجيء في أحرج الأوقات مازال غامضاً؛ فيصعب تعيين أي السنن الربانية التي حصل فيها الخلل، هل هي:
سُنّة ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)؟
أم سُنّة ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)؟
أم سُنّة ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ )؟
وأسباب وسنن أخرى في النصر والهزيمة بينتها سورة (آل عمران)، وغيرها من السور في تحليل أحداث ومصيبة (غزوة أحد).
ومع ألم المصيبة لا ننسى الآية التي خفف الله بها على الصحابة مصيبتهم في (أُحد) حيث قال وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ...) [آل عمران: 139،140]
ولنتذكر أنه من الجحود لنعم الله : أن نعيش في ألم المصيبة لتسيطر علينا، ونقول: أنَََى هذا؟ ولا نتذكر نعم الله علينا الكثيرة ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا )..نعم قريبة... أليس من النعم الصمود ـ تدميرهم في تدبيرهم ـ كشف زيف القوة الأمريكية ، والرعب الذي في قلوبهم ،و.... ، ومشاعر النصر والعزة والتمكين أثناء الصمود في أول المعركة ؟؟ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165] وليست أمريكا على كل شئ قدير ،( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)[آل عمران: من الآية120]
إذا ابتليت فثق بالله وارض به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
ما لامرئ حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحيانا بصـاحبه
لا تيأسـن فنعـم القـادر الله
أيها المحزونُ لهذه الأمّة، أيّها المكلوم لهذه الغمّة، مهما حاولَ أعداءُ الإسلام، ومهما سعَوا من إنزال أنواعِ الفشَل وألوان الشلل بالإسلام والمسلمين؛ فلن يستطيعوا أن يطفِئوا نورَ الله( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [الصف: 8]، وعن تميم الداري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلّ ذليل، عزًا يعزُّ الله به الإسلامَ، وذلاّ يذلّ الله به الكفر" (أخرجه أحمد)[1]، وعن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ الله زوى ليَ الأرض، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وإنَّ أمّتي سيبلغ ملكُها ما زُوِي لي منها" (أخرجه مسلم)[2].
هذا وعد الله،( إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً )[مريم: 61]،( وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولا[النساء:47]، وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً [الكهف: 98]، هذا وعد الله، (فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ) [البقرة: 80]، إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ [آل عمران: 9]،( فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ) [إبراهيم :47] ، هذا وعدُ الله، ( وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً)[الإسراء: من الآية51].